الرسالة السابعة عشرة

من الجسمانيات الطبيعيات في علل اختلاف اللغات ورسوم الخطوط والعبارات

بسم الله الرحمن الرحيم

الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

(١) فصل

اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أنه لما فرغنا من ذكر اللذات والآلام الجسمانية والروحانية، وذكْر علة كراهية الحيوان للموت، نريد أن نذكر في هذه الرسالة التي في آخر الطبيعيات بيان اختلاف علل اللغات، فنقول:

إن معرفة علل اختلاف اللغات والكلام والأصوات ورسوم الخطوط والكتابات، وكيفية مبادئ المذاهب، واعتقادات الآراء والديانات، وأصل تكوينها ومبدئها وظهورها ومنشئها، وتزيينها ونموها وكثرتها واختلاف أهلها فيها وآرائهم ومنهاجهم، ودثور قوم وكون آخرين منهم قرنًا بعد قرن وأمة بعد أمة؛ لا تكون إلا بعد البيان والإيضاح عن الأصل الذي تفرعت عنه هذه الأمور التي ذكرناها، والإخبار عن كيفية تركيبها وتحليلها وحركتها في مبدئها وكونها بذاتها، وعن اختلاف مجاريها وينبوعاتها في سائر الأجسام، وشدة بيانها عن الحواس وسريانها في الأجناس وإنارتها للحواس وصفة حدوثها بسرعة وانتقال وخروجها بحركة وانفصال وذهابها بعدم واضمحلال وكيفية وجودها في عالم الإنسان، وكيف كانت فيه في مبدئها، وكيفيتها فيما دونه من الحيوان وغير الحيوان، تؤديها إلى حاسَّة السمع من جملتها ومن يحملها، وكيفية حملها، وما السبب الموصل لها إلى الحاسَّة المتحققة بها ولم يدركها من الحواس غير هذه الحاسَّة، وما العلة في ذلك وكيف يعرف الإنسان بخاصة هذه الحاسَّة مفهومها وغير مفهومها بالبرهان.

وهذه أمور غامضة نحتاج فيها إلى بحث دقيق والإخبار بها من غايات الأسرار، ونريد أن نذكر منها في هذه الرسالة طرفًا بحسب التوفيق ليكون مدخلًا إلى علم ذلك ومقدمة بين يديه؛ ليسهل الباقي ويكون بأوجز قول يؤدي إلى الفهم، وأوضح دليل يسهل به العلم، من غير تطويل يشتبه على قارئه، ولا إسهاب يضجر راويَه، ونبدأ من ذلك في ذكر الأصل والعلم في مبادئه، فنقول:

اعلم أن هيولى الحكمة تتَّحد من إرادة الهيئة؛ لأنها هيولى قابلة لجميع الأشياء، وهي مادة سماوية وقوة فلكية وأسباب علوية وقوة عقلية متصلة بجواهر روحانية وأشخاص نفسانية، ترتبط بأفلاك دائرة وتتصل بكواكب سائرة، وتشرق على نجوم طالعة وتضيء بأنوار ساطعة، وترمي إلى ما دونها أنوارها وتودع المصطفين في الأشخاص الإنسانية أسرارها، وتجعل فيهم ودائع الخيرات وتجعلهم مفاتيح البركات، وذلك بما يتخالف إليها ويتعاقب عليها من اتصال وافتراق واختلاف واتفاق، من غير خلل في نظام الابتداء ولا تنقص عن تمام البلوغ والانتهاء، وأن تلك المادة الفاعلة لجميع المكونات لا تدرك إلا بلطائف الحواس، ولا يبلغ تناولها إلا بالالتماس، وكيف لا يكون ذلك كذلك، وهو السبب الذي لا تنقضي عجائب مادته ولا تفني مواد كميته؟! فنقول:

اعلم يا أخي أن المعرفة لها والعلم بها درجة صعبة الارتقاء ومسافة بعيدة الانتهاء؛ وهي درجة العارفين ومقام المستبصرين، الناظرين إلى آثارها العارفين بأخبارها، من طريق العناية عن الحواس الحيوانية والطريق الجرمانية؛ إذ كانت آثارها روحانية ومواردها نفسانية، وعنها صدرت القوة المتصلة بالحكماء وهي روح القدس النازلة على الأنبياء، عليهم السلام، بالوحي من السماء، وعليها معول العلماء، وربما وردت أشياء كثيرة الاختلاف بعيدة الائتلاف، متباينة القوانين مختلفة الموازين.

وذلك أن ما كان منها في هذا المكان الأرضي والمركز السفلي تضعف الحواس عن إدراك معرفتها، وتعجز المشاعر البشرية التي هي من أسباب الهيولى عن بلوغ إدراكها، فإذا كانت الأشياء على هذا المثال منشؤها، وبهذا الترتيب مبدؤها، وكانت القوة التي هي مادة المعرفة بالحس في العالم الإنسي، وسبب القبول في الجسم المجبول يعجزان عن البلوغ ويضعفان عن الوصول، وكانت مدة الزمانية التي هي سبب الحياة الإنسانية تقصر عن الطلب وتفنى قبل بلوغ الأرب، وتضيق عن الإحاطة بمعرفة ذلك السبب.

وإذا كان الأمر على ما وصفنا، كان أول ما قصده العاقل، وتوخاه واعتمد عليه الفاضل، وتحراه معرفة ما طاوعه عليه حسه وساعده على قبوله جوهر نفسه، وتلقاه أيام مدته وأعمل فيه فكرته زادت فيه بصيرته؛ فمن لا حس فيه لا معرفة له، ومن لا معرفة له لا جوهر له، ومن لا جوهر له لا بلوغ له، ومن لا بلوغ له لا مقر له، ومن لا مقر له لا وجود له، ومن لا وجود له فهو العدم.

(٢) فصل

ثم اعلم أن الغرض من اتحاد المركبات كلها هو معرفة السبب الموجب لذاتها، المنشئ لمباديها، المؤلف لكيفياتها، وكيف كان منشأ الابتداء، وإلى أين تئول العاقبة في الانتهاء، وكيف كان التئام التأليف واتفاق اللطيف بالكثيف وازدواج التركيب، وكيف يكون افتراق المجتمع وانفراد المزدوج وانحلال المنعقد، واتحاد منفردها وعدم وجودها، ونفاد أجزائها بعد صحة وجودها، وسلامة معهودها ووثاقة معقودها، فإذا أنت علمته وتصورته وتبينته وتأملته، بان لك إذا ساعدك عليه حسك، وأوصلك إلى معرفة قبول جوهرة نفسك، وتأملته تأمل التحقيق، وبان لك كيفية التأليف والتركيب، واقتران اللطيف بالكثيف الذين بهما وبصحة معرفتهما، وجود مادتهما وإحداهما مادة أرضية وقوة جسمية، والأخرى صورة روحانية وشهوة ملكية، فيا لها من قصة عجيبة ظريفة من اجتماع ما علا مع ما دنا، وارتباط ما لطف بما كثف! جارت في ذلك عقول الحكماء، وتاهت فيه أذهان العقلاء، وانسدت الطرقات، وانطمست العلامات، وتعذرت الدلالات؛ إذ كان من المنكر في هذا العالم على من له حكمة ونظر، أن يقرن العالم بالجاهل، وأن يجمع بين الجوهر والحجر في مقر واحد، اللهم إلا يكون أراد تعذيب العالم بالجاهل؛ جزاءً له بذنب عمله وجرم قدمه، أو مقارنة الجوهر بالحجر وكونهما في مكان واحد ليكون الحجر سترًا على الجوهر وواقيًا له وغطاء عليه وحجابًا بين يديه، لا أن يكون العالم والجاهل عنده في مقام واحد.

وكذلك الحجر والجوهر إذا كانا في مقام من جهة الصورة الجسمانية والهيولى الجرمانية منعكسين في فيء الهيولى، فإنهما لا يعرفان ما اتحد بهما بفيء الظل والجوهر من المواد المضيئة والرتب العلوية، أعني العالم، والحجر عدم ذلك فليس يقال بأنه عالم.

ولما كان ذلك كذلك زالت الشبهة والإنكار لوجود معرفة ذلك السبب الموجب الاجتماع، ووجب للطالب إذا طلب معرفة ذلك السبب، ومن بعد وجود اجتماعها حصول افتراقهما ووجود أحدهما بجملة وعدم الآخر وتفرقته، وإذا عرفت ذلك بانَ لك الفرق بين الجسم والعرض، وأدركت المراد والغرض، وسأبين من ذلك طرفًا يعينك على ذلك، ويبلغك إلى معرفة ما وصفت لك؛ إذ قد فرغنا من ذلك رجعنا إلى الإبانة عن تركيب الأصوات، واختلاف اللغات، ومبادئ الخطوط والكتابات والألفاظ والعبارات، واستخراج الحروف والمؤلفات، ومن أين تخرجت، وعمن أحدثت، وفي أي مكان وجدت، والله ولي التوفيق.

(٣) فصل

ثم اعلم أنه لما سَرَت القوة النفسانية في الجسم، الذي هو العالم بأسره، بعد كونها لا سريان لها، ساكنة في حظيرة القدس في روضة الأنس، حيث سريان القوة العلوية فيها، وإشراقها عليها وكونها مرتبة بحيث رتبها باريها، كما قال تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى، وهي الكون في وقت الابتداء، فلما امتلأت من الفضائل والخيرات وما بلغ إليها من الإفاضة، وكانت ذات فكر وتخيُّل، فتفكرت ثم تخيلت ثم نظرت، فأرادت أن تكون ذا منة وتفضُّل، وأن تكون رياسة ونفاسة، وأن تكون مفيدة، فبدا لها في ذلك التخيل الذي تخيلته، والمثال الذي مثلته، وانبث السريان فيه والارتباط به من جسم العالم، ومكنها الله تعالى من ذلك، وجعله جسدًا لها وأراها خلاف ما ظنته، فلما دارت أفلاكه، وسارت أملاكه، وزهرت كواكبه، وبدت عجائبه؛ أقبلت تمثل فيه ما كان ممثلًا فيها، وتخرجه من القوة إلى الفعل، ومن المعقول إلى المحسوس، الشيء بعد الشيء، ثم إن جميع الموجودات وسائر المصنوعات لما بدت ووجدت في العالم، وقع الاختلاف فيها، والسؤال عنها من جهة ثلاثة أنواع يحصرها جنس واحد؛ فأول ذلك الترتيب الأول المرتب كان في النفس أولًا بالقوة والأمور العقلية المعقولة، وهي صورة أعياز بسائط المركبات والموجودات بالترتيب، والثاني هي الأمور المحسوسة ثم البرهان يقتضي علتها ويبين معانيها ويعرف الناظر فيها والسائل عنها معرفة كيفيتها معقولة في غاية التجرد النفساني وكونها بعدها محسوسة في العالم الجسماني.

فأما تفصيل ذلك فنقول: أما الصورة العقلية فهي آثار العقل الكلي في النفس الكلي لقبولها منه وكونها بالقرب منه، وهي أنوار مضيئة تخرج عن حد الوصف بالعبارة الجسمانية من حيث التركيب إذ كانت في غاية البساطة والتجريد إلى الأمور المحسوسة، فهي صورة في الهيولى تدركها الحواس بالمباشرة لها، وتنفعل منها بخاصة القوة فيها.

وأما الأمور المبرهنة فهي أشياء لا تدرك إلا بمواد العلم وصحة العقل، وهي أمور يكون مبدؤها من أمور إلهية وأشخاص ملكية، تضطر العقول إلى الإقرار بها والإذعان لصحتها والتمسك بمعرفتها، كما بين في كتب الهندسة، وصحة الدليل على ما قد قال أهلها أن أشكال الأشياء لا يحاط بأطرافها، ولا تدرك أقدارها، ولا ترى أقطارها، ولا يمكن رؤيتها إلا مدورة بأي شكل شكلت، وأي مثال مثلت، كما قال إقليدس في كتابه إن مقدار ظل أي نهاية، جسمًا كان أو سطحًا أو خطًّا، فإنه يمكن أن يوجد منه دائمًا ولا يفنى أبدًا، فهذه حكمة لا تدركها الحواس ولا تتصورها الأوهام البتة من غير تعريف.

وقد تكلم إقليدس أيضًا في مقدمات كتابه عن البرهان وقال: إن البرهان مقدمات الحجة على تحقيق الخبر.

فأما التمام فهو العلم بالمعلوم بجميع ما ذكرنا، قال إقليدس: وإنما النقطة هي التي لا جزء لها، والخط هو طول بلا عرض، وطرفا الخط نقطتان، والخط المستقيم هو الموضوع في مقابلة كل واحدة من نقطتي طرفيه على سمت واحد، فهذا يدل على أن النقطة وهمية لا تتحقق إلا بالبرهان، ولا تعرف إلا بالخبرة، فقد تبين إذَنْ أن الأمور المبرهنة لا تدركها الحواس، ولا تتصورها الأوهام، ولكن البرهان الضروري والحجة القاطعة يضطران العقل إلى الإقرار بهما؛ لأن البرهان ميزان العقل، كما أن الكيل والوزن والذرع ميزان الحواس، فاعرف ما ذكرنا، وتحقق ما وصفنا، وأَدِمْ فيه فكرك، وأعمِل رويتك؛ فإنك بذلك تنال غرضك فتبلغ مرادك وطلبتك.

(٤) فصل في معرفة الأصوات الفلكية

فنقول: اعلم أن الأصوات هي الأعراض الحادثة من الجواهر؛ والجواهر جنسان؛ فما علا ولطف قيل جواهر علوية، وما دنا وكثف قيل جواهر سلفية وأصوات هي أعراض لا يكون حدوثها إلا عن الجواهر، وحدوثها لا يكون إلا من محرك يحركها، تارة يطن الصوت ويتصل بمسمع الحاضرين، وتارة يسكنها فيسكن الصوت.

ولما كان ذلك كذلك، وضح البرهان على أن أصل الحركة هو النفس، وأن الصوت منفعل من حركتها وسريان قواها في الأجسام.

ولما كانت الأفلاك دائرات والكواكب والنجوم متحركات، وجب أن يكون لها أصوات ونغمات.

ولما كانت مستوية في نظامها محفوظة عليها صورة تمامها وكمالها، وجب أن تكون حركاتها منفصلة وأصواتها متصلة، وأقسامها معتدلة، ونغماتها لذيذة، وألحانها بديعة، ومقالتها تسبيحًا وتقديسًا وتكبيرًا وتهليلًا، تفرح بها نفوس المستمعين لها والحافين بها من الملائكة، والنفوس التي تقدم عليها وتصعد إليها، وتلك الحركات والأصوات هي مكيال الدهور والأزمان، التي بها يحكم على عالمها بالبقاء من حيث هي كما أن الأصوات اللذيذة والألحان المطربة والنغمات الحسنة في عالم الأبدان تفرح بها نفوس السامعين لها، وتحن إلى استماع ما كان لذيذًا منها، وتسر بقربها وتسلى عنها الغموم وينجلي عنها الهموم، ويكون منها سكونات فاصلة بين تلك النغمات والحركات، فتصير عند ذلك مكيالًا للزمان وذرعًا له، ومحاكية لحركات الأشخاص الفلكية والأصوات الملكية ومناسبة لها، وتلك هي الأصل في جميعها وهذه فروعها وقد استمعتها النفوس، وهي في عالم الكون والفساد، فتذكرت بها عالم الأفلاك ولذات النفوس التي هناك من فسحة الجنان وروضة الريحان، وعلمت أنها في أحسن الأحوال وأطيب اللذات وأتم الأشكال وأدوم السرور؛ لأن تلك النغمات والأصوات هي أضعاف هذه الألحان، وهي أطيب؛ لأن تلك أحسن ترتيبًا وأصح تأليفًا، وأجود هندامًا وأقوم نظامًا، وأصفى جوهرًا، ومناسبات حركاتها أصح تأليفًا.

فإذا تخيلت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد ما في عالم الأفلاك وتيقنت حقيقة ما وصفنا، تشوقت عند ذلك إلى الصعود إلى هناك واللحاق بأبناء جنسها والوصول إلى حظيرة الفلك وروضة الأنس.

ولما بان لنا أن الفلك طبيعة خامسة، وأنها ليست بمخالفة لهذه الأجسام التي دون فلك القمر في كل الصفات؛ وذلك أن منها ما هو مضيء كالنار وهي الكواكب، ومنها صقيل الوجه كوجه المرآة وهو جرم القمر، ومنها ما يقبل النور والظلمة مثل الهواء وهو فلك القمر وفلك عطارد، وهذه كلها أوصاف الأجسام الطبيعية تشاركها الأجسام الفلكية، فقد بان بأن الفلك، وإن كان طبيعة خامسة، فليس بمخالف للأجسام الطبيعية في كل الصفات، بل في بعض دون بعض؛ وذلك أنه ليس بحارٍّ ولا بارد ولا رطب ولا يابس، بل هو صلب أشد صلابة من الياقوت وأشف من البلور وأصقل من المرآة، وأنه يماس بعضه بعضًا ويصطك ويحتك، ويطن كما يطن النحاس، ويكون لنغماته وأصواته مناسبات مؤتلفة وألحان موزونة، كما بيَّنا في رسالة الموسيقى بأكثر من هذا البيان، وأقمنا عليه البرهان من صناعة العود وضرب الأوتار وما يستعمله أهل هذه الصناعة من النسبة، وهي أصح نسبة تكون وأفضلها؛ لأنها نسبة روحانية.

فصل

ثم اعلم أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ونغمات، ولا للملائكة كلام ولا تسبيح ولا تقديس، فليسوا هم إذَنْ أحياءً، فهم أموات؛ لأن الصمت بالموتى أولى، ولربما احتكَّ بعض الأحجار ببعض، فيَحدث من بينهما قرع في الهواء. ولو كان الفلك ومن فيه بغير كلام ولا صوت ولا نطق، لكان ما يكون تحته مشاكلًا له، وكان من يكون ساكنًا بغير حركة.

ولما كان هذا من الأصل في البداية وجب أن يكون ما تحته مناسبًا له، لكن هو الأعلى زيادة عليه؛ إذ كان هو الفاعل وهذا المنفعل، وأيهما الأولى بالنطق والحركة والكلام والتسبيح والتكبير والتقديس والتهليل؛ أهل السموات والأفلاك أم أهل الأرض من عالم الإنسان والحيوان والجمادات؟ وأيهما أولى بالسمع والأبصار والأذهان والأفكار والخواطر والأذكار والعلم والعقل؛ أهل السموات أم أهل الأرض؟ فأهل السموات هم المسبحون المستغفرون لمن في الأرض، لا يفترون عن التسبيح ولا يسكتون عن التقديس بألحان طيبة ونغمات لذيذة، ألذ من نغمات العيدان ونقر الأوتار والطنابير ومجاوبة المزامير في الميادين الفسيحة والأنبوبات القائمة. وإن تلك النغمات والألحان تذكر تلك النفوس البسيطة التي هناك سرور عالم الأرواح ومحل الأشباح التي فوق فلك الأفلاك، التي جواهرها أشرف وألطف من جواهر عالم الأفلاك، الذي هو عالم النفوس ودار الحيوان، الذي نعيمها كله روح وريحان في درجات الجنان؛ ولذلك صارت النفوس الجزئية التي في عالم الكون والفساد إذا سمعت الأصوات الطيبة والنغمات اللذيذة، مثل قراءة الإنجيل وتلاوة القرآن وألحان الداودية وألحان القراء في المجالس، تذكرت رسوم الأفلاك ومحل السموات، وتشوقت إلى ما هناك؛ ولذلك قالت الحكماء إن الموجودات والمعلومات هي التي تحاكي أحوال الموجودات الأولى التي هي علل لها، وقولهم إن الأشخاص الفلكية علل وآلات لهذه الأشخاص التي في عالم الكون والفساد، وإن حركات تلك علة لحركات هذه، وحركات هذه تحاكي حركات تلك؛ فواجب أن تكون أصوات هذه ونغماتها تحاكي ما هو علة لها كمحاكاة الصبيان أصوات آبائهم وأمهاتهم وحركاتهم في لعبهم، فإنهم يحاكون أفعال الآباء والأمهات.

وهكذا التلامذة يحاكون أفعال الأستاذين، وأكثر العقلاء والعلماء من الناس يعلمون أن الأشخاص الفلكية وحركاتها المنتظمة وأصواتها الموزونة على النسبة الفاضلة متقدمة الوجود على الحيوانات التي تحت فلك القمر، وحركاتها علة لحركات هذه، وأن عالم النفوس متقدم الوجود على عالم الأجسام، كما بيَّنا في رسالة المبادئ العقلية، ولما وجد في عالم الكون والفساد حركات وأجسام ذوات أصوات وحيوانات ناطقة.

دل على ذلك أن في عالم السموات أشخاصًا ناطقة ولطائف متحركة، وأن لتلك الحركات نغمات متناسبات مفرحة لنفوسها ومشوقة لها إلى فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال الآباء والأمهات، وفي طباع المتعلمين والتلامذة اشتياق إلى أحوال الأستاذين، وفي طباع الجنود والخدم اشتياق إلى أحوال الملوك والرؤساء، وفي طباع العقلاء والفضلاء اشتياق إلى أحوال الملائكة وتشبُّه بهم، كما قيل في حد الفلسفة أنها تشبُّه بالإله بحسب طاقة الإنسان.

وقد قيل إن فيثاغورس سمع، بصفاء جوهره وذكاء قلبه، نغمات حركات الأفلاك وأصوات حركات الكواكب، واستخرج بجودة فكره أصوات نغمات الموسيقى وأوضاع ألحانها المطربة، وهو أول من تكلم في هذا العلم وخبر عن هذا السر من الحكماء، ثم تيقوماخس وبطليموس وإقليدس وغيرهم من الحكماء تصرفوا في ذلك وأتقنوا كما ينبغي.

وقد ذكرنا في هذا المعنى واستقصينا البيان بإقامة الدلالة عليه في رسالة الموسيقى، فقد بان بما ذكرنا وتحقق بما وصفنا أن السموات عامرة بأهلها مسكونة، ولسكانها أصوات ونغمات، والأصوات والنغمات والحركات التي هي أعراض تحدث من حركات الأجسام الحيوانية وغير الحيوانية، إنما تظهر وتبرز بحسب بروز تلك الأصوات في ذلك العالم.

وهكذا أيضًا تتبع هذه الحركات الجزئية تلك الحركات الكلية، وهذه حركات ناقصة وتلك حركات كاملة، وهذه حركات فانية وتلك حركات باقية صالحة، وتلك الحركات والأصوات والنغمات كلها مفهومة وهذه غير مفهومة، وتلك مستوية وهذه غير مستوية.

والعلة في ذلك صفاء هيولى تلك وكدر هيولى هذه، وهيولى هذه فانية فاسدة وتلك باقية صالحة، وتلك الحركات مكائل الدهور النفسانية وهذه مكائل الأوقات الزمانية، وهذه مركبة وتلك بسيطة، وهذه فيها اختلاف وتغيير وتلك لا اختلاف فيها ولا تغيير، والنغمات اللذيذة والأصوات الطيبة في هذا العالم قليلة الوجود معدومة على الحال الأكثر يتخصص بها الملوك والكبار ويتنافسون فيها، ويكثر غير المخصوص بها لشرفها وجلالتها في النفوس.

ولذلك صارت النفوس الجزئية، إذا سمعت نغمة طيبة وصوتًا حسنًا، تنجذب إليه وتصبو نحوه وتنصت إليه أسماعها، لقلته وكثرة أضداده من الأصوات المنكرة.

وهكذا ميلها إلى الصورة الحسنة والأشخاص المليحة لقلتها وكثرة أضدادها؛ فلذلك صارت المستحسنات مرغوبًا فيها محبوبة لكثرة التنافس فيها ولقلة وجودها.

فأما ذلك العلوي فكله روح وريحان ونغمات لذيذة وأحلان طيبة وصور حسَان، وهو مسكن الحور والولدان وسرور وخير معرًّى من الشوائب المنغِّصة والأخلاق الموحشة.

فلذلك قيل إنه لا يصل إلى هناك إلا مَن حسنت أفعاله وزكت أعماله، فيكون ذلك معينًا له على الارتقاء إلى هناك، واللحاق بذلك العالم الفاضل الشريف الكامل؛ ولذلك قيل حُسن الصوت زيادة في الرزق، وقيل سماحة الصوت نصف الزمانية.

فصل

ثم اعلم أن من لدن فلك المحيط إلى منتهى فلك القمر أصواتًا مرتفعة وألحانًا مطربة ونغمات لذيذة ولغات مختلفة وحركات مؤتلفة، ناطقة كلها بالتسبيح والتهليل والتكبير والتحميد؛ فقد بان لك بهذا الوصف معرفة الأصوات الفلكية والحركات السماوية، وسنذكر بعد ذلك الأصواتَ الأرضية والنغمات السفلية.

