الفصل الثاني

جدليون ولاهوتيون

(١) القرن العاشر

(أ) لم تستقم الطريق أمام نهضة القرن التاسع، فقد جاء القرن العاشر عصر حروب عنيفة أودت بكثير من النتائج المكتسبة، غزا النورمانديون فرنسا، وخربوا كثيرًا من الأديرة والمدارس، فتوقف النشاط العلمي، ورمى أقصى الجهد في الأديرة الباقية، إلى صيانة تقاليد القرن السابق.

(ب) والرجل الوحيد البارز في ذلك العهد جربير دورباك، فرنسي أكمل ثقافته اللاتينية باطلاعه على العلم العربي بإسبانيا حيث مكث ثلاث سنين، ثم علم بباريس، وتقلد عدة مناصب كنسية، وأحرز بتدريسه شهرة أوروبية، حتى انتخب بابا سنة ٩٩٩، وعمل جهده على تشجيع العلم، ولكنه توفي سنة ١٠٠٣.

(ﺟ) سماه أحد معاصريه بالبابا الفيلسوف، لم يكن فيلسوفًا كبيرًا، وإنما كان أديبًا كبيرًا يستشهد في تدريس الخطابة بقدماء الخطباء والكتاب، ويعتمد في تدريس المنطق (أو الجدل كما كانوا يقولون) على ما كان معروفًا لعهده من كتب بويس، وكانت له مشاركة حسنة في علوم المجموعة الرباعية، واصطنع في الأخلاق بعض آراء رواقية، وعرف تمييز أرسطو بين القوة والفعل، ولكنه لم يتوفر على مسائل ما بعد الطبيعة، ولا على اللاهوت.

(٢) القرن الحادي عشر

(أ) استمر الاضطراب إلى منتصف القرن الحادي عشر، وظل التعليم في مستوى متواضع، ثم أخذ يسير سيرًا حثيثًا بتكاثر الرهبان والأديرة، وصار تدريس المجموعتين الثلاثية والرباعية سُنَّةً متبعة، ومن ظواهر هذا التعليم، وخاصة بإيطاليا، إقبال المدنيين عليه يعدون به أنفسهم لتولي المناصب العامة أو للاشتغال بالقانون، وكان بعضهم يطوفون في البلاد يخطبون ويجادلون، فدعوا بالفلاسفة والجدليين والسوفسطائيين والمشائين، بل وجد بين الأكليريكيين رجال اندفعوا مع استعدادهم للخطابة والجدل، وشغفوا بهما حتى قدموها على اللاهوت، وغلا بعضهم في تطبيق الجدل على العقائد، فأثاروا معارضة شديدة من جانب اللاهوتيين، يتهمون الجدل بأنه عند بعض أصحابه عبث صبياني، وعند البعض الآخر زندقة.

(ب) في هذا الوسط نشأ النزاع حول مسألة الكليات، ليس فقط لأهميتها في مسألة المعرفة، بل أيضًا وبخاصة لأهميتها في العقائد — على ما سنرى بعد هنيهة — وهذا ما لا يحسب المحدثون حسابه، وقد طالما تهكموا على المدرسيين لعنايتهم بتلك المسألة.

(ﺟ) وثمة ظاهرة أخرى جديرة بالتسجيل، هي عناية رهبان مونتي كاسينو «بإيطاليا» بالترجمة من العربية، ترجموا بعض الكتب الطبية والفلكية، فكانوا قدوة لمترجمي القرنين التاليين.

(٣) بيرنجي دي تور (١٠٠٠–١٠٨٨)

(أ) فرنسي خريج مدرسة شارتر، أحد أولئك الذين عالجوا الدين بالجدل فضلُّوا، كان يرى في المنطق خير أداة لاستكشاف الحق، ويقول: إنه عبارة عن العقل، وإن الإنسان إنما صنعه الله على صورته بالعقل، فالعدول عن استخدام العقل عدول عن هذا الشرف وانصراف عن التشبُّه بالله، فلما نظر في مسألة القربان الأقدس، ذهب إلى أنه لما كانت الأعراض ملازمة للجوهر، وكانت أعراض الخبز تبقى بعد التكريس، كان جوهر الخبز باقيًا تنضاف إليه صورة جسد المسيح، وإنه يقال مثل ذلك في الخمر بالإضافة إلى دم المسيح، فرد عليه اللاهوتيون بأن الأعراض قد تبقى متشخصة في الكمية، مفارقة للجوهر بالقدرة الإلهية، وأنه «من حيث الظاهر والشكل خبز وخمر، ومن حيث الجوهر الذي استحال إليه الخبز والخمر جسد المسيح ودمه»، فكأن بيرنجي اعتقد أن لتعاليم المنطق قيمة مطلقة، وأن المعجزة مستحيلة لمناقضتها للنظام الطبيعي.

