الرسالة الثانية عشرة

من الجسمانيات الطبيعيات في قول الحكماء «إن الإنسان عالم صغير»

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

(١) فصل

اعلم أيها الأخ، أيَّدك الله وإيانا بروح منه، بأنَّا قد فرغنا مِن ذِكر مسقط النطفة وبيان ما يتعلق بذلك من رباط النفس بها وتقلُّب الحالات التي تَظهر شهرًا بعد شهر وتأثيرات أفعال الكواكب في أحكام بنية الجسد. وقد بيَّنَّا بعد ذلك الغرض الأقصى من وجود الإنسان ومكثه في العالم زمانًا، فنريد أن نذكر في هذه الرسالة معنَى قول الحكماء إن الإنسان عالم صغير، فنقول: اعلم أن الحكماء الأولين لما نظروا إلى هذا العالم الجسماني بأبصار عيونهم، وشاهدوا ظواهر أموره بحواسهم، وتفكروا عند ذلك في أحواله بعقولهم، وتصفحوا تصرُّف أشخاص كلياته ببصائرهم، واعتبروا فنون جزئياته برويتهم؛ فلم يجدوا جزءًا من جميع أجزائه أتمَّ بنية ولا أكمل صورة ولا بجملته أشد تشبيهًا من الإنسان.

وذلك أنه لما كان الإنسان هو جملة مجموعة من جسد جسماني ونفس روحانية، وجدوا في هيئة بنية جسده مثالات لجميع الموجودات التي في العالم الجسماني من عجائب تركيب أفلاكه وأقسام أبراجه وحركات كواكبه وتركيب أركانه وأمهاته، واختلاف جواهر معادنه وفنون أشكال نباته وغرائب هياكل حيواناته.

ووجدوا أيضًا لأصناف الخلائق الروحانيين من الملائكة والجن والإنس والشياطين ونفوس سائر الحيوانات، وتصرف أحوالها في العالم؛ تشبيهًا من النفس الإنسانية وسريان قواها في بنية الجسد.

فلما تبيَّنتْ لهم هذه الأمور عن صور الإنسان سمَّوه من أجل ذلك عالمًا صغيرًا، ونريد أن نذكر من تلك المثالات وتلك التشبيهات طرفًا لكيما يكون دليلًا على صحة ما قالوه وبيانًا لما وصفوه، وليقرب أيضًا على المتعلمين فهمها ويسهل على الباحثين تأملها.

(٢) فصل في اعتبار أحوال الإنسان بأحوال الموجودات حسب ما نبين ها هنا

فنقول: إن الموجودات لما كانت كلها جواهر وأعراضًا مجموعًا منهما هيولى وصور ومركَّبًا منهما، كما بيَّنا في رسالة الهيولى، وكانت الأعراض كلها جسمانية أو روحانية، كما بيَّنا في رسالة العقل والمعقول.

وكان الإنسان إنما هو جملة مجموعة من جوهرين مقرونين؛ أحدهما هذا الجسد الجسماني الطويل العريض العميق المدرك بطريق الحواس، والآخر هذه النفس الروحانية العلامة المدركة بطريق العقل.

فلما كان الجسد بنية مؤلفة من أعضاء مختلفة الأشكال كاليدين والرجلين والرأس والرقبة والظهر والوركين والركبتين والساقين والقدمين، وكانت كل واحدة منها أيضًا مركبة من أعضاء مختلفة الصور متشابهة الأجزاء كالعظم والعصب والعروق واللحم والجلد وما شاكلها، كما بيَّنا في رسالة تركيب الجسد، وكانت هي أيضًا مكونة من الأخلاط الأربعة التي هي الدم والبلغم والمرتان.

وهي أيضًا متولدة من الكيموس، والكيموس من الغذاء، والغذاء من النبات، والنبات من الأركان الأربعة، كما بيَّنا في رسالة النبات، وكل واحدة مقومة من طبيعتين من الطباع الأربع المعلومة، كما بيَّنا في رسالة الكون والفساد، وكل واحدة منها صور متممة للجسم وصور مقومة لشيء آخر من الأجسام الطبيعية كما بيَّنا في رسالة الهيولى والصورة.

ولما كان الهيولى والصورة أيضًا جوهرين بسيطين روحانيين معقولين مخترعين مبدعين كما شاء باريها جل جلاله للفعل والانفعال قابلين بلا كيف ولا زمان ولا مكان، بل بقوله «كن» فكان كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية.

ولما كان الإنسان حاله ما ترى، وهو كما أخبرنا أنه جملة مجموعة من جسد ظلماني ونفس روحانية صار إذا اعتبر حال جسده وما فيه من غرائب تركيب أعضائه وفنون تأليف مفاصله يشبه دارًا لساكنها.

وإذا اعتبر حال نفسه وعجائب تصرفاتها في بناء هيكل جسده وسريان قواه في مفاصل بدنه يشبه كأنها ساكنًا في منزله مع خدمه وأهله وولده.

ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد بنية جسده مع اختلاف أشكال أعضائه وافتنان تأليف مفاصله يشبه دكانًا للصانع.

فهكذا نفسه من أجل سريان قواها في بنية هيكل جسده وعجائب أفعالها من أعضاء بدنه وفنون حركاتها في مفاصل جسده يشبه صانعًا في الدكان مع تلامذته وغلمانه، كما بيَّنا في رسالة الصنائع العملية.

ومن وجه آخر إذا اعتبر بنية جسده مع كثرة تأليفات طبقات بناء هيكله وغرائب تركيب مفاصل بدنه، وكثرة اختلاف أعضائه وتشعب فروع عروقه وامتدادها إلى أطراف أعضائه، وتباين أوعيته التي في عمق جسده وتصرف قوى النفس؛ يشبه مدينة مملوءة أسواقها من الصنائع، كما بيَّنا في رسالة تركيب الجسد.

ومن وجه آخر إذا اعتبر من أجل تحكم النفس على أحوال الجسد وحسن سياستها وسريان قواها وتصرفاتها في بنية هذا الجسد، يشبه ملكًا في تلك المدينة بجنوده وخدمه وحاشيته، كما بيَّنا في رسالة العقل والمعقول.