(٥) فصل في معرفة أصول الأصوات الأرضية

فنقول: اعلم أن أصل الأصوات هو ما حدث من تصادم الأجرام وحركات الأجسام، والصوت قرع يحدث من الهواء إذا صدمت الأجسام بعضُها بعضًا، فتحدث بين ذَيْنك الجسمين حركة عرضية تسمى صوتًا، بأي حركة تحركت ولأي جسم صدمت ومن أي شيء كانت، وهذه الأصوات تنقسم قسمين: حيوانية وغير حيوانية، والحيوانية تنقسم أقسامًا وتتفرق أجناسًا على حسب اختلاف الحيوان في أجناسها وتباينها في أصواتها، وسنأتي على بيان ذلك في موضعه إن شاء الله. والأصوات التي هي غير حيوانية أيضًا تنقسم قسمين وتوجد في نوعين، وذلك أنها طبيعية وآلية؛ فالطبيعية كصوت الرعد والريح والبرق وكصوت الأجسام التي لا أرواح فيها كالجمادات، ومثل صوت الحديد والحجر والخشب وما أشبه ذلك. والآلية هي الأجسام الصناعية كصوت الطبل والبوق والزمر والوتر والمناقر وجميع هذه طبيعية وآلية، لا يحدث فيها صوت ولا يسمع لها حركة إلا مِن تصادم بعضها ببعض وامتزاج بعضها ببعض، فإنه لولا أن الزامر ينفخ في الناي والمغني يحرك الوتر والناقر ينقر الحجر، لم يوجد لذلك صوت ولا يسمع له حس.

وأما أصوات الرعد فقد قالت الحشوية إنه للملك يزجر السحاب ويسوقه ويفرقه يمينًا وشمالًا، وإن الملائكة عن يمينه وشماله يسبحون بتسبيحه ويسكتون بسكوته، سبحانك هذا بهتان عظيم؛ فلم يكن عند علماء هذه الطائفة الحشوية أكثر من هذا العمى ببصيرتهم وقلة عقلهم وتمام جهالتهم.

وقال غيرهم ممن يدعي معرفة علم الهيئة إنه يحدث من تصادم السحاب واصطكاك الغيوم، وهذا خطأ؛ لأن السحاب جسم منعقد من البخار يتصاعد من الأرض لطيفًا ثم يتكاثف من التئام بعضه إلى بعض، وهو جسم لا صوت له.

وقال آخرون هو الريح يخرق السحاب، والريح إذا خرق السحاب فرقه وقطعه ولم يحدث من بينهما صوت.

بقي القول في الصواب وهو أن يطلع البخار بلطافته حتى يتعلق في عنان الهواء، وهو على ضربين: رطب ويابس، فإذا اجتمعا وتكاثفا امتزجا وتعاقدا، فعُقد البخار الرطب مع البخار اليابس بقوة كثافته وشدة رطوبته ولا يكون له منفذ إلا بشدة شديدة، فيجتمع بقوته ويخترق الهواء بلطافته، فيحدث منه ذلك الصوت على قدر كثرته وقلته، وربما طلب العلو فلم يكن له منفذ، فانعكس البخار اليابس فطلب السفل فقدح نارًا أو يحدث منه صوت هائل، وهو الذي يسمى الصاعقة، كما يحدث من الزق المنفوخ إذا وقع عليه حجر ثقيل من شاهق وشقه وخرج منه الهواء الذي كان فيد دفعة واحدة، وحدث منه صوت هائل، وهو الذي يسمى صاعقة يسمعه مَن بقرب تلك البقعة، وربما يتحول ذلك البخار فيصير ريحًا يدور في جوف السحاب ويطلب الخروج منه ويسمع له دوي وقرقرة كما يسمع من أجواف الحيوان والإنسان من الريح التي تحدث في الجوف من جهة المأكول الذي يحدث فيه.

(٦) فصل في أن منتهى كل حاسة إلى القلب

ثم اعلم أنه لولا العناية الإلهية والسياسة الربانية ورحمة الله تعالى بخلقه ورأفته بعباده بأن جعل كرة النسيم عالية عن كرة السحاب، مرتفعة بعيدة من الأرض بمقدار الحاجة، وجعل من شأن السحاب أنه إذا انخرق طلب الصعود إلى فوق، ومن شأن قرع الهواء إذا حدث أن تكون حركته إلى فوق، ولولا ذلك لكانت أصوات الرعد ولمعان البرق تضر بمسامع الحيوان وأبصارها، ولأهلكتها كما يكون ذلك في بعض الأحايين.

وذلك أن السحاب إذ تزاحم ودفع بعضه بعضًا حتى ينضغط، فينتقل من قرب الأرض وتحدث منه الرعود وتنخرق السحب من أسفل، فيحدث من ذلك قرع في الهواء وتدافُع منحط في الأرض، فيكون من ذلك صوت هائل يسمى صاعقة، وتقتل كثيرًا من الحيوان الذي يقرب من ذلك المكان، وربما أحرقت بعض الأجسام الرخوة؛ لأنها نار لطيفة.

وأما الأجسام الصلبة فإنها قل ما تفعل فيها، وقد ذكرنا طرفًا من هذا في رسالة الآثار العلوية، ولولا خروجنا عما له قصدنا، لشرحنا ذلك شرحًا تامًّا كاملًا.

ثم اعلم أنه كما لا يجوز في العقل أن يكون حيوان إلا من مماسة أسباب أو نكاح أجسام كذلك لا توجد الأصوات إلا في الأجسام ولا تصوت الأجسام إلا بحركات.

ثم إن الأصوات أعراض حادثة والجواهر أجسام حاملة لها، فإن زعم زاعم أو اعترض معترض فقال إنه قد توجد أصوات في غير أجسام ومن غير حركات الأجسام؛ وذلك أنه إذا تكلم متكلم في سفح جبل أو صاح في قعر بئر أو نهر، أجابه مجيب بمثل كلامه يسمع المتكلم جوابه من غير جسم ولا حركة جسم.

وقد يُرى أيضًا حيوان يتكون من غير نتاج ولا نكاح مثل دود الخل وسوس التمر وما يتكون من العفونات ومن النداوات وما أشبه ذلك.

فليعلم هذا المعترض وهذا القائل أنه ليس القول كما زعم، فإنه جاهل بهذه الأشياء وبهذه الأسباب الموجبة لحدوثها منها وكونها عنها، فغلط فيما رأى من موجوداتها، وكان قليل المعرفة بمعلوماتها، وأنه لما سمع الصوت من الجبل والبئر ظن بأنه أجابه بجوابه وردَّ عليه بكلامه، إما من حيوان لا يراه وشيء لا يعاينه، أو أن الجبل نطق بجوابه وقعر البئر رد كلامه، فهذا تخيُّل مَن لا عقل له ولا معرفة عنده، فالصوت الذي يسمعه إنما هو صوته والحركة التي بدت منه في الهواء، وذلك إنه صاح في سفح الجبل وقعر البئر إلى جانب الحائط، فخرج من جوف المتكلم شكل كروي ونقش عرضي يأخذه الهواء إلى أن يؤديه إلى ذلك الموضع فيصادفه ما يمنعه من النفوذ والانتشار، فيرتد راجعًا فيسمع منه ذلك الصوت، وهو الصدى، وسنأتي على شرح ذلك كما ينبغي في موضعه.

(٧) فصل في أن الجواهر تحتلف في أنواعها

واعلم أن الأصول في أصوات ذوات الأصوات أن معرفتها تكون بمعرفة الطبائع الأربع؛ التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأركان الأربعة المعلومة وكيفية استحالة بعضها إلى بعض، وامتزاج بعضها ببعض في الأزمان والأماكن، وما يحدث منها في البقاع والمعادن. فمَن بحث عن ذلك بفكره ونافذ بصيرته وجودة تأمله وثاقب نظره، علم أن الأركان الأربعة لها جهات أربع من الشرق والغرب والشمال والجنوب.

ولهذه الجهات أوتاد أربعة؛ وهي الطالع والغارب ووتد تحت الأرض ووتد وسط السماء، وهذه الأسباب الأربعة ممثلة على حدود أربعة ترجع إلى سبب واحد. ولمعرفة هذه الحدود أقوام إذا سألتهم عنها عرفوك وإذا قصدتهم أرشدوك، فإن الكائنات التي هي من استحالة هذه الأركان أربعة أنواع:

فمنها حوادث الجو والتغيرات الهوائية والكائنات منها؛ مثل الرياح والأمطار والرعد والبرق والثلج والهالات والشهب وذوات الأذناب واحمرار الشفق والنيران الحادثة في الأفق.

ومنها الكائنات التي في باطن الأرض؛ كالبخار المحتقن هناك والهواء المنحصر وما يحدث من الزلازل والرجفات والخسف والهدأت، وما قد أحكمته الطبيعة في باطن الأرض وأسخنته ببخارها وطبخته بنارها من مائع وجامد وكاين وفاسد، مثل معادن الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والزيبق والكبريت والنفط والملح والشب والزاج، وسائر المعدنيات الذائبة والجامدة، وهذا علم معرفة كثيرة الفائدة.

وقد ذكرنا طرفًا في رسالة المعادن، ومنها الكائنات على وجه الأرض التي تسمى النامية، وهي على ضربين: نامٍ بالقوة وهي سائر النبات، ونامٍ بالحياة وهو جميع الحيوان، وكون جميع الحيوان على ضربين: «نتاج وتكوين»؛ فالنتاج من مُمَاسَّة الأجسام الحيوانية بعضها لبعض.

وقد ذكرنا في رسالة الحيوانات المتكون منها بغير مماسة ما هو من امتزاج الطبائع بعضها ببعض، وهو النكاح الأول، وهو الأصل، فإذا امتزجت الطبائع ونكحت بعضها بعضًا نكاحًا طبيعيًّا، أخذت القوة المنفعلة عن القوة الفاعلة بمقدار هيولى ذلك المكان وما في هيئات ذلك الزمان، مما يسهل قبوله فيحدث من بينهما حيوان، والدليل على ذلك أن ما فيه طبيعة واحدة لا يحدث منه حيوان، وسائر الأجسام الصلبة لا يوجد فيها حيوان؛ لامتناع الهواء أن يتخللها، وكل مكان لا يدخله الهواء لا يوجد فيه حيوان، وإنما الهواء يجمع بين قوى الطبائع ويؤلف بينها ويحركها حركة الاختلاط والامتزاج، ويكسبها النداوة والعفونة والتحليل والتركيب، ويكوِّن الحرارة فيلقح ذلك المكان ويقبل العفونة من الهواء، فتتحد الطبيعة بالطبيعة وتختلط القوتان، فيكون البخار الحار اليابس كالذكر، والبارد الرطب كالأنثى واجتماعهما كالنكاح، فيحدث من بينهما حيوان.

وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن إذ يقول: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ الرياح ها هنا فاعلة، والأصل في هذه الكلمة موضوعها في اللغة العربية على ما أجمع عليه النحويون ملاقح، فيصير ها هنا على القلب والتبديل، والعرب تقلب الشيء إلى الشيء وتبدل وتقدم إذا كان المعنى مفهومًا وكان المخاطَب به يفهم مِن المخاطِب، والدليل على أنها ملاقح قولهم في اللغة: لقحت الأرض والنخلة، فهي لاقحة، والجمع لواقح؛ فجعل لفظة الفاعل ها هنا لفظة المفعول على القلب، كما قال تعالى: مَاءٍ دَافِقٍ وإنما هو مدفوق؛ لأن الرباعي الذي اسم الفاعل منه مفعل والثلاثي الذي اسم المفعول منه فعيل، وقد يكون الفعيل مرة للفاعل ومرة للمفعول، والمعنى يدل عليه كقولك: قتيل وجريح وصريع، إذا أردت المفعول، وكريم ورحيم وعليم، إذا أردت الفاعل.

وكذلك تجدها في حكم الطبيعة أن الرياح هي الملقِّحة للشجرة وغيرها، فقد تَبين إذَنْ كيف يكون ذلك من الممازجة والاختلاط، وبطل أن يكون من غير ممازجة، وقولنا نكاحًا طبيعيًّا إنما هو على المجاز، يعني به امتزاج الطبائع بعضها ببعض، فقد أقمنا الدليل على أنه لا حيوان إلا من نكاح، ولا صوت عرضي إلا من جوهر، ثم نرجع إلى الأصل في الأصوات.

فصل

ثم اعلم أن الأصوات على ضربين؛ مفهومة وغير مفهومة؛ فالمفهومة هي الأصوات الحيوانية، وغير المفهومة أصوات سائر الأجسام، مثل الحجر والمدر وسائر المعدنيات. والحيوانات أيضًا على ضربين: منطقية وغير منطقية؛ فغير المنطقية هي أصوات الحيوانات غير الناطقة، وهي نغمات تسمى أصواتًا ولا تسمى منطقًا؛ لأن النطق لا يكون إلا في صوت يخرج من مخرج يمكن تقطيعه بالحروف التي إذا خرجت عن صفة الحروف أمكن اللسان الصحيح نظمها وترتيبها ووزنها، فتخرج مفهومة باللغة المتعارفة بين أهلها، فيكون بذلك النطق الأمرُ والنهي والأخذ والإعطاء والبيع والشراء والتوكيل، وما شاكل ذلك من الأمور المخصوصة بالإنسان دون الحيوان، فهذا فرق ما بين الصوت والنطق.

فأما مخارجها من سائر الحيوان فإنها من الرئة إلى الصدر، ثم إلى الحلق، ثم إلى الفم، ثم يخرج من الفم شكل على قدر عظم الحيوان وقوة رئته وسعة شدقه، وكلما اتسع الحلقوم وانفرج الفكَّان وعظمت الرئة، زاد صوت ذلك الحيوان على قدر قوته وضعفه.

وأما الأصوات الحادثة من الحيوان الذي لا رئة له مثل الزنابير والجنادب والصرصر والجدجد، وما أشبه ذلك من الحيوانات، فإنه يستقبل الهواء ناشرًا جناحيه فاتحًا فاه ويصدم الهواء فيَحدث منه طنين ورنين يشبه صوتًا.

وأما الحيوان الأخرس كالحيات والديدان وما يجرى هذا المجرى، فإنه لا رئة له، وما لا رئة له لا صوت له.

وأما الحيوان الأنسي فأصواته على نوعين: دالة وغير دالة؛ فأما غير الدالة فهي صوت لا هجاء له ولا يتقطع بحروف متميزة يفهم منها شيء؛ مثل البكاء والضحك والسعال والأنين وما أشبه ذلك.

وأما الدالة فهي كالكلام والأقاويل التي لها هجاء في أي لغة كانت وبأي لفظ قيلت.

وكل هذه الأصوات — مفهومها وغير مفهومها، حيوانها وغير حيوانها — إنما هي قرع يَحدث في الهواء من تصادم الأجرام وعصر حلقوم الحيوان، وذلك أن الهواء لشدة لطافته وصفاء جوهره وسرعة حركة أجزائه يتخلل الأجسام كلها، ويسري فيها ويصل إليها ويحرك بعضها إلى بعض، فإذا صدم جسم جسمًا انسل ذلك الهواء من بينهما وتدافع وتموج إلى جميع الجهات، وحدث من حركته شكل كروي يتسع كما تتسع القارورة من نفخ الزجاج.

وكلما اتسع ذلك الشكل ضعفت قوة ذلك الصوت إلى أن يسكن؛ ومثال ذلك إذا رَميت في الماء الهادئ الواقف في مكان واسع حجرًا، فيُحدث في ذلك الماء دائرة من موضع وقْع الحجر، فلا تزال تتسع فوق سطح الماء وتتموج إلى سائر الجهات، وكلما اتسعت ضعفت حركتها حتى تتلاشى وتذهب.

فمن كان حاضرًا في ذلك الموضع أو بالقرب منه من الحيوان، سمع ذلك الصوت فبلغ ذلك التموج الذي جرى في الهواء إلى مسامعه ودخل صماخه وتحرك الهواء المستقر في عمق الأذنين بحسب القوة السامعة بذلك التموج والحركة التي تنتهي إلى مؤخر الدماغ.

ثم يقف فلا يكون له مخرج فيؤديه إلى الدماغ، ثم يؤديه الدماغ إلى القلب، فيفهم القلب من هذه الحاسَّة ما أدته إليه من ذلك الحادث، فإن كان صوتًا مفهومًا يدل على معنًى توجهت المعرفة بذلك، وإن كان غير مفهوم فإنه لا بُدَّ أن يستدل بصفاء جوهره على ذلك الصوت، ومن أي جوهر حدث، وعن أي حركة عرض، وهو يستدل على ذلك من ماهية الصوت وكيفية التموج والقرع والحركة الواصلة إلى حاسَّة السمع.

ومثال ذلك طنين الطاس، فإنه إذا سمعه الإنسان قال هذا طنين الطاس حدث من قرع شيء آخر أصابه، أما من جهة حيوان أو حدوث شيء وقع عليه من غير قصد ولا تعمُّد.

وكذلك صوت الحديد والذهب والفضة وغير ذلك، فإن أصواتها إذا حدثت تكون مختلفة بحسب اختلاف جواهرها وتبايُن طباعها من الصلابة والرخاوة واللين واليبوسة، ومثالها في ذلك مثال أصوات الحيوانات، فكلما كان في نَفَسَه أَمْثَلَ ورئته أقوى، كان صوته أعظم وأبعد مسافة في الهواء لشدة حركته.

وكذلك ما كان من الجواهر المعدنية أشد صلابة وأكثر يبوسة، كان أرفع طنينًا وأشد تصويتًا، فإذا اتفق أن يكون مصنوعًا لذلك والقصد منه التصويت والطنين، مثل الجلاجل والطرجهارات للحصون التي تستعمل على الأسوار والثغور، فإن أصواتها وطنينها يمكث في الهواء على قدر اتساع تلك الأواني وضيقها. وصوت النحاس خفيف صافٍ ليبسه وصلابته وقوة الحرارة فيه، ولا يمكن أن تتخذ من الرصاص آلة الطنين والتصويت كما يتخذ من النحاس. والحديد إذا خالط النحاس كان له أيضًا تصويت وطنين. والذهب له صوت يختص به يشابه طبيعته، وله طنين يسير، وهو معتدل الحرارة لين الطبيعة، قد تساوت فيه أجزاء طبائعه. والفضة دون ذلك، وهي أشف من الذهب وأحسن صوتًا منه إذا نقرت. كذلك الرصاص لا صوت له كصوت النحاس والحديد؛ وذلك لغلبة الأجزاء الأرضية عليه وكثافة جسمه، وصوته يشاكل صوت الحجر وما بينهما، وعلى هذا المثال وجد منطق الإنسان على الاعتدال لا بالجهير الخارج عن الحد، كصوت الأسد وصهيل الفرس ونهيق الحمار وما شاكل ذلك، ولا صامت كصموت السمك، ولا خفيف كخفوت أصوات كثير من الحيوانات، لكنه متوسط بين ذلك.

ومن أراد أن يكون له صوت طويل يمكث في الهواء فليتعمد ذلك ويجتهد في جمع الهواء حتى يكون إرساله بحسب ما اجتمع فيه فيدرك بذلك ما يريد، وإن تأذى وتألم، وإنما كان صوته متوسطًا لتوسط طبائعه واعتدالها، مثل ما اعتدلت طبيعة الذهب وكان أشرف الجواهر الذائبة بالنار.

وكذلك الإنسان أشرف الحيوانات المتحركة بالحياة، وللنبات أصوات؛ منها ما كان أشد صلابة وأكثر اجتماعًا ولا طبيعة لها، كبقية الأصوات إذا قرع انقرع كالساج والأبنوس وما شاكلها، وما كان يتخلل جسمًا ضعيف الحرارة، كخشب التين والجميز وما شاكل ذلك، يكون أضعف صوتًا إذا قرع وتحرك بجسم يحدث في الهواء من قوة حركة المحرك وكون ذلك الصوت عن المصوت وما هو مجبول عليه من طبيعته، وبحسب قوته يكون اتصال ذلك الحادث في الهواء بمسامع الحيوان من الإنسان وغيره. فالإنسان إذا سمع صوت الخشب والحديد والماء والريح أمكنه أن يخبر عن صوت كل واحد منها وينسبه إلى ما حدث عنه وخرج منه، والحيوان لا يعرف ذلك ولا يمكنه أن يعبِّر عنه ويفصل كما عبر الإنسان بقوة النطق والبيان عما سمع؛ وبهذا فضِّل الإنسان على غير من الحيوان. وكذلك يجري حاله في حاسَّة السمع فإنه من جهة الهواء يتصل به ذلك ويخبر عن كل رائحة بما هي به وينسبها إلى الذي فاحت منه. وكذلك يخبر عن حاسَّة اللمس إذا لمست الأجسام، وعرفت الحاسَّة ما كان رطبًا ويابسًا وحارًّا وباردًا ولينًا وخشنًا وما شاكل ذلك.

وأما حاسَّة البصر فإنما تحتاج في معرفة محسوساتها إلى حواس أُخَر؛ لأنها ربما كذبتها محسوساتها مثل ما ترى الكبير صغيرًا لبعد ما بينها وبينه من المسافة، والصغير كبيرًا في الأرض الواسعة، والمستوي معوجًّا كالمجذاف في الماء وما شاكل ذلك.

فصل

ثم اعلم أن منتهى كل حاسَّة إلى القلب مقرها، وعنده موئلها ولكل حاسَّة محسوسة مختصة بها، مجعولة لها، لا تتعداها ولا تتعرض لسواها؛ فالبصر مختص بالنظر، والأذن مختصة بالسمع، والفم مختص بالذوق، والأنف مختص بالشم، وكل حاسَّة من هذه الحواس تؤدي محسوساتها إلى القلب ويفهم منها حساسة القلب.

ثم إن قوة حاسَّة القلب إذا أدركت من الحواس شيئًا وقبلته منها، أدته إلى العقل ليدركه.

ولولا قوة حاسَّة القلب لَبطلتْ هذه الحواس، كما أن الأكمه الذي يولد كذلك لا يمكنه أن يتصور السماء ولا موضعها من الجهات؛ لأنه لم ير جهة فتؤديها الحاسَّة الناظرة إلى حاسَّة القلب المناسبة لها؛ لأن حاسَّة البصر تؤدي آثار محسوساتها إلى قوة عاقلة مناسبة لها حافظة لما يؤدى إليها؛ ولذلك قال تعالى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، وقد بيَّنا في رسالة الحاس والمحسوس شيئًا من هذا بغير هذا الشرح.

ثم اعلم أن القلب في الجسد مصور على صورة الإنسان؛ ولذلك صار أفضل الأعضاء التي في أجسام الحيوان؛ وذلك أن له بصيرة يبصر بها ما غاب من حاسَّة النظر من خارج، وله مسامع يدرك بها الأصوات ويؤدي إلى حاسَّة السمع ما يدركه بها، وله حاسَّة اللمس فهو يتشوق إلى محسوساتها إذا فقدها مثل ما يشتاق العاشق عناق معشوقه والتزامه.

وكذلك الأكمه لا يتصور بقلبه صور الأشياء؛ لأن حاسَّة البصر لم تؤدِّ إلى الحاسَّة المختصة بالقلب شيئًا، فتبقى تلك الحاسَّة فارغة معطلة مغلقة الباب، لا يطرقها طارق فيكون لها به معرفة. ولكل حاسَّة من هذه الحواس مدركات بالذات ومدركات بالعرض، وهي لا تخطئ في المدركات بالعرض.

مثال ذلك البصر؛ فإن المبصرات له بالذات هي: الأنوار والضياء والظلم.

فأما إدراكها الألوان فإن ذلك بتوسُّط النور والضياء، وأما سائر الأجسام وسطوحها وأشكالها وأوضاعها وأبعادها وحركاتها فهي بتوسط الألوان؛ لأن كل جسم لا لون له لا يُرَى ولا يدرَك البتة، والمحسوسات التي له بالذات لا واسطة بينها وبينه في إدراكها؛ لأنه لا يحتاج البصر في إدراك الضياء والنور إلى شيء آخر، ولا في إدراك الظلمة أيضًا، وصار بينه وبين النظر إلى الألوان واسطة واحدة؛ وهي النور، وصار بينه وبين إدراكه كيفيةَ الأجسام وأسبابها النورُ والألوان، وكلما كثرت الوسائط بينه وبين النظر كان الخطأ فيه أكثر، واحتاجت الحاسَّة فيه إلى دليل آخر يحقق نظرها ويصدق خبرها.

من ذلك السراب فإنه آخذ من لون الماء بياضه ومن الضياء إشراقه، فحار فيه النظر وحال البعد فيما بين النظر وبينه عن الحكم عليه بما هو به فظنه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئًا. وكالمجذاف الذي هو غائص في الماء فإن البصر لا يدركه إلا معوجًّا؛ لأنه قد زاد فيما بينه وبينه واسطة أخرى وهي الماء، وكذلك ما يكون في الماء من الأشياء فإن البصر لا يدركها على ما هي به.

وكذلك حال الشيء البعيد فإن الوسائط بينه وبين البصر كثيرة، وهي الضياء والهواء، وكلما بعد ازداد في الصغر والتلاشي في البصر إلى أن يغيب.

وأما حاسَّة السمع، فإنها لا تكذب وقلما تخطئ؛ وذلك لأنه ليس بينها وبين محسوساتها إلا واسطة واحدة وهي الهواء، وإنما يكون خطؤها بحسب غلظ الهواء ورقته؛ وذلك أنه ربما كانت الريح عاصفة والهواء متحركًا حركة شديدة، فيصوت المصوت في مكان قريب من المسامع فلا يسمع من شدة حركة الهواء وهيجانه، فتكون حركة ذلك الصوت يسيرة في شدة حركة الهواء وهيجانه، فيضعف عن الوصول إلى الحاسَّة السامعة.

وإذا كان الهواء ساكنًا وصل ذلك الصوت إلى الحاسَّة إذا كان في مكان يمكن أن يتصل به ذلك التموج والحركة الحادثة في الهواء.