(ب) وقد أزعج فرنسا وإيطاليا وسائر بلدان أوروبا بهذه البدعة طول النصف الثاني من القرن، وهي تستند عنده، علاوة على تلازم العرض والجوهر، على المذهب الحسي في المعرفة، فإن المعرفة الإنسانية في رأيه مقصورة على التجربة، وإن الحواس تدرك العرض والجوهر معًا، غير منفصل الواحد عن الآخر، وغير متمايزين إلا في الذهن: ترى العين اللون فتدرك الملون، وليس يوجد سوى ما يبصر ويلمس، ولا يلمس ولا يبصر سوى الجوهر المتحد بالعرض، وقد أدانته السلطة الدينية طبعًا في عدة مجامع، أولها وأهمها: مجمع انعقد بروما، وانتهى هو قبيل وفاته بقليل بأن وقع على إقرار بالعقيدة السنية، وكانت هذه المحنة فرصة لتعمق العقيدة وضبط عرضها.

(٤) روسلان (١٠٥٠–١١٢٠)

(أ) فرنسي، جدلي آخر كان أول قائل بمذهب الاسمية، في ذلك العصر: علَّم بعدة مدن وخرَّج تلاميذ كثيرين، فلقب بمؤسس لوقيون جديد لهذا السبب، ولاعتناقه مذهب أرسطو على ما كان معروفًا حينذاك، لم يبقَ لنا منه سوى نصوص قليلة وردت في كتب معارضيه، ويلوح أنه وصل إلى الاسمية من طريقين: أحدهما: قول بويس: إن المقولات منصبة على الألفاظ، لا على الأشياء أنفسها، والآخر: نقد أرسطو للمثل الأفلاطونية، فنتج له أن الجزئي هو الموجود، وأنه في وجوده غير متجزئ، فكل تحليل أو تمييز ملاشاة له بما هو جزئي، فما تمييزنا الجنس والنوع والجوهر والعرض وما إلى ذلك، إلا تمييز لفظي يقتضيه الكلام الإنساني، والكليات أصوات أو ألفاظ أو أسماء فحسب، بالكلام فقط نفصل الإنسان عن سقراط، والبياض عن الجسم الأبيض، والحكمة عن النفس: ولكن الإنسان الذي نتحدث عنه هو في الواقع سقراط، والبياض هو جسم أبيض، والحكمة نفس حكيمة، لا تتصور الحيوانية دون تصور حيوان معين، ولا الإنسانية دون إنسان معين، والذي يقول: إنه يتصور الإنسان على العموم، ليس لديه إلا إشارة أو اسم مجموعي، لا معنى كلي ذو وحدة حقة.

(ب) وأشهر تطبيقاته للاسمية في اللاهوت تأويله لعقيدة الثالوث الأقدس إذ يقول: كما أن الأفراد هي الموجودة في الأنواع المخلوقة، فإن الأقانيم هي الموجودة في الله، ففي الله من الجواهر بقدر ما فيه من الأقانيم، بحيث «قد يمكن القول بثلاثة آلهة لو كان العرف يسمح بذلك»، ولكن «العرف» لم يكن يسمح، وكان روسلان يريد الاستمساك بالإيمان «والدعاء إلى هذا الإله المثلث والواحد مهما يكن من تعقلنا إياه»، فقال إن للأقانيم قدرة واحدة وإرادة واحدة تؤلفان بينها، فلم يفده ذلك شيئًا واتهم بالقول بثلاثة آلهة.

