الفصل الرابع

بوبسر

(١) مارتيانوس كابيلا

(أ) في الفترة الطويلة الفاصلة بين سقوط الإمبراطورية الرومانية وقيام إمبراطورية شارلمان، لا نجد في الغرب سوى أسماء قليلة تذكر في تاريخ الفلسفة، لما قدمنا من اضطراب الحال السياسية والاجتماعية، ونحن نورد هنا أربعة كان لهم أثر كبير في العصر الوسيط.

(ب) مارتيانوس كابيلا قرطاجني أقام بروما وصنف بها حوالي سنة ٤٣٠ موسوعة في تسع مقالات هي أول كتاب أحصى «الفنون الحرة السبعة» وعالج كلًّا منها في مقالة، والمراد بالفنون الحرة تلك التي تنشأ من تنظيم أفعال العقل، تقابلها الفنون العملية التي تقتضي عملًا يدويًّا، والفنون الحرة مجموعتان: واحدة ثلاثية وأخرى رباعية، أما الأولى فتشمل الغراماطيق والبيان والجدل، وأما الثانية فتشمل العلوم التي جعلها أفلاطون مقدمة للفلسفة، وهي الحساب والهندسة والفلك والموسيقا، فجاءت هذه الموسوعة محاولة لتصنيف المعارف، وبرنامجًا للدراسة.

(٢) بويس (٤٧٠–٥٢٥)

(أ) هو أشهر هؤلاء الأربعة وأبعدهم تأثيرًا، ولد في أسرة رومانية معروفة، وأرسل صبيًّا إلى أثينا فدرس بها الأدب والفلسفة، وفي سنة ٥١٠ صار وزيرًا لتيودوريك ملك فرع الأوستروجوث بإيطاليا، ثم اتهم زورًا بالتآمر على مليكه، وبمزاولة السحر والتنجيم، فأودع السجن دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه، وأعدم بعد تعذيبه عذابًا شديدًا.

(ب) عقد النية على نقل كتب أفلاطون وأرسطو وبيان اتفاقها، على ما كان متبعًا في أثينا لعهدها الأخير، إذ كانت الدراسة فيها تبدأ بكتب أرسطو باعتبارها دائرة بنوع خاص على العالم المحسوس، ثم تنتقل إلى كتب أفلاطون باعتبارها دائرة على العالم المعقول، ولو أنه أتم هذه المهمة لعرف الأوروبيون كتب أرسطو قبل أن ينقلها السريان إلى العربية بزمن طويل، ولتغير مجرى التفكير عندهم منذ أول عهدهم بالتفلسف، ولكنه لم ينقل منها سوى عدد يسير، تناول أول أمره ترجمة ماريوس فيكتورينوس لكتاب إيساغوجي ونقدها، ثم ترجم الكتاب وعلق عليه شرحًا جديدًا، وترجم كتب أرسطو في المقولات والعبارة والتحليلات الأولى والثانية والجدل، ويظن أنه ترجم كتاب الأغاليط، وتذكر له شروح على هذه الكتب، غير أن الغربيين لم يعرفوا الكتب الثلاثة الأخيرة إلا في القرن الثاني عشر، فإما أنها كانت فقدت ثم عادت إلى الظهور، وإما أنها ترجمت من جديد وأضيفت إليه، وله شرح على كتاب الجدل لشيشرون، ووضع من عند نفسه: المدخل إلى الأقيسة الاقترانية، وكتابًا في الأقيسة الاقترانية، وآخر في الأقيسة الاستثنائية، وكتابًا في القسمة، وآخر في الحد، وآخر في الجدل، وفي سجنه صنف كتابًا أسماه «عزاء الفلسفة» أو «العزاء الفلسفي»، ويذكر له المدرسون كتبًا رياضية وموسيقية، ويذكرون له في القرن الثالث عشر ترجمة كتب أرسطو في السماع الطبيعي والنفس وما بعد الطبيعة، وله كتب لاهوتية هي رسائل قصيرة رصينة دوَّنها في أواخر حياته، وتناولها المدرسون بالشرح والتعليق، وأشهرها كتاب «في الثالوث».