فأما إذا كانت المسافة بعيدة فإنها لا تدركه وتتلاشى تلك الحركة وتنفذ قبل وصولها إليها.

وهكذا حاسَّة الشم، فإنها تدرك من ذلك بحسب غلظ الهواء ورقته وسكونه وحركته؛ وذلك أنه إذا كان الهواء غليظًا فإنه قلَّ ما تجد الروائح في الجهات وقلَّ ما تسري فيه، وإذا كان صافيًا رقيقًا والمسافة قريبة فإنها تتصل بمشام الحاضرين، وإذا بعدت تفرقت تلك الروائح في الجهات ولم يدرَك شيء منها، وأما قبول الهواء للأصوات والروائح فإني أشرحه لك بعون الله.

فصل

ثم اعلم أن جميع الجواهر تختلف في أنواعها، وتتباين في عناصرها وتركيبها، وكل جوهر هيولاني يكون ألطف جوهرًا وأشد روحانية وأعم خاصية، وأنه يكون لقبول الصورة وحمل الأعراض أسرع انفعالًا وأسهل قبولًا من غيره.

مثال ذلك الماء العذب لما كان ألطف جوهرًا من الماء المالح وأصفى، صار لِقبول الطعوم والأصباغ أكثر قبولًا، ولا بُدَّ أنه للحيوان أكثر امتزاجًا ومخالطة وأكثر نفعًا وصلاحًا، وبذلك صار حياة الأجسام ومادة الحيوان والنبات.

وهكذا لما كان الضياء ألطف من الهواء، صار قبوله الألوان والأشكال أسرع انفعالًا وأشد روحانية وبساطة وألطف سريانًا.

وكذلك جوهر النفس ألطف وأشد روحانية من جوهر النور والضياء، والدليل على ذلك قبوله رسوم سائر المحسوسات والمعقولات جميعها، فلِهاتين العلتين صار الإنسان يقدر بالقوة المتخيلة أن يتخيل ويتوهم ما لا يقدر عليه بالقوى الحاسَّة؛ لأن هذه روحانية وتلك جسمانية، ولأنها تدرِك سائر محسوساتها في الجواهر الجسمانية من خارج، والقوة المتخيلة إنما تتخيلها وتتصورها في ذاتها، والدليل على ما قلنا أفعال الصناع البشريين.

وذلك أن كل صانع يبتدئ ويفكر ويتخيل ويتصور في وهمه صورة مصنوعة بلا حاجة إلى شيء خارج عنه، فإذا أراد إظهار ما في نفسه إلى الفعل عمد إلى هيولى ما، في مكانٍ ما، في زمانٍ ما، فيتصور فيها ما كان متصورًا في ذاته بأدواتٍ ما وحركاتٍ ما.

وذلك أن كل حيوان لا يبصر فهو لا يتخيل الألوان العرضية والأجسام الجوهرية، وما لا سمع له لا يتصور ولا يتخيل الأصوات الكلامية ولا يتوهم الألفاظ المنطقية.

فأما الإنسان الصحيح التركيب، السالم الحواس، فإنه لما كان يفهم الكلام صار يمكنه أن يتخيل المعنى إذا وصفت. والغرض من الكلام تأدية المعنى، وكل كلام لا معنى له فلا فائدة للسامع منه والمتكلم به، وكل معنًى لا يمكن أن يعبر عنه بلفظٍ ما في لغةٍ ما فلا سبيل إلى معرفته، وكل حيوان ناطق لا يحسن أن يعبِّر عما في نفسه فهو كالعدم الزائل والجماد الصامت.

فصل

ثم اعلم أن المعاني في الكلام كالأرواح، وألفاظها أجساد لها، فلا سبيل إلى قيام الأرواح إلا بالأجساد، والكلام ضربان: مفيد وغير مفيد، والفائدة واقعة في الإخبار من جهة المجهول، والمجهول هو المخبَر عنه، والخبر دالٌّ وغير دالٍّ، والخبر هو كل قول جاز تصديق قائله فيه وتكذيبه لغيبته عن العيان أو لمضيِّه عن الزمان ووصفه أنه مسموع من قائله؛ مثل مخبر أن مدينة كذا عامرة بأهلها، وأن فلانًا الذي مات كان من أمره وصِفته كذا، فقد جاز لمن يسمعه أن يصدقه وأن يكذبه لغيبة ما ذكره من أمر المدينة عن العيان وغيبة المائت في الزمان.

وأيضًا فإن الإخبار على ثلاثة أقسام؛ إما عن ماضٍ من الزمان أو عن غائب عن العيان أو عن موجود في زمان ومكان، وامتحان ذلك بكان ويكون وكائن؛ فكان لزمان ماضٍ، ويكون لزمان آتٍ، وكائن لما هو موجود في الحال. وكل هذه الأقسام تدخلها الموجبة والسالبة والموضوع والمحمول، وهذه أقسام الخبر، وهو أيضًا غير خارج من معانٍ ثلاثة: واجب وجائز وممتنع؛ فالواجب والممتنع معروفان مستغنيان عن الدلالة على أحوالهما في الصحة والفساد.

مثال ذلك: إذا سَمع رجلٌ قائلًا يقول: «الأرض تحتي والسماء فوقي»، فإنه لا يشك في صدقه ولا يحتاج إلى إقامة دليل على ذلك.

وهذا وإن كان كلامًا مستقيمًا لا يستغنى عن الدليل على كذبه، فإنه ما لا يقع منه فائدة، ولا فائدة أيضًا في قوله ولا في سماع ذلك، ولا يعد هذا من المتكلِّم به فضيلة، بل ربما من هجو قوله.

وكذلك لو سمع قائلًا يقول: «إني قد حملت الجبل وخضت النار ورأيت شجرة على سطح البحر نابتة»، فإنه لا يشك في كذبِه وبطلانِ قوله، فهذا القسم الممتنع.

وأما الجائز أن يكون صدقًا وأن يكون كذبًا فهو الذي يجب أن يطلب الدليل عليه، والفائدةُ واقعة فيه، وبه يستفيد السامع، وعنه يسأل السائل، والمعنى الذي به يوصل إلى علم الحقيقة ما كان عند الإخبار ممكنًا أن يكون صدقًا وكذبًا، وهو أن يكون متيقنًا عند مَن بلغه عنه الكذب والصدق يقينًا، ويعلم أن ذلك ثابت بحيث يثبت عليه نظر أهل العقول، كمعرفة من أخبر بعمارة المدينة أو حال الميت بما وصف به المخبر عنه، فقد صار كذب المخبر منفيًّا وعند من تقدمت عنه صحته. وكذلك ما حكمت عليه العقول وقضت به البراهين عند العارفين، فإنهم يعرفون ما غاب كعلم ما حضر ويصير الدليل والبرهان كالمثال؛ لأن المثال صورة المخبر عنها المدلول بصفاتها على معنى الخبر فاعلم ذلك.

(٨) فصل في معرفة أصل الصوت وعن الأجسام التي في الابتداء دون فلك القمر قبل خلق الإنسان والحيوان

فنقول معولين على الله تعالى بأنه لما خلق الله السموات بمشيئة وأتقنها بصنعته ورتبها بحكمته، وجعل الأرض بساطًا تحتها، وخلق الهواء فسحة فيما بين السماء والأرض، ثم أرسله يمينًا وشمالًا على وجه الأرض، ويسري على البحار ويحركها ويموجها، كان كالأرواح السارية في الأجساد، فأقام الهواء على تلك الحال والسريان في الجهات الأربع، يخلط البحار بالتراب ويمزج الطبائع بعضها ببعض، كما ذكر أولًا في هذه الرسالة، فتحدث بحركته أنواع الأصوات والصفير والطنين ومجاوبة الجبال وأصوات أمواج البحار، وهبوب الرياح في الفلوات والقفار، فتكونت المعادن في البقاع المخصوصة بكونها فيها، وانعقد البخار وارتفعت الأنداء وتراكمت الغيوم، وارتفعت إلى آخر كرة النسيم، وتعلقت تحت كرة الزمهرير وعصرها وهيج الأثير، واستولت الكواكب المائية، فأرسلت الأمطار على وجه الأرض، ولحقها الهواء وسرى عليها، وأشرقت الكواكب بأنوارها ولحظتها الشمس وسرت فيها قوة النفس النامية.

وكان أول ما ابتدأ على وجه الأرض بالنمو والزيادة على سطحها صورة النبات، وقامت على تلك الحال والأرض ليس فيها إلا البحار والجبال والنبات والأشجار على ما ذكره بعض العلماء ثلاثة آلاف سنة، والرياح تهب عليها، والأصوات الهوائية تجيب بعضها بعضًا، والنفس سارية في الهواء متصلة بقوة النور والضياء، تدبر الأمور الجسمانية، وتؤلف الطبائع الجرمانية، وروحانيات الكواكب متصلة بعالم الهواء، فهُم سكان الأرض قبل آدم عليه السلام. فلما تمت هذه المدة المقدرة بهذه الصفة وابتدأ الدور الجديد، وأراد الله إنشاء النشأة الثانية وإبراز الصورة الإنسانية؛ خَلَقَ آدم وحواء من الطين، وأسكنهما الجنة الموصوفة وهي الياقوت في ناحية المشرق، وكان من أمرهما ما كان، وقد ذَكر هذه القصة من أولها إلى آخرها رجلٌ من أهل فارس، عالم بحساب النجوم، بكتاب بيَّن فيه هذه الأمور، ولو كان هذا ما قصدنا وإياه ما أردنا لذكرنا منه طرفًا، ولكنا نشير إلى بعض ذلك، فلما فَطَرَ آدم وسوَّاه ونفخ فيه من روحه وأسجَدَ له ملائكته، وكان ظهور آدم وحواء بعد كون الحيوان وعمارة الأرض وظهور الأقوات فيها على تمام أجناسها واستيفاء أنواعها، وكان ظهور الحيوان بعد ظهور النبات وانبساطه على وجه الأرض وعلوِّه عليها، وكان أول بروز النبات بحذاء برج السنبلة، وكان في وسط السماء، والحيوان بحذاء الثور، وآدم وحواء بحذاء الجوزاء من أرض المشرق؛ ولذلك قيل للجوزاء ذات جسدين.

وكانت البداية من الحمل وقد حل فيه زحل وهو هابط، فصار المركز مهيأً من الطين، وكان أكثره مظلمًا وصار ثقيلًا رزينًا، وصارت الجبال راسيات مستقرة، وكان أول معدن انعقد في بطن الأرض الأسرب؛ ولذلك صارت الأرض مقر الثقل ومستقر الكثائف من أجل زحل وكونه في ذلك التقدير بمشيئة الله تعالى، فأقام آدم وحواء والحيوان مدة ما ذكر في الكتاب من غير مماسة ولا التئام، ثم أَلْهَمَ الله تعالى عطارد صاحب المنطق النطقَ ونطقت حواء، وعلَّم آدمَ الأسماءَ كلَّها، فصار يعرفها ويلقي على كل جنس وشكل ونوع وشخص مِن النبات والمعادن والحيوان وجميع المرئيات الأسماءَ والصفاتِ، ثم لم يزالا على ذلك حتى أكلا من الشجرة وأُهبطا من الجنة إلى الأرض مسخوطًا عليهما، فأقاما في الأرض مدة معلومة وكانا مع سائر الحيوانات يأكلان من ثمر الأشجار ويشربان من ماء العيون والأنهار، إلى أن سلم الحمل الدور إلى الثور؛ إذ هو أحد منافع الدنيا وسبب العمارة، وهو بيت الزهرة، وكانت حسنة الحال مستقيمة في مسيرها صاعدة في أوجِها، مشرقة أنوارها.

وكان في هذا الحد اجتماع آدم وحواء ومماسَّتهما فحملت منه، وكان ذلك ابتداء النسل، وجرى حال الحمل على ما ذكرنا في رسالة مسقط النطفة، فلما كثرت أولادهما تولَّى آدم تعليمه وتأديبهم وتهذيبهم، وعلمهم كيفية الحرث والزرع وازدواج الذكور والإناث، وعمروا العالم وعاينوا الحيوانات وما تصنعه بعضها ببعض وما يطلب من منافعها، فاقتدوا بها في أفعالهم، وأيد الله تعالى آدم عليه السلام بوحيه وإلهامه لما تاب عليه بما يكون له به صلاح ولذريته فلاح، وأقام على ذلك مدة ما أراد الله تعالى، ثم نَقَلَه إلى رحمته وخلفه من خلفه في ذريته وأولاده، ولم يزل الأمر على ذلك وبنو آدم مع والدهم يتكلمون بالسريانية، وقال بعضهم بالنبطية، ويفهم بعض عن بعض المعاني وما قصدوا وأرادوا، ووصفوا كل شيء بصفته إلا أنها لم تكن الحروف مجتمعة بعضها إلى بعض ولا مؤلفة بالكتابة، وإنما كان آدم عليه السلام يعلمهم تلك الأسماء تلقينًا وتعريفًا كما يعلم الأشياء ويعرف من لا علم له بالكتابة والهجاء؛ ولذلك يقال لمن لا يكتب ولا يقرأ أميٌّ، وكان الخلق يحفظون تلك الأسماء والصفات عن السلف إلى أن سلم الدور الثور إلى الجوزاء، وظهرت الكتابة من أجل أنه بيت عطارد وشرف الرأس وهبوط الذنب، وصارت الحروف في ذلك أربعة وعشرين حرفًا، وهي الكتابة اليونانية؛ لأنها قسمت لكل برج حرفين، فصارت أربعة وعشرين حرفًا، فقيدت تلك الألفاظ وكتبت الأسماء بالحروف على لغة أهل ذلك العصر.

فانظر أيها الأخ إلى هذه الحكمة الصحيحة والصنعة المحكمة المتقنة كيف تأتي بكل شيء في وقته المقدر وزمانه الميسر.

وانظر كيف سرت هذه القوى التي هي الأصوات والنغمات أولًا في عالم السموات، ثم في حركات الهواء، ثم في حركات النبات، ثم في أجسام الحيوان، ثم في عالم الإنسان.

فالصوت في الحيوان يسمى بأسماء مختلفة، مثل قول القائل: صهيل الفرس، ونهيق الحمار، ونباح الكلب، وخوار الثور، وزئير الأسد، ونعيب الغراب … وغير ذلك.

وأما الصوت المخصوص به الإنسان، فإنه يقال له كلام ولفظ متكلَّم كقول القائل: فلان يتكلم بالعربية والفارسية والرومية وغير ذلك، وسنأتي على شرحه وبيانه ونفرق بين الصوت والكلام.

(٩) فصل في الفرق بين الصوت والكلام

اعلم يا أخي أن الكلام هو صوت بحروف مقطعة دالة على معاني مفهومة من مخارج مختلفة، وأبعد مخارج الحروف أقصى الحلق، وهو مما يلي أعلى الصدر. والصوت من الجسم في الرئة بيت الهواء، كما أن أصل الصوت في العالم الكبير، الذي هو بمنزلة إنسان كبير، الهواء فيما دون فلك القمر والنفس في عالم الأفلاك؛ ولذلك توجد في الإنسان الذي هو عالم صغير في الرئة وفي قوة نفسه معاني ما يدل عليه الصوت، وكذلك الحركات والأصوات التي دون فلك القمر إنما هي مثالات ودلالات على تلك الأصوات الفاضلة والحركات المنتظمة، وتلك أرواح وهذه أجساد، وأصل الأصوات في الرئة هواء يصعد إلى أن يصير إلى الحلق فيديره اللسان على حسب مخارجه، فإن خرج على حروف مقطعة مؤلفة عرف معناه وعلم خبره، وإن خرج على غير حروف لم يفهم كان كالنهاق والرغاء والسعال وما أشبه ذلك، فإن رده اللسان إلى مخرجه المعلوم في حروف مفهومة يسمى كلامًا ونطقًا بأي لفظة كانت، على حسب الموافقة ومساعدة الطبيعة لكل قوم في اتساع حروفهم وسهولة تصرفهم في مخارج كلامهم وخفة لغاتهم بحسب مزاج طبائعهم وأهوية بلدانهم وأغذيتهم، وما أوجبت لهم دلائل مواليدهم وما تولاهم من الكواكب في وضع أصل تلك اللغة في الابتداء الوضعي والمنهاج الشرعي، وما تفرع من ذلك الأصل وما ينقسم من ذلك النوع.

ثم اعلم أن أصل الاختلاف في اللغات إنما هو لما كثرت أولاد بني آدم وانتشروا في جهات الأرض، ونزلت كل طائفة منهم إقليمًا من أقاليمها وقطرًا من أقطارها من الربع المسكون، تولى كل قوم في وقت نزولهم ذلك الإقليم كوكبًا من الكواكب السبعة المدبرات، فعقد لهم عقدًا نشأ عليه صغيرهم ومات عليه كبيرهم.

ثم اعلم أن الكلام الدال على المعاني مخصوص به عالم الإنسان، وهو النطق التام بأي حروف كتب، والحيوان لا يشرك الإنسان فيه من الجهات المنطقية والعبارات اللفظية، لكن من جهة الحركة الحيوانية والآلة الجسمانية والحاجة فيها إلى ذلك؛ لأنك تجد كثيرًا من الحيوانات تريد بأصواتها دفع المضار وجذب المنافع، تارة لأنفسها وتارة لأولادها؛ مثل صياح البهائم إذا احتاجت إلى الأكل ومنعت منه، وإلى شرب الماء وزيدت عنه، ومثل استدعاء أولادها وما غاب عنها وما شاكل ذلك من الطيور التي تحاكي الإنسان، ومحاكاة القرد للإنسان في جميع أفعاله وأكثر أعماله.

فهذه الأشياء لما يريد الحيوان التطريب والتصويت والصياح لها ومن أجلها، فإنه لا يقال لها معانٍ علمية، وإنما يقال لها إرادات طبيعية؛ فأجساد الحيوانات مجبولة عليها، وإنما استدعاؤها إياها بالتصويت في بعض الأوقات إذا عدمتها وحيل بينها وبين ما تريد، وقلَّ ما يكون دالًّا بأصواتها على الأمر الأعم ولا معنى لها، ولا يعرف المراد منها ولا القصد، كصياح الطيور في أكثر أوقاتها.

منها ما يصوت بالليل ومنها ما يصوت بالنهار، وكذلك الحيوانات أكثرها، ولكن المراد بها منها كلها اجتماع الجنس وقيام الشكل إلى الشكل، وبحسب ما في كل شخص من أشخاصها من قوة الحرارة الغريزية وحركة النفس الحيوانية، فإن كل شخص أكثر حرارة وأقوى حركة وأحيى نفسًا، كان أكثر صوتًا وأدوم كلامًا في عموم الأوقات، وما كان دون ذلك كان بحسب ما فيه وما هو مجبول عليه.

وبالجملة إن الصوت الحادث بحركة نفسانية حيوانية فهو مخصوص به الحيوان، وأما ما يسمع من الأصوات من غير الحيوان، فإنما يقال له قرع ووقع وطنين وصفير وزمير ونقر ودق وقرقعة؛ كصوت البوق وضرب الدف والطبول والدبادب وما شاكل ذلك.

فهذه المثالات لهذه الأصوات مخصوصة بما يحدث من حركات الأجساد الصامتة التي لا يَحدث صوت وحس عنها إلا بمحرك من غير جنسها، يرفعها ويضعها وينقرها ويقرع بعضها ببعض. فالمحرك لها إما بعمد وقصد كالإنسان فيما يتخذه من هذه الآلات للتصويت بالحركة، أو كحيوان يُحدث ذلك بغير قصد كاحتكاك الدابة بالباب ودفعها للإناء وغيره، فيحدث من تلك الحركة وذلك الدفع صوت، أو من حركة الرياح والهواء للأجساد والنبات والأشجار وحفيف أوراقها واحتكاك قضبانها، وسلوك الهواء بينها وسريانه بين الحيطان والبنيان، وخرقه منافذ الجبال والغدران والكهوف، فيحدث منه أنواع الصفير والتصويت، وما يحدث من أصوات حوادث الجو ما قد ذكرناه، مثل ما يحدث من حركات المياه إذا انحدرت وتدافعت من أعلى الجبال إلى بطون الأودية، ومثل أصوات الدواليب والأرحية والطواحين والمجاذيف وجريان السفن في البحر وجري العجل في البر، وكل ماء إذا تحرك أو تصرف فيه المحرك ظهر منه الصوت وقرع الهواء.

فهذه كلها أصوات فما كان منها عن أجسام الحيوان قيل أصوات ونغمات، وما كان منها عن حركة الهواء قيل صفير وزمير، وما كان عن حركة الماء قيل دوي وخرير وأمواج، وما كان من المعدنيات والأحجار والخشب قيل وقع وطنين ونقرة وما شاكل ذلك، وما كان من جهة الإنسان قيل كلام ولفظ ومنطق بالجملة، وعند التفصيل والتقسيم فكثرة الألوان والفنون مثل كلام الخطيب وإنشاد العشر وقراءة القرآن وما شاكل ذلك، وينسب ذلك الكلام إلى المعنى المقصود إليه به.

فقد بان، بما ذكرنا، الفرقُ بين الصوت الحيواني والكلام الإنساني، وما يحدث من حركة الهواء وما يظهر من أجسام النبات والمعادن. وإذا تأملت ذلك وميزته بفكرتك وأعملت فيه رويتك، رأيت تلك الحركات وسمعت تلك الأصوات والنغمات والمجاوبات، وتبينت أن العبارات كلها تأدية عن النفوس الجزئية بما أمدتها النفس الكلية.

وكذلك الحركات الكلية العرضية أصلها الحركة الذاتية، وهذه أعراضها وتلك جواهرها، وهذه فانية وتلك الحركات باقية؛ لأن مركز هذه سفلي ومقر تلك علوي، وهذه منها فاضلة ومنها غير فاضلة وتلك فاضلة كلها، وبعض هذه حي وبعضها ميت وتلك كلها حية، وبعض هذه متكلمة ناطقة وبعضها مصوتة وتلك ناطقة كلها، وبعض هذه أصواتها مفهومة وبعضها أصواتها غير مفهومة وتلك أصواتها كلها مفهومة، وبعض هذه الأصوات دال وبعضها غير دال وتلك كلها دالة، ومعاني هذه الأصوات مضمنة في حروفها وتلك كلها معاني، وأهل هذه يحتاجون إلى من يكشف لهم معانيها ويدلهم على مراميها وأولئك لا يحتاجون إلى ذلك، وهؤلاء يضجرون من الكلام ويملون وأولئك لا يضجرون، وهؤلاء أكثرهم غير طيبي النغمة ولا لذيذي الصوت ولا حسني الكلام وأولئك كلهم طيبو النغمة ذوو ألحان لذيذة، وبعض هذه الأصوات معكوس يشبه أصوات أهل جهنم، وزفيرهم وشهيقهم كنعيق الكلاب ونهيق الحمار وزعقات البوم وصياح السباع، وما يحدث في القلوب من الوحشة والنفور والفزع والرعب، وما تضجر منه النفوس، وما شاكل هذه الأصوات والمصوتات.

ثم اعلم أن كل صوت يسمع فإنما يخرج عن هيئة الجسم الذي يصوته بحسب قوته وصفاء طبيعته وغلظها، ونحتاج ها هنا إلى بيانٍ ووضوحِ برهانٍ، ونحن نذكره بشرح مبين.

فصل

ثم اعلم أن اختلاف الناس في كلامهم ولغاتهم على حسب اختلافهم في أجسادهم وتركيباتهم، وأصل الاختلاف في اللغات هو اختلاف مخارج الحروف ونقصها عن تأدية ما يؤديه البليغ منها. وقد زعم بعضهم أن فساد الكلام من فساد التركيب وفساد المزاج، وليس هو كما زعم، وإنما هو من اختلاف مخارج الحروف في قوتها وضعفها، وهو فساد في اللسان يقلب ويعدل الحروف عن مخارجها. ولو كان من فساد المزاج لكانت اللغة كلها في حرف واحد من مخرج واحد، ولكانت ترجع إلى الاستواء عند صلاح المزاج كما يحدث بالفصيح الكلام، وضعف الصوت من فساد المزاج وغلبة بعض الطبائع، وإذا عاد إلى الأمر السالم عاد كلامه إلى المعهود منه أولًا، واللغة ليست كذلك، والناس فيها مختلفون وغير متفقين في الحروف التي يقع الخطأ فيها والعدول بها عن استوائها إلى خلافها، وهي أعراض كثيرة تختص باللسان وتعرض فتفسد الكلام، وهي زمانة لازمة مثل الخلسة والفأفأة والتمتمة والعقلة والحلكة والرثة واللثغة وما أشبه ذلك.

وإذا كان الكلام يثقل على الرجل قيل في لسانه خلسة، وإذا أدخل بعض حروف العرب في بعض حروف العجم قيل في لسانه لكنة، وإذا عجز عن سرعة الكلام قيل في لسانه عقلة، والحلكة إنما هي نقصان آلة المنطق وعجزها عن أداء اللفظ حتى لا يعرف معناه إلا القليل وهو قريب من كلام البهائم والخرس ونحو ذلك.

(١٠) فصل في المعاني

فأما إفهام المعاني فإنها تفهم من الكل من اللكن والفصحاء، وإنما يتفاضل الناس في البلاغة وهو عند الحشوية والعوام والنساء والصبيان حُسن الصوت وحلاوة المنطق وصفاء الكلام.

