الفصل السابع

الحقوق والواجبات

(١) معنى الحق والواجب

ما للإنسان يسمى «حقا»، وما عليه يسمى «واجبا»، فإذا كان لي مائة جنيه على آخر يقال: إن لي حقا أن آخذ منه مائة جنيه، وواجب عليه أن يدفع لي هذا المبلغ.

والحق والواجب متلازمان، فمتى كان لشخص حق كان هناك واجب، بل الواقع أن كل حق يستلزم واجبين: واجبا على الناس أن يحترموا حق ذى الحق ولا يتعرضوا له أثناء فعله، وواجبا على ذى الحق نفسه، وهو أن يستعمل حقه في خيره وخير الناس، فمثلا إذا كان لي بيت فهو حق لي، وذلك يستلزم واجبين: واجبا على الناس ألا يتعدوا على هذا البيت بضرر، وأن يحترموا حقي في ملكيته وواجبا علي وهو أن أستعمل البيت في خيري وخير الناس، فإذا أشعلت فيه نارا أريد إحراقه أو آذيت الناس بايجاره لعمل مقلق للراحة لم أكن أديت ما وجب عليّ، وهكذا.

ولكن جهة التنفيذ في الواجبين ليست واحدة — فالذي ينفذ الواجب الأول هو القانون الوضعي — غالبا — فإذا تعدى أحد على بيتي فغصبه متى كان القانون الوضعي هو الذى يحمينى، فأستطيع أن أرفع الأمر إلى المحاكم، والقاضي يلزمه بمراعاة حقي وينفذ ما يجب عليه، أما الواجب الثاني — وهو الواجب علي في استعمال حقي على أحسن وجه — فليس الذى ينفذه هو القانون الوضعي — غالبا — وإنما يأمر به القانون الأخلاقي، ويترك تنفيذه إلى ذى الحق نفسه، وإلى الرأي العام، فلو أني هدمت بيتي وهو عامر، أو أتلفت هندسته، أو تركته مهجورا لا أسكنه ولا أسكنه لم يتدخل القانون الوضعي في ذلك، وإنما يتدخل القانون الأخلاقي، فيأمرني أن أعمل الواجب علي من استعمال بيتي لخيري وخير الناس، ويلومني إذا لم أتبع ذلك، وكذلك يلومني الرأي العام، فإذا قال القانون الوضعي: «لكل مالك أن يتصرف في ملكه كيف يشاء» فإن الأخلاق تقول: «ليس للمالك أن يتصرف في ملكه إلا بما فيه الخير له وللناس».

(٢) أساس الحق والواجب

لم كان لي حقوق وعلي واجبات؟ يقولون مثلا: إن لي حقا في أن أتعلم، وحقا في أن أكون حرا، وأن علي واجبا أن أرعى حقوق الناس، وأن أؤدى ما علي من الواجبات، فما الذي رتب هذه الحقوق وهذه الواجبات؟ وهلا يمكن الناس أن يعيشوا من غير حقوق وواجبات؟

أساس الحقوق والواجبات هو المعيشة الاجتماعية، فالإتصال الوثيق بين الفرد ومجتمعه الذى شرحناه في الفصل السابق هو أساس فكرة الحق والواجب، فلو أن الفرد يعيش وحده ما كان هناك معنى لحق ولا واجب، بل كان له أن يفعل ما يشاء بلا قيد ولا شرط، ولكنه لما كان عضوا في مجتمع، وكان المجتمع ككل جسم حي لا بد من أعمال للمحافظة عليه، وإذا لم تعمل تعرض المجتمع للخطر والفناء أو التدهور نشأت من ذلك فكرة الحق والواجب، فالأشياء الضرورية لبقاء المجتمع كالمحافظة على الأرواح والأموال سميناها حقوقا للأفراد في المرتبة الأولى وأوجبنا على كل فرد أن يحترمها، وأوقعنا العقوبات الشديدة على من ينتهك حرمتها، صونا للمجتمع من الفناء، والأشياء التي هي سبب في رفاهية المجتمع وكماله كالتعليم جعلناها حقوقا في المرتبة الثانية وأوجبناها وجوبا أقل من المسائل الأولى.