(ﺟ) أو قد نقول: إنه اعتقد أن الاسمية تتفادى هذه النتيجة، فإننا إذا ميزنا بين ماهية مجردة في الذهن، وموضوع حاصل عليها متشخص في الخارج، لزم أن كل ما تقال عليه الماهية هو موضوع، وإذن يتعين القول بثلاثة آلهة، أما إذا طبقنا الاسمية ارتفعت هذه النتيجة، فلم تنطبق الماهية الذهنية على الموضوع الخارجي انطباق صفة على موصوف، بل كان الانطباق لفظيًّا.

(٥) بطرس دمياني (١٠٠٧–١٠٧٢)

(أ) إيطالي، أحد كبار اللاهوتيين حينذاك، عين أسقفًا فكردينالًا، يتفق مع الجدليين في قولهم: إن المنطق لا يتناول سوى الألفاظ، وينكر عليهم تطبيق المنطق على اللاهوت بناء على هذا القول نفسه من جهة، وعلى علو الله فوق العقل من جهة أخرى، يقول: إن القواعد المنطقية تبين النظام الواجب رعايته في المناقشة ولا تنصب على ماهيات الأشياء، فلا قيمة لها إلا في الاستدلال، وليس يتناول الاستدلال العقائد الدينية، فإن قدرة الله غير متناهية، غير مدركة حتى لتستطيع أن تجعل أن ما حدث لم يحدث، دون أن ندعي الاحتجاج بمبدأ عدم التناقض للحد من القدرة الإلهية، أو لإنكار الحرية في الإنسان وفي الله بدعوى أن القضيتين المتناقضتين لا تصدقان معًا، ولكن إحداهما صادقة، والأخرى كاذبة بالضرورة، «يجب على العلوم الإنسانية أن تقف من الكتب المقدسة موقف الخدمة من السيدة، إن الفلسفة حين تستخرج نتائج الألفاظ الخارجية تغفل عن ضوء الحقيقة الداخلية، وتخطئ السبيل القويم إلى الحق.»

(ب) وقد كان لعبارته «أن الفلسفة خادمة اللاهوت» حظ كبير فيما بعد: تداولتها الأقلام والألسنة بين مؤيد ومعارض، وجرت في العصر الحديث مجرى المثل للدلالة على مبلغ امتهان المدرسيين للعقل، والواقع أن مرماها عنده وعند معاصريه محدود، فقد كانت الفلسفة عبارة عن الجدل، وكان الجدل مجرد آلة فكرية لا علمًا بمعنى الكلمة يقوم في وجه الدين، فكان المقصود تعيين منهج اللاهوت لا تعيين العلاقة بين العقل والإيمان، ولم يصر للعقل أو الفلسفة مضمون محدد إلا حين اتسعت المعلومات الفلسفية وعرفت كتب أرسطو، وهذا ما ينبغي الانتباه إليه في تاريخ العلاقة بين العقل والدين عند المدرسيين.

(٦) القديس أنسلم (١٠٣٣–١١٠٩)

(أ) إيطالي، هو أكبر اسم في القرن الحادي عشر، وهو مشهور بدليل على وجود الله ما زال يفتن الكثيرين من الفلاسفة إلى أيامنا، تعلم وعلم بفرنسا، فطار صيته وجذب إليه الشبان من أنحاء فرنسا وإنجلترا، وصار الدير بفضله معهدًا ممتازًا، وفي سنة ١٠٩٣ عين رئيسًا لأساقفة كنتربري، فشغل هذا المنصب حتى وفاته، وقد شغله إيطالي آخر من قبله، إذ كانت المسيحية الغربية حينذاك أمة واحدة.