ومن وجه آخر إذا اعتبر حال الجسد وتكوينه وحال النفس ونشوءها مع الجسد يشبه الجسد الرحم والنفس كالجنين، كما بيَّنا في رسالة نشوء النفس الجزوية وخروجها من القوة والفعل.

ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد مثل الجسد كالسفينة والنفس كالملاح والأعمال كالأمتعة للتجار والدنيا كالبحار والموت كالساحل والآخرة كمدينة التجار، والله تعالى الملك المُجازي هناك.

ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد الجسد كالدابة والنفس كالراكب والدنيا كالميدان والعمال كالسباق.

ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد النفس كالحراث والجسد كالمزرعة والأعمال كالحب والثمر والموت كالحصاد والدار الآخرة كالبيدر، كما بيَّنا في رسالة حكمة الموت.

ومن وجه آخر إذا اعتبر وجد عجيب بنية الجسد، كما ذكرنا في كتب التشريح، وكثرة ما تستفيد النفس العلوم بمقارنتها الجسد؛ يشبه مكتبًا للعلوم والنفس كالصبي في المكتب، كما بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس.

ومن وجه آخر إذا اعتبر تركيب الجسد وسريان قوى النفس فيه وتصرف أحوال الإنسان كأنه دفتر مملوء من العلوم، ويقال إنه مختصر من اللوح المحفوظ. وقد ضَربت الحكماء لذلك أمثالًا كثيرة، ونريد أن نذكر من ذلك طرفًا مرموزًا مختصرًا حسب ما يليق بنا.

(٣) فصل في أن الإنسان مختصر من اللوح المحفوظ

ذكر أنه كان ملك من الملوك، حكيم من الحكماء، سيد من السادات، وكان له أولاد صغار محبوبون له مكرمون عليه، فأراد أن يؤدبهم ويهذبهم ويروضهم؛ ليقومهم قبل إيصالهم إلى مجلسه؛ لأنه لا يليق بمجالس الملوك إلا المهذبون بالآداب والمرتاضون في العلوم المتخلِّقون بالأخلاق الجميلة المبرَّءون من العيوب. فرأى من الرأي الرصين والحكمة أن يبني لهم قصرًا على أحكم ما يكون من البنيان، فأفرد لكل واحد منهم مجلسًا وكتب كل عِلم أراد أن يعلمهم إياه في جوانب ذلك المجلس، وصور فيه كل شيء أراد أن يهذبهم به، ثم أجلسهم في ذلك القصر وأجلس كل واحد منهم في حصته المعدة له، ووكل بهم الخدم والجوار والغلمان، وقال لأولئك الأولاد: انظروا إلى ما صورتُ لكم بين أيديكم، واقرءوا ما كتبت فيه من أجلكم، وتأملوا ما بيَّنتُه لكم وتفكروا فيها؛ لتعرفوا معانيها وتصيروا من ذلك حكماء أخيارًا فضلاء أبرارًا، فأوصلكم إلى مجلسي فتكونوا من ندماي مكرمين سعداء منعمين أبدًا ما بقيتُ وبقيتم معي. وكان مما كتب لهم في ذلك المجلس من العلوم أنْ صوَّر في أعلى قبة المجلس صورة الأفلاك وبيَّن كيفية دورانها وأبراج طلوعاتها، وكذلك الكواكب وحركاتها وأوضح دلائلها وأحكامها.

وصوَّر في صحن المجلس صورة الأرض وأقسام الأقاليم وخطط الجبال والبحار والبراري والأنهار، وبيَّن حدود البلدان والمدن والمسالك والممالك، وكَتب في صدر المجلس علم الطب والطبائع وصور النبات والحيوانات والمعادن بأنواعها وأجناسها وأشخاصها، وبيَّن خاصيتها ومنافعها ومضارها.

وكتب في الجانب الآخر علم الصنائع والحِرَف، وبيَّن كيفية الحرث والنسل، وصوَّر المدن والأسواق، وبيَّن أحكام البيع والشراء والربح والتجارات.

وكتب في الجانب الآخر علم الدين والمِلل والشرائع والسنن، وبيَّن الحلال والحرام والحدود والأحكام.

وكَتب في الجانب الآخر السياسة وتدبير المملكة، وبين كيفية جباية الخراج، والكتاب والدواوين وبين أرزاق الجنود وحفظ الرعية والثغور بالجيوش والأعوان.

فهذه ستة أجناس من العلوم يراض بها أولاد الملوك، وهذا مثل ضربته الحكماء؛ وذلك أن الملك الحكيم هو الله تعالى، والأولاد الصغار هي الإنسانية، والقصر المبني هو الفلك بأسره، والمجالس المتقنة هي صورة الإنسان، والآداب المصورة هي عجيب تركيب جسده، والعلوم المكتوبة فيه هي قوى النفس ومعارفها، ونحن نبين هذا فصلًا فصلًا فيما بعد بأوجز الوجوه.

(٤) فصل في فضيلة جوهر النفس

فنقول: اعلم أن لجواهر النفوس عند الله منزلة وكرامة ليست لجواهر الأجسام؛ وذلك لقرب نسبتها منه وبعد نسبة الأجسام؛ وذلك أن جواهر النفوس حية بذاتها علامة وفعالة وجواهر الأجسام ميتة منفعلة لأمثال لها.

وقد بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية أن نسبة الموجودات من الباري تعالى كنسبة العدد من الواحد، والعقل كالاثنين، والنفس كالثلاثة، والهيولى الأولى كالأربعة، والطبيعة كالخمسة، والجسم كالستة، والفلك كالسبعة، والأركان كالثمانية، والمولودات كالتسعة.

ومن وجه آخر نسبة النفس من العقل كنسبة ضوء القمر من نور الشمس، ونسبة العقل من الباري كنسبة نور الشمس من الشمس، وكما أن القمر إذا امتلأ من نور الشمس حاكى نوره نورها، كذلك النفس إذا قبلت فيض العقل فاستتمت فضائلها حاكت أفعالها أفعال العقل، وإنما تستتم فضائلها إذا هي عرفت ذاتها وحقيقة جوهرها، وإنما تستبين لها فضائل جوهرها إذ هي عرفت أحوال عالمها الذي هو صورة الإنسانية؛ لأن البارئ تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وصوره أكمل صورة وجعل صورته مرآة لنفسه ليتراءى فيها صورة العالم الكبير.

