… ونهاية المطاف

ولعلنا في نهاية المطاف قد اتضح لنا المقصد الذي توخيناه وأجملنا بيانه في كلمة التمهيد لهذه الرسالة؛ فهو تصحيح الأوهام الشائعة بين الغربيين عن تخلُّف الأمة العربية في ميادين الثقافة والحكم عليها أبدًا — وفي جميع الأحوال — بأنها تبع مسبوق يقتدي باليونان في ثقافة الفكر، وبالعبريين في ثقافة العقيدة، وليس للأمة العربية سابقة من سوابق الفضل يدين لها أولئك اليونان وأولئك العبريون.

وقد لجَّ الأوروبيون في هذه الدعوى لَجاجة بغيضة تتكشف عن سوء نية، ويبدو عليها كأنها تتعسف في البحث عن أسباب التجني والإنكار فتخلقها خلقًا وتحيد عن الطريق السوي حيدًا؛ لكي تنتهي من ذلك إلى قدحٍ في الطبيعة العربية وتمجيد لطبيعةٍ من طبائع الأمم سواها حيثما تكون.

فقد يترخصون أحيانًا في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى سلالةٍ هنديةٍ؛ لأن الأوروبيين يدخلون في الجامعة الهندية الجرمانية، إذا دعت الضرورة.

وقد يترخصون في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى سلالةٍ صفراء أو طورانية؛ لأنهم قد يعادونها اليوم ولكنهم لم يرثوا من أجدادهم عداوة لها من عصبيات القرون الوسطى.

وقد يترخصون في نسبة الفضل القومي أو العنصري إلى العبريين ولو كان المترخصون ممَّن يعادي اليهود في المنافسات الاقتصادية أو العملية؛ لأنهم لا يعدمون بينهم وبين هؤلاء اليهود صلة قديمة حين كانوا يومًا من الأيام شعب التوراة!

أما الأمة العربية فلا رخصة معها من هذه الرخص التي يصطنعها أعداؤها المتعصبون عليها، بل تختفي كلها ويحل محلها عداء الميراث التاريخي، وعداء الاستعمار، وعداء الجهل، وعداء الأنانية التي تغري الجماعات أحيانًا بالتحزب والأثرة كما تغري الآحاد من الناس؛ فليس أيسر من تصديقهم لكل فرية تُفترَى عليها، وليس أسرع من إنكارهم لكل محمدة أو سابقة من سوابق الفضل تُنسَب إليها.

هذه اللجاجة البغيضة هي التي نريد أن نقضي عليها ونقضي على آثارها في أذهان المتأثرين بها من صرعى المذاهب الأجنبية بيننا نحن الشرقيين، وهم — للأسف الشديد — غير قليلين.

ولكننا لا نريد أن نقضي عليها ونضع في مكان الخطأ المنكر خطأً آخرَ من قبيله.

لا نريد أن نمحو فضلًا لصاحب فضل، ولا أن نبخس حقًّا لصاحب حق، ولا أن نبطل احتكار المزايا الإنسانية على أناسٍ لكي ننقل هذا الاحتكار إلى أناسٍ آخرين.

كل ما نريده أن ندفع شبهات القصور الأبدي المفترى على أمةٍ عريقةٍ حيةٍ، كان لها فضلها العميم على الإنسانية، ويُرجَى أن يكون لها فضل مثله أو يفوقه على أجيالها المقبلة، وهي في مقامها الأوسط بين القارات، وبين العقائد والثقافات.

ولقد كان نصيب الأمة العربية من تلك الشبهات «نصيب الأسد» إن صح هذا التعبير، فأصابها منها أكبر نصيب تُصَاب به الأمم، منذ أيام الشعوبية إلى أيام الاستعمار والتبشير والآرية والشيوعية!

كان يُقَال عن العرب: إنهم بعثوا بالدين ولم يبعثوا بالدنيا.

وكان يُقَال: «إنه لا يفلح عربي إلا ومعه نبي».

وكان يُقَال: إنهم لا يصلحون في دولتهم وفي غير دولتهم إلا محكومين.

وقالوا: إن العرب لا يحسنون صناعة الحكم، ولولا ذلك لما خرجوا من الأندلس بعد الغلبة عليها عدة قرون.

وقالوا: إنهم لا يحسنون فنون الحضارة، ولولا ذلك لكان لهم فن جميل غير نظم القصيد.

وقالوا: إنهم لا يحسنون من أعمال المعاش غير ما تعودوه في البادية من رعي الإبل والماشية، ولولا ذلك لما غلبهم طراق بلادهم من الغرباء على أسباب المعيشة.

