الفصل الأول

تنظيم التعليم

(١) تكاثر المدارس

(أ) في سنة ٧٧٨ أعلن شارلمان رغبته في الإكثار من المدارس، وطلب الأساتذة من كل صوب، وبالأخص من إيطاليا وإنجلترا وإرلندا، حيث كانت المدارس قد حفظت تراث اللغويين والأدباء والفلاسفة، أشهر أولئك الأساتذة ألكوين (٧٣٠–٨٠٤) وهو أنجلوسكسوني ولد بمدينة يورك وتعلم بمدرستها البندكتية ثم علم بها، في عودته من رحلة إلى روما، سنة ٧٨١، كان شارلمان بمدينة روما، فاستوقفه بها، فأسس ألكوين مدرسة البلاط مستعينًا بنفر من العلماء، وكان الإمبراطور وأبناؤه وبناته يستمعون إلى الدروس، وألف شارلمان جمعية علمية يحمل أعضاؤها أسماء رمزية مستعارة من الكتب المقدسة والأدب القديم، فكان هو يحمل اسم داود، ويحمل آخر اسم هوميروس، وهكذا، وكانت مدرسة البلاط، بأساتذتها وتلاميذها، متنقلة مع الإمبراطور وأسرته، واحتفظ بها خلفاؤه المباشرون من الملوك الفرنكيين، وأنشئت على غرارها المدارس في مختلف القصور، أما ألكوين فعلم بها ثماني سنين، ثم اعتزل في دير سان مارتان دي تور بفرنسا، وافتتح فيه مدرسة، وتوفي هناك، كان يدرك عظم مهمته وبعد أثرها، فقد صرح في رسالة أنه يريد أن ينشئ بفرنسا أثينا جديدة، ويقتصر فضله على نقل ثقافة إرلندة إلى فرنسا وألمانيا، وتنظيم التعليم فيهما، وضع كتبًا منطقية ليس فيها شيء إلا ونجده عند بويس، ورسالة في النفس هي مجموعة أقوال أوغسطينية، وكتبًا لاهوتية هي مقتبسة كذلك، على أن تلك الكتب بقيت من بعده أداة حسنة للتعليم.

(ب) وثاني رجل يذكر من أساتذة ذلك العصر رابان مور (٧٨٠–٨٦٥) وهو ألماني ولد بمدينة ميانس، ودرس بمدينة فولدا، وأكمل دراسته على ألكوين في دير سان مارتان، وعاد إلى فولدا فعلم بها، ثم صار أسقفًا على ميانس، وضع كتابًا في «العالم أو طبائع الأشياء» هو عبارة عن دائرة معارف عصره، وجمع نصوصًا قديمة، منها مائة بيت للوكريس كانت أصل معرفة العصر الوسيط الأول بذلك الشاعر وبأبيقور، ودوَّن شروحًا على الكتب المقدسة، ومما يذكر من آرائه أخذه بقول لوكريس: إن كل موجود فهو جسمي، ولكنه يستثني الله، وفي مسألة المعاني الكلية يتخذ موقفًا قريبًا من موقف أرسطو، في شرح على إيساغوجي يعزى إليه، ويعزى أيضًا إلى أحد تلاميذه، فقد كان له تلاميذ نسجوا على منواله، وقام غيرهم من العلماء جمعوا ولخصوا.

(ﺟ) كان التعليم في ثلاث درجات: الدرجة الأولى: التعليم الأولي، وقد كان مجمع كنسي أمر به منذ سنة ٥٢٩، ثم صدر سنة ٧٨٩ أمر إمبراطوري بالإكثار من المدارس الأولية وزيادة العناية بها، كان هذا التعليم إلزاميًّا للمرشحين للكهنوت، ومفتوحًا لمن يشاء من المدنيين، غير أن المقبلين عليه من هؤلاء كانوا قليلين، مما كان موضع شكوى الأساقفة وتشديدهم المتصل، أما مواده فكانت: القراءة والكتابة ومبادئ اللاتينية الدارجة وشرح موجز للكتب المقدسة وكتب الشعائر الدينية.

