الفصل الثالث

الحكم الأخلاقي

(١) معنى الحكم الأخلاقي

تصدر من الإنسان أحكام كثيرة متنوعة، فإذا قال: «المبتدأ مرفوع» فهذا حكم نحوي لا أخلاقي، وإذا قال: «الأجسام تتمدد بالحرارة» فهذا حكم طبيعي لا أخلاقي، إنما الحكم الأخلاقي هو أن تحكم على الشيء بأنه خير أو شر، فالصدق خير حكم أخلاقي، والكذب شر كذلك.

وقد علمنا مما تقدم أن الحكم الأخلاقي لا يصدر إلا على الأعمال الإرادية، فما لم تكن إرادة لا يصدر حكم أخلاقي، فلو فاض النيل فأغرق كثيرا من البلدان، أو هبت عاصفة فدمرت بلادا، أو هاجت الأمواج فأغرقت سفنا، لا نحكم على هذه الأعمال بأنها شر، إذ لا إرادة، ولو فاض النيل في اعتدال فروى للأرض وأفادها، وهب نسيم عليل فأزهر النبات وأنعش النفوس لم نحكم على ذلك بأنه خير، كذلك إذا جمح حصان فأوقع راكبه، أو سار سيرا حسنا فأوصل صاحبه إلى غايته لا نحكم على عمله بأنه شر في الأولى ولا خير في الثانية ما دمنا لا نعترف للحصان بإرادة — وكذلك أعمال الإنسان غير الإرادية كالتي سبق شرحها.

(٢) هل يصدر الحكم باعتبار الغرض أو النتيجة

والآن نريد أن نسأل: قد عرفنا ما نحكم عليه من الأعمال بأنه خير أو شر وما لا نحكم، ولكن إذا أردنا أن نحكم فهل نحكم على العمل باعتبار نتائجه أو باعتبار الغرض الذي أراده العامل من عمله؟ ولتوضيح ذلك نقول: إن هناك غرضا للعامل من عمله، وهذا يسبق العمل، وهناك نتائج تحصل من العمل وهذه تلحقه، فمثلا قد يقرر جماعة من الأطباء بعد الفحص اجراء عملية لمريض، ثم يتبين بعد اجرائها أن الفكرة كانت خطأ، وأنه كان الأولى ألا تعمل، ثم يموت المريض منها، فغرض الأطباء أن يشفى المريض، ولأجل هذا أقدموا على ما عملوا، ولكن النتيجة أنه مات، وهذا الغرض كان قبل العمل، وهو غرض حسن، والنتيجة حصلت بعد العمل، وهي سيئة، فهل نحكم على الأطباء باعتبار غرضهم أو باعتبار نتيجة عملهم؟ وهكذا كثير من الأعمال، كرجال حكومة أعلنوا الحرب على أمه أخرى لأنهم رأوا خير أمتهم في ذلك، وقد رأوا قوتهم أكبر من قوة عدوهم، وحسبوا أن ما يغنمون من الفوائد أكبر مما يفقدون من جنودهم وأموالهم، ولكن خاب ما أملوا، فهزموا وسلبوا بعض الولايات، فغرضهم كان الخير لأمتهم، والنتيجة كانت شرا لها، فعلى أي اعتبار نحكم؟ وكذلك العكس، فقد يريد الإنسان شرا ثم تكون النتيجة خيرا، كمن يريد أن يغش آخر فيغريه بشراء شيء يظن فيه الخسارة له، فيغنم الشاري من وراء ذلك ربحا كبيرا، فالغرض شر والنتيجة خير، فهل نحكم على العمل بأنه شر تبعا للغرض أو خير تبعا للنتيجة؟

الحق أن العمل يجب أن يحكم عليه بأنه خير أو شر نظرا لغرض العامل منه لا نظرا لنتيجته، فالعمل الذي قصد به الخير خير مهما استتبع من النتائج، والذي أريد به الشر شر ولو استتبع نتائج حسنة، فقبل الحكم على عمل ينبغي أن نعرف غرض العامل منه، أما العمل في ذاته من غير نظر إلى الغرض منه فليس بخير ولا بشر، فلو سألتني هل إحراق أوراق مالية قيمتها ألف جنيه خير أو شر؟ لأجبتك: لا يمكن ذلك حتى أتبين غرض العامل من عمله، فقد يكون شرا إذا أراد من إحراقها الإنتقام من مالكها، وقد يكون خيرا كما إذا قدمت رشوة لقاض ورأى القاضي أن لا سبيل إلى تأديب الراشي إلا إحراقها.