ولنذكر الآن بعض تلك الحقوق وما يجب بإزائها.

(٢-١) حق الحياة

لكل إنسان الحق أن يحيا، ولكن لما كانت معيشة الإنسان معيشة اجتماعية وكانت الحقوق التي له مستفادة من قبل المجتمع كان عدلا أن يضحي الفرد بحياته لحفظ حياة المجتمع إذا اقتضى الحال ذلك، كما إذا هوجمت الأمة من أمة أخرى قصد الإستيلاء عليها فتجند من أبنائها من يدافع عنها، وهذه أحوال نادرة، أما فيما عداها فحق الحياة حق مقدس لا يسمح به لأي شيء آخر.

وهذا الحق مع وضوحه قد جهلته بعض الأمم في بداوتها، فبعض قبائل العرب في جاهليتها كانت تئد البنات خوفا من العار، وتئد الأولاد خشية الفقر، وكثير من الأمم كانت تقتل أسرى الحرب متى ظفرت بهم — وفي بعض الأمم الآخذة بحظ وافر من المدنية لا يزال حق الحياة عندهم معرضا للخطر أحيانا، كما هو الشأن عند الأمم التي تبيح المبارزة، ولو أن الناس قدروا الحياة حق قدرها وتقدموا في فهم حقها لما تحاربوا، وحق الحياة لا يمكن أن يوفر لكل أفراد الأمة ما لم تتوافر لهم وسائل المحافظة على الحياة، وذلك بسهر الحكومة على المحافظة على الأمن والقبض على المجرمين ونحو ذلك، كما أنه لا يمكن أن يوفر حق الحياة إلا بتوفير وسائل المعيشة، حتى لا تقع الأمة في مجاعة، أو يكثر فيها العاطلون الذين لا يجدون ما يقيم أودهم، ويحفظ حياتهم.

وحق الحياة ككل الحقوق يستلزم واجبين: واجبا على ذي الحق وهو أن يحفظ حياته، ويقضيها في أحسن الوجوه التي تنفع نفسه والناس، فالمنتحر مضيع لحقه في الحياة، مخل بالواجب عليه، كذلك واجب على الناس أن يحترموا هذا الحق للفرد فلا يتعدوا عليه — وإذا كان هذا الحق أقدس الحقوق كان من تعدى عليه بقتل أو نحوه مستوجبا أشد العقوبات، وربما كان من الحق أن نسلبه أيضا حقه في الحياة.

(٢-٢) حق الحرية

كلمة الحرية من الكلمات الغامضة التي تستعمل في معان مختلفة، ولذلك نبدأ بتحديدها.

الحرية المطلقة هي «أن يريد الإنسان ويعمل ما يريد من غير أن يكون لأي شيء آخر سلطان على إرادته أو عمله» وهى بهذا المعنى لا تكون إلا لله، فليس ثمة من لا تتأثر إرادته بأي مؤثر خارجي وعنده من القوة ما ينفذ به ما يريد إلا هو، وإذ كنا إنما نبحث عن حرية الإنسان لم يكن هذا المعنى المطلق بصالح.

إنما يصلح للناس حرية مقيدة، وقد جاء تعريفها في «إعلان حقوق الإنسان» الصادر في فرنسا سنة ١٧٨٩م بأنها «القدرة على عمل كل شيء لا يضر بالغير» وقريب منه ما قاله «هربرت سبنسر»: «كل إنسان حر أن يفعل ما يريد، بشرط ألا يتعدى على ما لغيره من مثل حريته» ومعنى قوله: إن الناس كلهم متساوون في حق الحرية، ولكل إنسان الحق أن يعمل ما يريد ما لم ينقص ذلك من حرية الآخرين.