وليس كلُّ مَن حَسُن صوته وصفا كلامه كان بليغًا في إبانة المعنى وإقامة الدليل والحجة في إزالة الشبهة عن النفس الساهية وانتباه الجاهل عن رقدته وإصحاء السكران من سكرته بالتذكرة والموعظة، فإنَّ صاحب النغمة الطيبة والكلام الصافي ربما استعمل ذلك في الأغاني والملاهي.

وسبب كل ذلك محبة اللذات الدنيَّة والشهوات الحسية وما يتضمن الكلام من السخف والمجون وأمثاله، فإن معانيها لا حقيقة لها، والكلام بها إنما هو تصويت وهذيان لاحِقٌ بأصوات الحيوان والمجانين والسكارى والصبيان والنسوان ومن لا عقل لهم.

وأصل المعاني إنها المقالات المدلول بصحتها في الإخبار بها عن معرفة حقائقها ومقاصد طرائقها، وحد المعنى أنه هو كل كلمة دلَّت على حقيقة وأرشدت إلى منفعة، ويكون وجودها في الإخبار بها صدقًا والقول عليها حقًّا، والإخبار على أربعة أقسام: خبر واستخبار وأمر ونهي.

وقد جعلها قومٌ ستةً، وآخرون عشرةً، وأصلها هذه الأربعة؛ فثلاثة منها ما لا يدخله الصدق والكذب، وواحد منها يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر، ويوجد في ذلك السالبة والموجبة والممكن والممتنع.

فصل

ثم اعلم أن جميع هذه المعاني وما يتعاقبها من مدح أو ذم ويدخلها من صدق وكذب وبلاغة وحصر فلا بُدَّ من أن يقع على مسمًّى باسمٍ مِن مدح أو ذم، وكل مسمًّى باسم فيه مدح من سائر المعاني، فهو واقع بين اثنين متضادين؛ عدل بين حاسَّتَي جور؛ فالعلم واقع بين أمرين إما علمُ ما لا يجب أو جهل ما يجب، فصار العدل بين حاستين إفراط وتفريط.

وعلى هذا المثال الفهم عدل بين الاعتراف بما لا يمكن وإنكار ما يمكن.

واللب أيضًا عدل بين الحصر عن التفهيم والتراخي عن التوهم، والعزم عدل بين التهور والجبن، والجود عدل بين التقتير والتبذير، والشجاعة عدل بين الإقدام والإحجام.

وعلى هذا المثال يقع كل اسم من أسماء القصد والحزم وكل وصف يستحق به صاحبه المدح وبإزائه ما يستحق عليه الذم.

واعلم أن حقيقة مطالب معنى العدل بأن تصرف في فنون المسمَّيات، وتقسم في وجوه العبارات، وذلك أن القصد هو الذي لا يجزي ما دونه ولا ينفع ما فوقه فهو راجع إلى معنى العدل الذي ما نقص عنه كان ضعفًا وما زاد عليه كان إسرافًا.

وكذلك الحزم أيضًا ما لم يمِلْ إلى إحدى حاشيتيه اللتين إحداهما الفشل والأخرى التهور، وكذلك الحياء الذي طرفاه الفتور والقحة وكلٌّ يرجع من العدل إلى انقباض بين ازدياد على حدة وانتقاص ويئول إلى انبساط منه وتفريط وإفراط.

فمن طلب العدل في جميع الصفات وجده متوسطًا بين ضدين؛ أحدهما يتطرق دونه إلى بخس ونقصان، والآخر يتطرق فوقه إلى إفراط وعدوان، والعدل في الطلب هو ما لم يمِلْ إلى الإلحاح في المسألة ولا إلى الابتهال والخضوع، والحر لا يكون مَهينًا والكريم لا يكون لجوجًا.

ولهذا قيل القنوع خير من الخضوع، والعدل في السياسة ما لم يمل إلى عبوس موحش ولا ملق مدهش؛ فإن العبوس يشين المودة ويزيل ما في القلب من صفاء المحبة، والملق يذهب برونق المروءة.

ولهذا قيل من كثر ملقه لم يعرف وده، والعدل في البلاغة ما لم يقصر عن درك البغية، وإصابة المعنى وقصد الغرض، ألا ترى أن الهذار في المنطق بعد بلوغ الغاية لا يحتاج إليه، ولو كانت البلاغة هي البلوغ إلى غايات المعاني، لكان العالم كلهم بلغاء، خاصهم وعامهم؛ لأنه ما من أحد إلا وهو إذا عبَّر عما في نفسه بلغ غرضه في إفهام السامع عنه ما يريده منه، على حسب استطاعته وما تساعده عليه آلاته، وإنما البلاغة هي التوصل إلى إفهام المعنى بأوجز مقال وأبلغ كلام؛ ليعرف به المراد بأسهل المسالك وأقرب الطرق بواضح البيان وصادق المقال، والإيجاز في ذلك ما بلغت غاياته بيسير اللفظ، والإطناب ما بلغت غاياته بالتطويل، فصارت البلاغة حينئذ التوسط بين الحالتين والتوصل إلى إدراك الغاية من أقرب الطرق. وقيل البلاغة معرفة مواضع المفاصل المطلوبة بألفاظ مفهومة، والبليغ هو الذي لا يؤتي سامعه من سوء إفهامه، والفهيم الذي لا يأتي بسوء فهمِ مَن يريد إفهامه بتقصير عن البلاغة في خطابه أو كتابه، فيخرق بفهمه وصفاء ذهنه تلك الحجب الحائلة بينه وبين المعنى الذي يقدر على الفهم؛ لأنه يجرده من تلك الشوائب المعوقة له عن البيان والإيضاح. والبلاغة في اللغة مِن بالغت في كذا وكذا، وهي مشتقة من المبالغة؛ يقال بلغت أبلغ بلوغًا، فالمصدر منه بلاغة، فأنا بالغ، وتقول: أبلغت الكلام، وبلغته إلى فلان؛ أيْ أديته إليه.

واعلم أن المعاني تنطق بها أفواه السوقة والعوام في الأسواق والطرق، ولكن قلَّ مَن يُحسن العبارة عنها، وربما أراد المعنى فعبر عن غيره وهو يظن أنه قد عبر عنه، والمعاني هي الأصول وهي الاعتقاد الذي أول ما يتصور في النفس والألفاظ هيولى لها، والمعاني كالنفوس، والألفاظ كالأجسام، والمعاني كالأرواح، والحروف كالأبدان.

فصل

ثم اعلم أن الهيولى إذا قبلت آثار النفس قبولًا تامًّا، ظهرت أفعال النفس في الغرض والمراد مضيئة بهيئتها، وإن عجزت عن القبول كانت دون ذلك، وكذلك الألفاظ إن قبلت التأدية عن المعاني ببلاغة فهمت المعاني ولاحت دلائلها بغير تطويل ولا إسهاب، وإن عجزت الألفاظ عن تلك التأدية احتاجت إلى التطويل؛ والتطويل ذهاب البلاغة، والتقصير هو ضعف الدلالة والحجة. وفي الناس من يجول في قلبه المعنى الصحيح فيعبر عنه باللفظ الركيك فيحيله عن معناه، وإن لم يُرِد الإحالة، ولكنه عجز في اللفظ فيصير اللفظ غير مؤدٍّ عن المعنى، لا لعجز المعنى ولكن لعجز اللفظ، كما أن الطبيعة تفعل أشياء فتعجز عنها الهيولى القابلة فتنقص عن الكمال، لا لعجز الطبيعة بل لعجز الهيولى، فتأمل هذا الكلام فإنه من الأسرار العجيبة والرموز الدقيقة والمعاني، وفيه غرض غامض.

وأنت أيها الأخ، ينبغي لك أن تراجع نفسك النائمة الساهية، فانتبه من نوم غفلتك وأنعِم النظر في جميع ما قلناه وافهم جميع ما بيناه من الإشارات والرموزات، ولا تظن بنا ظن السوء؛ لأن إفشاء سر الربوبية كفر.

(١١) فصل في كيفية إدراك القوة السامعة للأصوات

فنقول: اعلم أن الأصوات نوعان؛ حيوانية وغير حيوانية، وغير الحيوانية قسمان؛ طبيعية وآلية؛ فالطبيعية كالصوت من الحجر والحديد والصفر والخشب والرعد والريح وخرير الماء وسائر الأجسام التي لا روح فيها من الجمادات، والآلية كصوت البوق والطبل والدف والمزمار والأوتاد وما شاكلها. والحيوانية أيضًا نوعان؛ منطقية وغير منطقية؛ فغير المنطقية أصوات سائر الحيوان التي ليست بناطقة.

وأما المنطقية فهي أصوات الناس، منها دالة ومنها غير دالة، فغير الدالة الضحك والبكاء والأنين والأصوات التي لا هجاء لها.

وأما الدالة فهي الكلام والقول الذي له هجاء، وكل هذه الأصوات إنما هو قَرْعٌ يَحدث في الهوام عن تصادم الأجرام.

وذلك أن الهواء بشدة لطافته وخفة جوهره وصفاء طبعه وسرعة حركة أجزائه؛ يتخلل الأجسام كلها، فإذا صَدَمَ جسمٌ جسمًا آخر انسلَّ ذلك الهواء وتدافَع إلى جميع الجهات وحدث منه شكل، كما ذكرنا أولًا، فيَصِل بمسامع الحيوان.

فأما كيفية إدراك الحاسَّة السامعة للصوت الحيواني وغير الحيواني وتمييزها لكل واحد منها، كما تميِّز القوة الذائقة طعومَ الأشياء وتُخبرُ الناطقة عن كل شيء بما يخصه من طعمه، وكذلك القوة الشامَّة.

فأما الذائقة فهي أكثر تأثُّرًا من الشامَّة، وكذلك الحاسَّة السامعة، فإن قواها في تمييزها الأصوات بعضها من بعض ألطفَ وأشرف، والحاسَّة اللامسة أكثف من الجميع، واختلف العلماء في حاسَّة النظر وحاسَّة السمع أيهما ألطف وأشرف، فقال بعضهم حاسَّة السمع أشرف، وكان برهان مَن قال ذلك أن محسوسات السمع كلها روحانية، وأن النفس بطريق السمع تدرك مَن هو غائب بالمكان والزمان، وأن محسوسات البصر كلها جسمانية؛ لأنها لا تدرك إلا ما كان حاضرًا في ذلك الوقت، وقال إن السمع أدق تمييزًا من البصر؛ إذ يعرف جودة الذوق وجودة الحس والكلام الموزون والنغمات المختلفة، والفرق بين السقيم والصحيح، والمستوي والمنزحف، وصوت الطير من صوت الكلب، وصوت الحمار من صوت الجمل، وأصوات الأصدقاء من أصوات الأعداء، وما يحدث من أصوات الأجسام التي لا روح فيها وأصوات الناس على اختلافهم وأشكال كلامهم، فتخبر عن كل صوت بما هو دأبه وتنسبه إلى الذي بدا منه ولا يحتاج إلى البصر في ذلك وفي إدراكه، والبصر يخطئ في أكثر مدركاته؛ فإنه ربما يرى الصغير كبيرًا والكبير صغيرًا، والبعيد قريبًا والقريب بعيدًا، والمتحرك ساكنًا والساكن متحركًا، فصح بهذا القول أن السمع ألطف وأشرف من البصر ولَنعم ما قيل:

الشمس تستصغر الأجسام جثتها
فالذنب للعين لا للشمس في الصغر

فإذا كان كذلك كانت الحواس الخمس الموجودة في الإنسان المستوي البنية التام الخلقة مناسِبةً للطبائع الخمس في جسم العالَم الذي هو الإنسان الكبير. فحاسَّة اللمس مناسِبة لطبيعة الأرض؛ لأن الإنسان يحس بجسمه كله. وحاسَّة الذوق التي هي اللسان مناسبة لطبيعة الماء؛ إذ بالمائية والرطوبة التي في اللسان والفم تدرك طعوم الأشياء، وسنشرحها إذا انتهى بنا القول إلى تفصيل ذلك وبيانه. وحاسَّة الشم مناسبة لطبيعة الهواء؛ لأن القوة الكامنة هوائية، وهي المستنشقة للهواء، وبه تدرك روائح الأشياء. والحاسَّة الباصرة مناسبة لطبيعة النار؛ إذ بها وبالنور تدرك محسوساتها. والحاسَّة السامعة مناسبة لطبيعة الفلك الذي هو مسكن الملائكة، الذين شعارهم وشغلهم ليلهم ونهارهم وكلامهم كله تقديس وتسبيح وتهليل، ويلتذ بعضهم بسماع بعض، ويقوم لهم في ذلك العالم العلوي مقام الغذاء الجسماني في العالم السفلي.

وذلك أن حاسَّة السمع محسوساتها كلها روحانية؛ ولذلك قيل إن فيثاغورس الحكيم سَمِع بصفاء طبيعته وصفاء جوهره نغماتِ الأفلاك، وإنه استخرج الآلة التي تُسمَّى العود، وأنه أول من ألَّف الألحان، ومن بعده من الحكماء الذين اقتدوا به وبان لهم حقيقة ما وصفه، فصدَّ قومه وتابعوه واتسعوا في فعل ذلك كل بقدر ما اتسع له زمانه، وساعده عليه إمكانه.

فصل

ثم إن لكل صوت صفة روحانية تختص به خلاف صوت آخر؛ فإن الهواء مِن شرف جوهره ولطافة عنصره يحمل كل صوت بهيئته وصيغته ويحفظها لئلا يختلط بعضها ببعض، فيفسد هيئاتها إلى أن يبلغها إلى أقصى غاياتها عند القوة السامعة لتؤديها إلى القوة المفكرة، ذلك تقدير العزيز العليم، الذي جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلًا ما تشكرون. فإن قال قائل: ما العلة التي أوجبت للهواء هذه الفضيلة الشريفة والحركة الخفيفة؟ فنقول: لقد سألتَ عن أمر يجب السؤال عنه؛ إذ كان من أكثر الفوائد، فيجب أن تعلم أن جسم الهواء لطيف شريف، وهو متوسط بين الطرفين، فما هو فوقه ألطف منه وهو النور والضياء، وما دونه أكثف وهو الماء والتراب، ولما كان الهواء أصفى من الماء وألطف وأشرف جوهرًا وأخفَّ حركةً صار النور يَسري فيه ويصبغه بصبغته ويودعه روحانيته؛ لأنه قد قاربه وجانسه بما فيه من اللطافة، ولما كان النور والضياء أصلُه ومبدؤه من أشرف الجواهر الغالية صار له اتصال بالنفوس والأرواح وصارت سارية فيه، وهو المعراج الذي تعرج به الأرواح وتنزل به النفوس إلى عالم الكون والفساد ومجاوَرة الأجساد، ولما كان للهواء هذه الفضيلة صار يحفظ لكل شيء صورته تامة، ويحوطه حتى يُبلغه إلى الحال المقصود به بحسب ما جعله فيه باريه، جلت قدرته، بحكمته ليكون بذلك إتقان الصنعة وأحكام الخلقة؛ فلذلك صارت تدركها بما هي به إذا كانت الحاسَّة سالمة والأداة كاملة.

وهكذا حاسَّة الشم تقبل من الهواء ما يحمله من الروائح، فإنه يحفظها ويتبع الإحاطة بما يعرض من الروائح عن كثير من الأجناس، ثم تؤديها إلى حاسَّة الشم فتخبرها عن كل رائحة بما هي به وعما فاحت عنه؛ ولذلك قيل عالَم الأرواح روح وريحان ونغمات وألحان. وكذلك النور يحفظ الألوان على الأجسام ولا يخلط بعضها ببعض، وتدركها القوة بما هي به إذا كانت الحاسَّة سالمة، ثم إنه متى حدث ببعض الحواس حادثٌ أوجب تغيُّر إدراك الحاسَّة، فليس ذلك لفساد في الهواء والضياء، ولكن لفساد المزاج واضطراب البنية، فإذا كانت الحاسَّة سالمة وجاءتها الأشياء بخلاف ما تعْهَد فليس ذلك لفساد فيها، لكن للحادث الذي حدث في الهواء والضياء؛ وذلك أن الهواء يتغير ويتكدر، والضياء يظلم؛ ولذلك صار البصر لا يدرِك بعدَ مغيبِ الشمس ما كان يدركه وقت طلوعها، وكذلك السمع لا يدرك من الأصوات في وقت هيجان الريح وحركة الهواء ما كان يدرك من ذلك في وقت سكون الهواء وهدوء الرياح.

فصل

ثم إن ما دون فلك القمر لطيف وكثيف يجرى عليه التغير والاستحالة؛ وذلك أن النار تستحيل فتصير هواءً، والهواء يستحيل فيصير ترابًا، والتراب يستحيل فيصير ماءً، والماء يستحيل فيصير هواءً، والهواء يستحيل فيصير نورًا؛ فالنار صار أولها يتصل بالهواء وآخرها يتصل بالنور، وأول طرف الهواء متصل بالماء وآخره متصل بالنار، وأول الماء متصل بالتراب وآخره متصل بالهواء؛ فمن جهة طرفه الأعلى يتصل بما فوقه، وبطرفه الأدنى يتصل بما دونه ويستحيل إليه.

فانظر يا أخي كيف أوجبت الحكمةُ التغييرَ والاستحالة والزوال والانتقال من حال إلى حال في الموجودات الطبيعية، والعلة في ذلك هو جزاء النفوس بما كسبت وعقوبتها بما جَنَت؛ لأن عالَم الأرواح لا تغيُّر فيه ولا تبديل ولا زوال ولا انتقال.

ثم اعلم أن كيفية إدراك الحاسَّة السامعة بجميع أصوات ما في العالم من الإنس وسائر الحيوان والنبات والرياح والأشجار، وما شاكل ذلك من كل شيء له صوت وحركة ينقسم عددها إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها حي، والآخر ميت، والثالث لا حي ولا ميت؛ وكلام الإنسان وصوت الحيوان حي ذو حركات نفسانية، وصوت الحجر والخشب والحديد والنحاس وما شاكلها ميت، والقسم الثالث لا حي ولا ميت مثل صوت الهواء إذا تدافَع وصدم بعضه بعضًا وحدث منه الصفير والزمير، وصوت تدافُع الماء في التلاليع وأمواج البحار وجريان الأنهار وصوت زفير النار، فإن هذه لا يقال لها حية كما يقال للإنسان والحيوان إنه حي ذو حركة يَقصِد لغرض يناله بحركته، ولا يقال إنها ميتة كموت الحجر والخشب؛ لأنها متحركة بالاتفاق لا بالقصد، ولأنها تقوِّي مرة حركة الهواء ومرة تسكنها، وكذلك الماء والنار، ثم يجمع هذه الأصوات كلها شيء واحد وهو هيولاها ولولاها لما كانت.

فأما كيفية الأصوات التي تَعلَّم الإنسان أنها صدرت عن أجسام حية، فهو أن يكون وصولها إلى حاسَّة سمعه بسرعة وخفة، ويجد لنفسه التي تفهمها وتقبلها سرعة الإخبار عنها بما هي به، بخلاف تلك الأصوات الصادرة عن الأجسام المائية التي لا يوصَل إليها إلا بالفكرة والرويَّة.

وأيضًا فإن الإنسان يأنس بالأصوات الحية إذا كان في فلوات بعيدة في موضع منقطع عن العمران فيستوحش، فإذا سمع نباح كلب أو صوت إنسان استأنس وقَوِيَت نفسه وعلم أنه بقرب عمران، وبخلاف ذلك إذا سمع صوت الوحش يخاف منه على نفسه، وأيضًا صوت هبوب الرياح العواصف وجريان الأودية وأمواج البحار واهتزاز الأشجار ووقْع الأحجار، إذا سمعها الإنسان الفريد الوحيد في المواضع النائية عن الناس استوحش منها غاية الاستيحاش.

ولذلك قيل إن في الفلوات والقفار جبالًا تنقطع وتنكسر وتخر، فيُسمع منها أصوات مرتفعة، فإذا سمع الإنسان ذلك يستوحش ولا يأنس بها.

وقيل أيضًا أن النار والهواء والماء لا يُحكم عليها بموت ولا حياة، وهي وإن كانت مادة للحياة والحركة، فإن ذلك يكون باجتماعها بقوة طبيعية وحركة نفسانية بمشيئة إلهية، وأما إذا تفرَّدت كلٌّ منها بذاته فلا يقال لها حية ولا ميتة، ولكنْ كلُّ واحد منها ذات طرفين؛ طرف متصل بالحياة، وطرف متصل بالموت، وهو متوسط بين ذلك؛ فالتراب طرفه الأعلى وما لطف منه متصل بالماء، فهو ذو حياة بما يخرجه ويبرزه من النبات الذي به حياة الحيوان، وطرفه الآخر هو ما كثف منه مثل الجبال والصخور والسباخ، فإنها أموات لا تقبل الماء ولا تحس به، ولا يكون منها نبات ولا ينتفع بها حيوان، والطرف المتصل بالماء يقال له عمران، والذي بعُد مِن الماء يقال له خراب، وهو بالموت أشبه من طرفه العامر.

والماء أيضًا ذو طرفين؛ طرفه الأعلى متصل بالهواء وهو بالحياة أشبه، وطرفه الأدنى متصل بالتراب، والتراب لا حياة فيه ولا حركة له، فالطرف المتصل بالتراب بالموت أشبه، والطرف المتصل بالهواء بالحياة أشبه، والهواء طرفه الأدنى متصل بالماء والماء بالموت أشبه؛ لأن الماء ربما صار جامدًا ثقيلًا، وإذا جمد صار مواتًا، وكانت منه صخور وجماد، وهو بالموت أشبه، وطرفه الأعلى متصل بالنار، والنار بالحياة أشبه.

والنار أيضًا ذات طرفين؛ طرف منها متصل بالهواء، وطرف منها متصل بالنور والضياء؛ وذلك أن النار إذا قدحت خرجت من احتكاك الأجسام بحدوث ذلك القرع في الهواء، وإذا برزت مع الهواء اتصلت بالأجسام النباتية والحيوانية، فأكلتها وأحرقتها وزالت بزوالها واضمحلت باضمحلالها، فيقال خمدت النار وانطفأ السراج، فصار هذا الطرف أشبه بالموت، ولها طرف آخر يطلب العلوَّ أبدًا متصل بالإشراق والنور والضياء، وهذا الطرف لاتصاله بالنور ومشاكلته إياه بالحياة أشبه.

وكذلك آخر المعادن متصل بأول النبات، وآخر النبات متصل بأول الحيوان، وآخر الحيوان متصل بأول عالم الإنسان، وآخر الإنسان متصل بأول مرتبة الملائكة، وكذلك آخر التراب متصل بأول مرتبة الماء، وآخر الماء متصل بأول مرتبة الهواء، وآخر الهواء متصل بأول مرتبة النار، وآخر النار متصل بأول مرتبة الضياء.

كذلك ما حدث من الأصوات يجرى على هذا المثال؛ فصوت الأحجار يشبه أصوات النبات؛ لأن النحاس إذا خلط بالحديد وجمع بينهما كان له طنين كطنين العيدان؛ وذلك أن العود نبات صَنَعه الناس وحركوه، وصارت له نغمة ظاهرة ناطقة معبرة عما في أفكار النفوس.

وكذلك صوت نقرات الأجراس وطنين النحاس، وليس للحجر الغير المعدني مثل ذلك، فالطرف الأعلى من أصوات النبات نغمات العيدان وما شاكلها، وهي لاحقة بأصوات الحيوان وكلام الإنسان، والطرف الآخر الأدنى المتصل بأصوات الحجارة الموات كصوت الدفِّ ودويِّ الأوتاد في الأرض وما شاكلها.

والطرف الأعلى من أصوات الأحجار المعدنية كما قلنا هو صوت النحاس وما كان له طنين وزمير، وهو اللاحق بأصوات النبات مثل العيدان والطنابير وما شاكل ذلك.

والطرف الأدنى من أصوات الحيوان لاحق بصوت النبات، مثل أصوات البهائم الخرس التي لا يتبين لها صوت يمكن تقطيعه ووزنه مثل النهيق، والحيوانات التي لا أصوات لها لاحقة بالجمادات والموات.

والطرف الأعلى لاحق بكلام الناس مثل كلام الفصحاء من الطيور والهزار داستان والبلبل، وما شاكل ذلك مما حسُن صوته من الحيوان.

والإنسان أيضًا كلامه ذو طرفين؛ طرفه الأدنى متصل بالحيوان مثل الفأفاء والتمتام والأخرس والألثغ وما شاكل ذلك.

والطرف الأعلى منه متصل بمنطق الملائكة، مثل كلمات الفصحاء والبُلَغاء وذوي النغمات والألحان المطربة، مثل نغمات داود عليه السلام والقرَّاء والملحنين في المساجد، وقراءة المزامير مثل أصوات قراءة التوراة في الكنائس والبِيَع، والقرآن في المساجد، والخطباء على المنابر، والرهبان في الصوامع، وما شاكل ذلك. ولكل صوت من هذه الأصوات عند الحاسَّة السامعة كيفية وماهية؛ فماهية صوت الإنسان أنه غرضٌ مفهومٌ دالٌّ على معنًى، فتحتاج القوة المفكرة إلى أن تفكر فيه وتفتش عن معناه. وأصوات الحيوانات غير مفهومة، لكن القوة المفكرة تقضي عليها أنها ما صوتت إلا لحاجة، وما أرادت به إلا سبب أكل وشرب ونكاح، فهذه الأقسام من الصوت مختصة بالأجسام الحية.