(ﺟ) لا يعد بويس صاحب مذهب متسق، ولكنه جمع كثيرًا من الآراء بعضها إلى جانب بعض، ففي كتبه المنطقية يرى من ناحية أن موضوع المنطق دلالة الألفاظ فحسب، وأن الكليات مجرد أسماء، وهذا رأي أعان فيما بعد على تكوين مذهب الاسمية، ومن ناحية أخرى يعرض حلًّا لمشكلة الكليات مغايرًا للاسمية، هذه المشكلة واردة في مفتتح «إيساغوجي»، حيث يقول فورفوريوس: «هل للأجناس والأنواع وجود في الخارج، أو هي مجرد تصورات في الذهن؟ وإن كانت موجودة في الخارج، فهل هي جسمية أو لا جسمية؟ وإن كانت لا جسمية، فهل هي مفارقة للمحسوسات، أو لا وجود لها إلا في المحسوسات؟» وفورفوريوس يقتصر هنا على إثارة المسألة ولا يذكر حلًّا لها، وإن كان قد حلها على مذهب أفلاطون في كتب أخرى، فأجاب بويس عن الأسئلة الثلاثة بما يأتي: (١) الأجناس والأنواع جواهر ومعان في نفس الوقت، (٢) وهي لا جسمية بالتجريد لا بالذات، (٣) وهي موجودة في المحسوسات وخارجًا عنها أي في العقل، وهذا الحل أرسطوطالي.

(د) وهو يصطنع نظريات أرسطوطالية أخرى، مثل الهيولى والصورة، والقوة والفعل، والجوهر الأول والجوهر الثاني، والعلل الأربع، والمحرك الأول غير المتحرك، بيد أنه إذ يقول مع أرسطو: إن الله صورة محضة، يجعل المخلوقات الروحية (العقول أو الملائكة) مركبة من هيولى روحية وصورة، لكي يضع بين الله والمخلوقات فارقًا جوهريًّا، على ما فعل أوغسطين، وفي كتبه اللاهوتية يلح كثيرًا في بساطة الخالق وتركيب المخلوقات، ويجعل هذا التركيب من الجوهر الأول أو ما هو موجود، ومن الصورة التي هو بها موجود، فيقترب من موقف أرسطو، وفي تفسيره لفعل الخلق، يقول بالصدور، ولكنه يقرر أن الألوهية لا تنتشر إلى خارج، وأن المخلوق لا يشارك في ماهية الخالق، ويتحدث عن التسليم للقدر بعبارات تذكر بالرواقية، ولكن القدر عنده العناية الإلهية، على أنه يتابع الأفلاطونيين دون تحفظ في الاعتقاد بسبق وجود النفوس، ويعرض نظرية في المعرفة قائمة على التذكر الأفلاطوني، ويأخذ عن الفيثاغوريين نظريتهم في العدد والوحدة، ويقول بقدم العالم، ولكنه يميز بين القدم المتحرك، وبين أبدية الله الثانية، ويرى أن النقطة الهامة هي أن العالم مخلوق، وأن الخلق كان من عدم.

(ﻫ) كتاب «عزاء الفلسفة» حوار بين «فيلوصوفيا» والمؤلف السجين فيما تثيره الحياة من مسائل، كعذاب الصالح (يريد عذابه هو في السجن) والعناية الإلهية والخير الأعظم، فتبين له أن الدنيا لا توفر السعادة، وأن الله هو الخير الكلي، وأن الشوق إلى هذا الخير دليل وجوده، كما يدل النقص على الكمال، وأن الألم امتحان للأخيار، وتأديب للأشرار، وأن التوفيق بين سابق علم الله والحرية الإنسانية إنما يشكل على عقلنا المحدود فقط — كل ذلك باعتبارات فلسفية بحتة على منوالي الأفلاطونية والرواقية، فقيل: كيف يلتمس بويس العزاء عند الفلسفة، ولا يلتمسه عند دينه؟ والجواب أن الكتاب محاولة لتفسير المسائل بالفلسفة وإقامة الإيمان على أساس عقلي، ويلوح أن مفكري العصر الوسيط فهموه على هذا الوجه، فإنهم لم يثيروا اعتراضًا بشأنه على كثرة ما درسوه وشرحوه ونسجوا على منواله.

