الفصل الثالث

ديونيسيوس

(١) مؤلف مجهول الشخص

يقول عن نفسه: إنه ديونيسيوس تلميذ بولس الرسول، وكتبه أربعة هي: الأسماء الإلهية، المراتب السماوية أو الملائكة، اللاهوت الصوفي، المراتب الكنسية، وهي مهداة إلى تيموثاوس تلميذ بولس، يضاف إليها عشر رسائل موجهة إلى أشخاص من أهل القرن الأول، منهم يوحنا الإنجيلي، موضوعاتها مماثلة لموضوعات الكتب، ولم يرد ذكر لهذه الكتب والرسائل قبل الثلث الأول من القرن السادس، وذاعت بعد ذلك باعتبارها لديونيسيوس الأريوباغى، أي عضو المحكمة العليا بأثينا «أريوس باغوس» الذي رده بولس من الوثنية إلى المسيحية ونصبه أسقفًا على المدينة، فكانت موضع تقدير كبير في بيزنطة، وأرسلت في القرن التاسع إلى الغرب فنقلت إلى اللاتينية، ثم أعيد نقلها، وشرحت مرارًا عديدة، حتى كان القرن السادس عشر فبين بعض «الإنسانيين» أنها تحتوي على حوادث وطقوس وعادات متأخرة عن القرن الأول، وأن دراستها تظهر مؤلفها متصلًا اتصالًا وثيقًا بكتب أبروقلوس، حتى إنه لينقل عنها أحيانًا بالحرف، ويعزو المنقول إلى «أستاذه هيروتيوس» وهو اسم لا ندري عنه شيئًا، فالمعقول أنه يرمز به إلى أبروقلوس، ولا سيما أن عنوان أحد الكتب التي يذكرها له هو عنوان كتاب معروف لأبروقلوس، فهو يرمز كذلك في اسمه وسائر الأسماء الواردة عنده، ولا يزال الإخصائيون ينقبون علهم يميطون اللثام عن هويته، والرأي الراجح الآن أنه أسقف سوري متشبع بالأفلاطونية الجديدة، كتب بعد وفاة أبروقلوس (سنة ٤٨٥) بزمن يسير، أي في أواخر القرن الخامس أو أوائل القرن السادس.

(٢) الأسماء الإلهية

(أ) موضوع الكتاب الصفات التي تضيفها الكتب المقدسة لله، وكيف تقال عليه تعالى، وهذه خلاصته: يستمد العلم بالله من الكتب المقدسة؛ لأن المحسوسات لا تؤدي بنا إلا إلى معرفة ناقصة عن الروحيات، وإلى معرفة أنقص عن الله، لله وحده علم تام بذاته، وقد أوحى إلينا من ذلك العلم بما تطيقه طبيعتنا المحدودة، إننا لا ندرك الله في الحياة العاجلة إلا إدراكًا غامضًا قائمًا على إدراك آثاره، فإن الأشياء صادرة عنه بالخلق، وبالخلق تشارك الأشياء المتناهية في الله اللامتناهي، ليست هذه المشاركة جوهرية، ولكنها مع ذلك حقيقية، هي إشراق الطبيعة الإلهية على الأشياء الحادثة، وهي متفاوتة، لا لنقص من جانب فعل الله، بل لتفاوت المخلوقات في الماهية والكفاية، فمن هذه الجهة يحق لنا القول: إن أسماء المخلوقات تلائم الله، ويحق لنا إيجابها له — غير أنه يجب الملاحظة أن المعلول، وإن كان يمثل العلة، فهو لا يمثلها تمامًا، وأن الطبيعة الإلهية واحدة ثابتة مهما تنوعت المخلوقات والنعم الإلهية، وأن الله يعلو على المخلوقات علوًّا لا متناهيًا، فمن هذه الجهة لا تلائمه أسماؤها، ولا يوجد اسم يدل عليه تمام الدلالة، فنستطيع أن نسلب عنه جميع الأسماء، بل إن السلب خير من الإيجاب لما قدمنا من التغاير والتفاوت بين الله والمخلوقات، ولا تعارض هنا بين السلب والإيجاب؛ لأن الله فوق كل شيء، فوق كل سلب وكل إيجاب، وحين نقول إن الله ليس شيئًا مما يوجد، ندركه ونعلمه حقًّا ونعظمه تعظيمًا فائقًا — على أن المنهج يختلف في الإيجاب وفي السلب: ففي الإيجاب يجب البدء بأسمى الصفات، أي بما هو أقرب إليه تعالى وأليق به، ثم التدرج منها إلى أدناها، وفي السلب يجب البدء بالأدنى، أي بما هو أكثر بعدًا منه وأقل مطابقة له، ثم نرتقي إلى الأعلى — ونجمع بين المنهجين بوضع لفظ «فوق» قبل الصفة المضافة لله، فنقول مثلًا: إن الله فوق الماهية، وفوق الخيرية، وهكذا، وبذلك لا نضيف إليه صفاتٍ معينةً تتصور تصورًا معينًا.