فأما صوت الحجارة والخشب، فإن القوة المفكرة لا تقضي عليها بأنها ما بدت لغرض ولا لقصد إلا أن تكون آلية لحركة الإنسان، مثل البوق والزمر والعود وما شاكل ذلك، وأنها تنسبها إلى الحركة التي كانت هي السبب في تصويتها مثل بوق ومزمار وعود وصفار وما شاكل ذلك، وكل هذه أصوات إنسانية أَوْدَعتها النفس الجزئية هذه الأشكال النباتية بالصناعة التي اتخذتها حيلة للمعاش والكسب.

وأما صوت هبوب الرياح والرعد وخرير الماء إذا انحدر من علو إلى أسفل واضطراب موج البحار واهتزاز الأشجار، فإن القوة المفكرة لا تعبأ بذلك ولا تفكر فيه، وإنما تمرُّ على الحاسَّة السامعة شبه الخوار ولا حاجة إليه، وربما ضَجِرَ الإنسان منه وتأذَّى من مداومة سماعه.

وإذ فرغنا من ذكر ماهية الأصوات وكيفية حدوثها وكيف تدركها القوة السامعة، فلنذكر ما بين هذه الحاسَّة وبين ما تدركه هذه الأصوات من المناسبة والمشاكلة والمجانسة والمطابقة.

فصل

فنقول: اعلم أن إدراك الحاسَّة السامعة لصوت الحجر والجواهر المعدنية والجمادات الغير النامية والحية كنمو النبات وخوار الحيوانات، فهذا لِمَا بينها وبين تلك من المناسبات والمجانسات من جهة الجسمية والطبيعة الأرضية؛ وذلك أن جسم الإنسان مائل إلى التراب.

وأما إدراكه أصوات الخشب وكل ما يصوِّت ويتحرك من النبات والأشجار، فلأجْلِ المناسبة بينه وبين ذلك؛ وذلك أن الإنسان يشارك النبات في النمو والزيادة والكبر بعد الصغر.

وأما إدراكه أصوات الحيوان ومعرفته بها وإخباره عنها، فلِمَا بينه وبين الحيوان من المناسبة؛ وذلك أن الإنسان مشارِك للحيوان في الحياة والحس، والنفس الحيوانية جارية بينهم، متصل بعضها ببعض أكثر اتصالًا من النفس النامية بين النبات والحيوان؛ وذلك أن الإنسان يشارك النبات من جهة واحدة وهي النمو فحسب، ويشارك الحيوان من جهات كثيرة؛ وهي النمو والشهوة والأكل والشرب والنكاح والحسِّ والألم واللذة والأمور الحيوانية، والإنسان إنما يتميز عن الحيوان بالنطق والتمييز والقوة العاقلة، وقيل إن لبعض الحيوانات فكرًا وتمييزًا، وهي النحل والنمل.

وأما إدراكه أصوات الهواء والنار فلِمَا بينه وبينها من المناسبة؛ لأنه مهيَّأ منها كما ذكرنا في رسالة الهيولى والصورة.

واعلم يا أخي أنه لولا المناسبة التي بين الحيوان الحي وبين الجمادات الميتة لَمَا كان يدرك من المعرفة بها والإحاطة بخبرها قليلًا ولا كثيرًا، فإن قال قائل: لِمَ لا يعرف الصبي الصغير هذه الأشياء على حقيقتها وبينه وبينها النسبة موجودة؟ قيل: إن ذلك لِعجْز في الهيولى عن القبول لا لغلط من الخالق تعالى ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، يخلق ما يشاء كما يشاء بلا اعتراض عليه، ويحكم ما يريد بلا غرض جل جلاله.

(١٢) فصل في اختلاف الأصوات في الصغر والكبر

فنقول: اعلم أن حدوث الأصوات يكون من تصادم الأجسام بعضها ببعض، فنقول: إن كل جسمين تَصادَمَا برفق لا يُسمع لهما صوت؛ لأن الهواء ينسلُّ من بينهما قليلًا قليلًا، فلا يحدث صوتًا، وإنما يحدث الصوت مِن تصادُم الأجسام إذا كانت صدمتها بسرعة، فينضغط الهواء عند ذلك وتتدافع أمواجه وتتموج حركته إلى الجهات الست بسرعة، فيَحدث الصوت ويُسمع كما بيَّنا فيما تقدم، والأجسام الكبار العظام إذا تصادمت يكون اصطدامها أعظم من أصوات ما دونها؛ لأن تموُّج هوائها أكثر. وكل جسمين من جوهر واحد مقدارهما واحد وشكلهما واحد إذا تصادما معًا فإن صوتاهما يكونان متساويين، فإن كان أملس فإن صوتيهما يكونان أملس من السطوح المشتركة، والهواء المشترك بينهما أملس. والأجسام الصلبة المجوفة كالأواني وغيرها والطرجهارات إذا نُقِرَت طَنَّت زمانًا طويلًا؛ لأن الهواء يتردد في جوفها ويصدم في حافاتها ويتموج في أقطارها، وما كان منها أوسع كان صوته أعظم؛ لأن الهواء يتموج فيها ويصدم في مروره مسافة بعيدة. والحيوانات الكبيرة الرئة الطوال الحلاقيم الواسعة المناخر والأشداق، تكون جهيرة الأصوات لأنها تستنشق هواء كثيرًا وترسله بشدة. فقد تَبيَّن بما ذكرنا أن علة عِظَم الصوت إنما هو بحسب عِظَم الجسم المصوِّت وشدة صدمة الهواء وكثرة تموُّجه في الجهات، وأن أعظم الأصوات صوت الرعد وقد بيَّنا على حدوثه فيما تَقدَّم في رسالة الآثار العلوية. وأما أصوات الرياح وشدة حدوثها فليست شيئًا سوى تموج الهواء شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا وفوقًا وتحتًا، فإذا صدم بحركته وبجريانه الجبال والحيطان والأشجار والنبات وتخللها، حدثت من ذلك فنون الأصوات والدوي والطنين مختلفة الأنواع، كل ذلك بحسب كبر الأجسام المصدومة وصغرها وتجويفها لعلل يطول شرحها.

فأما أصوات المياه في جريانها وحدوثها وتصادمها بالأجسام، فإن الهواء بلطافة جوهره وسريان عنصره يتخللها كلها، ويكون حدوث تلك الأصوات وفنون أنواعها بحسب تلك الأسباب التي ذكرنا في أمر الرياح.

وأما أصوات الحيوانات من ذوات الرئات واختلاف أنواعها وفنون أقسامها بحسب تلك الأقسام والأسباب التي ذكرناها من أمر الرياح، وبحسب طول أعناقها وقصرها، وسعة حلاقيمها وتركيب حناجرها، وشدة استنشاقها للهواء وقوة إرسال أنفاسها من أفواهها ومناخرها، وكل ذلك لأسباب وعلل يطول شرحها.

وأما أصوات الحيوانات التي لا رئة لها، كالزنابير والجراد والصراصر وأشباهها، فإنها تحرِّك الهواء بجناحين لها سرعة خفة، فتَحدث من ذلك أصوات مختلفة كما يحدث من تحريك الأوتار والعيدان، وتكون فنونها متباينة وأنواعها مختلفة وصغرها وكبرها بحسب لطافتها؛ أعني أجنحتها وغلظها وطولها وقصرها وكبرها وصغرها وسرعة تحريكها لها.

وأما الحيوانات الخرس كالسمك والسلاحف وما شاكلها فإنها صمت؛ لأنها ليست لها رئة ولا جناحان فلا يكون لها أصوات.

وأما أصوات الجواهر المعدنية، كالحديد والنحاس والزجاج والحجارة وما شاكلها، فإن اختلاف الأصوات يكون بحسب يبسها وصلابتها وكمية مقاديرها من الصغر والكبر والطول والقصر والسعة والضيق.

وأما أصوات النبات فبحسب صلابتها ورخاوتها وما يتخذ منها بالصناعة من الآلات المصنوعة كما قدمنا ذكره. وكذلك حال ما يتخذ منها لمثل ذلك من الجواهر المعدنية، واختلافها في الأصوات والطنين، وما يبدو عنها من أنواع النغمات والأصوات كصوت الطبل والبوق والدف والسرناي والزمر، فهو يختلف بحسب أشكالها، فإن كل صوت إنما يبدو مناسبًا للجسم الذي يكون منه، وبحسب صفاء جوهره، وكدره الذي يكون متخذًا منه، وكبر أجسامه وصغرها، وطولها وقصرها، وسعة أجوافها وضيق ثقبها، ودقة أوتارها وغلظها، وبحسب تحريك المحرك لها والمصوت بها.

ومنها وسائط بين الإنسان والهواء في التصويت، مثل البوق والزمر والصفارة وجميع ما يجعله الإنسان في فيه ويرسل فيه الهواء من جوفه بقوة أنفاسه.

ومنها الوسائط بين الآلة والصوت من حركة الإنسان كصوت الطبل ونقرة الدف وما أشبه ذلك؛ فما يكون من هذه الآلة مصوتًا بالفم، فإنه يكوم ممتدًا مستطيلًا مجتمع الأجزاء لا سكون فيه إلا أن يسكن الصوت مرة واحدة.

وأما الأصوات بحركة اليدين فإن بين أجزائها سكونات ودقة في أثر دقة، ونقرة تعقب نقرة، كما بيَّنا في رسالة الموسيقى. وهذه الأصوات — أعني صوت الزمر والبوق — تشبه أصوات الأحجار والمعادن، إذا نقره المحرك كان له دوي وطنين يمكث في الهواء ممتدًا لا ينقطع إلى أن يسكن، لا تقطيع فيه من أصوات الحيوانات مثل أصوات الزنابير وما شاكلها.

فأما أصوات ذوات الأوتار وما يستعمل منها في أنواع الأغاني بحركات اليدين موازية لحركة اللسان والإيقاع، مستوي اللحن، صحيح الوزن، وما كان بخلاف ذلك كان مناسبًا لأصوات الطيور الثقال الطبع، كالإوز وما جانسها وككلام الثقيل الكلام من الناس؛ ويكون ذلك لفساد الحركة وبُعدها من النسبة الفاضلة، كما عجزت هيولى الإنسان عن قبول ما جعل فيها وعجزها بإظهارها إياه من القوة إلى الفعل، وكان ذلك عجزًا من المصنوع لا من الصانع؛ كما أن صانع العود إذا أحكم صنعته وشد أوتاره وأصلح مضاربه وأخذه مَن لا يعرف الصناعة ولا يُحسن العمل به فنقره، فإنه لا يأتي من تصويته مثل ما يأتي به العارف بعلمه وصنعته، ولا ينسب ذلك إلى فساد في الآلة وإلى فساد من الصانع، وإنما ينسب إلى عجز المحرك.

فإذا رأيت آلة العود مفردة، والأوتار مقطعة، وحركة الحاذق بالصناعة لم تساعده على ما يريد بإظهار صناعته؛ فليس ذلك منسوبًا إلى عجزه فيه، ولكن إلى عجز الآلة ونقصانها عن التمام، فمن كلا الوجهين الصانع بريء من العجز إذا كانت صنعة الأشياء على النسبة الفاضلة، وقصده في صنعته الإتقان والإحكام.

وإنما حدث النقص والفساد من جهة الهيولى، كما أن المعلم إنما غرضه أن يعلم تلميذه ما يحسنه حتى يكون حاذقًا فيه فيكون مثله وحافظًا لعلمه، فإذا لم يقبل المتعلم منه وأخذ ألفاظًا مستوية فأحالها عن وجهها، فليس ذلك منسوبًا إلى المعلِّم، لكنْ إلى عجز المتعلم عن البلوغ إلى ما لا يعلمه الأستاذ دفعة واحدة لا بالتدريج ليعرف الشيء بعد الشيء.

(١٣) فصل في السكون والحركة

فنقول: اعلم أن الحركة هي النقلة من مكان إلى مكان في زمان ثانٍ، وضدها السكون وهو الوقوف والثبات في مكان واحد بين زمانين، والحركة تكون سريعة وبطيئة؛ فالسريعة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة طويلة في زمان قصير، والبطيئة هي التي يقطع المتحرك بها مسافة قصيرة في زمان طويل، وعلى هذا المثال تعتبر الحركات والمتحركات.

ثم اعلم أن الحركات تنقسم من جهة الكيفية إلى ثمانية أنواع، كل نوعين منها متقابلان من جنس المضاف؛ فمنها الكبير والصغير، والسريع والبطيء، والدقيق والغليظ، والثقيل والخفيف.

فأما الكبير والصغير من الأصوات فإن المثال فيها أصوات الطبول الكبار والصغار.

وذلك أن أصوات طبول المَواكب إذا أضيفت إلى أصوات اللهو كانت كبيرة، وإذا أضيفت إلى أصوات طبول الكوس كانت صغيرة، وإذا أضيف صوت طبول الكوس إلى صوت الرعد كان صغيرًا.

وعلى هذا المثال تعتبر الأصوات في الصغر والكبر بإضافة بعضها إلى بعض، وهي التي تكون أزمان السكونات ما بين نقراتها وحركاتها صغيرة بالإضافة إلى غيرها.

والمثال على ذلك أصوات مداق القصارين ومطارق الحدادين فإنها سريعة بالإضافة إلى أصوات مداق الرزازين والحصاصين، فهذه بطيئة بالإضافة إليها، وأما بالإضافة إلى أصوات مجاذيف الملاحين فهي سريعة.

وعلى هذا المثال تعتبر سرعة الأصوات وبطؤها بإضافة بعضها إلى بعض.

وأما الدقيق والغليظ من الأصوات فبإضافة بعضها إلى بعض كأصوات نغمة الزير بإضافتها إلى نغمة اليم، ونغمة المثنى إلى المثلث.

وأما بالعكس فإن صوت اليم بالإضافة إلى المثلث غليظ، وكذلك المثلث إلى المثنى، والمثنى إلى الزير.

ومن وجه آخر فإن صوت كل وتر على غليظ بالإضافة إلى ما دونه أي وتر كان، فعلى هذا القياس تعتبر حدة الصوت وغلظها بإضافة بعضها إلى بعض.

وأما الجهير الخفيف من الأصوات فبحسب قوة الحركة وضعفها.

والمثال في ذلك صوت العليل السقيم بالقياس إلى صوت الصحيح المعافى وصوت العليل إلى من هو أضعف منه وأسقم حتى يكون أجهر الأصوات من الناس ما كان في غاية الصحة وسلامة الحواس واستواء الآلة، وأخفاهن ما كان في الغاية بخلاف هذه الصفة لما به من ضعف القوة وقلة الحركة وفساد الجملة وغير ذلك.

(١٤) فصل في معرفة قسمة الأصوات من جهة الكمية

فنقول: الأصوات من جهة الكمية نوعان: متصلة ومنفصلة؛ فالمنفصلة هي التي بين أزمان حركاتها في النقرات زمان سكون محسوس، مثل نقرات الأوتار وإيقاع القضبان.

وأما المتصلة من الأصوات مثل أصوات المزامير والنايات والدواليب ونحو ذلك كما ذكرنا في فصل قبل هذا. والأصوات المنفصلة تنقسم نوعان: حادة وغليظة؛ فما كان من النايات والمزامير أوسع تجويفًا وثقبًا كان صوته أغلظ، وما كان أضيق تجويفًا كان صوته أحدَّ.

ومن جهة أخرى أيضًا ما كان من الثقب إلى موضع النفخ أقرب كانت نغمته أحدَّ، وما كان أبعد كان أغلظ.

وهكذا تنقسم الأصوات المتصلة أيضًا على هذا المثال غليظة وحادة، وقد بيَّنا في رسالة الموسيقى ذلك.

وأما معرفة طبائع الأصوات وائتلافها واختلافها بحسب ما نبين ها هنا، فنقول: إن الأصوات الحادة والغليظة يتضادان، فإذا جمع بينهما على نسبة تأليفية ائتلفت وامتزجت واتَّحدت، وصارت كلامًا موزونًا ونظمًا مؤتلفًا، فعند ذلك يستلذه السامع وتُسرُّ به الأرواح وتأنس به النفوس.

وإذا كانت على غير هذه النسبة تنافرت وتباينت ولم تأتلف ولم يستلذها السامع، بل ينفر منها ويشمئز. والأصوات الغليظة باردة وهي رطبة، وتنقسم قسمين: ضارة ونافعة.

فأما الضار فهو الذي إذا وَرَدَ على السامع يعوقه، وهي الأصوات الخارجة عن الاعتدال.

وقد استعمل الحكماء اليونانيون آلةً لذلك كانوا يستعملونها عند ملاقاة الأعداء؛ وهي صوت بلا زعيق. والأصوات المعتدلة المناسبة تعدل مزاج الأخلاط الحارة والكيموسات اليابسة فهذه تابعة لها.

والأصوات الغليظة التي يحدث منها فساد المزاج باردة يابسة؛ لأنه ربما جاء منها ماء يُميت الحيوانات الصغار مثل فراخ الطيور والأطفال من الصبيان، والأصوات المناسبة باردة رطبة، والأصوات الحادة حارة، فما كان منها على غير النسبة المعتدلة أفسد المزاج وأحرق الطبيعة، وما كان منها على النسبة الفاضلة والاعتدال أصلح المزاج ولطَّف البرودة؛ فالقسم الأول حار يابس، والقسم الثاني حار ليِّن.

وقد اتخذ الحكماء لهذه الأصوات ميزانًا يعرفون به طبائعها على النسبة الفاضلة بحد الاعتدال، وهي الآلة التي تسمى العود، وقد ذكرنا كيفية بِنْيَته والعمل به في رسالة الموسيقى.

(١٥) فصل في معرفة الأصوات من جهة طبيعة الإنسان والحيوانات واختلافهم فيها

فنقول: اعلم أن أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطبائع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج وطبيعة نغمة مشاكلة ولحن ملائم لها، لا يحصي عددها إلا الله تعالى، والدليل على ذلك أنك إذا تأملتَ وجدتَ لكل أمة من الناس ألحانًا ونغماتٍ وأصواتًا يستلذونها ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم ولا يُسرُّ بها سواهم؛ وذلك لاختلاف لغاتهم وتباين أمزجتهم وطباعهم وما جرت به العادات والأخلاق، وهكذا يجري في أصحاب لغة واحدة؛ أقوام يستلذون ألحانًا ونغمات وأصواتًا لا يستلذها غيرهم من لغتهم، وهكذا ربما تجد إنسانًا واحدًا يستلذ وقتًا لحنًا ما ويعافُّه وقتًا آخر.

وهكذا تجد حكمهم في مأكولاتهم ومشروباتهم ومسموعاتهم وملبوساتهم وسائر الأنواع من الملاذِّ والزينة؛ كل ذلك بحسب تغيير أمزجتهم واختلاف طبائعهم وما جرت به عاداتهم وما تولاهم من الأسباب الفلكية والأحكام السماوية في أوقات مواليدهم ومساقط نُطَفهم.

وكذلك تجد الحيوانات ربما استلذَّت بعض الأصوات وأنست بها، وجاءت إلى المواضع التي تكون فيها، فإن بعض صيادي الطيور ومتخذي آلة الصفير يصفرون ويحاكون بها صوتًا لبعض أجناس الطيور، فتجتمع إليه وتدور حوله فربما تقع في شباكهم.

وكذلك ما يستعمله الجمَّالون من الحداء والنغمات التي إذا سمعتْها الجِمال في ظلمة الليل أنست بها ونشطت للسير والمشي وخفت عليها الأثقال، ويستعمل مثل ذلك رعاة الأغنام والمواشي والخيل عند ورودها الماء أنواع الصفير، ويستعملون غناءً آخر عند حلب ألبانها، وكل ذلك بحسب مناسبات تقع في الطباع واتفاقات في المواليد والأصوات الحسان المعتدلة، تستلذها مسامع الحيوان وتأنس بها الأرواح وتسكن إليها النفوس. والأصوات الخارجة عن الاعتدال عند الحيوانات كلها بالعكس من ذلك وكل جنس من أجناس الحيوان، فإنما يأنس ويُسرُّ بما كان من نغمات جنسه ويجتمع به ويَألفه بحسب ما جرت عادته وألِفت طباعه، وينفر من صوت آخر يكون من جنس غيره ولم تَجْرِ عادته سماعه ولا ألِفتْه، وكذلك جميع الأمم من أصناف الناس.

وإذ قد فرغنا من ذكر اختلاف الأصوات وبيانها وصفاتها وحركاتها، والمنفصل منها والمتصل، والفرق بين أصوات الحيوان وكلام الإنسان وأصوات الأشجار والمعادن، وكيفية أصواتها ومصوتاتها، وما يكون منها بالقصد الأول وغير القصد، وأصوات النار والهواء والماء، والحركات الصغار والكبار، الخفيف والجهير، وطبائعها ومضارِّها ومنافعها، وكيفية حمل الهواء لها وقبول الحاسَّة السامعة لها، وكيفية اختصاصها بها دون سائر المحسوسات، وما بين الإنسان والأصوات في إدراكه لها من الوسائط والمناسبات، وذكر علل هذه الأشياء ومعلولاتها وجواهرها وأعراضها وبدايتها في الأصوال، وكونها في شكل واحد فيما علا، ووجودها في أشكال كثيرة فيما دنا، واتفاقها في الأصوات، واختلافها في الفروع، وتشكُّلها بأشكال الأجسام البادية عنها، والآلة المتخذة لها والحاجة الداعية إليها، والمعاني الموضوعة عليها والحقائق المضمنة بها، وما منها مفهوم لا يحتاج سامعه إلى مَن يعرفه لوضوحه وتمامه، وما يحتاج السامع إلى مَن يُفهمه إياه لانغلاقه وكتمانه.

وإذ قد أتينا على كثير مما يحتاج إليه في هذا الباب، فلْنذكر الآن اختلاف اللغات من جهة الحروف والكتابات، وكيف كان مبدؤها، ومن أين كان منشؤها، والعلة في اختلافها وأوزانها، وانفراد كل أمة بشكلٍ منها عمَّن سواها، وبلغة عن غيرها، ونوضح ذلك إيضاحًا يكون لك به الاطلاع على ما أردتَ منه وسألتَ عنه.

(١٦) فصل في معرفة بداية الحروف

فنقول: اعلم أن الله تعالى لمَّا خلق آدم عليه السلام — الذي هو أبو البشر ومَبدؤه — جعله ناطقًا متكلمًا فصيحًا مميَّزًا بالقوة الناطقة والروح الشريفة والقوة العاقلة القدسية، وجعل صورته أحسن الصور، وشكله أفضل الأشكال، وطبيعته أصفى الطبائع الأرضية، ومزاجه أعدل الأمزجة مما هو خارج عنه، وجعله سيد الحيوانات كلها ومليكًا عليها وأميرًا ورئيسًا فيها، وملَّكه إياها وألزمها طاعته والسجود له طوعًا وكرهًا كما قال تعالى للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، فلما جعله بهذا المثال فليس من الحكمة أن يكون صامتًا كالجماد ولا سكوتًا كالحيوان الذي لا ينطق، بل قائمًا ناطقًا متكلمًا معلمًا مفهمًا عاقلًا حكيمًا؛ لأنه سبحانه وتعالى نَفخ فيه من روح قدسه، وأيده بكلمته، وعلَّمه الأسماء كلها وصفات الأشياء كلها، وجعل له العقل العاقل لها والمحيط بمعرفتها، وأخرج سائر الموجودات من المعادن والنبات والحيوان إليه ليديرها ويسوق إليه منافعها، ويدلها على ما يكون به صلاحها وبقاؤها وتزايدها ونماؤها وسلامتها من الآفات، ويضع كل شيء منها في موضعه ويوفيه قسطه من حفظ النظام وبلوغ التمام، وجَمَعَ له هذه الأشياء كلها صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، في تسع علامات بأشكال مختلفة مسمَّاة بأسماء قد جمعت أسماء جميع الموجودات وانعقدت بها المعاني كلها، كما اجتمعت أجزاء الحساب كلها والأعداد بأسرها في التسعة الأعداد التي مِن واحد إلى تسعة، وكذلك وجودها في العالم العلوي على هذه النسبة، وهذه الحروف هي التي علَّمها اللهُ سبحانه وتعالى آدمَ عليه السلام، وهي التي يستعملها أهل الهند على هذه الصفة «١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧، ٨، ٩».

وقد كان بهذه الحروف يَعرف أسماء الأشياء كلها وصفاتها على ما هي عليه وبه موجودة من أشكالها وهيئتها، ولم يَزَلْ كذلك إلى أن كثر أولاده وتكلم بالسريانية وتشكَّل الفلك بشكل أوجب التغير والاستحالة بعد مضي آدم عليه السلام. ولم يكن يكتب في زمانه كتابات أو يخط بقلم، وإنما كان تلقينٌ بألفاظ وكلام يحفظ لقلة العدد، ولأنه ما كان في الأرض من العالم الإنساني أكثر من بيت واحد والكلام بينهم فيما يحتاجون إليه فقط، ولم يكن لهم حديث فيما مضى ولا حاجة بهم إليه ولا بقية من آثار مَن كان قبلهم في كتاب ولا طومار. ولأن كلام الملائكة لا يُكتب في الأجسام الطبيعية، وإنما هيولاها الجواهر النفسانية، وكما أن الناس في هذا الوقت لا يحتاج الرجل منهم هو وأهل بيته أن يكتبوا جميع ما يحتاجون إليه، ولا أن يثبتوا جميع ما في بيوتهم من كتاب يذكرون فيه كل ما عندهم من مأكول ومشروب وما ينتفع به، وإنما حاجتهم إلى علم أسماء ذلك، فهم يعلِّمون ذلك أولادهم حتى يعرفوه ويَنشئوا عليه بأي لفظ كان.