وعرفها بعض الأخلاقيين «بأن يكون للإنسان الحق في ترقية نفسه بما يشاء من غير أن يتدخل أحد شؤونه، إلا إذا وجدت ضرورة تدعو إلى ذلك، أو كان التدخل لترقية من يتدخل في شؤونه، كما في الحجر على السفيه» وعلى الجملة إن هذا الحق يتطلب أن يعامل كل فرد معاملة إنسان لا معاملة متاع، ومن أجل هذا حرم الرق والإستبداد والتسخير ونحوها مما يعامل فيه الإنسان كأنه متاع يستخدم لغاية آخر.

ولفهم الحرية فهما صحيحا يجب أن نذكر أنواعها، ثم نبين كل نوع على حدته، فأهم ما نستعمل فيه الحرية ما يأتي:
  • (١)

    الحرية التي هي ضد الإسترقاق، فيقال حر ورقيق.

  • (٢)

    حرية الأمم، ويعنون بها الإستقلال وعدم الخضوع لحكم الأجنبي.

  • (٣)

    الحرية المدنية، وهي أن يكون الشخص آمنا من التعدي عليه وعلى ملكه ظلما، وهذه الحرية تشمل حرية الرأي وحرية الخطابة وحرية التصرف في الملك الخ.

  • (٤)

    الحرية السياسية وهي أن يكون للإنسان الحق في أن يأخذ نصيبا في حكومة بلاده بالتصويت في الإنتخابات ونحو ذلك.

  • النوع الأول: لا يحتاج هذا النوع إلى شرح طويل، فالفرق بين الحر والرقيق واضح جلي، وقد كان الاسترقاق فاشيا في العصور الماضية، ولم يكن ينظر إليه بعين المقت التي ينظر إليه بها اليوم، حتى إن أرسطو — أكبر فلاسفة اليونان — كان يرى أن بعض الناس بفطرته غير قادر على أن يتصرف في شؤون نفسه فخير له أن يكون رقيقا يدبر غيره أمره — وفي العصور الحديثة ساد القول بأن الحرية حق طبيعي لكل إنسان، وبعبارة أخرى حق منحه الله للإنسان منذ ولد.

    وإنما منح الناس جميعا الحرية لسببين: أولهما أن حب الحرية متأصل في نفس كل إنسان، فمن الظلم أن نسلبه هذه الرغبة، وثانيهما أن الإنسان لا يستطيع أن يقرر شؤونه بنفسه إلا إذا كان حرا، أى أنه لا يمكن أن يكون مسئولا إلا إذا كان حرا، أعني أنه لا يكون إنسانا إلا إذا كان حرا.

    قد ينعم بعض الناس في ظل العبودية أكثر مما ينعمون في ظل الحرية، وبعض الأرقاء كانوا أسعد حالا من بعض العمال اليوم، ولكن قل أن يرضى هؤلاء العمال بحريتهم بديلا، قد تكون الحرية مدرسة شاقة متعبة، ولكنها المدرسة الوحيدة التي يتعلم فيها الإنسان أن يكون إنسانا حقا.

  • النوع الثاني: حرية الأمم أي استقلالها. والأمة تحب أن تتمتع بحريتها وتحكم نفسها، كما يحب الفرد أن يكون سيد نفسه، وتحس الضعة والمذلة إذا حكمها غيرها.

    فإن قلت: ما الفائدة التي تعود على الأمة من استقلالها، قلنا: إن فائدتها من ذلك كفائدة من يفك الحجر عنه، فإنا إذا منحنا المحجور عليه حرية التصرف فقد يخطئ، ولكن هذا هو خير طريق ليعتني بشؤونه وليكون مسئولا، وأنه إذا كان حر التصرف زاد طموحه لتكميل نفسه، وشعر بأنه إنسان حقا، وكذلك الشأن في الأمم، إذا منحت استقلالها شعرت بمسئوليتها، وطمحت ببصرها لتكون خيرا مما هي، واعتقدت أن نتيجة مجهودها لها لا لغيرها فضاعف ذلك في جدها.

    ووجه آخر، وهو أن الأمة إذا كانت محكومة بأخرى فكثيرا ما يحدث أن تتعارض مصالح الأمتين فيحدث الإحتكاك ويكثر التصادم وفي ذلك ما يعوق الأمة عن التقدم.