وذلك أن الباري جل جلاله لما أراد أن يُطلع النفس الإنسانية على خزائن علومه ويشهدها العالم بأسره، علم أن العالم واسع كبير وليس في طاقة الإنسان أن يدور في العال حتى يشاهده كله لقصر عمره وطول عمران العالم، فرأى من الحكمة أن يخلق لها عالمًا صغيرًا مختصرًا من العالم الكبير، وصور في العالم الصغير جميع ما في العالم الكبير، ومثله بين يديها وأشهدها إياه، فقال عز من قال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالوا بأجمعهم: بلى. فمن كان منهم شاهدًا عالمًا عارفًا حقيقته كانت شهادته عليه حقًّا، ومن كان جاهلًا كانت شهادته مردودة؛ لأنه قال عز وجل: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، ألا ترى أنه لا يقبل إلا شهادة أهل العلم.

ثم اعلم أن افتتاح جميع العلوم هو في معرفة الإنسان نفسه، ومعرفة الإنسان تكون من ثلاث جهات؛ إحداها أن يعتبر أحوال جسده وتركيب بِنيته وما يتعلق عليه من الصفات خلوًا من النفس، والآخر اعتبار أحوال نفسه وما يوصف من الصفات خلوًا من الجسد، والآخر اعتبار أحوالهما مقترنين جميعًا وما يتعلق على الجملة من الصفات. وقد بيَّنا في رسالة تركيب الجسد طرفًا من هذه الاعتبارات، ونريد أن نذكر في هذه الرسالة طرفًا آخر فنقول …

(٥) فصل في اعتبار أحوال الإنسان بأحوال الفلك

اعلم أن الباري تعالى جعل في تركيب جسد الإنسان أمثلة وإشارات إلى تركيب الأفلاك وأبراجها والسموات وأطباقها، وجعل سريان قوى النفس في مفاصل جسده واختلاف أعضائه كسريان قوى أجناس الملائكة وقبائل الجن والإنس والشياطين في أطباق السموات والأرض في أعلى عليين إلى أسفل السافلين.

وأما مماثلة تركيب جسد الإنسان بتركيب الأفلاك، وذلك أنه لما كانت الأفلاك تسع طبقات مركبة بعضها جوف بعض، كما بيَّنا في الرسالة التي في مدخل النجوم، كذلك وجد في تركيب جسد الإنسان تسع جواهر بعضها جوف بعض ملتفَّات عليها مماثلة لها؛ وهي العظام والمخ واللحم والعروق والدم والعصب والجلد والشعر والظفر. فجعل المخ في جوف العظام مخزونًا لوقت الحاجة إليه، ولف العصب على مفاصله كيما يمسكها فلا ينفصل، وَحَشَى خلل ذلك باللحم صيانةً لها، ومد في خلل اللحم العروقَ والأوردة الضاربة لحفظها وصلاحها، وكسا الكل بالجلد سترًا لها وجمالًا لها، وأنبت الشعر والظفر من فضل تلك المادة لمأربها؛ فصار مماثلًا لتركيب الأفلاك بالكمية والكيفية جميعًا؛ لأنها تسع طباقات وهذه تسع جواهر، وتلك بعضها جوف بعض وهذه مثال ذلك.

ولما كان الفلك مقسومًا اثني عشر برجًا، وجد في بنية الجسد اثني عشر ثقبًا مماثلًا له؛ وهي العينان والأذنان والمنخران والثديان والفم والسرة والسبيلين.

ولما كانت الأبراج ستة منها جنوبية وستة منها شمالية، كذلك وجدت ستة الثُّقَب التي في الجسد في الجانب اليمين، وستة في الجانب الشمال مماثلة لها بالكمية والكيفية جميعًا.

ولما كان في الفلك سبعة كواكب سيارة بها تجري أحكام الفلك والكائنات، كذلك وجد سبع قُوًى في الجسد فعالة بها يكون صلاح الجسد.

ولما كانت هذه الكواكب ذوات نفوس وأجسام لها أفعال جسمانية في الأجسام وأفعال روحانية في النفوس، كذلك وجدت في الجسد سبع قُوًى جسمانية؛ وهي القوى الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمصورة، وسبع قُوًى أخرى روحانية؛ وهي القوى الحساسة — أعني الباصرة والسامعة والذائقة والشامَّة واللامسة — والقوة الناطقة العاقلة، والقوة الحساسة مناسبة للخمسة المتحيرة، والقوة الناطقة مناسبة للقمر، والقوة العاقلة مناسبة للشمس؛ وذلك أن لكل واحد من الكواكب الخمسة بيتين في الفلك؛ أحدهما في حيز الشمس والثاني في حيز القمر، والنيران لكل واحد منهما بيت، كما بيَّنا في رسالة النجوم.

كذلك وجد في بنية الجسد لكل واحد من القوى الحساسة مجريان؛ أحدهما في الجانب الأيمن والآخر في الجانب الأيسر؛ فالقوة الباصرة مجراها في العينين، والقوة السامعة مجراها في الأذنين، والقوة الشامَّة مجراها في المنخرين، والقوة اللامسة مجراها في اليدين، والقوة الذائقة الشهوانية مجراها في الفم بالجانب الأيمن أشبه والفرج بالجانب الأيسر أشبه.

وأما القوى الناطقة فمجراها الحلقوم إلى اللسان، والقوة العاقلة فمجراها وسط الدماغ، ونسبة القوة الناطقة إلى القوة العاقلة كنسبة القمر إلى الشمس.

وذلك أن القمر يأخذ نوره من الشمس في جريانه من منازل القمر الثمانية والعشرين، وذلك أن القوة الناطقة من العقل تأخذ معاني ألفاظه بجريانه في الحلقوم فيعبر عنها بثمانية وعشرين حرفًا، ونسبة ثمانية وعشرين حرفًا للقوة الناطقة كنسبة ثمانية وعشرين منزلًا للقمر.