ثم ذهب السلف وبقي الخلف، وافترقوا في الأقاليم وتقطعوا في الأرض وذهبوا في الأطراف، فأوجبت الحكمة الإلهية والعناية الربانية تقييد تلك الأسماء والألفاظ والحروف بصناعة الكتابة، ولولا ذلك لَبَعُد من الخلق ما كان يستعمل السلف التي كانت حاجتهم إليها، ولَمَا كان اللسان يُحيل بينهم وبين ما يحتاجون إليه من ذلك بالكذب. وكانوا لا يَعلمون أخبار من كان معهم في الأرض إذا غابوا عنهم بالمكان لأن الرسول لا يمكنه حفظ جميع ما في قلب مُرسِله.

فلما كان ذلك كذلك أظهر الله تعالى صناعة الكتابة، فزادوا فيها وعرفوها ومهروا فيها وأَلِفُوها واعتادوها، وبعث الله فيهم مِن الأنبياء عليهم السلام وأقام فيهم من الحكماء مَن أظهر فيهم الصنائع، وكثرت بينهم الصنَّاع والمتعلمون والعلماء والأستاذون، وعمرت الأرض وانتقلت أخبار بعضهم إلى بعض، ولم تزل الحروف تزيد ويظهر الشيء بعد الشيء وصناعة الكتابة تتسع وتتفرع، إلى أن كمل عدد الحروف ثمانية وعشرين حرفًا، ثم وقفت على هذا العدد ولم تَزِدْ على ذلك.

وذلك أن هذا العدد من الأعداد التامة، والأعداد التامة أفضل من الأعداد الزائدة والناقصة؛ وذلك أن هذا العدد عزيز الوجود، وأنه يوجد منها في كل مرتبة من مراتب الأعداد عدد واحد لا غير؛ كالستة في الآحاد، وثمانية وعشرين في العشرات، وأربعمائة وستة وتسعين في المئات، وثمانية آلاف ومائة وثمانية وعشرين في الألوف، وأيضًا أن هذا العدد يمكن أن يقسم بالسوية مرة أو مرتين. وكانت صناعة الكتابة في اللغة العربية خاتمة الكتابات وتمام عدد الحروف، كما أن شريعة الإسلام آخر الشرائع كلها، ومحمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين وأصحاب الشرائع، وعلى شريعته تقوم القيامة.

فصل

ثم اعلم أن الحكيم واضعَ الخط العربي انتفى فيما وضعه من ذلك آثار حكمة الله تعالى وكان حكيمًا فاضلًا، وقيل إن الحكمة هي التشبه بالإله بحسب طاقة البشر، ومعنى هذه الحكمة أن يكون الرجل حكيمًا في مصنوعاته، متحققًا في معلوماته، خبيرًا في أفعاله. فوضع ذلك على موجب الحكمة في العالم لتكون حروف «أ، ب، ت، ث» وهي حروف الجمل مشتملة على كل الأشياء مطابقة للأعداد الموجودات في الأصل وما تتفرع منه، ويحدث عنه مما لا يحصي ذلك إلا الله تعالى.

فمن الموجودات التي عِدتها ثمانية وعشرون في العالم الكبير منازل القمر، فإنها ثمانية وعشرون منزلًا، أربعة عشر فوق الأرض وأربعة عشر تحت الأرض، وهي في موضع اليمين واليسار، منها أربعة عشر في البروج الشمالية وأربعة عشر في الجنوبية من البروج.

وكذلك يوجد في جسم الإنسان أعضاء مشاكلة لهذه العدة؛ لأن اللغة التامة لغة العرب، والكلام الفصيح كلام العرب، وما سوى ذلك ناقص، فاللغة العربية في اللغات مثل صورة الإنسان في الحيوان.

ولما كان خروج صورة الإنسان آخِر صور الحيوانية، كذلك كانت اللغة العربية تمام اللغة الإنسانية، وختام صناعة الكتابة، ولم يحدث بعدها شيء ينسخها ولا يغيرها، ولا يزيد عليها ولا ينقصها، وفي كل أمة وبكل إقليم وجزيرة وموضعٍ أهلُ خط وحروف وكتابات وعلامات، يجمعها كلها هذه الثمانية والعشرون حرفًا، ولولا خوف الإطالة لأتينا على ذكر كثير من اللغات وكتابات أهلها وأعداد حروفهم، مثل ما يوجد في اللغة السريانية والعبرانية واليونانية والرومية، وما يتفرع منها ويتكون عنها في سائر الأجناس والأمم من بني آدم.

ثم اعلم أن أصل هذه الحروف كلها والخطط بأجمعها خطابان لا ثالث لهما، ومِن بينهما ومنهما وعنهما تركَّبت هذه الحروف حتى بلغت إلى نهاياتها؛ كحدوث الإنس كلهم من الشخصين اللذين هما آدم وحواء عليهما السلام.

وكذلك العالم بأسره، السموات ومن فيها، والأرض ومن عليها من جوهرين، وهما السابق والتالي أو البسيط والمركب، وهما العقل والنفس، والله تعالى مبدعهما وهو الواحد المنزَّه عن جميع ما حدث منهما، المتعالي بكبريائه عنهما، وذلك من الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيطها، فأول الحروف هو الخط المستقيم الذي هو الألف والثاني الباء، وبإزائه في العالم العلوي السابق وهو العقل والتام هو النفس.

وذلك أن النفس مرتبة تحت العقل، ومن بينهما كان حدوث الأشياء كلها في العالم السفلي، مثل آدم وحواء، فهما الأبوان الذكر والأنثى، والأنثى مرتبة تحت الذكر، ومن بينهما كان العالم.

وكذلك الحيوانات كلها وأشكال النبات لا تخرج عن هذا الحد والشكل، وصورة الإنسان شبه الخط المستقيم، وصورة الحيوانات شبه الخط المقوس، والنبات والحيوان مرتبان تحت الإنسان.

وهكذا عالم الأفلاك وسكان السموات، أشكالها مستقيمة وصورهما كاملة، فهُم الخط المستقيم، وما دون فلك القمر بمنزلة الخط المعوج.

وهكذا يوجد في الأعداد الناشئة من الواحد والاثنين، فالواحد كالخط المستقيم، والاثنان كالمعوج، وهما أصل الأعداد وينبوعها، وعنهما يكون تزايدهما ونماؤها.

فصل

ثم اعلم أن لسان الإنسان إذا كان متحركًا إلى جهة كل حرف من هذه الحروف الثمانية والعشرين يخرجه من تلك الجهة ولا يعدل به إلى غيرها ولا يخلط بعضها ببعض ولا يحيلها عما هي به في اللفظ، فهو لسان صحيح وكلام فصيح من جهة بيان الحروف ووضعها على ما هي به في أي كتابة كانت وبأي لغة اتفقت كان الكلام بها.

وأصح الكتابات وأتمُّها وأحسنها ما كانت على النسبة الفاضلة في وضعها ومقادير حروفها بعضها من بعض.

وقد ذكرنا من هذا الفن طرفًا في رسالة الموسيقى، ويختص بهذا المكان شيء من ذلك بعينه، ليكون دلالة على ما قاله أهل صناعة الكتابة في لغة العرب إذ كانت تمام اللغات.

وليس بنا حاجة في وقتنا إلى كتابةٍ غيرها ولا إلى لغةٍ سواها، غير أنَّا نُحب الإحاطة بجميع العلوم ومعرفة سائر اللغات وتعلُّم سائر أنواع الكتابات.

ولذلك وضعْنا لهُم هذه الرسالة لتكون مهذِّبة لنفوسهم مؤدِّبة لأخلاقهم، وجعلناها مقدمات ومداخل وطرقات إلى سائر المعلومات والمصنوعات من المعقولات والمحسوسات.

ولمَّا كانت اللغة العربية والكتابة بحروفها التامة يُحتاج إليها في قراءة كتاب الله تعالى، الذي ختم بنزوله كتب الأنبياء عليهم السلام، وذكر فيه ما كان وما يكون إلى يوم الوقت المعلوم، فإنه لا يجب أن يُكتب إلا بأحسن الخطوط وأقومها وأتمها وأكملها، ولا يجب أن يُكتب بالخطوط الناقصة التي ليست بموزونة ولا معتدلة؛ لئلا يتصحف على قارئه ويكثر الخطأ واللحن والزلل فيه عند القراءة.

قال المحرر الحاذق المهندس المستبصر في تصحيح كتابة العربية: ينبغي لمن يريد أن يكون جيِّد الخط صحيح الكتابة أن يجعل له أصلًا يبني عليه خطوطه.

ومثال ذلك أن يبتدئ فيخطَّ الألِف بأي قدر شاء، ويجعل غلظه مناسبًا لطوله، وهو الثمن، ويجعل طوله قطر دائرة ما، ثم يبني سائر الحروف مناسبًا لطول الألف، ويلحظ تلك الدائرة التي الألِف مناسب لقطرها، فيجعل الباء وأختيها كل واحدة طولًا ما، ولطول الألف ورءوسها إلى فوق ثمن طولها، مثل هذا «أ، ب، ت، ث».

ويجعل الجيم وأختيها كل واحدة مدتها مِن فوق نصف الألف، وتقويسه إلى أسفل نصف محيط الدائرة التي الألف مناسب لقطرها، مثل هذا «ج، ح، خ».

ثم يجعل الدال والذال كل واحدة منها ربع محيط الدائرة مقوسًا، مثل هذا «د ذ».

ثم يجعل الراء والزاي كل واحدة ربع تقويس الدائرة، مثل هذا «ر ز».

ثم يجعل السين والشين رأس كل واحد إلى فوق ثمن الألِف، ومدتها إلى أسفل نصف محيط الدائرة المقدم ذكرها، مثل هذا «س ش».

ويجعل الصاد والضاد طول كل واحد إلى فوق ثمن الألف، ومدتها إلى أسفل نصف محيط الدائرة المقدم ذكرها، مثل هذا «ص ض».

ويجعل الطاء والظاء كل واحدة مدتها إلى فوق بطول الألف، وفتحتها مثل ثمن الألف، ورءوسهما إلى فوق بطول الألف، مثل هذا «ط ظ».

ويجعل العين والغين كل واحدة تقويسة ربع الدائرة المذكورة، ومدته إلى خلف نصف الدائرة، مثل هذا «ع غ».

وعلى هذا المثال باقي الحروف، فاجعل هذا دستورك في الكتابة.

(١٧) فصل في أن الكلام صنعة منطقية

فنقول: إن المصنوعات كلها محكمة متقنة بمقتضى الحكمة، ومنها صنعة الكلام والأقاويل.

وذلك أن أحكم الكلام ما كان أَبْينه وأَبْلغه، وأَتْقن البلاغة ما كان أَفْصحها، وأَحْسن الفصاحة ما كان موزونًا متَّفقًا، وأصح الموزونات من الأشعار ما كان غير منزحف، والمزحف من الأشعار هو الذي حروفه السواكن متحركة، والمتحركة ساكنة، والمستوي ما كان متفق التأليف.

والمثال في ذلك الطويل والمديد والبسيط، فإنها مركبة من ثمانية مقاطع كما ذكره العروضيون، فالطويل:

فعولن مفاعيلن
فعولن مفاعيلن

وكهذا المصرعُ الثاني، وهذه الثمانية الأجزاء مركبة من اثني عشر سببًا وثمانية أوتاد، وجملتها ثمانية وأربعون حرفًا؛ عشرون منها سواكن وثمانية وعشرون متحركات.

والمصراع منه أربعة وعشرون حرفًا؛ عشرة سواكن وأربعة عشر متحركات، ونصف المصراع الذي هو ربع البيت اثنا عشر حرفًا؛ خمسة منها سواكن وسبعة متحركات، ونسبة سواكن حروف ربعها إلى متحركاتها كنسبة سواكن نصفها إلى متحركاتها، ونسبة سواكن نصفها إلى متحركاتها كنسبة سواكن حروفها كلها إلى متحركاتها كلها.

وهكذا تجد حكم الوافر والكامل؛ فإن كل واحد منها مركَّب من ستة مقاطع، وهي هذه:

مفاعلتن مفاعلتن
متفاعلن متفاعلن

ست مرات، فنسبة سواكن نصف حروفه إلى متحركاته كنسبة حروفه كلها السواكن إلى متحركاته كلها، وعلى هذا المثال يوجد كل بيت من الشعر إذا سلم من الزحف، منصفًا كان أو مربعًا أو مسدسًا، وكذلك حكم الأزمان التي بينها.

وقد وضعت لها دوائر وعلامات لِتُبين ذلك للناظرين فيها والمتأملين لها في كتب العروض، فأستدل بهذه المقدمة على ما وصفتُه لك فنقول:

اعلم أن الوقوف على ما تضمنتْه هذه الصناعة الكلامية والألفاظ المنطقية يكون بها انتباه للنفوس الساهية والأرواح اللاهية الغريقة في بحر الهيولى وأسْر الطبيعة وقيد الألف والعادة.

ومن أمثال ذلك أيضًا صناعة الكتابة التي هي أشْرَف الصناعات، وبها يفتخر الوزراء وأهل الأدب في مجالس الملوك والرؤساء، مع كثرة أنواعها وفنون فروعها، وما اختلف فيه الأمم من اللغات وأشكال الكتابات وفنون التأليفات مثل ما لأهل الهند، وهي الحروف التي أُخرجت مع آدم عليه السلام من الجنة، وبها يعرف أسماء جميع الموجودات.

وأما كون عدد حروفها تسعة، حسب ما بيَّنا ورسمنا قبل هذا، وذلك لمناسبة الأفلاك التسعة الحاوية لجميع الموجودات بأسرها، ثم تفرعت بعد ذلك واختص بها أهل الهند دون سواهم من الأمم؛ لأن آدم عليه السلام كان هناك لمَّا هبط من الجنة.

والسريانية لغة ولها حروف وكتابة وصناعة ونسبة تجتمع عليها الحروف، ولها أسماء تختص بها موافِقة للغتهم، وهكذا أيضًا للرومية لغةٌ وكتابة أخرى بشكل موافق لكلامهم ولسانهم، وهكذا لليونانيين ولأهل فارس وغيرهم من الأمم أجناسٌ من اللغات وفنون من العبارات، ولكن أصل الحروف كلها في أي لغة كانت وبأي نقش صوِّرت، وإن كثرت وتنوعت، هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيط الدائرة، كما ذكرنا قبلًا.

وأما سائر الحروف، فمركَّبة منها، ولو تأملتَ عند انفكاك الحروف العربية وجدتَ بعضها خطًّا مستقيمًا كالألف، وبعضها مدوَّرًا كالقاف والميم، وبعضها مقوسًا كالحاء والخاء، وعلى هذا المثال توجد كتابات سائر الأمم الذين ذكرناهم وغيرهم ممن لم نذكرهم، وقد استغنينا بذكر الأصل والمشهور المعروف عند الجمهور عن ذكر مَن سواهم لطول الشرح.

فصل

ثم اعلم أن صناعة الكتابة ذات طرفين: طرف كأنه البداية وطرف كأنه النهاية؛ فالطرف الأول هو الكلام والنطق بالحروف التسعة التي يستعملها أهل الهند إلى وقتنا هذا، والطرف الآخر الذي هو النهاية، فهي الحروف الثمانية والعشرون التي هي حروف اللغة العربية، وما سوى ذلك فهو بين هذين الطرفين.

وإنما مَثل الحروف كمثل شجرة نبتت وتفرعت وتفرقت فروعها وكثرت أوراقها وثمارها وتقسمها الأقوام، فأخذ كل قوم بحسب ما اتفق لهم في أصول مواليدهم، وبحسب اجتهاد رئيسهم وما أعمل فيه فكرته وأنتجته قريحته وأوجبته رؤيته، بتأييد ربه تعالى وإلهامه، فيأخذ صور هذه الحروف فيلقي عليها أسماءً مِن ذاته، فإن كان حكيمًا فبتأييد الله له وإلهامه، وإن كان نبيًّا مرسلًا كان بوحي الله إليه وكلامِه من وراء حجابِ عظمتِه، أو بوحيه على ألسنة ملائكته، ويقيدها بصورة أخرى من الكتابة، وينطق بلغة أخرى غير اللغة الأولى، وينسخ الأسماء من اللغة الأولى إلى اللغة الثانية.

فإذا تم ذلك له ونطق به وأكمل الصناعة النطقية وقيدها بحروف الكتابة، وضم الأشكال إلى أشكالها والخطوط إلى أمثالها، ثم عرفها أقرب الناس إليه وأكرمهم لديه، فيصطلح عليها هو وأهل بيته وعشيرته، ثم أهل مدينته، وبعد ذلك أهل بقعته، ثم أهل إقليمه، ثم تنتشر في العالم وينشأ عليها الصغير ويأنس بها الكبير من تلك الأمة، وينقل الشريعة والملة من اللغة الأولى إلى الثانية، ويجدد الأحكام والأوامر والنواهي والصلاة وأحكام الشريعة إلى تلك اللغة التي نطق بها والأمة التي أرسل إليها.

وكل حكيم من الحكماء أو ملك من الملوك إذا أراد نقل علم أو حكمة أو دين أو شريعة من لغة إلى لغة أو من أمة إلى أمة، فإنه يتهيأ ذلك له بتوفيق الله تعالى وموجب مولده وسعادته، حتى يتمكن من ذلك ويَقْدر عليه، مثل ما فعل سليمان عليه السلام لما آتاه الله الملك وجعل له القوة والقدرة كيف نقل العلوم والحكمة من جميع اللغات، حين قهر ملوكها وذلل رؤساءها، إلى اللغة العبرانية.

وكذلك فعل ملك الروم، فإنه لما غلب اليونان وقهرهم نقل علومهم وحِكَمهم من اللغة اليونانية إلى اللغة الرومية.

وكذلك فعل ملوك يونان بمن غلبوا عليهم؛ فلذلك اختلفت اللغات وتباينت الآراء والديانات، وكان ذلك لعلل وأسباب يطول شرحها، وكل ذلك بأمور فلكية وأحكام سماوية ومشيئة إلهية، ذلك تقدير العزيز العليم.

فصل

ثم اعلم أن لكل أهل ملة وشريعة كتابًا بأمر ونهي وحلال وحرام، وقضايا وأحكام وصناعة من الكلام والكتابة والألحان والنغمات، وفيهم مَن هو عارف بكلية ذلك، ومنهم دونه في المعرفة، ومنهم مَن قد عدم صناعة الكتابة إلا أنه عارف بالأسماء والمسميات، وينطق بحروف الأسماء ولا يعرف صورها ولا يحسن أن يخطها بيده، ولا أن يؤلف بينها بنظره ويأخذ جميع ما يلقى إليه تلقينًا، وربما تجده جيد الخط قليل المعرفة ولا يُحسن سوى الخط المسطور من غير تصوُّر ويكون منفعة ذلك لغيره لا له.

ومنهم من يكون جيد المعرفة قليل النسيان، فغرضه أن يعرف الأشياء التي يحتاج إليها مخافة أن ينساها، ويستظهر منها ما تدعو حاجته إليه، وكذلك كان آدم عليه السلام في البداية بهذه الصفة؛ يحفظ أسماء الحروف ويتكلم باللفظ وينطق بالمعنى ويدل عليه، ولم يخطَّ بيده بقلم ما شاء الله، بقي على ذلك إلى أن أظهر الله تعالى صناعة الكتابة، في الوقت الذي قدَّره والزمان الذي يسَّره، والخلق لا تدري بصناعة الكتابة لطفًا منه بخلقه ورأفة بعباده.

واعلم بأن لهم من الحاجة إلى ذلك ما لا غنَى عنه ولا بُدَّ لهم منه، فصار يحدث في وقت كل قران وبموجب كل زمان نوع من أنواع الكتابات، وجنس من أجناس اللغات والخطوط والعبارات، ويحدث في ذلك من كل أمة وكل لغة أنواع الكلام والنظم والألحان والنغمات، وأشياء كثيرة لا يحصيها إلا الله عز وجل.

ثم اعلم أنه قيل إن أول من نطق باللغة العربية كان يعرب بن سام، ثم لم تزل تتسع مع الزمان وتتزايد على كثرة العرب وانتشارهم في الأرض، بحسب اتفاقات تقع لهم في مواليدهم وبقاعهم وأمزجتهم وطباعهم وأبدانهم وأهويتهم، حتى صارت أنواعًا كثيرة، وصار لكل قبيلة من قبائل العرب لغة يُعرفون بها وكلام يُنسب إليهم، ويتميزون به عن غيرهم، واختلفوا في أسماء الأشياء حتى صار الشيء الواحد من الموجودات له في لغة العرب أسماءٌ كثيرة يُعرف بها ويشار إليه بها كلها؛ ولذلك صار علم اللغة العربية من العلوم الكبار، وصار الناس من الحاجة إليه بحيث لا يسعهم ترْكه، بل يجب عليهم علمه ولا ينبغي الجهل بشيء منه، وذلك من حكمة البارئ تعالى أنه خلق الموجودات وألقى عليها الأسماء والصفات، وجعل لها في كل طائفة وفي كل لغة أسماءً تعرف بها ويشار بها إليها، خلاف ما في لغة أخرى.

ولو تأملتَ واعتبرتَ لغات العرب لَرأيتَها من العجائب الطريفة والحكمة الشريفة، فانظر كيف اختلفوا في كثير من كلامهم وما هم محتاجون إليه من أسماء مأكولهم ومشروبهم، وقد جمعتهم لغة واحدة وشريعة واحدة، حتى إن القراء اختلفوا في قراءاتهم وتباينوا في رواياتهم.

وكذلك تجد في اللغات غير اللغة العربية أكثر، والأمر فيها أصعب، وعلى هذا المثال في الآراء والديانات أيضًا، حتى إن كثيرًا من العرب الذين يسكنون البراري البعيدة من العمران مَن يجري في لغته أسماء كثيرة لا يعرفها من باقي العرب أكثرهم، ولا يعرفها العرب الحاضرة إلا بعد البيان والإيضاح، ويحتاج فيه إلى معرفة اشتقاقاتها حتى تتصور له، ثم يسمَّى ذلك الشيء بذلك الاسم؛ كل ذلك لِعلل وأسباب يطول شرحها.

وكذلك اختلفت المذاهب والآراء والديانات والاعتقادات فيما بين أهل دين واحد؛ لافتراقهم في موضوعاتهم، واختلاف لغاتهم وأهوية بلادهم، وتبايُن مواليدهم وتصوُّر رؤسائهم وعلمائهم وأستاذيهم الذين يختلفون فيما بينهم طلبًا لرياسات الدنيا. وقد قيل في المَثَل «خالِفْ تُذْكَرْ»؛ لأنه لو لم يقع بين رؤساء علمائهم الاختلاف لم تكن لهم رياسة وكانوا شرعًا سواء؛ لأن أكثرهم متفقون في الأصول مختلفون في الفروع.

مثاله أنهم مُقرُّون كلهم بتوحيد الله ووصف الباري تعالى بما يليق به من الصفات، ومقرُّون بالنبي المبعوث إليهم متمسكون بالكتاب المنزل من جهة الرسول المرسل إليهم، مقرُّون بإيجاب الشريعة مختلفون في الروايات عنه والمعاني التي وسائطها رجال أخذوها منه، فرواها كلُّ مَن أخذ بلسانه؛ لأن النبي — صلى الله عليه وآله — من معجزاته وفضله أنه كان يخاطِب كل قوم بما يفهمون به، بحسب ما هم عليه من حيث هم، وبحسب ما يتصورونه في نفوسهم وتدركه عقولهم؛ فلذلك اختلفت الروايات وكثرت مذاهب الديانات، واختلفوا في خليفة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك من أكبر أسباب الخلاف في الأمة إلى حيث انتهينا.

وأيضًا فإن أصحاب الجدل والمناظرات ومَن يطلب المنافسة في الرياسة اخترعوا من أنفسهم في الديانات والشرائع أشياء كثيرة لم يأتِ بها الرسول عليه السلام وما أمر بها، وابتدعوها وقالوا للعوام من الناس هذه سنة الرسول عليه السلام وسيرته، وحسَّنوا ذلك لأنفسهم حتى ظنوا أن ما قد ابتدعوه حقيقة، وأن النبي عليه السلام أَمَرَ به، وأحدثوا في الأحكام والقضايا أشياء كثيرة بآرائهم وقياسهم، وعدلوا بذلك عن كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه السلام، واستكبروا عن أهل الذكر الذين بيْنهم، وقد أمروا أن يسألوهم عما أشكل عليهم، وظنوا بسخافة عقولهم أن الله قد ترك أمر الشريعة وفرائض الديانة ناقصة حتى يحتاج هؤلاء إلى أن يبيِّنوه بآرائهم الفاسدة وقياساتهم الكاذبة واجتهادهم الباطل، ويخترعوه ويبتدعوه من ذواتهم، وكيف يكون ذلك وهو يقول تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، وقال: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ؟! وإنما فعلوا ذلك طلبًا للرياسة كما بيَّنا آنفًا، وأوقعوا الخلاف والمنازعة في الأمة، فهُم يهدمون الشريعة ويوهمون مَن لا يعلم أنهم ينصرونها.