    وعلى الجملة فلا تحس الأمة شخصيتها إلا إذا نالت حريتها، ولا تنهض وتجد في نيل كمالها إلا إذا كانت تدير شؤون نفسها بنفسها، وهذا النوع من الحرية هو الخطوة الأولى في كثير من الأحيان لتحقيق الأنواع الأخرى كالحرية المدنية والسياسية.

  • النوع الثالث: الحرية المدنية. لا يتمتع الفرد بهذا النوع من الحرية إلا إذا كان في أمة قد بلغت حظا من المدنية، فالأمم المتبدية — حيث لا يأمن الفرد فيها على نفسه من القتل أو السرقة أو مصادرة أملاكه — لا تتمتع بالحرية المدنية، فإذا تقدم الناس في الحضارة أصبح لكل فرد في الأمة الحق أن يدافع عن نفسه أمام القضاء، وأمن أن يسجن أو يحبس أو يعاقب أية عقوبة إلا إذا حكم عليه بمقتضى قانون البلاد، ولا يصح أن يتعدى عليه في غير هذه الحالة، ولا أن يكون ضحية لطمع كبير، أو انتقام حاكم كما كان الشأن قبل رقي الإنسان، وهذا النوع من الحرية يشمل:
    • حرية الرأي: ونعني بها أن يكون كل إنسان حرا في الحكم على الأشياء بما يعتقد أنه الحق، فليس الإجتهاد والتفكير والحكم على الاشياء بأنها صواب أو خطأ من حق طائفة خاصة، بل من حق كل فرد أن يقول أو يكتب ما يراه صوابا — في أدب من القول، بعد أن يتثبت منه ويقوم عنده البرهان على صحته — وإن خالف العظماء والعلماء، ذلك لأنه لا يعرف أحد من الناس كل الحق، ونحن إذا منعنا الناس من أن يقولوا ما يعتقدون حرمنا ما قد يكون في قولهم من رأي صائب أو فكرة حقه، ولهذا يجب أن نسمح لكل فرد أن يكتب أو يقول ما يراه حقا ثم تتطاحن الآراء صحيحها وفاسدها حتى يتغلب الحق ويتجلى للناس.
  • النوع الرابع: الحرية السياسية. ونعني بها أن يكون للإنسان نصيب في حكم بلاده، فالأمة إذا كان ممثلوها هم المشرعين لها والمديرين لشؤونها قيل: إنها تعمل حسب ارادتها، وهذا هو معنى الحرية، أما إن كان يشرع لها ويأمرها من لم يمثلها لم تكن تعمل حسب ارادتها بل هي مضطرة مجبرة، والجبر ينافي الحرية.

وقد ثبت هذا الحق «حق الحرية» للإنسان لأنه لا يستطيع أن يكمل نفسه ويرقي أخلاقه ويصل إلى غايته إلا إذا كان حرا.

•••

وقد تأخر الناس في فهم هذا الحق حتى بعد أن فهموا حق الحياة، فقد ظل الرق فاشيا بعد أن كف الناس عن قتل أسرى الحرب ووأد البنات، ولم يبطل الرق إلا في القرن الماضي، والآن بعد أن ألغي الرق لم يتمتع العالم بأنواع الحرية الأخرى كما ينبغي، فأمم عدة لا تزال تجاهد لنيل استقلالها، وكذلك النوعان الآخران من الحرية أعني الحرية المدنية والسياسية فهما، مع اختلاف الأمم في درجة التمتع بهما لم يبلغا الدرجة القصوى المنشودة لهما.

وهذا الحق أيضا يستلزم واجبين: واجبا على الناس والحكومات أن يحترموا حق الفرد في الحرية، فلا يتدخلوا في شؤونه إلا للمصلحة العامة وعند الضرورة، فالحكومات لا تقوم بواجبها إن كانت تحجر على الصحف والكتب أن تطبع حتى يجيزها الرقيب إلا في أحوال استثنائية كحالة الحرب، والأفراد لا يؤدون واجبهم إذا كانوا لا يسمحون لخطيب أن يخطب إلا إذا كان يرى رأيهم، ويقول بلسانهم، ولا يبيحون لكاتب أن يكتب ولا صحيفة أن تنشر إلا ما يوافق مذهبهم، إنما يؤدون واجبهم يوم يكون القول حرا؛ والنقد المؤدب حرا، والحجة وحدها هي وسيلة الاقناع.