ولما كان في الفلك عقدتان، وهما الراقص والذنب، وهما خفيَّا الذات ظاهرَا الأفعال، بهما سعادات الكواكب ونحوساتها، كذلك وجد في الجسد أمران خفيان للذات ظاهرا الأفعال، بهما صلاح بنية الجسد وصحة الأفعال للنفس؛ وهما صحة المزاج وسوء المزاج؛ وذلك أنه إذا صح مزاج أخلاط الجسد صحت أعضاؤه واستقامت أفعال النفس وجرت على الأمر الطبيعي.

وإذا فسد المزاج اضطربت البنية وعيقت أفعال النفس عن جريها على السداد، وأضر ما يكون نحوسة العقدتين على النيرين؛ لأنها أَوْكد الأسباب في كسوفهما، وكذلك أضر ما يكون سوء المزاج على القوة الناطقة والقوة العاقلة؛ لأنه يعوقهما من أفعالهما أكثر وأشد.

والعينان في الجسد مناسبتان لبيتَي المشتري في الفلك، والأذنان في الجسد مناسبتان لبيتَي عطارد في الفلك، والمنخران في الجسد والثديان مناسبان في الجسد لبيتَي الزهرة، والسبيلان لبيتي زحل، والفم لبيت الشمس، والسرة لبيت القمر.

والسرة كانت باب الغذاء في الرحم قبل الولادة، والفم باب الغذاء في الدنيا، والسبيلان مقابلان لهما كتقابل بيتَي زحل لبيتَي النيرين.

وكما أن في الفلك بروجًا فيها حدود ووجوه ودرجات لها أوصاف مختلفة، كذلك للجسد أعضاء ومفاصل وعروق وأعصاب وعظام مختلفة يطول شرحها ومناسبتها بحدود الفلك، وقد تركنا ذكر ذلك.

(٦) فصل في مشابهة تركيب جسد الإنسان بالأركان الأربعة

فنقول: اعلم أنه لما كان تحت فلك القمر أربعة أركان؛ وهي الأمهات التي بها قوام الأشياء المولدات؛ والتي هي الحيوان والنبات والمعادن.

وكذلك وجد في بنية الجسد أربعة أعضاء هي تمام جملة الجسد؛ وأولها الرأس ثم الصدر ثم البطن ثم الجوف إلى آخر قدميه. فهذه الأربعة موازية لتلك؛ وذلك أن رأسه مواز لركن النار من جهة شعاعات بصره وحركات حواسه، وصدره مواز لركن الهواء من جهة نَفَسه واستنشاقه الهواء، وبطنه مواز لركن الماء من جهة الرطوبات التي فيه، وجوفه إلى آخر قدميه مواز لركن الأرض مِن قِبَل أنه مستقر عليه كاستقرار الثلاثة الباقية فوق الأرض وحولها.

وكما أن من هذه الأركان الأربعة تتحلل البخارات، فمنها تتكون الرياح والسحب والأمطار والحيوانات والنبات والمعادن.

وكذلك بهذه الأعضاء الأربعة تحلل البخارات في بدن الإنسان مثلما يخرج المخاط من المنخرين والدموع من العينين والبصاق من الفم والرياح التي تتولد في الجوف والرطوبات التي تخرج مثل البول والغائط وغيرهما.

فبنية جسده كالأرض، وعظامه كالجبال، والمخ فيه كالمعادن، وجوفه كالبحر، وأمعاؤه كالأنهار، وعروقه كالجداول، ولحمه كالتراب، وشعره كالنبات، ومنبته كالبرية الطيبة، وحيث لا ينبت الشعر كالأرض السبخة، ووجهه إلى القدم كالعمران، وظهره كالخراب، وقدام وجهه كالمشرق، وخلف ظهره كالمغرب، ويمينه كالجنوب، ويساره كالشمال، وتنفُّسه كالرياح، وكلامه كالرعد، وأصواته كالصواعق، وضحكه كضوء النهار، وبكاؤه كالمطر، وبؤسه وحزنه كظلمة الليل، ونومه كالموت، ويقظته كالحياة، وأيام صباه كأيام الربيع، وأيام شبابه كأيام الصيف، وأيام كهولته كأيام الخريف، وأيام شيخوخته كأيام الشتاء، وحركاته وأفعاله كحركات الكواكب ودورانها، وولادته وحضوره كالطوالع، وموته وغيبوبته كالغوارب، واستقامة أموره وأحواله كاستقامة الكواكب، وتخلفه وإدباره كرجوعاتها، وأمراضه وأعلاله كاحتراقاتها، وتوقفه وتحيره في الأمور كتوقفها، وارتفاعه في المنزل والشرف كارتفاعها في أوجاتها وإشراقها، وانحطاطه في المنزل والسقوط كهبوطها وسقوطها في حضيضها، واجتماعه مع امرأته كاجتماعها، ومواصلته كاتصالاتها، وانفصاله كانصرافاتها، وإشارته كمناظرتها.

وكما أن الشمس رأس الكواكب في الفلك كذلك في الناس ملوك ورؤساء، وكاتصالات الكواكب بالشمس وبعضها ببعض كذلك اتصالات الناس بالملوك وبعضهم ببعض، وكانصراف الكواكب من الشمس بالقوة وزيادة النور كذلك انصرافات الناس من الملوك بالولايات والخلع والمراتب، وكنسبة المريخ من الشمس كذلك نسبة صاحب الجيش من الملك، وكنسبة عطارد من الشمس كذلك نسبة الكتَّاب والوزراء من الملوك، وكنسبة المشتري من الشمس كنسبة القضاة والعلماء من الملوك، وكنسبة زحل من الشمس كذلك نسبة الخُزَّان والوكلاء من الملوك، وكنسبة الزهرة من الشمس كذلك نسبة الجواري والمغنيات من الملوك، وكنسبة القمر من الشمس كذلك نسبة الخوارج من الملوك؛ وذلك أن القمر من الشمس يأخذ النور من أول الشهر إلى أن يقابلها فيحاكيها في نورها ويصير كالمماثل لها في هيئاتها، وكذلك حكم الخوارج من الملوك يتبعون أمرهم ثم يخلعون الطاعة وينازعونهم في الملك.

وأيضًا إن أحوال القمر تشبه أحوال أمور الدنيا من الحيوان والنبات وغيرهما؛ وذلك أن القمر يبتدئ من أول الشهر بالزيادة في النور والكمال إلى أن يتم في نصف الشهر، ثم يأخذ في النقصان والاضمحلال والمحاق إلى آخر الشهر.