(ب) كتبه قليلة العدد، رصينة الأسلوب، تدور كلها على وجود الله وصفاته، وتنصح كلها بالأوغسطينية، ومنهجه «تعقل الإيمان» كما قال أوغسطين: الإيمان يولد في النفس المحبة، والمحبة تدفع بالنفس إلى استعجال الرؤية الآجلة بالاستدلال، فالإيمان شرط التعقل، وقد قال النبي إشعيا: «إن لم تؤمنوا فلن تفهموا»، فإن الذي لا يؤمن لا يشعر بموضوع الإيمان، والذي لا يشعر لا يفهم، إن الشعور بالشيء يفوق مجرد سماع الحديث عنه، والتعقل وسط بين الإيمان في الحياة الدنيا، ومعاينة الله في الآخرة، هو اقتراب من علم الله، وبناء على ذلك ينكر أنسلم على الجدليين محاولتهم إخضاع الإيمان للمنطق، أي مناقشة موضوعه كما لو كان من الممكن ألا يكون صادقًا، ويخالف معارضي المنطق في اقتصارهم على السنة فيقول: إن الرسل والآباء لم يقولوا كل شيء، وإن الحقيقة لأوسع وأعمق من أن يأتي البشر على آخرها، أجل إن العقل في فحصه عن معاني العقائد لن يبلغ أبدًا إلى تمام إدراكها، ولكن له أن يذهب في الفحص إلى أبعد حد مستطاع فحيث يتعذر عليه الوصول إلى برهان ضروري، قد يهتدي إلى تشابيه تقرب للفهم معنى الثالوث الأقدس مثلًا، وإلى أسباب أو دواع تفسر ملاءمة التجسد، وهكذا.

(ﺟ) كتابه: «مونولوجيوم» — أي مناجاة النفس — يذكر بكتاب «الاعترافات»، وهو يعلن في مقدمته أنه تلميذ أوغسطين، أو أنه لم يقل شيئًا إلا وقد أخذه عنه، والرهبان الذين طلبوا إليه تدوينه كانوا يرغبون في الاطلاع على نموذج تأمل في وجود الله وماهيته تكون كل قضاياه مبرهنة بالعقل، ففي هذا الكتاب يورد ثلاثة أدلة على وجود الله مأخوذة من الجهات التي تتشابه فيها الأشياء، ويتفاوت اشتراكها فيها، فتؤدي بنا كل منها إلى علة أولى من جنسها، هذه الجهات ثلاث، إحداها: الصفات، مثل الخير والجمال والعلم والحق وما إليها، وتفاوتها في الموجودات ظاهر، وجهة ثانية هي الماهية، وبين الماهيات تفاوت أيضًا، فكلنا يرى أن الفرس أرقى من الشجرة، وأن الإنسان أرقى من الفرس، وأخيرًا الوجود، والتفاوت فيه تابع للتفاوت في الماهية، فليس وجود الإنسان كوجود الفرس، ويمتنع التسلسل إلى غير نهاية لامتناع وجود عدد لا متناهٍ، إذن فكل ما كان حاصلًا على شيء قل أو كثر من كمال ما، فهو مستمده بمشاركته في مطلق ذلك الكمال.

(د) ويمتنع القول بعلل أولى عدة، وكل دليل يبين ذلك بأسلوب خاص، فمن جهة الوجود، إما أن تكون العلل المفروضة موجودة كلها بذاتها، فتشترك في الوجود بالذات، وتعتبر بهذه الصفة المشتركة راجعة إلى علة واحدة بناء على ما تقدم، وحينئذ لا يصح القول إنها موجودة بذاتها، وتكون الصفة المشتركة هي الوجود المطلق، وإما أن تحدث بعضها عن بعض، فيكون معنى ذلك أن شيئًا يوجد بفعل شيء هو موجود به، وهذا دور، فيبقى أن كل ما هو موجود فهو موجود بفعل علة واحدة موجودة بذاتها، ومن جهة الماهية، إن كانت العلل المفروضة متساوية فهي متساوية بما تشترك فيه، وإذا كان ما تشترك فيه هو ماهيتها، عادت كلها إلى ماهية واحدة، وإذا كان ما تشترك فيه شيئًا غير ماهيتها، كان هذا الشيء ماهية أخرى أسمى منها، وكان من ثمة أسمى الموجودات، ففي كلتا الحالتين ننتهي إلى موجود هو الموجود الأكمل، ومن جهة الصفات، نحن نصل إلى كمالات عظمى، ولكنها في الحقيقة ماهية واحدة، فإن الخير جميل من غير شك كما أن الجمال خير، والخير جميل بالجمال، والجمال خير بالخير، فلو لم يكن الجمال والخير ماهية واحدة، لكان كلاهما أعلى وأدنى من الآخر في نفس الوقت، وكان كلاهما مشاركًا ومشاركًا فيه، معلولًا وعلة، وهذا خلف، فالكمالات كلها ماهية واحدة بسيطة كل البساطة من حيث إن البساطة نفسها كمال.

