الفصل الأول

أوائل نقلة الفلسفة اليونانية إلى اللاتينية

(١) شيشرون ولوكريس وسنيكا

(أ) لم يكن للرومان فلسفة أصيلة، ولكنهم كانوا عالة على اليونان، تمذهبوا بالرواقية والأبيقورية، واقتبسوا بعض الآراء من المدارس الأخرى، وفي مقدمة نقلة الفلسفة اليونانية إلى اللاتينية شيشرون الخطيب المعروف (١٠٦–٤٣ق.م)، ليس في كتبه مذهب متماسك الأجزاء، فقد قصر جهده على تدوين ما أعجبه مما قرأ أو سمع، فوضع في ذلك جملة كتب، منها: «المقالات الأكاديمية» يبحث فيها مسألة المعرفة في بيان أخطاء الحواس، ويقطع باستحالة الوصول إلى اليقين، ويذهب إلى وجوب الاكتفاء بالاحتمال على مثال الأكاديمية الجديدة، ولكنه في سائر كتبه وفي سيرته ينسى الاحتمال، ويؤمن دون تردد بالإدراك الحسي والاستدلال العقلي، ففي كتاب «غايات الخيرات والشرور» يصور ثلاثة من أصدقائه يعرضون المواقف المختلفة في مسألة الخير والشر، ويدلي برأيه فيرفض أقوال الأبيقورية ويعارضها بأقوال الرواقية، فيقرر أن الفضيلة غاية الحياة دون اللذة، وأن القوانين الوضعية يجب أن تقوم على القانون السرمدي، وأن القانون غير العدل لا يلزم، وأن الإثم أعظم الشرور، وفي «المقالات التوسكولامية» (وهي حوار يدور في «قيلا توسكولوم») يصف النفس بأنها «شيء إلهي» ويؤيد القول بالخلود، ويعرض الآراء الرواقية في ازدراء الموت وكيفية تحمل الألم وما إلى ذلك، وفي كتاب «طبيعة الآلهة» يروى حوارًا يقول إنه شهده في شبابه، فيعرض مختلف الآراء في الموضوع، ويعلن أنه كان وقتذاك يفضل الرواقية، وفي كتاب «الجمهورية» يجمع أهم المذاهب اليونانية في السياسة، وفي كتب أخرى يورد طائفة من المسائل الأخلاقية.

(ب) وقد وجدت الأبيقورية نصيرًا بارعًا في شخص لوكريس (٩٥–٥١ق.م) نظم مذهب أبيقور شعرًا في قصيدته المشهورة «طبيعة الأشياء» وأشاد به أيما إشادة، وكتب سنيكا على مبادئ الرواقية.

(٢) ترتوليان (١٦٥–٢٢٠)

(أ) محام كبير من أهل قرطاجنة، اعتنق المسيحية وسيم كاهنًا فانصرف إلى التأليف في الدين، فكان كاتبًا مجيدًا ولاهوتيًّا عميقًا، كان متضلعًا من اليونانية تضلعة من اللاتينية، فوضع بالأولى بعض الكتب ثم عاد فنقلها إلى الثانية، ليوسع لها مجال الانتشار، إذ إن اليونانية كانت قليلة الذيوع في بلده، واستمر على الكتابة باللاتينية فكانت مصنفاته أولى الكتب المسيحية بهذه اللغة، له «دفاع» موجه إلى حكام الولايات الرومانية، يبين فيه عدم مشروعية الاضطهاد، ويحتج على قسوة الإجراءات المتخذة ضد المسيحيين، ويتحدى فيقول: «إننا نتكاثر إذ تحصدوننا، وإن دم المسيحيين لبذرة، وإن لكم فيما تأخذونه علينا من عناد لعبرة، فمن ذا الذي يشهده ولا يتزعزع ثم لا يبحث عن السر فيه، ومن ذا الذي يبحث فلا ينضم إلينا، ومن ذا الذي ينضم إلينا فلا يتوق للعذاب وللموت في سبيل الحصول على النعمة الإلهية كاملة، والعفو شاملًا؟» وله كتاب «إلى الأمم» يهاجم فيه الوثنية، وكتب يرد فيها على المبتدعة من المسيحيين، قبل أن يدخل هو في شيعة من أغرب الشيع.