وكل أولئك الدعاوى الكبار أضعف من أن تثبت على النظر المتأمل لحظاتٍ، فضلًا عن الثبات في مجرى التاريخ.

فمَن هم أصحاب الدولة الذين داموا في مستعمراتهم أطول من دوام العرب؟ أو تركوا بعدهم أثرًا أبقى على الزمن من آثارهم؟

أَهُم الرومان سادة الاستعمار القديم؟ أم هم البريطان سادة الاستعمار الحديث؟

إن الرومان خرجوا من كل وطنٍ دخلوه، ولم يستطيعوا أن ينشروا ديانتهم في أمةٍ حكموها، بل كانوا هم الذين انقادوا آخِر الأمر لديانة المحكومين.

أما الإنجليز فقد خرجوا من الولايات الأمريكية بعد أن سكنها منهم معظم المهاجرين إليها، وقد خرجوا من الهند بعد أن استقروا في كل بقعةٍ من بقاعها أكثر من قرنين، ولم يمكث سادة الاستعمار القديم ولا سادة الاستعمار الحديث في مستعمراتهم كما مكث العرب في الأندلس.

والإنجليز ما تركوا من آثار الحضارة والثقافة أثرًا يقارب الأثر الذي أبقاه العرب في الأندلس وفي القارة الأوروبية على الإجمال، ومنه أثرهم في عصر النهضة وعصر الإصلاح.

وقصور الحمراء والزهراء وما يماثلهما من القصور التي قامت في الشرق على نماذج الفن البيزنطي جواب ماثل للعِيان لمن ينكر على الذوق العربي فنًّا جميلًا غير فن القصيد؛ فكل هذه القصور مميزة بذوقها العربي على القلاع القوطية والأواوين الفارسية والعمائر الرومانية أو اليونانية، منذ نشأتها الأولى إلى قيام الدعوة الإسلامية.

وطابع الذوق العربي هو طابع النخلة العربية بقامتها الهيفاء، وفروعها التي تتلاقى في عقود المربعات كما تتلاقى الأركان والأعمدة في هندسة البناء، حيثما طبعته بطابعها على الرغم من قيام البنائين أو المهندسين عليها من أبناء الأمم الأخرى.

وليس أبعد من البعد بين البحر والصحراء، ولكن العرب ركبوا البحر فقبضوا بأيديهم على زمام الملاحة بين الهند وفارس وسواحل أفريقية الشرقية؛ فسُمِّي البحر كله باسم بحر العرب، وسُمِّي الشاطئ الشرقي من سواحل أفريقية باسم السواحل حيث يتكلم الأفريقيون الآن باللغة السواحلية كما يسميها الأوروبيون.

والتجارة من أسباب المعيشة؛ فمَن الذي بلغ بها ما بلغه العرب في الهند وإندونيسية وأفريقية الوسطى؟

إنها بلغت على أيديهم أن تكون فتحًا في عالم الروح، ولم تكن فتحًا في عالم المال وكفى؛ إذ أصبح في تلك البقاع قرابة مائتين من الملايين من المسلمين لم يعرفوا دينهم من غير أولئك التجار الناجحين.

هذه الوقائع تصحيح بيِّن لدعوى العصبيات الجنسية يرشد العقل البشري إلى الصواب في مسألةٍ من أخطر المسائل العالمية، ذات الأثر المتشعب إلى كل زاوية من زوايا العالم، وكل علاقة من علاقات بني الإنسان.

نعم، هي تصحيح للعقل البشري يأتي في أوانه وليس قصارى الأمر فيها أنها دفاع عن العرب أو تبرئة لهم من أقاويل دعاة العصبية المستعمرين والشعوبيين والمرددين لأصداء الغابر المهجور.

والرأي الجلي في هذه الدعاوى العصبية إذنْ أنها من قبيل «الإشاعات» التي تروجها المصالح إلى حين، ولكن هل هي إشاعات تبتدئ وتنتهي حول النزاع على المصالح ومفاخر الأنساب؟ وهل نفهم من بطلان الدعاوى العنصرية أن عناصر السلالات تتساوى في ملكات العقول ومزايا الأخلاق؟

إن مَن يقول بذلك ينقض الواقع الشاهد في الحاضر كما ينقض الواقع الذي حفظته التواريخ، فلا نكران لاختلاف الأمم في التفكير والسلوك، وإنما ينكِر الباحث المنصف أن يُعزَى هذا الاختلاف إلى أسباب أصيلة ينفرد بها عنصر من عناصر البشر دون سائرها، وينصف الأجناس جميعًا حين يعزو كل مزية إلى أسبابها الطبيعية التي تتأثر بها كل أمة تعرضت لمؤثراتها، ولا يقصر مزية من المزايا على قومٍ يحتكرونها في جميع الأحوال.