وهكذا حالات أهل الدنيا تبتدئ من أول الأمر بالزيادة فلا تزال تنمو وتنشأ إلى أن تتم وتستكمل ثم تأخذ في الانحطاط والنقصان إلى أن تضمحل وتتلاشى.

(٧) فصل في تعداد قوى النفس

فنقول: إن هذا الجسد من كثرة عجائبه وترتيب أعضائه وطرائق تأليف مفاصله يشبه مدينة، والنفس كملك تلك المدينة، وفنون قواها كالجنود والأعوان، وأفعالها في هذا الجسد وحركاتها فيها كالرعية والخدم؛ وذلك أن للنفس الإنسانية قُوًى كثيرة لا يحصي عددَها إلا الله تعالى، ولكل قوة منها مجرًى في عضو من أعضاء الجسد غير مجرى القوى الآخر، ولكل قوة منها إلى النفس نسبة خلاف نسبة الأخرى.

ونريد أن نذكر منها طرفًا ليكون دليلًا على الباقية منها، وذلك أن لها خمس قُوًى حساسة كأنها أصحاب الأخبار، وأن النفس قد ولَّت كلُّ واحدة منها ناحيةً مِن مملكتها لتأتيها بالأخبار من تلك الناحية من غير أن تشترك معها قوة أخرى. بيان ذلك أن القوة السامعة التي مجراها في الأذنين فإن النفس قد ولتها إدراك المسموعات فحسب؛ وهي الأصوات. والأصوات نوعان حيوانية وغير حيوانية؛ فغير الحيوانية كصوت الطبل والرعد والحجر والشجر والزمر والأوتاد، وما شاكل ذلك. والحيوانية نوعان منطقية وغير منطقية؛ كصهيل الخيل ونهيق الحمار وخوار الثور.

وبالجملة فإن أصوات الحيوانات غير الناطقة والمنطقية نوعان؛ دالة وغير دالة؛ فغير دالة كالألحان والنغمات والضحك والبكاء والصراخ والأنين وغير ذلك، والدالة هي التي تلفظ بالحروف المعجمة وهي التي تدل على المعاني في أفكار النفوس، كما بيَّنا في رسالة المنطق.

ولكل نوع من هذه الأنواع نوع آخر، وتحت تلك الأنواع أشخاص لا يعلم عددها إلا الله الواحد القهار. وإن القوة هي المتولية إدراكها، المتصرفة فيها بإتيان الأخبار عنها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ. وهذه القوة في إدراكها هذه الأصواتَ وإتيانها بأخبارها تشبه صاحب خبر ملك يأتي بالأخبار إليه من ناحية من نواحي مملكته.

وأما القوة الباصرة التي مجراها في العينين، فإن النفس قد ولتها إدراك المبصرات. وهي تنقسم أنواعًا؛ فمنها الأنوار والظلمة، ومنها الألوان وهي السواد والبياض والحمرة والصفرة وما يتولد عند التركيب من سائر الألوان. ومن المبصرات أيضًا المقادير ذوات الأبعاد والأشكال والصور والحركات والسكون، وكل نوع من هذه تحته أنواع، وتحت تلك الأنواع أشخاص؛ وهي كلها تحت إدراك القوة الباصرة، وهي المتصرفة فيها والمميزة لها تأتي بالأخبار عنها إلى القوة المتخيلة التي مسكنها مقدم الدماغ، ونسبة هذه القوة من النفس كنسبة الديدان، وصاحب البريد إلى الملك يأتي بالأخبار إليه من ناحية من كل نواحي مملكته.

وأما القوة الشامَّة التي مجراها في المنخرين، فإن النفس قد ولتها إدراك الروائح والتصرف فيها والتمييز لها، وهي نوعان لذيذة وكريهة؛ فاللذيذة تسمى الطيب، والكريهة تسمى النتن. وتحت كل نوع من هذه الأنواع أنواعٌ ليس لها أسماء مفردة كأسماء سائر المحسوسات، ولكن القوة الناطقة نسبت كلَّ رائحة منها إلى حاملها الذي يفوح منه، فيقال رائحة المسك ورائحة الكافور ورائحة العود ورائحة النرجس وغير ذلك؛ فنسبتها إلى الذي تفوح منه، وهي كثيرة لا يحصي عددها إلا الله تعالى. وإن القوة الشامَّة هي المتولية لإدراكها والتصرف فيها بإتيان أخبارها إلى القوة المتخيلة، ونسبتها إلى النفس كنسبة أحد أصحاب الأخبار إلى الملك، مثلما قلنا في أمر القوة الباصرة والسامعة.

وأما القوة الذائقة التي مجراها في اللسان، فإن النفس قد ولتها أمر الطعوم والإدراك لها والتصرف فيها وتمييز بعضها من بعض، وهي تنقسم تسعة أنواع: أولها الحلاوة الملائمة لطبع الإنسان، والثانية المرارة المنافرة لطبع الإنسان، ومنها وسائط وهي الحموضة والملوحة والدسومة والعفوصة والحرافة والقبوصة والعذوبة، وكل نوع من هذه تحته أنواع، وتحت كل نوع منها أشخاص لا يعلم عددها إلا الله الواحد القهار. وإن القوة الذائقة التي هي متولية أمر هذه الطعوم بالإدراك لها والتصرف فيها وتمييز بعضها عن بعض وإتيان أخبارها إلى القوة المتخيلة، ونسبتها إلى النفس كنسبة أصحاب الأخبار إلى الملك، مثل أمر السامعة والباصرة والشامَّة.

وأما القوة اللامسة التي مجراها باليدين، فإن النفس قد ولتها أمر الملموسات، وهي عشرة أنواع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة واللين والخشونة والصلابة والرخاوة والثقل والخفة. ولكل واحد من هذه تحتها أنواع، وتحت تلك الأنواع أشخاص لا يعلمها إلا الله الملك الجبار العزيز القهار. وإن القوة اللامسة التي باليدين هي المتولية أمر الملموسات بالإدراك والتصرف فيها وتمييز بعضها عن بعض وبإتيان أخبارها إلى القوة المتخيلة، ونسبتها إلى الشمس كنسبة إحدى أخواتها التي تقدم ذكرها.