يجب أن يستشعر المرء أنه حر، وأن الناس أيضا أحرار، فكما أن له حقا أن يكون حرا عليه واجب أن يحترم حرية الآخرين، يجب أن ينضم إلى شعور الشخص بأنه حر وأنه سيد نفسه شعور بأنه ليس يعيش وحده، ولكنه عضو في جمعية، وأنه مسئول عن حرية هذه الجمعية، ومن مميزات الأمم الراقية نماء هذين الشعورين في أفرادها وتعادلهما، أعني الشعور بالحرية والشعور بالمسئولية. والواجب الآخر واجب على ذي الحق نفسه وهو أن يستعمل حريته في خيره وخير الناس، ومن أساء استعمالها كان خليقا أن يسلبها، قال ملتن: «من يتعشق الحرية يجب أن يكون قبل طيبا حكيما» فليست الحرية تشرى أو تمنح، ولكن تكسب بالعمل لنيلها وحسن الإستعداد لها.

(٢-٣) حق الملك

يكاد يكون حق الملك جزءا مكملا لحق الحرية، فإن الإنسان لا يستطيع أن يرقي نفسه كما يشاء إلا بملك الوسائل.

وقد دعا إلى هذا الملك أن وسائل الحياة لا تكفي لسد رغبات كل الناس، فتزاحموا على طلبها، ودعاهم حب الذات إلى الإستئثار بها فكان الملك.

الملك الخاص والملك العام

وإنا بالملاحظة نرى شكلين للملك، فتارة يكون ملكا خاصا كملك شخص كتابا أو منزلا أو ثيابا، وتارة يكون عاما كالسكك الحديدية والمتاحف ودار الكتب ودار الآثار.

وإنما جعلت بعض الأشياء ملكا خاصا وأخرى ملكا عاما لأنا رأينا أن الملك الخاص أدعى إلى عدم التبذير وإلى العناية، وهو في هذين يفضل الملك العام، ورأينا الملك العام يحمي من الإحتكار ومن استبداد المالك.

فالملك الخاص خير عندما تكون ملكيته أدعى إلى العناية والتدبير، والملك العام خير عندما تكون ملكيته أنفى للاحتكار واستبداد فرد أو أفراد قليلين بها، فالثياب التي يلبسها الإنسان وما يأكله والمسكن الذى يسكنه خير أن تكون ملكا خاصا له، لأنه بها أكثر عناية، ولا خوف فيها من احتكار واستبداد، أما المتحف أو الشارع فلو كان في ملك فرد لاستبد بالناس وفرض عليهم من الرسوم ما يضر بهم فكان من الخير أن يكون ملكا عاما.

وهناك أشياء كان من الواضح فيها أن تكون ملكا عاما لانطباقها على القاعدة المتقدمة في الملك العام ولكن أعطيت للشركات تديرها كشركة المياه وشركة النور، ومنعا لاستبدادها بالأمة عقدت الحكومة معها شروطا تجعل حدا أقصى لثمن الوحدات منها.

وليلاحظ أن الأشياء التي نقول: إنها ملك عام هي التي يعبر عنها بأملاك الحكومة، ذلك لأن الحكومة نائبة عن الأمة، فهي تدير هذه الأملاك وتتصرف فيها نيابة عن الأمة.

وحق الملك يستلزم واجبين: واجبا على الناس وهو أن يحترموا ملك المالك فلا يتعدوا عليه بسرقة أو غصب أو نحو ذلك، وواجبا على المالك نفسه وهو أن يستعمل ما يملك أحسن استعمال.