والمثلان البارزان اللذان يُذكران في معرض التمييز بين الخصائص الجنسية كفيلان بإبراز هذه الحقيقة في نصابها الذي يستقر عليه البحث عن مزايا العقول والأخلاق بين جميع الشعوب.

هذان المثلان هما مثل اليونان واليهود: أولهما يضربونه بطلب بالعلم، وثانيهما يضربونه بطلب المال.

فعندهم أن اليونان قد امتازوا بحب المعرفة حبًّا للمعرفة؛ لأنهم نموذج العقل الأوروبي المطبوع على الفهم وحب الاستطلاع، وأن اليهود قد امتازوا بالمهارة الاقتصادية فلا يضارعهم فيها شعبٌ من شعوب العالم منذ عهدٍ بعيدٍ.

والواقع أن شعوب العالم العريقة قد طلبت المعرفة كما طلبها اليونان، ولكن الشعوب التي عاشت في أودية الأنهار الكبار — كما تقدم — قامت فيها الكهانة القوية إلى جانب الدولة القوية؛ فتحولت المعرفة إلى الكهانة، وأحاط بمعارفها ما لا بد أن يحيط بها من أسرار الكهانة وقيود التقاليد، وهكذا حدث في القارة الأوروبية نفسها يوم قامت فيها السلطة الدينية القوية، وحجرت على المفكرين أن يتعرضوا لمباحث المعرفة في أصول الأشياء وحقائق الوجود.

والواقع أن اليهود لا يفوقون غيرهم في القدرة على تحصيل المال، وقد تسابقوا بميدانٍ واحدٍ في وادي النيل مع الأرمن واليونان والجاليات الشرقية فلم يسبقوها في تحصيل الثروة، ولا في تنويع مواردها، ولعلهم — لولا تضامنهم في بلاد العالم التي ينتشرون فيها — يرجعون إلى ما وراء الصفوف الأولى في المهارة الاقتصادية وفي تدبير المال على الإجمال؛ فلا احتكار لمزية قومية بغير سببٍ، ولا فرق بين الأمم إذا تشابهت الأسباب.

وأمة العرب بين هذه الأمم لم تقصر ولن تقصر عن أمة سابقة في مضمارها حيث تتهيأ لها أسباب العلم وتتمهد لها السبل إلى الغاية، ولن تقف هذه الغاية دون أمد من الآماد.

•••

وإذا كان من حقنا — نحن الشرقيين — جميعًا أن نؤمن بهذه الفكرة الصالحة، فمن واجبنا أن نحترس من مغبة الاغترار بها ومن سوء الفهم الذي يُخشَى أن تسوقنا إليه.

فمن سوء فهمها أن نفهم أننا مبرَّءُون من العيوب معصومون من الخطأ، أو نفهم أن عيوبنا هينة لا تكلفنا المشقة في إصلاحها، وأن أخطاءنا قليلة لا تعاودنا في كل آونةٍ من حياتنا مع أنفسنا أو حياتنا مع أقوامنا.

كلا، بل لنا عيوب غير هينة، ولنا أخطاء غير قليلة، غاية ما يعزينا فيها أن نؤمن بأننا قادرون على تصحيحها وعلى اجتنابها، وأنها ليست بالأبدية التي لا تفارقنا كما زعم المفترون عليها.

أما تلك العيوب التي تُفتَرى علينا، فهي التي تفرض علينا القصور كارهين وطائعين كما يزعمون، وهي التي نعرفها أو نجهلها على حدٍّ سواء؛ لأن الحيلة فيها عبث، والأمل في الخلاص منها مفقود.

تلك العيوب ننكرها ونشتد في إنكارها، وليس قصارانا في تبرئة أنفسنا منها أننا نحب أنفسنا، وأننا نشتهي أن نحمدها بحقها أو بغير حقها، وإنما ننكرها ونشتد في إنكارها؛ لأننا نستند إلى خير سندٍ من الواقع الذي لا ريب فيه، ولأننا نعلم من هذا الواقع أننا سبقنا السابقين إلى ثقافة المعرفة وثقافة العقيدة قبل أربعين قرنًا، وأننا أعطينا العالم حظًّا منهما لا يزول منذ أربعة عشر قرنًا، وأن ما كان في ماضي الزمن غير مرة ليكونَنَّ غير مرة في الزمن القريب، وفي الزمن البعيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