وما مثل النفس مع قواها هذه الخمس الحساسة واختلاف محسوساتها، وما تحت كل جنس منها من الأنواع والأشخاص المختلفة الصور المفننة الأشكال المتباينة الهيئات؛ إلا كخمسة من الأنبياء أولي العزم من الرسل؛ مرسلهم واحد وشرائعهم مختلفة، وتحت كل شريعة مفروضات مفننة وأحكام متباينة وسنن متغايرة، تحت أحكامها أمم كثيرة لا يحصي عددها إلا الواجب الوجود الواحد من جميع الوجوه. وكما أن تلك الأمم كلهم يرجعون إلى الله ليفصل بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، فهكذا حكْم المحسوسات كلها مرجعها إلى النفس الناطقة لتمييز بعضها عن بعض وتَعرف واحدًا واحدًا منها بحقائقها، وتَحكم عليها وتنزلها منازلها.

فصل

واعلم يا أخي أن للنفس الإنسانية خمس قُوًى أُخر تنسب نسبتها إلى النفس غير نسبة هذه الخمسة التي تَقدم ذكرها، وسريانها في أعضاء الجسد خلاف سريان أولئك، وأفعالها لا تشبه أفعالها.

وذلك أن هذه القوى الخمس هن كالشركاء المتعاونات في تناولها صورَ المعلومات بعضها من بعض، وثلاثة منها نسبتها إلى النفس كنسبة النُّدَماء من الملك، الحاضرين مجلسه دائمًا، المطلعين على أسراره، المُعِينين له في خاصة أفعاله، وهي القوة المتخيلة التي مجراها مقدم الدماغ، والثانية القوة المفكرة التي مجراها وسط الدماغ، والثالثة القوة الحافظة التي مجراها مؤخر الدماغ، وواحدة منها نسبتها إلى النفس كنسبة الحاجب والترجمان عن الملك، وهي القوة الناطقة المخبرة عنها معاني ما في فكرها من العلوم والحاجات، ومجراها في الحلقوم إلى اللسان.

وواحدة منها نسبتها إلى النفس كنسبة الوزير إلى الملك المعين له في تدبير مملكته وسياسة رعيته، وهي القوة التي بها تظهر النفس الكتابة والصنائع أجمع ومجراها في اليدين والأصابع، فهذه القوى الخمس هي كالمتعاونات فيما يتناولن من صور المعلومات.

بيان ذلك أن القوة المتخيلة إذا تناولت رسوم المحسوسات من القوى الحاسَّة أدركت وأدت إليها، فتجمعها كلها وتؤديها إلى القوة المفكرة التي مجراها وسط الدماغ حتى تميز بعضها من بعض، وتعرف الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والضار من النافع، ثم تؤديها إلى القوة الحافظة التي مجراها مؤخر الدماغ لتحفظها إلى وقت الحاجة والتذكار.

ثم إن القوة الناطقة تناول تلك الرسوم المحفوظة وتعبر عنها عند البيان للقوة السامعة من الحاضرين في الوقت.

ولما كانت الأصوات لا تمكث في الهواء إلا ريثما تأخذ الأسماع حظها ثم تضمحل، اقتضت الحكمة الإلهية والعناية الربانية واحتالت الطبيعة بأنْ قيَّدت تلك الألفاظ بصناعة الكتابة.

وذلك أن القوة الصناعية إذا أرادت تقييدها صاغت لها صورًا من الخطوط بالقلم وأودعتها وجوه الألوان وبطون الطوامير ليبقى العلم مفيدًا فائدة من الماضين للغابرين، وأثرًا من الأولين للآخرين، وخطابًا من الغائبين للحاضرين، وهذا من جسيم نعم الله تعالى على الإنسان، كما ذكر في كتابه فقال: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.

فصل

اعلم يا أخي أنه إذا تفكر الإنسان العاقل الفهيم في هذه القوة التي تَقدم ذكرها، وكيفية سريانها في أعضاء الجسم، وتصرفها في إدراك هذه المحسوسات، وتصورها رسوم المعلومات، واطلاع النفس عليها كلها في جميع حالاتها؛ تكون هذه شاهدة له من نفسه لنفسه، ودليلًا من ذاته على أن للنفس الكلية قُوًى كثيرة منبثة في فضاء الأفلاك وأطباق السموات وأركان الأمهات، وفي الحيوانات والنبات موكلة بحفظ الخليقة ومرتبة لصلاح البرية، وهم ملائكة الله — جل اسمه — وخالص عباده وصفوته من بريِّته، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من غير خطاب ولا كلام، فهكذا هذه القوى تتصرف في حوائج النفس من غير كلام منها لهن ولا خطاب.

ويتبين له أيضًا بأن الله جل ثناؤه مطَّلع على أسرار جميع العالمين وأحوالهم، لا يعزب عنه من أمورهم مثقال ذرة، كما أن نفسه مطلعة على جميع محسوسات حواسها ومعلومات قواها وهن منقادة لأمرها فيما يأتين به إليها من أخبار محسوساتها من غير كلام لهن منها ولا خطاب.

(٨) فصل في اعتبار أحوال الإنسان بالموجودات التي دون فلك القمر

فأما اعتبار الإنسان بالموجودات التي دون فلك القمر، فاعلم أن الموجودات التي تحت فلك القمر نوعان؛ بسيطة ومركبة، فالبسائط هي الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، والمركبات هي المولدات الكائنات الفاسدات؛ أعني الحيوان والنبات والمعادن.

فالمعادن أسبق في الكون ثم النبات ثم الحيوان ثم الإنسان، ولكل نوع من هذه خاصية قد سبق إليها، فخاصية الأركان الأربعة الطبائع الأربعة التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، واستحالة بعضها إلى بعض، وخاصية النبات الغذاء والنمو، وخاصية الحيوان الحس والحركة، وخاصية الإنسان النطق والفكر واستخراج البراهين، وخاصية الملائكة ألا تموت أبدًا. فإن الإنسان قد يشارك هذه الأنواع كلها في خواصها، وذلك أن له طبائع أربع تقبل الاستحالة والتغيير مثل الأركان الأربعة؛ وله كون وفساد مثل المعادن، ويتغذى وينمو كالنبات، ويحس ويتحرك كالحيوان، ويمكنه ألا يموت كالملائكة، كما بيَّنا في رسالة البعث.