(و) وعلى ذلك يكون بويس رأى وجوب التمييز بين الفلسفة والإيمان، والاستعانة بالأولى على توضيح الثاني، وأثر الفلسفة ظاهر كل الظهور في كتبه اللاهوتية، حيث يعالج العقائد بحسب المناهج المنطقية، ويدخل عليها عددًا كبيرًا من المعاني الفلسفية، وقد استحدث بالترجمة والشرح والتأليف معجمًا فلسفيًّا ضخمًا باللغة اللاتينية، وقدم بشروحه أمثلة على الشرح الفلسفي كيف يكون، وسيفيد المدرسيون من هذه الجهود أكبر فائدة.

(٣) إيزيدور الإشبيلي (٥٧٠–٦٣٦)

(أ) في أوائل القرن السادس أنشئت في إسبانيا مدارس رهبانية وأسقفية: أنشأ الأولى الرهبان البندكتيون لرجالهم، وأنشأ الثانية الأساقفة للخوارنة، عرفت هذه المدارس عددًا من العلماء أخذوا على أنفسهم جمع المعارف المكتسبة أشهرهم إيزيدور، ولد بقرطاجنة من أعمال إسبانيا، وصار أسقفًا على إشبيلية سنة ٦٠١ إلى وفاته، ساهم في إنشاء المدارس، وبعث في وطنه حركة علمية قوية انتشر أثرها إلى إيطاليا وسائر أنحاء أوروبا، حمل المجمع الكنسي الطليطلي الرابع على تقرير تدريس اليونانية والعبرية للحاجة إليهما في تفسير الكتب المقدسة.

(ب) وهو يمثل خير تمثيل النزعة الموسوعية السائدة في عصره، وذلك بكتاب ضخم في عشرين مقالة أسماه «الأصول» لخص فيه جميع العلوم، أولًا: الفنون الحرة السبعة، وأضاف إليها الطب، ثانيًا: علوم الدين والاجتماع، ثالثًا: العلوم الطبيعية، رابعًا وأخيرًا: الفنون الآلية. وهو يذكر في علوم الاجتماع القوانين والعصور مع تاريخ عام حتى سنة ٦٢٧، واللغات والأمم والممالك والجيوش والأنساب، وفي كلامه على القوانين يعرض لمثل المسائل الآتية: أصل الحكم، واجب الحكومة في الدفاع عن الكنيسة، وجوب خضوع الجميع — حتى الملوك — للقانون والعدالة، فصل ثروة الملك الخاصة عن ثروة التاج، ويذكر في العلوم الطبيعية العالم وأجزاءه، الأرض ومناطقها، الحيوان، الإنسان والمسوخ، المنازل والحقول، الأحجار والمعادن، ويذكر في الفنون الآلية الزراعة والحرب والألعاب والملاحة، والحياكة والأغذية والآلات والأواني، وقد لخصت هذه الموسوعة أو نسخت بأكملها مرارًا لا تحصى خلال العصر الوسيط، ومما تجدر الإشارة إليه أنها تذكر كتب أرسطو الكبرى، عدا كتاب ما بعد الطبيعة، وتحيل في ذلك إلى ترجمات بويس، ولإيزيدور الإشبيلي كتب أخرى، منها: في المترادفات، في تاريخ بعض قبائل البربر، في مشاهير الرجال، وله كتب لاهوتية، وهو في آثاره جميعًا ناقل للعلم القديم في أسلوب واضح رشيق، ولما اضطر الفيزيجوث إلى الهرب من وجه العرب حملوا معهم في جبال البرانس مؤلفات الأسقف الكبير ككنز نفيس يحرصون عليه.

(٤) بيد (٦٧٢–٧٣٥)

(أ) وفي القرن السادس أيضًا قدم إنجلترا بعد الغزوات الأنجلوسكسونية رهبان من روما شرعوا ينشرون المسيحية وينشئون المدارس، فقامت حركة أدت في القرنين الثامن والتاسع إلى اضطلاع إنجلترا، وخصوصًا إرلندا، بقسط كبير في ثقافة القارة الأوروبية. أرخ لهذه الحركة «بيد» حتى سنة ٧٣١، وبذل جهده ليوفر للبلاد الإنجليزية مثل الأداة الثقافية التي وفرها إيزيدور لإسبانيا، فوضع كتبًا وعت العلوم القديمة، وسميت إرلندا «مصباح الشمال»، للدلالة على مكانتها من العلم ونصيبها في نشره، وسنصادف دلائل ذلك فيما يلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