(ب) ما هي الصفات التي تضيفها الكتب المقدسة لله، وكيف تقال عليه؟ الصفة الأولى هي الخيرية: الخيرية مبدأ الأشياء جميعًا، فإن الأشياء صادرة عن الله لخيريته، ويدعى الله نورًا: هو النور العقلي وشمس العقول، والله جميل أو هو الجمال بالذات، وكل جمال مخلوق أثر من جماله اللامتناهي، والله محبة، والكتاب المقدس يفضل أحيانًا هذا الاسم على اسم الود الذي قد يبدو للعامة أنقى وأصفى، الله محبة ومحبوب معًا، ما الشر إذن، وما مصدره؟ إن كل ما هو موجود فهو خير بما هو موجود، أما الشر من حيث هو كذلك فعدم وجود، لا جوهر ووجود، إذن ليس الشر صادرًا عن الله، وليس موجودًا في الله، ولا في المخلوقات أنفسها، فليس الشياطين أشرارًا بطبيعتهم، ولكنهم صاروا أشرارًا بسقطة لم تحرمهم القوى التي هي لهم بماهيتهم، وإنما يستحق الخاطئ العقاب، لأنه كان قادرًا أن يفعل غير ما فعل، أي أن يتوجه إلى الخير الحق بدل أن ينصرف عنه إلى خير ظاهر، واسم الموجود اسم حق للموجود حقًّا، في المخلوقات الوجود أولى النعم الإلهية، والمخلوقات صادرة عن الله، وهي في الله على نحو يفوق العقل دون تنوع ولا كثرة، كما يوجد كل عدد في الواحد، وكما تتحد أقطار الدائرة في المركز، وحتى الأضداد تتحد وتأتلف في الله، والله الحياة مصدر كل حياة، والله الحكمة مصدر كل حكمة، والله القدرة والقوة، والله العدالة، والله النجاة والفداء.

(ﺟ) يمجد الكتاب المقدس إلهنا الأعظم، ثم يمثله بالنسيم اللطيف، مما يعني الصغر، ويؤكد وحدته، ثم يخفيه تحت صور متنوعة، ويقول: إنه ساكن جالس أبدًا، ثم إنه متحرك ينفذ إلى صميم المخلوقات بقدرته، تلك أسماء مجازية، فإن الله يسمى كبيرًا عظيمًا بسبب عظمته الذاتية التي تفوق كل عظمة، ويضاف إليه الصغر أو اللطافة؛ لأنه ليس فيه مقدار ولا مسافة، ولأنه ينفذ في كل مكان دون حائل، ويضاف إليه التنوع؛ لأن عنايته تجعله حاضرًا لدى المخلوقات على اختلافها، فهو كله في كلها مع بقائه هو هو، ويقال: إن الله المتسلط الأعظم؛ لأنه الأساس الثابت لجميع الأشياء، ويقال: قديم الأيام، لأنه خالق الأيام والزمان، ويقال: إن الله سلام؛ لأنه هو الذي يؤلف بين الموجودات، ويحقق بينها النظام والانسجام، ويدعى الله قدس الأقداس، لكمال قداسته، وملك الملوك لسلطانه وقدرته المنظمة — وبعد، فالله لا يسمى ولا يفسر، وجلاله لا يدرك أصلًا، وراء أقوالنا عنه يقوم الموجود الذي يعلو على كل اسم وكل عقل.

(٣) الملائكة

ديونيسيوس أول من أفرد للملائكة كتابًا خاصًّا، وهو يفتتحه بقوله: تحدثنا الكتب المقدسة عن السماوات بصور مجازية لا تشابهها، وذلك لتقربها من أفهامنا، بل إنها تؤثر الصور المستمدة من أخس الموجودات لتباعد بين السماويات وبين تصورها بالماديات، إذ إننا نفهم من ذلك أن القصد المجاز لا الحقيقة، المجاز الذي يحجب الحقيقة، ثم يجمع أسماء طوائف الملائكة الواردة في الكتب المقدسة، ويرتبها في ثلاث مراتب، في كل مرتبة ثلاث طغمات، بعضها فوق بعض بحسب كمالها ومكانها من الله (١) السروفيون، الكروبيون، الأعراش، (٢) السيادات، القوات، السلاطين، (٣) الرياسات، الملائكة، رؤساء الملائكة، وهم عنده أرواح صرف، وإذن عاقلون ومعقولون بالذات، بسيطون غير مركبين، لا شكل لهم ولا خاصية مادية أية كانت، وهو يذهب إلى أنهم خلقوا قبل العالم المحسوس، وأن لكل منهم وظيفة فيه، وأنهم يستفيدون علمهم من الله: يوحي الله بالعلم للمرتبة الأولى، وتوحي به هذه للثانية، وهذه للثالثة، أما عددهم فإن الكتاب المقدس يذكر أعلى الأعداد التي نعرفها، ويضربها بعضها في بعض، فيقول: «ألف ألف، وعشرة آلاف عشرة آلاف» ومعنى ذلك أنه يمتنع علينا تقديرهم، وأما الأقوال الواردة فيه عنهم فمعظمها مجازي يجب تأويله: من ذلك تشبيههم بالنار، وبالإنسان وبالريح وبالسحاب وبالمعادن، وببعض الحيوان كالأسد والثور والنسر، كل أولئك وأمثالها صور ورموز مناسبة لعقولنا (ويعرض لشرحها الفصل الأخير من الكتاب).