فصل

ثم اعلم يا أخي بأن الحيوانات أنواع كثيرة، ولكل نوع منها خاصية دون غيره، والإنسان يشاركها كلها في خواصها، ولكن لها خاصيتين تعمها كلها وهي طلبها المنافع وفرارها من المضار، ولكن منها ما يطلب المنافع بالقهر والغلبة كالسباع، ومنها ما يطلب المنافع بالبصبصة كالكلب والسنور، ومنها ما يطلبها بالحيلة كالعنكبوت؛ وكل ذلك يوجد في الإنسان.

وذلك أن الملوك والسلاطين يطلبون المنافع بالغلبة، والمكديون بالسؤال والتواضع، والصناع والتجار بالحيلة والرفق، وكلها تهرب من المضار والعدو، ولكن بعضها يدفع العدو عن نفسه بالقتال والقهر والغلبة كالسباع، وبعضها بالفرار كالأرانب والظباء وبعضها يدفع بالسلاح والجواشن كالقنفد والسلحفاة، وبعضها بالتحصن في الأرض كالفأر والهوام والحيات.

وهذه كلها توجد في الإنسان، وذلك أنه يدفع عن نفسه العدو بالقهر والغلبة، فإن خاف على نفسه لبس السلاح، وإن لم يُطقه نفر منه، فإن لم يقدر على الفرار تحصن بالحصون. وربما يدفع الإنسان عدوه بالحيلة كما احتال الغراب على البوم في كتاب كليلة ودمنة. وأما مشاركة الإنسان للكائنات في خواصها، فاعلم يا أخي — أيدك الله وإيانا بروح منه — أن لكل نوع من أنواع الحيوانات خاصية هي مطبوعة عليها، وكلها توجد في الإنسان؛ وذلك أنه يكون شجاعًا كالأسد، وجبانًا كالأرنب، وسخيًّا كالديك، وبخيلًا كالكلب، وعفيفًا كالسمك، وفخورًا كالغراب، ووحشيًّا كالنمر، وأنسيًّا كالحمام، ومحتالًا كالثعلب، ومسالمًا كالغنم، وسريعًا كالغزال، وبطيئًا كالدب، وعزيزًا كالفيل، وذليلًا كالجمل، ولصًّا كالعقعق، وتائهًا كالطاووس، وهاديًا كالقطاة، وضالًا كالنعامة، وماهرًا كالنحل، وشديدًا كالتنين، ومهيبًا كالعنكبوت، وحليمًا كالجمل، وحقودًا كالحمار، وكدودًا كالثور، وشموسًا كالبغل، وأخرس كالحوت، ومنطقيًّا كالهزار داستان والببغاء، ومستحلًّا كالذئب، ومباركًا كالطيطوي، ومضرًّا كالفأر، وجهولًا كالخنزير، ومشومًا كالبوم، ونفاعًا كالنحل.

وبالجملة ما من حيوان ولا معادن ولا نبات ولا ركن ولا فلك ولا كوكب ولا برج ولا موجود من الموجودات له خاصية إلا وهي توجد في الإنسان أو مثالاتها كما بيَّنا قبلُ مِن كل شيء طرفًا، وهذه الأشياء التي ذكرنا في أمر الإنسان لا توجد في شيء من أنواع الموجودات التي في هذا العالم إلا في الإنسان.

فمن أجل ذلك قالت الحكماء إن الإنسان وحده بعد كل كثرة، كما أن الباري جل ثناؤه وحده قبل كل كثرة، ومن أجل ما عددنا من عجائب تركيب جسد الإنسان وغرائب تصاريف نفسه وما يظهر من جملة بنيته من الصنائع والعلوم والأخلاق والآراء والطرائق والمذاهب والأعمال والأفعال والأقاويل والتأثيرات الجسمانية والروحانية؛ سموه عالمًا صغيرًا.

فصل

فانظر يا أخي إلى هذا الهيكل المبني بالحكمة، وتأمل هذا الكتاب المملوء من العلوم، وتفكر في هذا الصراط المستقيم الممدود بين الجنة والنار، فلعلك أن توفق للخيرات عليه والممر على الصراط المستقيم، وتأمل هذا الميزان الموضوع بالقسط فلعلك تعرف وزن حسناتك وسيئاتك، واحسب حسابك به قبل فوت رأس مالك فإن الجنة من وراء هذا كله.

واذكر ما قد نبهك الله له وذكرك إياه بقوله: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا، وقوله: هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وقال: أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ.

فإن كنت لا تحسن كيف تقرأ هذا الكتاب وكيف تحسب هذا الحساب وكيف تزن هذا الميزان وكيف تجوز هذا الصراط، فهلمَّ مجلس إخوان لك نصحاء أو أصدقاء لك كرماء فضلاء أخيار علماء محبين لك متوددين إليك، فيعرفوك ما لا تنكره ويعلموك ما تتيقنه، ولا تشك فيه بشواهد من نفسك وبراهين من ذاتك ودلائل من جوهرك، إذا انتبهت نفسك من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، ونظرت بعين البصيرة كما نظروا، وسرت بسيرتهم العادلة كما ساروا، وعملت بسنتهم الحسنة وتفقهت في شريعتهم العقلية، ودخلت مدينتهم الروحانية، وتخلقت بأخلاقهم الملكية وعرفت آراءهم الصحيحة، وتعلمت معلوماتهم الحقيقية؛ فحينئذ تؤيد بروح الحياة الأبدية وتعيش عيش السعداء منعمًا مخلدًا أبدًا بنفسك الباقية الزكية لا بجسدك البالي المستحيل.

فصل

ثم اعلم أنه قد جعلتِ الحكمة الإلهية والعناية الربانية أعضاء كل شخص من الحيوان مناسبًا لجملة جسده، كما بيَّنا في رسالة فضيلة النسب، فنريد أن نذكر منها في هذه الرسالة طرفًا ليتبين تقابل العالم الصغير والكبير.