(د) والدرجة الثانية: «الفنون الحرة السبعة» على مجموعتين: ثلاثية، ورباعية، في المجموعة الثلاثية كان تعليم الغراماطيق والخطابة يعتمد على قراءة كبار الشعراء والكتاب من الرومان، ومن جاء بعدهم من آباء الكنيسة والشعراء المسيحيين، وكان للجدل المحل الأكبر، أما المجموعة الرباعية، مضافًا إليها الطب، فكانت أقل حظًّا من السابقة لما تتطلب من معارف إخصائية لم تكن ميسورة، وكانت علوم المجموعة الثلاثية تسمى «عقلية» لما قدمنا من أن الفن الحر يتناول أفعال العقل، وتسمى علوم المجموعة الرباعية «وجودية»؛ لتناولها حقائق مستقلة عن العقل rationales reales.

(ﻫ) والدرجة الثالثة: تعليم الكتب المقدسة بالتفصيل، وسبب تأخيرها: أن علوم الدرجتين السابقتين ضرورية لفهمها لغويًّا وتاريخيًّا وعلميًّا، وكان هذا التعليم يؤيد بتفاسير الآباء، وبالأخص تفاسير أوغسطين، وكانت الدرجات الثلاث مباحة للمدنيين، على أنها لم تكن منفصلة ولا مرتبة بعضها فوق بعض، فمن جهة لم تكن كل مدرسة تحويها جميعًا؛ ومن جهة أخرى لم تكن الدرجة الواحدة متشابهة في جميع المدارس؛ ومن جهة ثالثة لم تكن الدرجات متعاقبة تمام التعاقب في المدارس التي تتناولها كلها، بل كانت تمتزج بعضها ببعض.

(٢) الفلسفة

(أ) من بين هذه المواد كان الجدل يمثل الفلسفة، وكان مقصورًا في ذلك العهد على الثلاثة الأولى من كتب أرسطو المنطقية: المقولات، والعبارة، والتحليلات الأولى، على أن مسائل فلسفية كثيرة كانت تعالج في تضاعيف الشروح على الكتب المقدسة، وفي مناقشات لاهوتية، منها: مسائل الثالوث الأقدس، وسر القربان، والملائكة هل هم جسميون أم مفارقون للمادة؟ والنفس الإنسانية هل هي حالَّةٌ في الجسم حلول الشيء في المكان؟ وهل حدود الجسم حدود لها؟ وكيف يكون ذلك وهي روحية؟ وعقاب جهنم هل هو النار أو الألم للذنوب المقترفة؟ ورؤية الله في النعيم هل هي معاينة الله بعين الجسم؟ وكانوا يعوِّلون على آباء الكنيسة وبالأخص أوغسطين، فلئن لم تجمع هذه المسائل في كتب قائمة برأسها، ولم يعين لها مكان خاص في مراحل التعليم، فقد بدت في صورة قوية عند جون سكوت أريجنا أكبر أساتذة القرن التاسع.

(ب) وثمة ناحية أخرى امتازت بها فلسفة هذا العهد، هي العناية بما يسمى مسألة الكليات، فقد شرعوا يعالجونها ويتجادلون في الحلول المختلفة، وجملة الحلول أربعة تعاقبت على الترتيب الآتي: أولها: «الوجودية المسرفة»، فقد كان الموقف العام تقريبًا أن لكل معنى في الذهن مقابلًا في الخارج على مثاله، تمشيًا مع الأفلاطونية، حتى لقد ذهب فريديجيز دي تور (أحد تلاميذ ألكوين) إلى أن لفظ «عدم» أو «لا شيء» يدل على مادة غير معينة تركب منها المخلوقات، وأن لفظ «ظلام» يدل كذلك على وجود، أليس يقول الكتاب المقدس: إن الله خلق الأشياء من العدم، وإن ظلمات كثيفة كانت تغشى الأرض؟ وفي القرن الحادي عشر ظهر حل آخر هو «الاسمية» يدعي أن الكليات مجرد أسماء أو ألفاظ لا يقابلها شيء في الخارج، بل لا يقابلها شيء في الذهن، وحوالي منتصف القرن الثاني عشر بدأ يتكون حل ثالث هو «الوجودية المعتدلة»، وقد مهدت له المعارضة للوجودية المسرفة: هذا المذهب يقرر أن للكليات وجودًا في الذهن وفي الخارج ولكن باختلاف، هي في الخارج متشخصة بأعراض الموجود الجزئي، وهي في الذهن بريئة من هذه الأعراض، يجردها العقل من الجزئي، وسيزداد هذا المذهب ثباتًا ودقة بازدياد المعرفة بفلسفة أرسطو في القرن الثالث عشر، وأخيرًا ظهر في أوائل القرن الرابع عشر مذهب «الذهنية» أو «المعنوية» وهو لا يعترف بوجود للكليات إلا كمعان في الذهن، ويأبى القول بأن الجزئيات حاصلة على الماهية التي نعقلها وقد انتشر هذا المذهب، ونستطيع أن نقول إنه الغالب في الفلسفة الحديثة.