(٤) اللاهوت الصوفي

المنهج السالب في معرفة الله يفضل المنهج الموجب، وعليه ينبني التصوف، اللاهوت الصوفي هو العلم بالله وبالأمور الإلهية علمًا ذوقيًّا أي تجريبيًّا شعوريًّا ممنوحًا من الله، فهو بموضوعه وبوسائله علم فائق للطبيعة؛ لأن الإنسان لا يملك أن يبلغ بقوته الطبيعية إلى طبيعة الله، ولكن الله هو الذي يجذب إليه الإنسان ويرفعه إلى بهائه الذي لا يدركه العقل وإنما يحسه القلب ويحبه ويعبده، ولأجل الاتحاد بالله يجب المران بلا انقطاع على التأمل الصوفي، يجب إطراح الحواس والأفعال العقلية، والذهاب بقوة فائقة للطبيعة إلى الموجود القائم وراء كل ماهية وكل فكر، ذلك ما لا يفهمه الذين يعتقدون أنهم يستطيعون بقوة عقلهم أن يدركوا الموجود الذي «اتخذ له الظلمة مقامًا» كما يقول داود النبي، متى خلصت النفس من العلم المحسوس والعلم المعقول جميعًا، دخلت في ظلام جهل مقدس، وانصرفت عن كل معرفة استدلالية، وفنيت في الموجود غير المنظور غير المدرك، واتحدت به بنسبة انصرافها عن الاستدلال، واستمدت من ذلك الجهل المطلق معرفة لا يبلغ العقل إليها، وإنما تجرؤ على سلب كل شيء عن الله، كي نلج ذلك الجهل السامي.

(٥) ديونيسيوس والأفلاطونية الجديدة

(أ) وخلاصة القول في ديونيسيوس أنه أعرب هو أيضًا عن إيمانه بفلسفة عصره، فأخذ عنها أشياء، وترك أشياء، أخذ عن أبروقلوس وأفلوطين كثيرًا من المصطلحات والعبارات والآراء الجزئية، بعضها يتفق مع المسيحية أو لا يخالفها، وبعضها موضع نظر، فمن الصنف الأول وصفُ الحالات الصوفية، وتقديم الخيرية على سائر الصفات الإلهية، أما عن الإيجاب والسلب في حق الله، فقد كان آباء الكنيسة يميزون بين لاهوت موجب ولاهوت سالب، ويبدءون بالثاني، ليخلصوا منه إلى الأول، بينا ديونيسيوس يرى في الإيجاب تمهيدًا لمعرفة الله بالسلب، إذ إن إيجاب صفات المخلوقات لله، على ما هي في المخلوقات وفي تصورنا، يرينا للفور عدم لياقتها لوصف الله وضرورة سلبها عنه، فهو يعتبر المعرفة السلبية أصدق وأليق، ومن الصنف الثاني قوله: إن فعل الله يصل مباشرة إلى الموجودات العليا، ومنها إلى التي تليها، وهكذا إلى آخر مراتب الوجود، وكذلك في العودة إلى الله، كل موجود فهو مفتقر إلى وساطة الموجود الذي فوقه، بحيث لا تكون هناك علاقة مباشرة بين الله والنفس الإنسانية إلا حين تكون النفس قد بلغت إلى المرحلة الأخيرة في صعودها إلى الله، وهذا مناف للمسيحية، على أن ديونيسيوس يقول أيضًا: إن الصلاة والجذب وسيلتان للاتحاد بالله رأسًا.

(ب) أما ما تركه من آراء الأفلاطونية الجديدة، فهو المعارض للمسيحية معارضة صريحة، مثل وحدة الوجود، ولا شخصية الله، والصعود إلى الله بقوتنا الذاتية، أجل، إننا نجد عنده بعض عباراتها التي تقول إن الله وجود الأشياء، وإن الله الأشياء؛ لأنه مصدرها، فإن الأفلاطونية الجديدة، لما كانت تذهب إلى أن العالم صادر عن ذات الله، لا تستطيع تمييز العالم من الله تمييزًا حاسمًا، وتميل إلى اعتبار العالم مظهر الله، ولكن هذه العبارات لا تتجه عند ديونيسيوس إلى أكثر من الدلالة على أن الله هو الموجود بالذات، وأن العالم موجود بالله، فإنه يميز بين الله والعالم تمام التمييز، ويرجع وجود العالم إلى الخلق من عدم، ويعتقد أن الله محبة فعالة، أنه محب للبشر، وأنه خلاص الموجودات وفداؤها، وأن الاتحاد به نعمة مجانية، تسبقها وتهيئ لها نعمٌ مجانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