وإذا كان من الناس من هم أحوج منا إلى ما نملكه وكانوا محتاجين إليه لاستعماله في حاجة أكثر ضرورة من حاجتنا وجب علينا أن نبيح لهم استعماله، فإذا كنا نملك عجلة أو سيارة وكان جار لنا مريضا واحتيج إلى العجلة للاسراع في إحضار الطبيب وجب علينا أن نبيح لهم استعمالها، لأن استعمالها في حفظ الحياة يفضل أي استعمال آخر كالتروض، ولو أن بيتا لغني احتيج إليه في أيام الحرب ليكون مستشفى يعالج فيه الجرحى الذين دافعوا عن أوطانهم وجب على المالك أن يبيح لهم ذلك، وواجب أن تعطف على البائس الفقير الذي لا يجد ما يسد رمقه فتمنحه شيئا مما زاد عن حاجتك، وقد صدق الشاعر إذ يقول:

وحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ
وحَولَكَ أَكادٌ تَحِنُّ إلى القِدْرِ

وكل إنسان منا عند اصطدام قطارين أو ترامين واجب عليه أن يقدم ما يستطيع من منديل وعصا ودواء لاسعاف المنكوبين، لأن هذا خير ما يستعمل فيه المتاع وهكذا.

(٢-٤) حق التربي

لكل إنسان الحق أن يتربى ويتعلم حسب كفاءته واستعداده، فله الحق أن يتعلم القراءة والكتابة وأن يرقي ملكاته في الفنون والعلوم حسب ما يسمح له استعداده، وأن يتهذب بأنواع التهذيب المختلفة.

وإنما كان له هذا الحق لأن التربي وسيلة من وسائل الحرية، ومن وسائل الحياة الراقية، فالجهل إذا فشا في أمة أثر فيها أثرا سيئا في جميع مرافقها سواء في ذلك الشؤون الاقتصادية والصحية والاجتماعية والسياسية، فالمتعلم يستطيع أن يتكسب ويدير أمور معيشته وينظم حياته أكثر مما يستطيع الجاهل، والأسرة المتعلمة أقدر على مراعاة الأمور الصحية من الأسرة الجاهلة، وإذا كثر الجهل في أمة كثر فيها الفقر والتشرد والإجرام، والمتعلمون أصوب حكما إذا انتَخَبُوا من ينوب عنهم، وأصدق نظرا وأقوم رأيا إذا انْتُخِبُوا، والمرأة المتعلمة أقدر على تربية أبنائها وتنظيم بيتها وإدارة شؤونها وهكذا، والعلم باب للأخلاق القويمة والدين الصحيح، به يشعر الإنسان بنفسه، وبه يدرك الحياة العالية، وبه ترقى شخصيته.

وواجب على الحكومات إزاء هذا الحق إعداد الوسائل لكل فرد من أفراد الأمة لينال درجة من التربية تؤهله لأن يكون عضوا صالحا في الجمعية يعرف حقوقه وواجباته، ويجب ألا يحول بينها وبين القيام به فقر الأب أو نحو ذلك، وبعبارة أخرى يجب أن يجد كل طفل فقير مكانا يتعلم فيه، وأن يكون التعليم يؤهل الناشئين لأن يفتحوا لهم طريقا في الحياة حسب كفاءتهم وميولهم، ويبعث فيهم الرغبة في أن يعيشوا عيشة أخلاقية صالحة، وعليها إعداد المعلمين الصالحين للقيام بهذه المهمة، وواجب على الأغنياء والجمعيات مساعدة الحكومات في نشر التعليم لنيل هذا الغرض.

وهذا الحق لم تقومه الأمم التقويم الذي يستحقه حتى أعلى الأمم حضارة، وهم يسيرون بجد في سبيل تحقيقه، نعم إن أكثر الأمم الممدنة خطت خطوات واسعة في تسهيل التعليم الأولي وتعميمه وجعله إجباريا، ولكن لا تزال هذه الأمم مقصرة في التعليم العالي، ففيها تجد كثيرا من الراغبين في تتميم علومهم قد سدت الطرق في وجوههم، إما للنفقات التي تفرض عليهم، وإما لاشتراط شروط أخرى لم تتوافر فيهم، والمثل الأعلى للأمة أمة يجد فيها كل فرد وسائل رقيه وتعلمه ممهدة موفورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