(٣) جون سكوت أريجنا (؟–٨٧٧)

(أ) قلنا: إنه أكبر أساتذة القرن التاسع، وهو أول فيلسوف مدرسي، عاصر الكندي أول الفلاسفة الإسلاميين، استقدمه ملك فرنسا من وطنه إرلندا، فقصد إلى باريس ونزل في البلاط وعلم بمدرسته.

(ب) أول مصنفاته كتاب «في «الانتخاب الإلهي» وضعه إجابة لطلب أسقفين رغبا إليه في أن يرد على رسالة لأحد الرهبان زعم فيها أن الله ينتخب للجنة أو للنار فلا حرية ولا تبعة، وكان هذا الزعم أثار ضجة عظيمة، أيده البعض ودافع كثيرون عن الحرية، وجاء كتاب أريجنا مبينًا عن مصادره وعن نزعة عقلية جريئة، إنه يذكر بالطبع آيات كثيرة من الكتب المقدسة، ويستشهد بشيشرون وأوغسطين وبويس وألكوين، ولكنه يقول بوجوب الاحتكام إلى العقل، فيذهب أولًا إلى أن العقل يأبى التسليم بأن الله ينتخب أهل النار، ويقدم دليلين: أحدهما: أن علة واحدة بعينها لا تحدث معلولين متقابلين، فلا يمكن أن نضيف لله إرادة للخير وأخرى للشر، والدليل الثاني: أن الشر عدم على ما بين أوغسطين، فلا يمكن أن يكون الله علة إلا للوجود أي للخير، ولكن أريجنا يخطو خطوة أخرى فيقول: إن العقل يأبى التسليم بالانتخاب إطلاقًا، فلا يدع مجالًا لفاعلية الله وتوجيهه إلى الخير، فألب عليه الفريقين المتجادلين، والأسقفين في الجملة، وأنكر رأيه مجمعان كنسيان.

(ﺟ) بعد هذه الصدمة عكف على إجادة اليونانية، وكان تعلمها في إرلندا، فكلفه الملك أن يعيد نقل كتب ديونيسيوس، وكانت نقلت قبل ربع قرن نقلًا ضعيفًا فنهض بالعمل ودون شرحًا على الأصل، وكان لذلك شأن كبير في توجيه فكره وتوجيه الفلسفة المدرسية من بعده، إذ إنه أخضعها لتأثير الأفلاطونية الجديدة المشبعة بها تلك الكتب، فضلًا عن تأثرها بأفلاطونية أوغسطين، أما نقله فقد جاء عاملًا جديدًا في تكوين اللغة الفلسفية عند المدرسيين، غير أنه التزم الترجمة الحرفية ووقع في أغلاط كثيرة، يشفع له فيها أو في معظمها رداءة مخطوطاته اليونانية من جهة، فقد كانت كثيرة الأغلاط عديمة الترقيم يجري فيها الكلام بلا فواصل، ومن جهة أخرى غموض لغة ديونيسيوس وبعدها عن اليونانية الأصيلة، وفي النقل نحو خمسين لفظًا يونانيًّا وضعت بنصها دون ترجمة، وكان المعاصرون يتذوقون ذلك، ونقل كتبًا أخرى لبعض الآباء اليونان.