ولما كان الحكم الأخلاقي يعتمد على معرفة غرض العامل من عمله لم يجز لنا أن نصدر الحكم بالخير أو الشر إلا على أنفسنا أو على من نتحقق غرضهم من أعمالهم، إما بإخبارهم، أو بقيام القرائن على أغراضهم، فإذا رأينا من إنسان عملا فلا نعجل بالحكم عليه، بل يجب أن نتريث حتى نعرف غرضه منه.

نعم هناك أحكام أخرى نصدرها على العمل باعتبار نتائجه لا باعتبار الغرض منه، وذلك كالحكم على العمل بأنه نافع أو ضار، فإنه إنما يصدر باعتبار نتيجته، والحكم على الشئ بأنه نافع أو ضار غير الحكم عليه بأنه خير أو شر، كلاهما ينظر إلى الشيء من جهة غير التي ينظر إليها الآخر، فعمل الأطباء في المثال السابق خير ضار، خير لأنهم قصدوا إلى شفاء المريض، وضار لأن النتيجة كانت وفاته، وهكذا، ولكن يجب أن نعلم أن الحكم على الفعل بأنه نافع أو ضار تبعا لنتائجه ليس حكما أخلاقيا، إنما الحكم الأخلاقي هو الحكم بأنه خير أو شر تبعا للغرض منه.

والإنسان لا يلام على عمل عمله يريد منه الخير مهما ساءت نتائجه، بشرط أن يكون قد بذل جهده في معرفة ما ينتج من عمله، وإنما يلام إذا كان في استطاعته أن يرى النتائج إذا دقق في البحث وأنعم النظر ثم لم يفعل، فموضع اللوم هو التقصير عند اختيار العمل، وعدم الدقة في حساب نتائجه، وليس موضع اللوم هو إرادة العمل الصالح، ففي مثل الأطباء السابق لا لوم عليهم إذا كانوا بذلوا أقصى جهدهم في فحصهم وأتت النتيجة بما ليس في حسبانهم، إنما يلامون إذا قصروا في الحكم وبنوا حكمهم على نظر سطحيّ غير دقيق.

•••

في جميع ما تقدم كان الحكم الأخلاقي يصدر على العمل، ولكن نرى أحيانا أن الحكم الأخلاقي يصدر على العامل، فيقال: إن فلانا طيب وفلانا خبيث أو أنه خيّر أو شرير، فما الذي نلحظه عند حكمنا هذا الحكم؟

عندما نحكم على العامل نلاحظ «حاصل الجمع» لما يأتي به من أعمال. فقد عرفنا — قبل — ما هو العمل الخير، وما هو العمل الشر، فالآن نذكر لك أن الرجل الخير أو الطيب هو الذي يصدر عنه من الأعمال الخيرة أكثر مما يصدر عنه من الشر، والرجل الشرير هو الذي يكثر منه صدور الأعمال الشريرة، ومن هذا نستنتج أن الرجل الخير قد يأتي بعمل شر ولكن يكون الغالب عليه عمل الخير، لأنا في حكمنا على العمل إنما نلاحظ الغرض من عمله وفي حكمنا على العامل نلاحظ مجموع أعماله في حياته.

(٣) مقياس الحكم الأخلاقي

ولكن بأي مقياس أقيس الشيء فأحكم عليه بالخير أو الشر؟ إن الناس كثيرا ما يختلفون في نظرهم إلى الشيء الواحد فمنهم من يراه خيرا ومنهم من يراه شرا، بل الشخص الواحد قد يرى الشيء خيرا في آن ثم يراه شرا في آن آخر، فما هذا المقياس الذي بمراعاته نصدر هذا الحكم؟ وأى شيء يراعيه الناس فيقولون: إنه خير أو شر؟

للاجابة على هذا السؤال نستعرض المقاييس التي يستعملها الناس، وقد رأى الباحثون أن الحكم الأخلاقي تدرج في الرقي بتدرج الناس، فهم في حالة سذاجتهم ينظرون إلى الأشياء ويحكمون عليها بمقياس، ثم إذا ارتقوا قليلا تغير مقياسهم وحكمهم، وهكذا حتى يصلوا إلى درجة كبيرة من الرقي فيسمو كذلك حكمهم الأخلاقي؛ ولنتتبع الآن الأدوار التي مر بها لناس.