وذلك أن الإنسان لما كان أكمل الموجودات وأتم الكائنات التي تحت فلك القمر، وكان جسمه جزءًا من أجزاء العالم بأسره، وكان هذا الجزء أشبه الأشياء بجملته؛ صارت نفس الإنسان أيضًا أشبه النفوس الجزئية بالنفس الكلية التي هي نفس العالم بأسره، وصار حكم سريان قوى نفسه وأفعالها في بنية جسده مماثلة لسريان قوى النفس الكلية في جميع العالم.

وبيان ذلك أن لبنية جسدها — أعني النفس الكلية التي هي جملة العالم — سبعة أشخاص فاضلة متحركة مدبرة بإذن الملك الجبار عز وجل، ولكل واحد منها جرم فيه روح تسمى النفس، ولكل واحد منها أفعال في العالم مخصوصة غير ما للآخر، مذكور ذلك في كتب أحكام النجوم.

فهكذا أيضًا جعل الله تعالى في بنية جسد الإنسان أعضاء بنيتها مناسبة لجملة بدنه بعضها لبعض، وجعل لكل عضو منها قوة تختص بها ليظهر بها أفعاله في بنية الجسد وفي سائر أطرافه، وجعل أفعالها مناسبة لأفعال قوى روحانيات الكواكب السبعة.

بيانه أن نسبة جرم الجسد كنسبة جرم الشمس من العالم بأسره؛ وذلك أنه لما كان مركز جرمها في وسط الأفلاك كما بيَّنا في رسالة السماء والعالم هكذا جعل الباري تعالى جرم القلب في وسط الجسد، وكما أن من جرم الشمس ينبث النور والشعاع في جميع العالم بأسره، ومنها تسري قوى روحانياتها في جميع أجزاء العالم، وبها حياة العالم وصلاحه، كذلك ينبث من جرم القلب الحرارة وتسير في العروق الضوارب إلى سائر أطراف البدن، وبها تكون حياة الجسد وصلاحه.

وأيضًا إن نسبة جرم الطحال من الجسد كنسبة زحل من العالم؛ وذلك أن جرم زحل تنبث مع شعاعه قُوًى روحانياته وتسري في جميع أجزاء العالم، وبها تماسك الصور في الهيولى وبقاؤها بإذن الله.

فهكذا ينبث من جرم الطحال قوة الخلط السوداوي البارد اليابس وتجري مع الدم في العروق الواردة إلى سائر أطراف الجسد، وبها يكون جمود رطوبة الدم وتماسك أجزائه. ويَعرف حقيقةَ ما قلنا وصحة ما وصفنا جماعةٌ من الحذقة في صناعة الطب والراسخون في العلوم الحكمية.

وأيضًا إن نسبة جرم الكبد من الجسد كنسبة جرم المشتري من العالم؛ وذلك أنه ينبث من جرمه مع شعاعه قوى روحانيته وتسري في أجزاء العالم، وبها يكون ترتيب أجزائه واعتدال أركانه ومناسبة موجوداتها التي في العالم على أفضل الحالات وأكمل الصفات. ويعرف حقيقة ما قلنا الحكماء والأنبياء وخلفاؤهم الأئمة الذين هم خزائن علم الله والأمناء على أسراره.

وأيضًا فإن نسبة جرم المرارة من الجسد كنسبة جرم المريخ من العالم؛ وذلك أنه تنبث من جرمه مع شعاعه قوى روحانيته وتسري في جميع أجزاء العالم وبها تكون عزمات الموجودات وبلوغ النهايات، فهكذا ينبث من جرم المرارة قوى الخلط الصفراوي، وتجري مع الدم إلى سائر أطراف الجسد، وهي الملطفة للأخلاط المعيدة لها إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهايتها.

وأيضًا إن نسبة جرم المعدة إلى الجسد كجرم الزهرة في العالم؛ وذلك أنه ينبث من جرمها مع شعاعها قوى روحانياتها وتسري في جميع أجزاء العالم، وهي المفرحة الملذذة المسرة جميع الخلائق الجسمانية والروحانية التي في العالم، وبها زينة الموجودات ومحاسن الكائنات في العالم؛ أعني عالم الأفلاك والأمهات جميعًا، فهكذا ينبت من جرم المعدة القوة الشهوانية الطالبة للغذاء الذي هو مادة الجسد وهيولى الأخلاط، وبها تكون حياة الجسد ولذة العيش وقوام البدن في الأجسام البشرية والأجسام الطبيعية.

وأيضًا إن نسبة جرم الدماغ كنسبة جرم عطارد من العالم؛ وذلك أنه ينبث من جرمه مع شعاعه قوى روحانيته التي تسري في جميع أجزاء العالم، وبها يكون الحس والشعور والعرفان في جميع الخلائق من العالمين جميعًا من الملائكة والناس أجمعين والجن والشياطين والحيوانات أجمع، فهكذا ينبث من وسط الدماغ قوة بها يكون الحس والشعور والذهن والفكر والروية والمعارف أجمع.

وأيضًا إن نسبة جرم الرئة كنسبة جرم القمر من العالم؛ وذلك أنه ينبث من جرمه مع شعاعه قوى روحانيته التي تسري في عالم الأركان تارة وفي عالم الأفلاك تارة كما هو بيِّن ظاهر، وذلك أن جرم القمر نصفه أبدًا ممتلئ نورًا ونصفه الآخر مظلمٌ، وهو تارة يقبل بوجهه الممتلئ من النور نحو عالم الأركان من أول الشهر وتارة نحو عالم الأفلاك من آخر الشهر. ويعرف حقيقة ما قلناه وصحة ما بيناه الباحثون في علم المجسطي والهيئة، فهكذا ينبث من جرم الرئة قوة تجذب الهواء تارة من خارج الجسد وترسله إلى القلب ومن القلب تنفذه في العروق الضوارب إلى سائر أطراف الجسد، وهو الذي يسمى النبض، وبها تكون حياة الجسد، وتارة ترد من ذلك الهواء من داخل وبها يكون التنفس والأصوات والكلام أجمع.

فانتبه أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وفقك الله وإيانا وجميع إخواننا للسداد، وهداك وإيانا وجميع إخواننا سبيل الرشاد إنه رءوف بالعباد.

(تمَّت رسالة قول الحكماء ويتلوها رسالة نشوء الأنفس.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