(د) كتابه الأكبر «قسمة الطبيعة» هو — من حيث الشكل — حديث بين تلميذ يسأل وأستاذ يجيب فينساق — في سبيل التفسير والتفهيم — إلى كثير من التكرار والاستطراد، ومن حيث الموضوع، هو عبارة عن الأفلاطونية الجديدة تبدو واضحة خلال ما يكدسه من آيات الكتب المقدسة وأقوال الآباء، وإنما وقف على الأفلاطونية من المصادر المذكورة، أما أفلوطين وأبروقلوس، فليس هناك ما يدل على أنه قرأهما، ولكنه يذكر تيماوس وقد عرفه من ترجمة خلقيديوس أو من ترجمة شيشرون.

(٤) مذهبه

(أ) الغرض الذي يرمي إليه هو فلسفة الدين، ولا فارق عنده من حيث الموضوع بين الدين والفلسفة، كلاهما صادر عن الحكمة الإلهية، فلا تمييز بينهما ولا تعارض: «الفلسفة الحقة هي الدين الحق، والدين الحق هو الفلسفة الحقة.» والفرق بينه وبين أوغسطين أنه يميل إلى مد سلطان العقل إلى موضوع الإيمان بأكمله غير محتاط للتفرقة بين الطبيعة وما فوق الطبيعة، وهو يفسح المجال أمام العقل بقوله: إن معاني الكتاب المقدس متعددة تعدد ألوان ذيل الطاووس، فلنا أن نختار المعنى الملائم، بل لنا أن نتأول أسوة بالآباء، فقد تأولوا بعقولهم وتعارضوا في مسائل كثيرة، فنحن نعرض تأويلاتهم على العقل، فإذا لم يقرها وجب الأخذ بحكمه دونها، إذ لا يمكن أن يصدر العقل عن السلطة، والسلطة نفسها صادرة عن العقل، وكل سلطة لا تقوم على عقل مستقيم فهي سلطة كسيحة، بينما العقل المستقيم المعزز ببراهينه غير مفتقر لتأييد سلطة ما، إلا أن تكون سلطة الكنيسة ترسم حدود التأويل، فيمكن تسميته أبا المذهب العقلي في العصر الوسيط، ذلك المذهب الذي يدعي البرهنة على العقائد، وهو غير المذهب العقلي في العصر الحديث الذي ينكر العقائد باسم العقل والبرهان.

(ب) يقصد أريجنا بقسمة الطبيعة نظام الوجود أو ترتيب الموجودات، وهذا تقسيمه: الله مبدأ ووسط وغاية، والوسط مزدوج، فتتم قسمة الطبيعة إلى أربع طبائع، فأولًا: الله من حيث هو مبدأ الأشياء هو الآب أو «الطبيعة غير المخلوقة الخالقة» وهو ذات بسيطة كل البساطة، لا تمايز فيه ولا تضاف إليه صفة إلا مع لفظ «فوق» كما قال ديونيسيوس، لتنزيهه عنها، فتبدو صيغة القول إيجابًا وهي في العقل سلب؛ لأنها تعني أن الله أرفع من الصفة، ثانيًا: الله من حيث هو وسط تقوم الموجودات وتتحرك فيه وبه، هو من الجهة الواحدة الابن أو «الطبيعة المخلوقة الخالقة» أو الكلمة الصادرة عن الله الحاوية مثل الأشياء أو عللها الأولى في أكمل بساطة واتحاد، أو هو العالم كما يتصوره الله، ثالثًا: هو من الجهة الأخرى الروح القدس أو «الطبيعة المخلوقة غير الخالقة» أو هو العالم متحققًا خارج الله، رابعًا: الله من حيث هو غاية ترجع إليها جميع الموجودات هو «الطبيعة غير المخلوقة غير الخالقة» بهذا الاعتبار، والطبيعتان: الأولى، والرابعة، لا تتمايزان إلا في تصورنا الله تارة مبدأ، وطورًا غاية، وكذلك الطبيعتان الثانية والثالثة تؤلفان قسمًا واحدًا؛ لأنهما مخلوقتان تمثلان جملة الخليقة، أو هما «تجلي الله»، ولنا هنا مثال أول على تأول أريجنا: فهو يجعل الابن والروح القدس مخلوقين من الله، كما جعل أفلوطين العقل الكلي والنفس الكلية صادرين عن الواحد، وهو يتصورهما كما تصور أفلوطين هذين الجوهرين وسيذهب غير واحد من بعده إلى مثل هذا التصور السهل القريب إلى المخيلة، في حين أن المسيحية تعلم أن الأقاليم الثلاثة متساوية في الذات الإلهية.