(٣-١) العرف

فأول دور سلكوه في معرفة الخير والشر «العرف». ونعنى بالعرف «عادة الأمة» فإذا اعتادت أمة عملا وكان فاشيا فيهم فذلك عرف، فزيارة القبور في الأعياد عادة للمصريين، فهذا عرف، وعادة كل أمة في ملبسها ونظام معيشتها ونحو ذلك يسمى عرفا.

ولكل أمة عرف خاص تعد خيرها في اتباعه، وتؤدب الأطفال به، وتشعرهم بأن فيه شيئا من التقديس، وإذا خالفه أحد استهجنت عمله وعدته خروجا عليها، فمن الصعب الخروج على المألوف من عرف في الملبس والمأكل ونظام الأفراح والمآتم وطرق التحية ونحو ذلك.

والناس منساقون إلى تنفيذ ما يقضى به العرف، وذلك بتأثير الرأي العام، فالناس — عادة — يمدحون متبعي العرف، ويسخرون من مخالفه، فلو خرج أحد على عادة الأمة في زيها أو أفراحها ومآتمها أو طرق تحياتها كان موضعا للنقد القاسي.

وفي أيام سذاجة الناس وبداوتهم لم يكن لهم مقياس يقيسون به العمل إلا العرف، فهم يحكمون على العمل بأنه خير لموافقته للعرف وشر لمخالفته له، ولا يزال كثير من الناس في كل أمة مهما بلغت من الحضارة يعملون ما يعملون لا لسبب إلا أنه يتفق وعادات قومهم، ويجتنبون ما يجتنبون لأن قومهم لا يعملون — فمقياس الخير والشر في نظرهم هو العرف، وبه يصدرون أحكامهم على الأشياء.

فلما أرتقى الناس تبين لهم أن العرف لا يصح أن يتخذ مقياسا، فبعض أوامره غير معقول، وبعضها ضار، فوأد البنات كان عرفا لبعض قبائل العرب في الجاهلية، وهو عرف ضار نهاهم الإسلام عنه وأبان ما فيه من خطأ، وعند الرومان كان الأب له الحق في إماتة أولاده وإحيائهم، والرق مع ما كان فيه من معاملة قاسية كان فاشيا في كثير من الأمم، وعادات المصريين في أفراحهم ومآتمهم عرف ضار وهكذا.

وإذا كان العرف قد يخطئ ويتبين الخلف سوء ما كان عليه السلف لم يصح أن يكون مقياسا صحيحا نقيس به الأعمال فنحكم عليها بالخير أو الشر.

ولو أن الناس جروا على مبدأ العرف لم يتقدم العالم عما كان عليه من قديم، لأنه إنما يتقدم بأولئك الذين يرون خطأ العرف فيجاهرون بمخالفته، ويدعون قومهم للخروج عليه، فيلتف حولهم كثير من الناس، ويأخذ رأيهم في الإنتشار حتى يحل الجديد الحق محل القديم الخطأ.

ومع هذا فإن جرى الناس على هذا المقياس كان له بعض الفائدة، فقد حمل كثيرا أن يأتوا بالعادات الصالحة ويمتنعوا عن السيئة جريا مع العرف ورجاء لمدح الناس وخوفا من ذمهم.

(٣-٢) الرأي الشخصي

يلاحظ الذين يدرسون القبائل في حالتها الأولى من البداوة أن الفرد من القبيلة لا يحس إحساسا قويا أنه فرد مستقل بذاته، وإنما يغلب عليه الإحساس بأنه جزء من قبيلة، يحيا بحياتها ويموت بموتها، ويظهر هذا ظهورا بَيِّنًا حين تقرأ الشعر الجاهلي فترى فيه أن شخصية الشاعر اندمجت في قبيلته حتى كأنه لم يشعر لنفسه بوجود خاص، وتتبين ذلك بجلاء في معلقة عمرو بن كلثوم، وقل أن تعثر على شعر من أشعار الجاهلية ظهرت فيه شخصية الشاعر، ووصف ما يشعر به وجدانه، إنما هو كثير التحدث عن قبيلته وأخبارها وأفعالها.