وبهذه الأسباب تفرقت الأمة وتحزبت ووقعت بينها العداوة والبغضاء أبدًا، وصاروا إلى الفتن والحروب، واستحل بعضهم دماء بعض، فإن اتعظ بعضُ مَن يعرف الحق من العلماء وخاطب رؤساءهم في ذلك وخوَّفهم وأرهبهم من عذابه، عدلوا إلى العوام وقالوا لهم هذا فلان، ويغرون به العوام وينسبون إليه من القول ما لم تأتِ به شريعة ولا قاله عاقل، ولا يتمكن ذلك العالم أن يبين للعوام كيف جرى الأمر في الشريعة، وينبههم على فساد ما هم عليه لما قد غلب عليهم من العصبية التي ألفوها ونشئوا عليها وأخذها خلف عن سلف.

ولما رأى رؤساؤهم ذلك وأن العلماء قد اشمئزوا من العوام، وجعلوا ذلك سوقًا لهم عندهم، وأوهموهم أن ذلك انقطاع منهم عن الحجة والقيام بإيرادها، وأن سكوتهم وتخفِّيهم إنما هو لبطلان ما معهم، وأن الحق ما هو إلا ما اجتمعنا عليه نحن الآن، فلا يزال ذلك دأبهم، والرؤساء الجهال فيهم يتزايدون في كل يوم، واختلافهم يزيد، واحتجاجاتهم ومناظراتهم تكثر، وجدالهم ينتشر، حتى ينسخوا أحكام الشريعة ويغيروا كتاب الله بتفسيرهم له بخلاف ما هو به كما قال: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وفي أصل أمرهم قد حولوا الشريعة من حيث لا يشعرون وأوَّلوا أخبار النبي عليه السلام بتأويلات اخترعوها من تلقاء نفوسهم ما أنزل الله بها من سلطان، وقلبوا المعاني وتكلموا بها على ما يريدون مما يقوي رياستهم، ويقبح أهل العلم عند العوام، وذلك دأبهم يتوارثونه ابن عن أب وخلف عن سلف وكابر عن كابر، إلى أن يشاء الله إهلاكهم ويقضي بانقراضهم وفنائهم. ولم يزل هؤلاء الذين هم رؤساء العوام أعداءً للحق في كل بلد وقرية، فكم نبي قتلوه، ووصيٍّ جحدوه، وعالم شردوه! وهم بأفعالهم كانوا السبب في نسخ الشرائع وتجديدها في سالف الدهور، إلى أن يتم ما وعد الله تعالى بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ، والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ.

فهذه العلة هي السبب في اختلاف الآراء والمذاهب، وإذا كان كذلك يجب على طالب الحق والراغب في النجاة أن يطلب ما يقرِّبه إلى ربه ويخلصه من بحر الاختلاف والخروج من سجون أهل الخلاف. وما الذي ينبغي له أن يعمل حتى يتخلص من هذه الورطة، وينتبه من هذه الرقدة، ويستيقظ من هذه الغفلة، وينظر في أيام حياته قبل دنو وفاته؟! فإن الأمل مدة ممدودة، وللأعمال أيام معدودة وآجال محدودة، وإنما خُلق الإنسان في الدنيا ليكون متوجهًا إلى ربه تعالى، مستعدًّا لمقابلته بعمله؛ لأنه ينفذ من غير أن يستأذن، فإن كان معه زاد وجده كما قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ فإنه الزاد، وإن لم يكن معه زاد كان ممَّن يقول: يا ليتنا نُرَدُّ فنعمل غيرَ الذي كُنَّا نعمل، والله تعالى يقول: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، ووبخ قومًا فقال لهم: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؛ أي صفرًا من الزاد، وقال: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، وقال تعالى: وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ، وآيات كثيرة في القرآن تدل على أن الديانات والشرائع ووظائف العبادات إنما جعلها الله طرقات ومسالك يسلكها العبد إلى رحمة خالقه، ويمشي القاصد بها طالبًا لِجنَّته والقرار بجواره.

وإن غفل عن مصالحه وأعرض عن مقاصده وترك طريق الحق وأهله والدين الذي لا اختلاف فيه، وانضم إلى أهل الخلاف والشقاق وإلى طالبي الرياسة من العوام، واستحسن نسق الكلام وزخرف القول ممن يريد العلو والرياسة في دين الله تعالى تشبهًا برسوله الذي أرسله ونبيه الذي بعثه، وهو يوهم الناس أنه ركن من أركان الدين والشريعة، وأنه برأيه وقياسه واجتهاده قد أقام معوجَّها وأبان معجمها، نعوذ بالله من الميل والانضمام إلى هؤلاء، كان ذلك سبب بواره وهلاكه وبُعده عن جوار الله وقربه وقرن بالشياطين أعداء الله كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، فهكذا يكون حاله مع عالمه وغيره، تراه جميع العوام حاله شقية، وكلامه وتهذيبه وألفاظه بعيدة من حيث لا يشعر؛ لأنه إذا حلل بقوله وحرم برأيه فقد عبده كما قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، فعليك أيها الأخ بأهل العلم ومواظبة الذين هم أهل الذكر من أهل بيت النبوة المنصوبين لنجاة الخلق، فقد قيل: استعينوا في كل صنعة بأهلها.

ثم اعلم بأن أهل الذكر في بعض الوجوه هو العقل الذي يذكِّر النفس ما غاب عنها من أمر عالمها الروحاني ومحلها النوراني، ويحرضها على المتاجر الرابحة ويحثها على الأعمال الصالحة، وأن النفس متى عدلت عنه وخالفته وتركت وصية ربها وما أمر مولاها، وأقبلت على الطبيعة ومالت إلى استحسانها وطلب الرياسة والعلو والتعصب والتعدي، أصابها مثل ما أصاب المُقعَد والأعمى اللذين خالفا وصية صاحب البستان.

حكاية: ذكر فيما يروي من الأمثال أنه ببلاد الهند رجلان أعمى ومقعد اصطحبا في طريق، فعبرا بستانًا فمالا إليه فرآهما صاحب البستان وشاهد فقرهما ومسكنتهما فرحمهما، وقال لهما: ما تقولان في أن أُدخلكما بستاني هذا فتأويا إليه، وتتناولا منه بحسب الحاجة ما يكفيكما مما آتيكما؛ فلا تولعا بالثمار فتفسداها. فقالا: وكيف نؤذيك في بستانك ونحن على ما ترى من الزمانة وسوء الحال؛ أحدنا أعمى والآخر مقعد؟! وأي حيلة لنا في تناول شيء من الثمار وهي على رءوس الأشجار؟! فقال صاحب البستان لهما: ادخلا ذلك المكان وتبوآ مكانًا منه. وأوصى بهما الناطور الموكل بالبستان، وقال له: احفظهما وأحسِن إليهما وأْتِهِما من ثمرة هذا البستان ما يكون فيه صلاح شأنهما. فقال: سمعًا وطاعة. ومضى صاحب البستان لشأنه وأقاما على ذلك مدة والناطور يتعهدهما بما فيه كفاية لهما، وأينعت الثمار وكثرت وحسنت، فقال المُقْعَد يومًا للأعمى: ويحك إنك صحيح الرجلين، وإن في هذه الأشجار التي في هذا البستان أنواعًا من الثمرات وأجناسًا من الطيبات، وهذا الناطور لا يحمل إلينا من هذا الجيد شيئًا، فما الحيلة في تناول ذلك؟ فقال الأعمى: قد شوَّقتني إلى ما ذكرتَ، وإنك ترى وتُعاين من هذه الطيبات وأصناف الثمرات، فما الحيلة في ذلك؟ فلم يزالا يفكران ويعملان الروية أن قال المُقْعَد للأعمى: ويحك أنا صحيح العين أرى ما غاب عنك، فاحملني على كتفك لأطوف بك في البستان، فكلما رأيت ثمرة مليحة طيبة قلتُ لك قدمني يمنة ويسرة وتطاول وتقاصر فأقطفها لك، فآكل منها وأطعمك، وما اعتذر وصول يدي إليه أضربه بعصاك إلى أن يقع، فتشيله بيدك أنت، وليكن ذلك إذا غفل الناطور.

فقال الأعمى: نِعم ما رأيت، وأنا أفعل ذلك غدًا. فلما كان الغد ذهب الناطور في حوائجه وأغلق باب البستان، فركب المُقْعَد عنق الأعمى وطاف به البستان، فأفسدا فيه ذلك اليوم ما قدرا عليه ووصل المُقْعَد إليه، ثم رجعا إلى موضعهما ورقدا، فلما جاء الناطور لم يَخْفَ عليه ما حدث في البستان من فساد الثمار وما كان غير عليه منها في أشجار معلومة أراد قطافها ليهديها إلى بعض رؤساء الناحية فلم يجده على الشجرة، فجاء إليهما وسألهما: هل دخل ذلك البستان أحد في غيبتي؟ فقالا له: ما ندري. فقال الأعمى: ترى حالي إني لا أبصر. وقال المُقْعَد: وأنا كنت نائمًا. فصدقهما الناطور، فلما كان الغد خرج الناطور على الرسم، فقاما وفعلا أقبح من فعلهما الأول، وعاد الناطور ورأى الفساد قد تضاعف عما كان بالأمس، فخاف الملامة من صاحب البستان، وأنه يقول: لعلك تبيع ثماري أوْ لست تحفظها. فقال: كيف أعمل حتى أَعلم من الذي يصيب هذا البستان ومن يفعل ذلك في البستان؟ فلما كان من الغد أوهمهما أنه قد خرج لعادته، واستتر ببعض حيطان البستان، فقاما إلى ما قد عولا عليه من الفساد وارتكاب المحظور، فلما رآهما الناطور علم أن الفساد من جهتهما، وكان رجلًا حليمًا رحيمًا لطيفًا، فتركهما حين رأى ما يعملانه وقبيح ما يصنعانه إلى أن عادا إلى مكانهما، فأقبل عليهما وقال لهما: ويحكما! ما الذي استحق به صاحب البستان ما فعلتماه من هذا العبث والفساد في البستان؟! فبُهِتَا، فقال الناطور: إني نظرت إليكما وقد قمتَ أيها المُقْعَد في كتف عنق الأعمى ومشى بك تحت الشجرة، فما وصلتَ إليه أخذتَه بيدك، وما لم تصل إليه ضربته بعصاك. فلما سمعا منه ذلك تحقق كلاهما أنه قد رآهما، فقالا له: قد فعلنا ذلك فلا تخبر به صاحب البستان، فإنا نتوب على يديك ولا نعاود. فقَبِل منهما وأقبل الناطور يعظهما وقال: أنا آتيكما بكل ما تريدان من الثمار والفواكه من حيث لا أضر ببستان صاحبي ولا أضر به ولا أرتكب ما نهي عنه لئلا تأكلا إلا من حلة.

فقالا: سمعًا وطاعة. وتركاه حتى غاب الناطور وعادا إلى ما كانا عليه بل أقبح، فرجع الناطور ورأى أثر فسادهما، فأعاد عليهما النصيحة ووعظهما وخوفهما بالله تعالى، فلم يقبلا وارتكبا ما نهاهما عنه، فاتفق دخول صاحب البستان إليه ذلك اليوم، فلم يجد الناطور بدًّا من إعلامه بما كان من أمر الأعمى والمُقْعَد، فقال صاحب البستان: قد كنت أقدر أن يركب المُقْعَد ظهر الأعمى ويطوف به في البستان فيفسدا علي المعيشة.

فقال له الناطور: هكذا عملا وقد نهيتهما فما انتهيا. فقال صاحب البستان: إنهما قد استحقا العقوبة بما فعلا من قبيح ما ارتكباه. ثم أمر عبيده وأعوانه أن يعاقِبوا المُقْعَد والأعمى أشد العقوبة، وأن يخرجوهما من البستان إلى برية لا يجدان فيها معتَصَمًا ولا ملجأً حتى يأكلهما الوحش ويهلكهما الجوع والعطش، ففُعل بهما ذلك وأُخرجا من البستان ورُمي بهما في البرية كما فُعل بآدم وحواء عليهما السلام لما ذاقا الشجرة.

تفسيره؛ فاعلم أيها الأخ أنه إذا ضربت حكماء الهند هذا المثل فما ذلك إلا لأنهم شبهوا النفس بالمُقْعَد؛ وذلك لأنها لا تبطش إلا بالآلة الجسدانية، وبهذه الآلة تتمكن من الطاعة والمعصية. وشبهوا الجسد بالأعمى؛ وذلك أنه ينقاد حيث ما تقوده النفس ويأتمر لما تأمره به. وشبهوا البستانَ بدارِ الدنيا، والثمارَ بطيباتِ الدنيا من الشهوات، وصاحب البستان هو الله تعالى، وشبهوا الناطور بالعقل الذي هو يدل على المنافع ويأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والعدوان، وهو ينصح النفس ويدلها على ما يكون لها به من الصلاح والسلامة في الدين والدنيا جميعًا وأخذ الأشياء من حيث يجب. فإذا لم تقبل النفس منه وعدلت إلى الشهوات الجسمانية والمحاسن الطبيعية والملاذ الجرمانية التي يكون بها صلاح الجسم وحسن حاله في الدنيا، فبذلك تكون إماتتها وخسران آخرتها، وتحيط بها سيئات ما عملت في البستان وقبائح ما اكتسبته في الدنيا، وتكون مِن تناول الشهوات غافلة عن مصلحتها متردية في ضلالتها، حتى تأتيها ملائكة الله الغلاظ الشداد وزبانيته وجنوده وتخرجها من دار الدنيا بالكره والإجبار، فعند ذلك تقدم على ما عملت من سوء، ومن قبائح ما اكتسبته من سوء آدابها، وقد خسرت الدنيا والآخرة؛ ذلك هو الخسران المبين. وعند نزع النفس يأتيها الخبر، وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون.

فاحذر أيها الأخ ألا تغترَّ بهذه الدنيا، ولا بمصاحبة الجسد الفاني المضمحل المتغير الفاسد، وإنما هي أيام يسيرة ولذة حقيرة ومدة قصيرة، واعدل إلى الحق والعقل؛ فإنهما يؤديانك إلى ربك، ويدلانك على الأعمال الصالحة التي يكون لك بها الدرجة العليا، والوصول إلى الجنة المأوى في مقام الكرام؛ حيث لا تحتاج إلى جسدك الفاني، ولا تذوق الموت، ولا يصل إليك الألم، ولا يُجديك السقم، ولا تُبتلى بمفارقة الأحباب وبمباينة الأصحاب، ولا يلحقك غم الفقر ولا ذل القهر ولا ضيق القبر ولا كرب الاشتياق، وتكون في حظيرة القدس وروضة الأنس، أمنًا من المصائب والنكبات وحوادث الزمان، ولا ترى إلا ما تحب وتُؤْثر، وتأمن من النوائب الزمانية، وما يدفع إليه أهل الدنيا من الكَدَر والنَّصَب والتعب والعَنَاء والجوع والسغب، ونكد الزمان وجور السلطان وحسد الحيوان، وما هو موجود بين أهل الديانات والمقالات من العدوات والمباغضات والملاعنات، وما يستحلُّ بعضهم من بعض من سفك الدماء وأخْذ الأموال وهتك الحُرُم.

فإذا تأملت في أمور الدنيا وجدتها كدار قد مُلئت أجناس حيوانات تعادي بعضها بعضًا عداوة طبيعية مركوزة في الجبلة، كعداوة البوم والغربان وعداوة الكلب والسنانير وهي تهر بعضها على بعض وتحسد بعضها بعضًا كغلبة السباع والكلاب، وكما يفعل الملوك والسلاطين لمن دونهم إذا غَلبوا عليهم وأخذوا أموالهم، وكما تفعل الكلاب بالسنانير التي تخالفها في الصورة إذا وصلت إليها وقَدَرت عليها؛ حسدًا لها على ما تأكله من دور الناس، ومن الدعة والرفاهة التي هي فيها، ومحبة الناس لها وإكرامهم إياها.

فهكذا أمور الدنيا وأهلِها؛ الأشرارُ أعداءُ الأخيارِ والفقراءُ أعداءُ الأغنياءِ؛ يتمنون لهم المصائب، وإذا قدموا على شيء من أموالهم أخذوه ونهبوه. وكذلك أهل الشرائع المختلفة يقتل بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا، كما يفعل النواصب والروافض والجبرية والقدرية والخوارج والأشاعرة وغير ذلك، وكذلك في الملة العبرانية مثل العينية والسمعية، وفي الملة السريانية كالنسطورية واليعقوبية وما بينهما من الخلاف، وكذلك في الملة الصابئية، وكذلك تجد المختلفين في اللغات؛ يستوحش بعضهم من بعض، ويثقل على كل واحد منهم ما لم يألفه من لغة، وهذا لا يخفى على من تَأمَّلَه وتَفكَّرَ فيه.

ثم اعلم أنه لا يُصْلح بين أهل الديانات ولا يُؤَلِّف بين المتعاديات ولا تُزِيل من النفوس العداوات والأحقاد الطبيعية إلا المعرفةُ بالحق الذي يجمعهم على كلمة التقوى، ويدعوهم إلى سبيل الله تعالى كما قال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا، وقال تعالى لرسوله عليه السلام: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، وقال تعالى: إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ، وقال تعالى: يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ، وقال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فمن رأى نفسه معاديةً لِطائفةٍ من الطوائف حنق عليها، فهو لا يزدرع الحق في قلبه، ولم تخالط الهداية لبَّه.

(١٨) فصل في أن الدين والشريعة هما من الله

ثم اعلم أن الدين والشريعة في أزمان النبي المبعوث عليه السلام إلى قومه هما من الله تعالى، ولا يكون فيهما اختلاف ولا تباغُض ولا عداوة، ويكون رأْي المؤمنين في زمانه رأيًا واحدًا، وتكون محبة بعضهم لبعض خالصة لا تشوبها كدورة، ويكونون مطمئنين مساعدين على إقامة الدنيا ومجاهَدة الكافرين. وإنما مجاهدتهم الكفار لا لعداوة منهم للكفار، بل ليردوهم إلى الحق ليكون المسلمون فارغي البال من كيدهم ونهبهم، ويقنعوا من الكفار بالجزية إن لم يقبلوا الدِّين؛ لأنهم لا يأمنوهم إن تركوهم ولم يطلبوهم في بعض الأوقات بالجزية، فقد قيل في المثل إن الروم إن لم تُغْزَ غَزَت، فهذا سبب قتالهم الكفار، وإلا فليس لهم رغبة في سفك الدماء وإتلاف النفوس وخراب الديار. وبالرغم منهم يجري ذلك على أبدانهم ضرورة لما أعلمتك؛ لأن ظاهر هذا الفعل من فعل الأشرار الذين لا رأفة لهم ولا رحمة.

ولذلك كان رسول الله — صلى الله عليه وآله — إذا أراد قتال المشركين أرسل إليهم من ينذرهم ويحذرهم ويبيِّن لهم فساد ما هم فيه، ويدعوهم إلى ما معه من الحق، كما أمر الله تعالى بقوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وأمره بالملاطفة، فقال تعالى: وقولوا لهم قولًا سديدًا، وقُل لهم قولًا معروفًا.

وقال لموسى عليه السلام لمَّا أرسله هو وهارون عليهما السلام إلى فرعون: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ففعل النبي عليه السلام ذلك، فلما أبَوْا واستكبروا وقالوا لا نرضى بِدِينك وكانوا من أهل الكتاب، أمرهم على بذل الجزية بعد أن تجري عليهم أحكامنا ويكفُّوا أذيتهم عنا؛ ليكون إذلالًا لهم لئلا يحدثوا أنفسهم بغلبتهم على المؤمنين، ويكون ذلك كالغمغمة والمذلة، فإن أَبَوُا الجزية فعند ذلك أَمَرهم بقتالهم وأَمَر أصحابه ألا يبدءوا حتى يبدءوهم، وإذا ظفروا بهم ألَّا يقتلوا أسيرًا حتى يعرضوا عليه الدين والإسلام، فإن أبى أُلْزِمَ الجزية، فإن أبى قُتل.

وإذا ملكوا دار الكفر ووَضعت الحرب أوزارها، أمرهم ألا يقتلوا شيخًا كبيرًا ولا صبيًّا صغيرًا ولا امرأة، إلا أن يقاتِلوا، ولا راهبًا ولا قسيسًا ولا شماسًا ولا مطرانًا ولا جاثليقًا ولا من يكون من خدم البِيَع والكنائس؛ كل ذلك رأفة بهم ورحمة عليهم.

فمن أبى واستكبر وناصب العداوة أمر بجهاده، فقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ.

ألا ترى أيها الأخ إلى هذه الرأفة! إنه لم يأمره بقتالهم إلا بعد إنذارهم وتذكارهم والملاطفة بهم، وذلك سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلًا كما قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا، وقال: ما مِنْ أُمَّة إلَّا خَلَا فيها نَذِير، وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى.

فما دام هذا الخلاف واقعًا في الآراء والمذاهب، فإن العداوة بينها قائمة، والحرب لا تنطفي نارها؛ لأن كل واحد يقيم الحجة والدليل برأيه وقياسه على صحة مذهبه وبطلان مذهب غيره، ولا يبالي أن يَكذب على الله تعالى ورسوله ويسخطهما لرضى نفسه وتعجيل منفعته.

وكذلك السلطان الذي إذا رأى في أحد رعيته أو بعض سكان مدينته مَن له نعمة حال رغب فيها وحسده عليها، وطلبه عليها الحجج حتى يوقع به ويأخذ ذلك الغرض اليسير الحقير في جنب ما ملكه الله تعالى من ذلك البائس ويجعله فقيرًا مسكينًا متحيرًا مغتمًّا، وربما مد عليه الضرب وطالبه بما ليس في وسعه فقتله.

وكذلك إذا علم أن رجلًا له امرأة نظيفة أو جارية حسنة حسده عليها، ولا يزال يتحيل إلى أن يفسدها عليه، فإن صح له مراده وإلَّا عدل عن إفسادها إلى ادعائها في التزوج، ولا يزال يراسلها في ذلك إلى أن يطرح بينها وبين زوجها الشر ويفرق بينهما ويأخذها لنفسه، كما حُكي عن داود النبي عليه السلام بامرأة أوريا بن حنان كيف قدمه أمام التابوت حتى قتل وتزوج بامرأته.

وأيضًا ذكروا أن تلك المرأة أم سليمان، وكان الأصل في ذلك الهواء والحسد الغالب، ومثل ما فعله حكيم بن هشام — المعروف بأبي جهل — برسول الله وقد علم أنه رسول الله ولكن حمله على فعله الحسد، وودَّ أنه لو كان النبيَّ المبعوثَ. كذلك أبو لهب وجماعة من قريش وبني عبد المطلب الذين خالفوا رسول الله وناصبوه العداوة والبغضاء.

وهكذا جرت أحوال الأمم السالفة في الأيام الخالية والأدوار الماضية، ولم تزل الأمم على هذه الصفة التي ذكرنا.

فصل

ثم اعلم أن الاختلاف ينقسم قسمين: محمود ومذموم؛ فالمحمود منه كاختلاف القراء وما جرى مجراه من اختلاف الفقهاء في رواياتهم، إذا لم يختلفوا في المعاني ولم يزِيلوا الألفاظ من مواضعها ولم يبدلوها تبديلًا مع اعتمادهم على صدق المخبر بيَّن لهم بأن ذلك من صاحب الشريعة.

وإذا صح لهم ذلك كان اختلافهم منفعة؛ لأن في العرب من يخالف بعضها بعضًا في كثير من اللغة العربية.

وأما الاختلاف المذموم فهو ما كان منه في المذاهب والآراء، فإذا زال الخلاف ظهر دين الإسلام على جميع الأديان، واللغة العربية على جميع اللغات، ويكون الدين واحدًا كما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وإظهار دين النبي على جميع الأديان ولغته على سائر اللغات من أجل أن القرآن أكرم قرآن أنزله الله تعالى وأشرف كتاب أحكمه، وأنه لا يقدر أحد من الأمم — على اختلافهم في لغاتهم — أن يحيله عما هو به من اللغة العربية إلى لغة غيرها؛ لأنه لا يمكن أن ينقل البتة إلى لغة على ما هو به من الاختصار والإيجاز، وهذا لا خفاء به، ولا يكون اجتماع الناس على كلمة واحدة إلا بمجاهدة المجاهدين المحقين لأهل الباطل، وأن يكون الخادمون في الناموس آمرين بالمعروف فاعلين له، والناهون عن المنكر منتهين عنه، الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، وأرجو أن يبلغنا الله ذلك الزمان إنه عليه يسير.

ثم اعلم أنه إنما وقع الخلاف في الشريعة بعد خروج النبي عليه السلام من الدنيا لمَّا تنازعوا فيما بينهم لطلب الرياسة والمنزلة، وكان منهم ما كان إلى أن جرى ما جرى من هتك حرمة النبوة، وقتل آل بيت الرسالة وإهباط الوحي، وما فعله ابن زياد بكربلاء، وما كان من الفتنة التي شملت أهل الشريعة المحمدية والعصبة الهاشمية من قتل بعضهم بعضًا.

فلذلك كثرت الآراء والمذاهب، فقال قوم لم يجرِ ذلك كله إلا بقضاء الله وقدره، ولعمري إن الأمر كما قالوا لكن إنما قصد القائلون بذلك براءة نفوسهم فيما عملوا، فإنهم إنما فعلوا ذلك على ما عَلِمَه ربهم، وأنه إذا علمه فقد أراده، وإذا كان ذلك كذلك فلا ذنب لهم ولا وزر ولا لوم ولا وبال.