(ﺟ) ومع هذا التمييز بين الأقاليم الثلاثة نرى قلمه يجري بعبارات كثيرة كانت سببًا في اتهامه بوحدة الوجود، منها قوله: إن الخلق من لا شيء معناه أن الله يخلق من كماله غير المدرك الذي إذا اعتبرناه في ذاته لم يكن شيئًا معينًا من حيث إنه يجاوز الوجود من جميع النواحي، فالله إذ يخلق الخليقة يخلق ذاته من ذاته على نحو خفي يفوق التصور والتعبير، فيجعل ذاته منظورًا وهو غير المنظور، ويجعل ذاته مدركًا وهو غير المدرك، ويتخذ لذاته ماهية وطبيعة وهو يفوق الماهية والطبيعة، ويصير عالمًا مخلوقًا وهو خالق العالم، الأشياء جميعًا موجودة في الله، والله قسمة المخلوقات واجتماعها، والجنس والنوع والكل والجزء، دون أن يكون جنسًا لمخلوق ما أو نوعًا أو كلًّا أو جزءًا، ولكن كل أولئك خارج منه، وكل أولئك فيه وله، يجب التوحيد بين الخالق والمخلوق حتى لا نرى في المخلوق إلا الخالق وهو الموجود الوحيد الموجود حقًّا، أما المخلوقات فما هي إلا مشاركات في الموجود بالذات، ولكن يمكن القول أن قصده هو أنه لما كان الله الموجود الحق، فيلزم سلب الوجود الحق عن المخلوق، لا مطلق الوجود، بل الوجود بالذات، ثم إن وحدة الوجود تتضمن التصورية، أي اعتبار الموجودات صورًا في الفكر، وكان أريجنا موضوعيًّا كسائر مفكري العصر الوسيط، هو لاهوتي يطلب الله، ويرى الأشياء «تجليات» الله.

(د) الخلق أزلي «فإن ما رآه الله دائمًا صنعه دائمًا، وليس يمكن أن تسبق رؤيته فعله، ولكنه يرى إذ يفعل، وإذ يفعل يرى»، ولم تكن إرادة الله الأولى أن يتنزل إلى خلق المادة الفاسدة، بل أن يقتصر الخلق على الأرواح السماوية، والنفوس الإنسانية حاصلة على أجسام روحانية، ولكن جاءت الخليقة المادية نتيجة للخطيئة الأصلية، وهذه الخطيئة سبب الموت، ومصايب الحياة، وقصورنا عن معرفة الله إلا بالصور الحسية، خلق الله الإنسان شبيهًا به، ركبه من نفس ناطقة وجسم لطيف غير مندثر، وهبه علمًا تامًّا بذاته وبخالقه وبالملائكة وبالمحسوسات، ولكن الإنسان تحول عن الله بحريته وتوجه إلى نفسه، فانهمك بكليته في الحيوانية، وتكثف جسمه، وطرد من الفردوس أي من طبيعته الناطقة، دون أن يفقد مع ذلك شيئًا من تمام ماهيته، وهو يستطيع أن يخلص، وذلك بوساطة الكلمة، فإن الكلمة مخلص الإنسان، بل مخلص الكون أجمع: وتلك هي العودة إلى الله غاية المخلوقات، فكما خرجت كثرة الأشياء من الوحدة الأصلية بالكلمة، كذلك ستعود الكثرة بها إلى الوحدة، وتنتهي قسمة الطبيعة إلى اجتماع شملها.