وفي هذا الدور لا يكون للأخلاق مقياس إلا العرف، فليس للفرد رأي شخصي يقوّم به الشيء ليحكم عليه بأنه خير أو شر بل ليس له إلا أن يستحسن ما استحسن قومه ويستقبح ما استقبحوا، فهو لا يأتي بعمل أو يتجنب عملا بناء على تفكير منه ووزن له، بل لأن قومه يأتونه أو يجتنبونه.

فإذا ارتقى الناس عن هذا الدور شعر الفرد بأنه — وإن كان عضوا في مجتمع — فله شخصيته، وأن نفسه مستقلة عن قومه، وأن له مصالح شخصية كما أن لقومه مصالح، وأن عقله من الإستقلال بحيث يستطيع ألا يخضع للعرف خضوعا أعمى، بل في قدرته أن يزن الأعمال فيحكم عليها بالخير أو الشر وإن خالف العرف.

نرى هذا في التاريخ دائما، فعند نهوض كل قوم وأخذهم بحظ كبير من الرقي يظهر أفراد يخرجون على التقاليد الموروثة المتعارفة إذا رأوها ضارة، ويزنون الأشياء وزنا جديدا، فيعلنون استحسانهم لأشياء يستهجنها عرفهم، ويستقبحون أشياء يستحسنها العرف؛ وينتشر رأيهم شيئا فشيئا حتى يميل الناس إليه، ويقتنعوا به، وبهذا تنكسر قوة العرف. حصل هذا في عصر السوفسطائيين في اليونان، وفي عصر النهضة في روما، وفي أيام الثورة الفرنسية في فرنسا وهكذا.

في هذا الدور يشعر الإنسان أن العرف غير صالح لأن يكون مقياسا، وأن له من القوة ما يمكنه من تقويم الأشياء والحكم عليها، ولكن يتساءل بم يقومها؟ كيف يعرف الخير والشر؟ ما الذي يضعه محل العرف ليعرف الحق من الباطل؟ وعند ذاك يأتي دور البحث العلمي.

(٣-٣) الوجدان

أجاب قوم عن هذه الأسئلة المتقدمة بأن في كل إنسان قوة غريزية يميز بها بين الحق والباطل، فكل إنسان إذا عرض عليه عمل تلهمه هذه القوة أنه خير أو شر، وهذه القوة مُنِحناها لنميز بها بين الخير والشر كما منحنا العين لنبصر بها، والأذن لنسمع بها، والحكم الأخلاقي يعتمد على هذه القوة فيصدر بالإستحسان أو الإستقباح، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن أساس هذا الحكم هو «الوجدان» ويعنون به شعور الإنسان الطبيعي بالإرتياح من العمل أو النفور منه كالإرتياح والنفور الذي يشعر به الإنسان عند رؤيته شيئا جميلا أو قبيحا، فعندما توسوس له نفسه بكذب أو بسرقة يشعر باشمئزاز طبيعي من إتيان ذلك فيحكم عليه بأنه شر، وكذلك عندما يسمع خبرا باغاثة ملهوف أو إحسان إلى فقير أو عدل في حكم يشعر بارتياح طبيعي فيحكم على ذلك بأنه خير.

وقد تصاب هذ القوة الوجدانية بمرض فترى الخير شرا والشر خيرا كما تصاب كل حاسة بالمرض، وكما تخطئ القوة العقلية، فكما أنا لو أعطينا عددا من التلاميذ مسائل حسابية فبعضهم يخطئ في حلها وبعضهم يصيب ولكنا نعرف أن هؤلاء أصابوا وهؤلاء أخطؤا كذلك يختلف الناس في صحة الوجدان ومرضه، فبعضهم يحكم بالشر على ما يحكم عليه الآخر بالخير، ويمكن أن نعرف المخطئ من المصيب، وسيأتي توضيح ذلك عند الكلام على مذهب اللقانة.