فصل

إن هذا الرأي يجرِّئ الإنسان على فعل المعصية وارتكاب الفاحشة، وإنما يستخرج هذا الرأي في الناس أصحاب الكبائر من الذنوب لما علموا أن ذنوبهم إذا ظهرت وانتشرت في العالم، بعد ذهاب أيامهم وانقراض دولهم، يكثر لعنهم وسبهم وشتمهم، فإذا جرى ذلك كان في العالم مَن يحفظ هذا الرأي منهم، فيذب ذلك عنهم، ويقول لمن يسمع هذا منه: «أمسكْ، فإن كل شيء إنما كان بقضاء الله وقدره وحكمه عليهم، وإن ما حكمه الله تعالى لا يقدر أحد على دفعه»، فيكون هذا تسكينًا لما سمع من ذكرهم وأفعالهم وأعمالهم وقبائح ما أتوه من أفعالهم، فوسوسوا لجهال الناس، والنساء خصوصًا، أن ما يفعلونه إنما هو محكوم عليهم به لا يمكنهم دفعه، فجعلوا هذا الاعتقاد مذهبًا، وأقدموا على المعاصي بهذه الحجة، وإن رَدَّ واحد قولهم، قيل له: «أنت كافر قدري»، فيقول إنما قضاء الله تعالى وقدره يمكن أن يحترز منه، ولم يعلموا ما القضاء والقدر، ولم يطلبوا علمه من أهله. ونشأ على ذلك الصغير، واعتاده الكثير، وإلى حيث انتهينا هو مذهب أكثر العوام وبعض من عنده أنه متميز، وإنما ذكرت هذا بحسب ما أوجبه ذكره في هذا الفصل.

ثم اعلم أن أصل العداوة في الدنيا والدين الحسد، كما قال الله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وقال تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، فالحسد يخرب الديار ويوقع الفتن ويورث البغضاء والحقد والغضب والتعدي والظلم والجور وما شاكل ذلك، وهو أيضًا من أكبر الأسباب في اختلاف الآراء والمذاهب، وذلك إذا اتخذ رجل مذهبًا ومالَ الناس إليه ورغبوا فيما عنده، فيراه آخَر من أبناء جنسه فيحسده ويجيل فكره ويعمل رأيه، إلى أن ينحت له من الحجج والكلام ما يفسد به ما أورده، ولا يزال يطعن عليه ويسعى في فساده ويلغط في أصله ووضعه، فهذا يكون سبب الاختلاف، وتكثر المذاهب مع اعتمادهم على صدق صاحب الشريعة الذي أنزل عليه القرآن.

وإذا صح ذلك لهم، كان في اختلافهم منفعة؛ لأن في العرب كثيرًا ممن يخالف بعضهم في كثير من اللغة العربية، وإنما أراد الله تعالى إفهام الكل والإفصاح عما تهم الحاجة إليه من أمر الدين والدنيا.

وكان النبي يجيب السائل من أمته بلغته ويكلفه ويكلمه بلسانه، فأما غيرهم فإنه يكلمهم بكلامهم، وإنما بعث إليهم وأقام فيهم وعلَّمهم وأرشدهم وسهَّل عليهم الألفاظ، وضرب لهم المعاني وأخذهم بالملاطفة حتى فهموا الدين وتعلموا القرآن بلسان فصيح، لا يخطئ فيه ولا يغيره ولا يبدله إذا كان صحيح الحفظ متقن التلقين؛ ولذلك ما يقال في الصلاة وفي الحج من التلبية والإحرام والدعاء والابتهال إلى الله تعالى، يقال فيه ولا يفهم ما سوى ذلك.

ثم اعلم أن مثل الأمة إذا تركت وصية نبيهًا، واختلفت من بعده، واعتمدت على رأيها، وأرادت أن تملِّك عليها ملكًا، وتنصب فيما بينها خليفة بغير معرفة من الرسول ولا وصية منه ولا إرشاد، ورأت في اجتماعها منفعة لها وصلاحًا لأمورها من غير نص ولا إشارة؛ فمَثلها كما يذكر مَثل الغربان والبزاة فيما قيل في أمثال الهند إن الغربان كان عليهم ملك منهم، وكان بهم رحيمًا وإليهم محسنًا، وإن ذلك الغراب مات واختلفوا من جهة مَن يملِّكونه عليهم من بعده، وتحاسدوا وخافوا أن تقع بينهم العداوة.

فقال بعضهم لبعض: تعالوا حتى نجتهد في الرأي ونجمع العلماء وأهل الفضل فينا، ونعقد مجلسًا للمشاورة فيمن يصلح لهذا الأمر، وفيمن ينبغي أن يكون ملكًا علينا. فاجتمعوا وتشاوروا وقالوا: لا نرضى بأحد من أهل الملِك الذي كان فينا؛ مخافة أن يعتقد ويظن أن المُلك إنما ناله وارثًا من أبيه وأقاربه، فيسومنا سوء العذاب، وإذ كنا نحن نتولى إقامة مَن نقيمه كنا نحن أصحاب المنة عليه والإحسان عليه.

قال أحدهم: وإذا كان الأمر على هذا، فعليكم بأهل الورع والدين؛ فإن صاحب الورع والدين لا يكاد يهجم على الأمور الدنيوية ولا يرغب في الدنيا.

فقالوا له: كيف لنا بذلك؟ فقال لهم: طوفوا واطلبوا مَن هذه صفته، فإنكم إن تظفروا به قدموه. وكان بالقرب منهم باز قد كبر وخرف وضعفت قوته عن الصيد، وانحل جسمه وتناثر ريشه من قلة المعيشة، وتعذر القوة، فبَلَغَه خبر الغربان وما أجمعوا عليه، فبرز من وكره إلى حيث ممرهم عليه، وأقبل يكثر التهليل والتسبيح ويظهر التخضع والتورع، فأقبلت الطيور تطير على رأسه فلا يولع بها ولا يمشي إليها، فلما رأته الغربان على تلك الحال ظنوا أنه يفعل ذلك صلاحًا وديانة، فاجتمع بعضهم إلى بعض وقالوا: ما نرى في جماعة الطيور مثل هذا البازي وما هو عليه من الديانة والزهد، فهلموا بنا نولِّه علينا. فأتوا إليه وأخبروه بما عزموا عليه، فانقبض من ذلك وأراهم من نفسه الزهادة فيما عزموا عليه، فلم يزالوا به حتى قَبِل منهم، فصار خليفة فيهم وملكًا عليهم، فقال في نفسه: كنتم تحذرون من البلاء وما أراه إلا وقد وقع بكم!

فلما تمكن منهم وقوي عليهم بما كانوا يأتونه من الرزق ويجعلون له من الأجرة على ذلك، قوي جسمه ونبت ريشه وعادت إليه صحته، أقبل يخرج كل يوم عدة من الغربان فيخرج عيونها ويأكل أدمغتها ويطرح ما سوى ذلك من أجسادها، فأقام فيها مدة، فلما دنت وفاته اعتمد على بعض أبناء جنسه، فملَّكه عليهم، فكان أشد منه وأعظم بلية وأكبر رزية، فقالت الغربان بعضها لبعض: بئس ما صنعنا بأنفسنا وقد أخطأنا. فندموا من حيث لم تنفعهم الندامة، وكان ذلك سبب الخلف والمنازعة.

فتفكرْ أيها الأخ في هذا المثل واعتبر به في أحوال مَن مضى، ولا تغفل هذه الإشارات، وإياك وإظهار المخالفة والعداوة والدخول فيما دخل فيه أهل الخلاف، فتهلك بهلاكهم ويصيبك ما أصاب العقعق؛ حيث وافق الحمام في ذلك الوقت، ونحن نذكر ها هنا ما جرى بينهما.

فصل

يقال إن جماعة من الحمام البري كانت تطير في الهواء لطلب الرعي، فرآها عقعق، وقال في نفسه: ما لي لا أكون معها؟! فلعلها تمضي إلى موضع يكون به معاش. فصار في جملتها وانتهوا إلى موضع أقبح مراح من الأرض، وكان سبق إليه صياد، فنصب شباكه ودفن فخاخه وطرح فيها حبوبًا كثيرة وكمن في موضع لا يُرى، فقال الحمام بعضه إلى بعض: نمضي إلى مكان. وقال بعضها: بل ننزل في هذا الموضع. واختلفت وتنازعت فيما بينها حتى تضاربت وتحاربت ولم تزل ذلك حتى تقطعت إلى تلك الأرض ورأت تلك الحبوب، فأقبلت الجماعة على التقاطها، فأطبق الصياد عليها شباكه، فهبطن فيها جميعًا، فأخذها الصياد وأهلكها عن آخرها وهلك العقعق مع الحمامات جميعًا.

وإياك والمكان الذي تكون فيه المنازعة والخلاف، وإن جرى وأنت فيه فاخرج وابعد عنه. وإياك والظلم والتعدي على من هو دونك؛ فإنك إن فعلت ذلك أصابك ما أصاب الذئب الذي جار على الثعالب وغصبها وأراد قتلها وقطع أرزاقها.

فصل

وقد قيل في أمثال الهند أن ثعالب خرجت في طلب ما تأكل فرأت جملًا ميتًا ففرحت به، وقلن: قد وجدنا ما نعيش به دهرًا، ولكنا نتخوف أن يضرب بعضنا بعضًا، ولن ندع قوينا يغلب ضعيفنا، ويجب أن نؤمِّر علينا في قسمة هذا الرزق مَن هو أقوى منا؛ ليعطي كل واحد منا حقه ويأخذ لنفسه قسمة كالواحد منا. فرضوا بذلك.

فبينما هم كذلك إذ مر بالثعالب ذئب، فقلن: هذا ذئب قد جاءنا وهو قوي أمين، وكان أبوه ملكًا في بعض الأزمان، وكان محسنًا إلينا، وقد عولنا في ذلك عليه، وهو لنا رضي. فخاطبوه في ذلك وعرضوا عليه ما أرادوه، فأجابهم إليه بعد مراودات كثيرة، وقال لهم: ستجدون كما تحبون. وتولى أمرهم وقسَّم في ذلك اليوم بعض ذلك بينهم بالعدل، فلما كان الليل تَفكَّر الذئب في نفسه فقال: إن في قسمة هذا الجمل على هذه الثعالب عجزًا وسخافة رأْي، وما ينبغي لي أن أفعل ذلك لأني ذو قوة وليس لهم قدرة، وهذا رزق ساقه الله إليَّ وخصني به دونهم، فما الذي يدعوني إلى إطعامها إياه؟ والله يقسم لهم غيره وأنا أدخره لنفسي.

فلما كان من الغد أصاب الجوع جماعة الثعالب فاجتمعت عليه، فدفع إليها نصف الجمل فقسمه بينها كما فعل بالأمس، وقال: لا تعُدْن إلى بعد يومكنَّ هذا فلا رزق لَكُنَّ عندي، وإن عاودتنَّ جرى عليكنَّ مني مكروه. فعند ذلك علمت الثعالب أنها وقعت في بلية، فقال بعضها لبعض: إن صاحبنا هذا خبيث فاجر، ونراه يريد ظُلْمنا والتعدي علينا لأنه ذو قوة، وقد علم أنه ليس فينا مَن يقوى عليه، وقد طمع في الفوز بأرزاقنا. وقال بعضهم: لعله أنما حمله على ذلك ما كان فيه من الضر، ولعله إذا شبع منه قسم الباقي علينا، وفي هذا اليوم يشبع؛ فإن جثة الجمل عظيمة، وتلك الساعة يرجع إلى خلق الكرام؛ فقد قيل في المثل لا مروءة لضعيف ولا ضيافة عند جائع، ولا بُدَّ لنا من معاودته ومخاطبته.

فلما كان من الغداة أتاه جماعة الثعالب وقلن: يا أبا جعدة إنا جعلناك أميرًا علينا وواليًا حتى لا يظلم بعضنا بعضًا، ورجونا في فعلنا ذلك عدلك، وفي أول يوم عدلت بيننا في أول ولايتك وأطمعتنا في مروءتك، ثم أتيناك أمس فدفعت إلينا النصف مما دفعت في اليوم الأول، وأتبعته باليأس مما لنا عندك دفعة واحدة، وأغلظت القول علينا فانصرفنا عنك، وقد ظننَّا بك خيرًا، فكنْ عند ظننا بك ولا تقصد ظلمنا ونحن ضعاف وقد أصابنا الجوع الشديد، وقد رزقنا الله تعالى هذا الرزق، فكلْ منه ما يكفيك وأطعمْنا منه وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. فأبى عليها وردها وزاد في الغلظ لها ويأَّسها مِن كل خير لها عنده.

فلما لم تجد حيلة اجتمعن وقلن كيف نعمل في أمر هذا الغادر الجائع، فاجتمعت آراؤهن على أن يرفعن أمرهن إلى الأسد؛ إذ هو أقوى منه وهو ملك السباع كلها، وأن يقصصن عليه قصتهن من أولها إلى آخرها، وجعلن له الجمل جعلًا على إهلاكه، ثم يذهب كل واحد من هذه الثعالب بعد ذلك في طلب رزقه من ربه كما وعد وله الفضل علينا. فاجتمعت على ذلك وحضرت عند الأسد وقصَّت عليه القصة وتظلمت من الذئب، فاغتاظ الأسد منه وأمرها أن تسير بين يديه، فأتوه ووجدوه باركًا على جثة الجمل يأكلها، فقبض الأسد عليه فقطعه قطعة قطعة ومزقه، وردَّ جثة الجمل على الثعالب وخلَّى بينه وبينهن؛ ولذلك قيل ما من طامة إلا وفوقها طامة.

فصل في أن السلطان الجائر قصير العمر

ثم اعلم أن السلطان الجائر قصير العمر؛ لأن الله قاصم كل جبار عنيد، ومُهلك كل مارد ومعتد، وهو منصف المظلوم من الظالم، فإنه — جلت قدرته — يقول في بعض الكتب المنزلة: أيها السلطان إنما جعلتك خليفتي في أرضي، وألقيت عليك اسمًا من أسمائي، وملَّكتك رقاب عبادي، وبسطت يديك في بلادي؛ لتنصف المظلوم من الظالم، فإذا كنت أنت الظالم وتعديت على الضعفاء من خلقي والمساكين من عبادي، وصرت أنت الظالم وهم المظلومون، فأنا ملك الملوك وسلطان السلاطين، وأنا آخذ الحق منك، ثم آذَنُ للمهلكين في إهلاكك وتخليدك في العذاب الأليم.

ثم اعلم أنك إن أقبلت على شهوات الدنيا وملاذِّها، واغتررت بما فيها من الطيبات ومحاسن المرئيات، واشتغلت بها عما لك فيه صلاح ونجاح في دار المعاد؛ يوشك أن يؤتيك ما أصاب رجلًا اجتاز في طريق كان يسلكه في نهر جرار ينحدر من جبال وعليه جسر يعبر عليه الناس.

وإنه لما صار على ظهر الجسر وقف ينظر إلى جريان الماء، فبينا هو كذلك إذ نظر إلى سمكة كبيرة من أحسن أجناس السمك، فقال في نفسه: ما أنصرف في يومي هذا إلى بيتي بأحسن من هذه السمكة فأشويها وأجمع عليها أهلي وأولادي وآكل منها أكلة طيبة، ولكن أخشى من جريان الماء أن يَحُول بيني وبين السمكة. ثم قويت شهوته ورام مقام السمكة بحيث يراها، وقويت طبيعته في أخذها، فنزع ثيابه ورمى بنفسه وغاص وراءها إلى أن قبض على السمكة بإحدى يديه، وفرح بظفره بها واشتغل عن السباحة مخافة أن تفلت السمكة منه، فغلبه الماء لشدة جريانه فزحزحه عن الموضع الذي نزل منه وأشرف على الهلكة، وشح على السمكة أن يفلتها وينجو بنفسه، فلم يزل ذلك حاله وهو يروم الخلاص بنفسه مع السمكة، حتى حدره الماء إلى جرف عظيم ينصب إلى وهدة تحت الأرض فغاص به، فأتاه عامر النهر وكان يسكن ذلك الموضع، فقال: ما تفعل في هذا المكان الذي لا يقع فيه أحد إلا غرق وهلك؟

فقال: أنا الذي تركت الطريق الواضح والمحجة اللائحة التي فيها النجاة والسلامة ووقعت في هذه المهلكة من أجل لذة يسيرة وشهوة حقيرة. فقال له: هلا خليت ما في يدك ونجوت بنفسك؟ فقال: الطمع مني في السلامة والفوز بما كنت حدثت به نفسي. فقال: إنك جاهل وما أرى أحدًا أولى منك بالغرق. فوضع يده على رأسه فغرقه. فإذا تفكرت يا أخي في هذه الأمثال والإشارات، وقرأت على إخواننا — أيدهم الله — كان ذلك ذكرى لك وقومك، ونعوذ بالله أن تكون ممن تنطبق عليه هذه القصة ولا أحد من إخواننا، ولكن اتباعًا لقول الله تعالى حيث يقول لرسوله: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ.

فصل

وقد حُكي أن بعض ملوك الهند لما دنت وفاته، وكان مسلمًا، قد أحضر ولدًا له قد كان أهلًا للمُلك بعده، ولم يكن له ولد سواه، وقد علمه شيئًا من الحكمة وعرَّفه شيئًا من سياسة الملك.

فقال له:

يا بني أوصيك بتقوى الله وطاعته وخشيته ومراقبته في أمر دنياك بعشر خصال تنتفع بها في الآخرة: أولها وأَولاها الإقرار بالتوحيد والابتهال إليه بالدعاء والتضرع بالليل والنهار. والثانية الإقرار برسله وتصديقهم والقبول منهم. والثالثة التصديق بالكتب المنزلة من عنده عليهم. والرابعة حفظ الناموس وسياسة الناس. والخامسة التواضع لله وترك الفخر. والسادسة ترك الظلم والجور؛ فإن مَن ظلم عباد الله كان الله تعالى خصمه، ومَن كان الله خصمه فهو مخذول لا محالة. والسابعة ترْك مخالطة النساء والاجتماع معهن والإصغاء إلى قولهن؛ فإنها تفسد عقول الرجال إذا أصغوا إليهن. والثامنة ترك شرب المسكر؛ فإنه عدو العقل، والعقلُ خليفة الله الباطن؛ فمن سلَّط على خليفة الله عدوَّه دمَّره الله وذهب عقله بدخول عدوه عليه، فإذا ذهب العقل فلا دين ولا علم ولا مروءة ولا حياء ولا مراقبة، ومَن عدم هذه الخصال كان موته صلاحًا عامًّا. والتاسعة الكرم والسخاء وسماحة النفس والتفضل على سائر الناس صديق أم عدو؛ فإنه خُلُق يشرف صاحبه. والعاشرة صدق القول وأداء الأمانة إلى البَر والفاجر.

وعليك يا بني بعشر خصال أخرى تنفعك في دنياك وترى بها الخير والبر والبركة وزيادة الرزق: أولها حسن الخلق. وثانيها حسن الأدب. وثالثها صدق الوعد والوفاء بالعهد. ورابعها العفو عند القدرة. وخامسها اصطناع الرجال وترك الحسد. وسادسها أن تحرص على ألا يكون لك عدو، وإن كان لك عدو فيكون إحسانُك إليه عقوبتَك له؛ فإن الله يكفيك مئونته ويمكِّنك من ناصيته. وسابعها ترك التفريط فيما لديك من وديعة الله عندك، وألا تفعل إلا ما يقربك إليه. وثامنها أن تكون مروءتك غالبة لشهواتك. وتاسعها ألا تؤْثر دنياك على آخرتك؛ فإن الله سبحانه إذا علم منك ذلك آتاك الدنيا؛ فإنه يقال إن الله عز وجل أوحى إلى الدنيا: يا دنيا مَن خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه. وعاشرها ترك النظر فيما لا يعنيك، وألا تشتغل إلا بما يشغلك الله تعالى به.

وعليك يا بني بعشر خصال أخرى يصلح الله تعالى بها ملكك ويثبت بها سلطانك: أولها أن تكون متفقدًا لأهل مملكتك حتى لا يغيب عنك شيء من أمور صغيرهم وكبيرهم، بل يكون علمك محيطًا بجميع أعمالهم. والثانية أن تقابل كل واحد من رعيتك على قدر عمله. والثالثة أن يكون عدلك شاملًا لهم. والرابعة ألا تجور عليهم. والخامسة ألا تسوِّي بين علمائهم وجهالهم في العطية والمنزلة. والسادسة أن تولي عليهم مِن قِبلك الأخيار والأحرار، وإياك أن تولي عليهم العبيد والسوقة وأولاد الزنى.

ثم اعلم أن أعمال ولاتك إليك منسوبة؛ إن عدلوا قيل عَدَلَ السلطان، وإن جاروا قيل جار السلطان. والسابعة ألا تستعمل من أصحاب الرأي والمشورة مَن هو مخالف لك في دينك؛ فإنه لا ينصحك، وإن نصحك في أول مرة غشَّك في أخرى. والثامنة أن يكون وزيرك أرفع أهل زمانك درجة في الدين والدنيا جميعًا، ويكون من الأخيار؛ فقد قيل إن مَن لا أصل له فلا فرع له، ومن لا فرع له لا ثمرة له، وكل شجرة لا ثمرة لها فالنار أولى بها. والتاسعة إنصاف المظلوم من الظالم، ومنْع القوي من التعدي على الضعيف. والعاشرة رد الحق إلى أهله والانتصار لهم. فإذا كملت لك هذه الخصال الثلاثون رجوتُ لك كمال الأمور في الدين والدنيا والمُلك والسلطان، واستوجبت أن تكون ملكًا عادلًا، فتنال بذلك الحظوة من الله تعالى وحسن العاقبة في المعاد والمنقلب إليه.

فتأمل أيها الأخ هذه الوصية وتدبرْها، وانظر شفقة هذا الملك العادل على ولده كيف رضي له ما كان يرضى لنفسه، فهكذا يجب على الحكيم أن يوصي تلامذته، وعلى النبي أن ينصح أمته ومن يخلفه فيهم لمقامه وخلافته من بعده، وكان مما أوصى هذا الملكُ رعيتَه ما يأتي ذكره في هذا الفصل.

فصل

ويقال إنه لما فرغ من وصية ولده الذي أهَّله للمُلك بعده، جمع علماء أهل مملكته وأولي الفضل والشرف فيهم من أهل المنازل والرتب، الذين هم أصحابه وأسبابه، فقال: أيها العلماء الذين كانوا ولاة أمري وأهل سرِّي وبطانتي، قد كنتم لي نصحاء ومطيعين وحسنت طاعتكم لي بنية صادقة، وكانت ألسنتكم بشكري ودعائي وحُسن الثناء عليَّ ناطقة، وكنت لكم مكرمًا ولِحَقِّكم عارفًا، وعليكم مشفقًا وإلى جماعتكم محسنًا، فكونوا لهذا الغلام مثل ما كنتم لي يكُن لكم مثل ما كنت لكم.

ثم قال لجمعهم: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا ولاتكم، وإياكم والخلاف والنفاق والعداوة والمنازعة والمجادلة في أديانكم وآرائكم ومذاهبكم؛ فإن في ترك ذلك صلاحًا لكم ولأنفسكم وجمْع شملكم ودعة لقلوبكم ودفاعًا عن بلادكم، ولا يطمع فيكم عدوكم ما دمتم على ذلك، وإن تركتم ما هو خير لكم واستبدلتم به ما هو شر لكم، فعند ذلك يطمع فيكم عدوكم وتخرب بلادكم، وتكون نفقتكم في ذلك أموالكم وأنفسكم، وربما لا يكون لكم قوة بذلك فتهلكوا عن بكرة أبيكم، ولا تتعادوا في المذاهب ولا تتلاعنوا فتهلكوا عن بكرة أبيكم، واعلموا أن في اجتماع الكلمة وترك الخلاف بركة لمن أقبل عليها وحصنًا لمن الْتجأ إليها؛ فإن القضيبين إذا جمعا وكانا ضعيفين وضم إليهما من جنسهما أضعاف عديدة حتى تكون قبضة فإنه يعسر كسرها، وإذا فرقت كسرت بأهون سعي، وقد علمتم الذي عاهدتموني عليه وما وصيتكم به في أمر هذا الغلام الذي بيني وبينكم، فإياكم والتغيير عليه ونقض العهد له، فليس المنكوث عليه بأسوأ حالًا من الناكث، فعليكم بالسمع والطاعة وأوفوا له يُوفِ الله لكم، وقُو لَه يقِ الله لكم، وتمموا له فيه ما بدأتم يُتِمَّ الله لكم أفضل أموركم ويحسن حالكم على يديه، فهذا هو ملككم.

وأخذ بعضده ودعا له، وأشهد بعضهم بذلك على بعض وأشهد الله تعالى عليهم، ولحقته سكرة الموت، واعتقل لسانه وضعف جنانه، وعرق جبينه واعتنقه ولده، وفاضت روحه وحزن عليه أهل مملكته، ثم قضى الله فيمن بعده بما أحبه وتصرفت بهم الأحوال. وإنما ذكرت لك ذلك لعلك تنتبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة، وتكون هذه الرسالة تذكرة لك ولجميع من وقف عليها، وعساها تكون تذكرة لمن تذكر وعبرة لمن اعتبر، وفقك الله تعالى وإيانا وجميع إخواننا السداد إنه رءوف بالعباد.

(تمَّت رسالة علل اختلاف اللغات بتمامها، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