(ﻫ) ستتم هذه العودة في آخر الزمان بزوال الصور المحسوسة فتبدو كل خليقة — حسية أو روحية — كأنها تحولت إلى الله، مع بقاء جوهرها، فلا يظهر إلا الله الموجود الحق، وذلك هو «تأله» الموجودات، ويعود الإنسان إلى الله على ست مراحل بمعونة الله وتأييده، المرحلة الأولى: هي الموت، إذ ينحل جسمنا الكثيف إلى العناصر الأربعة المركب منها، والثانية: البعث، إذ يعطى كل منا جسمه باجتماع العناصر التي تؤلفه، والبعث ثمرة الطبيعة والنعمة الإلهية مشتركتين: فإننا إذا أضفناه إلى النعمة تجاهلنا ما فينا من ميل طبيعي للبقاء، وإذا أضفناه إلى الطبيعة تناسينا قول المسيح: «أنا القيامة والحياة»، والمرحلة الثالثة: تحول الجسم إلى روح بصعوده إلى درجتي الحياة والحس، والمرحلة الرابعة: عودة الطبيعة الإنسانية، وقد صارت روحية بأكملها إلى المثل أو العلل الأولى القائمة أبدًا في الله، وذلك بأن ترد ماهيات المحسوسات إلى مثلها الإلهية بالاستدلال، والمرحلة الخامسة: اعتبار المثل صورًا لله، وإدراك العلم بالمخلوقات جميعًا في الله، والصعود من هذا العلم أو «التعقل» إلى «الحكمة» أي إلى تأمل الحقيقة في ذاتها بالقدر الذي يستطيعه المخلوق، فإن للإنسان بطبيعته الذاتية ثلاث قوى مدركة: الحس، والاستدلال، والتعقل، تتدرج من الكثرة إلى الوحدة، وهي صورة الثالوث فيه، وأخيرًا، المرحلة السادسة: تتشبع فيها الطبيعة الإنسانية بالله فتصير إلهية كما يصير الهواء ضوءًا، أو المعدن المصهور نارًا، دون أن يتلاشى فيهما الجوهر.

(و) هل يخلص كل الناس؟ إن نظرية العودة النهائية إلى الله تتضمن الجواب بالإيجاب، ويقول أريجنا: إنه ليس يدوم مع الله ما يعارض خيرية الله، ويذهب إلى أن الله إذ يبعث الأشرار يبعث طبيعتهم، والطبيعة خيرة، أما شرهم فلما لم يكن شيئًا لم يبقَ هناك موضوع للعقاب، على أنه لا يستنتج من هذا أن الأشرار يخلصون، بل إن عقابهم روحي بحت، هو عبارة عن عذاب الضمير والألم للبعد عن المسيح إلى الأبد، قال بذلك في كتاب «الانتخاب الإلهي»، ولم يجرؤ على إنكار النار المحسوسة، ولكنه احتال لإبطال مفعولها بقوله: إن العنصر الغالب في الأجسام المبعوثة سيكون النار، وإن نار الجحيم من ثمة لا تختلف عن جسم الشرير، أما في «قسمة الطبيعة» فيصرح بأن الآلام المذكورة في الكتب المقدسة، لا ينبغي أن تفهم بالمعنى الحرفي، وإنما هي صور ورموز، فبعد زوال العالم المادي لن يبقى سوى موجودات روحية، فلا تتوهمن الجحيم مكانًا في عالم محسوس يحشر فيه الأشرار، ما هو إلا شقاء الضمير الذي «يأكل» كالدود، والحزن الذي «يحرق» كالنار، فأريجنا متردد في مسألة الخلاص النهائي لتردده بين الأفلاطونية وبين المسيحية.

(ز) والأفلاطونية الجديدة قوام مذهبه، فلا غرابة أن تكون الكنيسة نظرت إليه نظرة ريبة وإنكار، وهو لا يحيد عن الأفلاطونية إلا في نقطتين، إحداهما: قوله بانتهاء العالم، وهي ترى أن العالم أبدي، والأخرى: قوله بالخلاص بواسطة المسيح وهي تبنيه على قانون ضروري يعيد الموجودات إلى مبدئها، ولكنها أفلاطونية تمثلها فكر مسيحي متشبع بالكتب المقدسة وكتب الآباء، يحاول تفهم المسيحية أولًا وآخرًا، وكتابه «قسمة الطبيعة» مليء بالمباحث الفلسفية وهو أكبر مصنف ظهر في عصره وفي القرنين التاليين، اتخذه اللاهوتيون مثالًا يحتذى في شرح العقائد، مع إنكارهم آراءه، فأخرجوا كتبًا منظمة على مثاله فاقت ما كان معروفًا من هذا القبيل، فأريجنا — بترجماته ومؤلفاته — يعتبر بحق مؤسس الفلسفة المدرسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