(٣-٤) العقل والإستدلال

ويرى علماء آخرون أن ليس في الإنسان قوة طبيعية يحكم بها على الأعمال، إنما نحكم عليها بالعقل والإستدلال، فليس في الإنسان حاسة غريزية يدرك بها الخير والشر، ولكن يحكم عليها بمقتضى تجاربه، فالناس عملوا أعمالا، ولاحظوا ما ينتج عنها، فرأوا نتائجها حسنة فحكموا بخيريتها، وعملوا أعمالا رأوا نتائجها سيئة فحكموا عليها بالشر، وليست القوة الأخلاقية التي نعرف بها الخير والشر إلا عقلنا وتجاربنا، واستمرار الأمة في تجاربها يفضي بها إلى تعديل آرائها في الأشياء، والسبب في تغير آراء الأمم والأفراد في الحكم على الأشياء هو اتساع مداركها بكثرة تجاربها وملاحظاتها واستدلالها، وسيتضح ذلك عند الكلام على المذاهب الأخلاقية.

من هذا ترى أن الحكم الأخلاقي تدرج بتدرج الناس في الرقي، فكانوا أول أمرهم لا مقياس لهم إلا العرف ثم فهموا أن العرف لا يصح أن يكون مقياسا، فجاء بعد ذلك دور البحث والتفكير العلمي.

وكذلك ترى أن العرف — أولا — كان هو المقياس ولكنه مقياس خاص بالأمة وحدها، إذ كل أمة لها عرفها، فلما جاء دور البحث العلمي أصبح الحكم الأخلاقي ينبني على أسس عالمية، وبعبارة أخرى أصبح ينبني على مبادئ عامة تصلح لكل أمة في كل عصر، وسنوضح تلك المبادىء والمذاهب المشهور التي أدى إليها البحث في الفصل التالي.

(٤) تربية الحكم الأخلاقي

قوة الحكم الأخلاقي ترقى برقي الإنسان، فهو يولد وعنده جرثومة الحكم الأخلاقي، تولد معه حسب قانون الوراثة.

ثم ينشأ في أسرته فيراهم يمدحون أشياء ويذمون أخرى ويكافئون على أعمال ويعاقبون على أخرى، فينمو عنده الحكم الأخلاقي بذلك، ويتبع أسرته في مدحها وذمها، ويستحسن من الأشياء ما مدح عليه، ويستهجن ما ذم من أجله، ثم إذا نما شعر بأنه مضطر أن يتبادل مع إخوته وأخواته الأخذ والعطاء، فيوجد عنده الشعور بضرورة تبادل المنافع، فهو يعطيهم مما يناله ليعطوه مما ينالون، فيرقى عنده بذلك الحكم الأخلاقي.

فإذا خرج إلى العالم وتبادل مع الناس المعاملة ورأى حاجته إلى معونتهم وأدرك أنه لا يعيش سعيدا بينهم إلا بمراعاة قوانين وتقاليد اتسع عنده مجال الحكم الأخلاقي، فإذا هو تقدم في العلم ساعده علمه على إضاءة السبيل له ليميز بين الحق والباطل، فكثير من الأعمال الضارة أو الخرافية سببه الجهل بالقوانين الطبيعية، فاستقبال العامة للخسوف والكسوف بالضرب على الأواني النحاسية أو الحديدية مثلا سببه الجهل بأسباب الخسوف والكسوف، ومعرفتنا بشئ من الجغرافيا الطبيعية أو الهيئة يبين أن هذا العمل وأمثاله خرافة لا أساس لها، ومعرفتنا بشئ من قوانين الصحة يغير نظرنا إلى كثير من الأعمال، وانتشار العلم عن النبات والحيوان والمرض والصحة في أية أمة يجعل كثيرا من أفرادها يخرجون على العرف المألوف الذي لا يتفق ونظريات العلوم، والعلم يزيد الإنسان شعورا بشخصيته وبأن له قوة على الحكم على الأشياء، وأنه ليس أسيرا للعرف والتقاليد.

كذلك دراسة علم الأخلاق، واستعراض النظريات التي ينبني عليها الحكم الأخلاقي، ونقدها، وبيان ما يصح منها وما لا يصح، وبيان ما كان الناس عليه أيام بداوتهم في عرفهم وتقاليدهم، وكيف كانوا يحكمون على الأشياء، وما وصلوا إليه من الرقي، وكيف تغير نظرهم إلى الأشياء برقيهم. كل هذا يجعل الإنسان أصح حكما وأصدق نظرا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