(ب) وقد ظن الفلسفة عدوة للدين فحمل عليها وغلا في معارضتها حتى قال: «أي علاقة توجد بين أثينا وأورشليم؟ بين الأكاديمية والكنيسة؟ بين الخوارج والمؤمنين؟! إننا بريئون من الذين ابتدعوا مسيحية رواقية أو أفلاطونية أو جدلية، بعد المسيح والإنجيل لسنا بحاجة إلى شيء»، وهو يهاجم الفلاسفة في أخلاقهم، ويقول: إن خير ما في مذاهبهم مستفاد من التوراة، وإن من الفلسفة نشأت البدع المسيحية، وبجدل «الشقي أرسطو» تستعين، ذلك الجدل الذي هو آلة للبناء وللهدم على السواء، وتبعًا لذلك يرى أن التعويل على كتب الفلاسفة، لاستخراج الأدلة منها، منهج عقيم، ويبتكر منهجًا آخر هو استنطاق النفس، فيبين في كتابه «شهادة النفس المسيحية طبعًا» أن النفس تنزع بطبيعتها ومن صميمها إلى الدين، وبخاصة في أوقات الشدة، فتبدي العواطف الدينية التي فطرها الله عليها، وهذا منهج نهجه الكثيرون من بعده، وخصوصًا في العصر الحديث لما تناقصت الثقة بالعقل النظري أو انعدمت، فمست الحاجة إلى التماس أساس لنزعاتنا العليا من طريق العاطفة.

(ﺟ) وله كتب قد تعد فلسفية، مثل «كتاب النفس» طَرَقَ فيه مسائل وجود النفس وماهيتها وأصلها ومصيرها، وأورد فيه أقوالًا من أفلاطون وفيثاغورس وغيرهما، وكتب أخرى عالج فيها مسائل الخلق والمادة، والخطيئة والحرية، غير أن محاولات النظر العقلي فيها قليلة من حيث إنه غير مقتنع بضرورته ويرى فيه «تمشدقًا أرسطوطاليًّا»، ومما يذكر هنا أنه كان يظن الروح جسمًا لطيفًا، وبهذا المعنى يقول: «من ذا الذي ينكر أن الله جسم مع كون الله روحًا؟» وكذلك النفس الإنسانية مادة لطيفة منتشرة في البدن متشكلة بشكله، فانية طبعًا خالدة بفضل الله، وينقد أفلاطون لقوله بلا مادية النفس وخلودها بالطبع، ويذهب إلى أن الله خلق نفس الإنسان الأول فتكاثرت بالتوالد، وإلى أن النفس في ذاتها ذكر أو أنثى.

(٣) خلقديوس وفيكتورينوس وماكدوبيوس

على أن الاشتغال الجدي بالفلسفة بدأ مع القرن الرابع، إذ نبغ فيه طائفة من نقلة الفلسفة اليونانية وشراحها، أشهرهم ثلاثة على الترتيب التالي:

  • خلقيديوس: أهم مصنفاته شرح على «تيماوس» ضمنه مقتبسات من كتب أخرى لأفلاطون، ونظريات أرسطوطالية، وأخرى فيثاغورية، ونصوصًا لزعماء الرواقية، وآراء لفيلون وأطباء اليونان والفلاسفة الإيونيين والإيليين وغيرهم، فكان إلى القرن الثاني عشر أحد المراجع الكبرى في تاريخ الفلسفة اليونانية.
  • ومارينوس فيكتورينوس: علم البيان في روما، واشتهر حتى نُصِبَ له فيها تمثال، ترجم المقولات والعبارة لأرسطو، وإيساغوجي لفورفوريوس مع تصرف وزيادة وتصحيح، وبعض رسائل أفلوطين، وقد يكون ترجمها كلها، وترجم كتبًا أخرى للأفلاطونيين الجدد، وشرح بعض كتبهم وبعض كتب شيشرون، وصنف رسائل في المنطق، منها رسالة في التعريفات، وأخرى في الأقيسة الشرطية وقد ضاعت، ولما اعتنق المسيحية ألف عدة كتب لاهوتية بقي معظمها، وأثر أفلوطين بادٍ فيها.
  • وماكروبيوس: يشير إلى أن اللاتينية لم تكن لغته الأصلية، فقيل إنه أفريقي، وهو معدود من الأفلاطونيين الجدد في الغرب اللاتيني، له شرح على «حلم سيبيون» (وهو الفصل التاسع من المقالة السادسة من كتاب الجمهورية لشيشرون) جمع فيه مختلف تعاليم الأفلاطونية الجديدة: نظرية صدور الموجودات عن الموجود الأول، روحانية النفس وخلودها، أقسام الفضيلة، وكثيرًا من نظريات الفيثاغورية الجديدة في رمز الأعداد، وقدرًا كبيرًا من الرياضيات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