(ﻫ) ولكن ألا يمكن استكشاف دليل أبسط كاف بنفسه دون استناد إلى شيء، على مثال الله الموجود بذاته غير المفتقر لشيء؟ بلى، وهذا هو الدليل الذي يعرضه كتاب «بروسلوجيوم» (أي مقال أو عظة)، لا يستمده أنسلم من النظر في الوجود، بل من مجرد فكرة الله، ولم يأخذه من غيره، ولكنه ابتكره من عند نفسه، فعرف باسمه، يقول: نحن نؤمن بوجود الله، ولكن «قال الأحمق في قلبه: ليس يوجد إله» كما جاء في المزامير، فنحن نبين له أنه يناقض نفسه في قوله هذا، فإن الله هو الموجود الذي لا يتصور أعظم منه، والأحمق يعرف ذلك، وإذن ففي عقله على الأقل موجود هو بحيث لا يتصور أعظم منه، ولكن ما لا يتصور أعظم منه لا يمكن أن يوجد في العقل فقط؛ لأن باستطاعتنا أن نتصور موجودًا مثله متحققًا في الواقع أيضًا، ومن ثمة أعظم منه، وتكون النتيجة أن ما لا يتصور أعظم منه يمكن تصور أعظم منه، وهذا خلف، وإذن يوجد من غير شك، في العقل وفي الواقع، موجود هو بحيث لا يتصور أعظم منه، وإنما ينكر الأحمق وجود الله ويقع في الخلف؛ لأنه يلفظ في قلبه اسم الله دون تعقل معنى ما أو مع تعقل معنى آخر.

(و) فنشر الراهب جونيلون رسالة أسماها «الدفاع عن الأحمق» اعترض فيها على أنسلم من وجهين، الوجه الأول: أننا حين نتحدث عن الموجودات نقصد أشياء معنية رأيناها أو أشياء أخرى نتصورها على مثالها، أما الله فليس موضوع إدراك مباشر، وليس مندرجًا في أنواعنا وأجناسنا حتى نكوِّن عنه فكرة بالمشابهة، فكيف نتخذ تعريف اسم الله مقدمة للتدليل على وجود الله؟ والوجه الثاني: أنه لا يصح الاستناد إلى الوجود في العقل لاستنتاج الوجود خارج العقل، فقد نتصور وجود أشياء كثيرة ثم لا توجد خارج التصور، مثل أن نتصور جزرًا سعيدة حافلة بما لا يحصى من النفائس في موقع من المحيط عزيز المنال، فلا يستتبع ذلك التصور أن تلك الأرض التي هي أكمل الأراضي موجودة بالفعل، فلم تختلف الحال بصدد فكرة الله؟!

(ز) فحرر أنسلم «ردًّا على جونيلون» نتبين منه مصدر دليله ومرماه، قال لمعارضه: ما عليك إلا أن ترجع إلى ضميرك وإيمانك، فتلاحظ في نفسك أنك تعقل الله على أنه الموجود الذي لا يتصور أعظم منه، ثم إن معرفة الله بالتشبيه والتمثيل ممكنة، وقد قال القديس بولس: «إن كمالات الله غير المنظورة تتراءى للعقل في المنظورات»، وهناك فارق بين «أعظم الأشياء الموجودة» وبين «الموجود الذي لا يتصور أعظم منه»: ذلك الفارق هو أن «أعظم الأشياء الموجودة» موجود نسبي ومن ثمة مفتقر لشيء آخر كي يوجد، في حين أن «الموجود الذي لا يتصور أعظم منه» مطلق، ولذا كان موضوع الدليل وواسطته في آن واحد، فالجزر السعيدة لا تتضمن ضرورة ذاتية للوجود، ولكن الانتقال من الوجود في الفكر إلى الوجود في الواقع ممكن بل ضروري في حالة واحدة، هي حالة الموجود الذي لا يتصور أعظم منه، فكل شيء يمكن تصوره غير موجود في الواقع ما خلا الله.

(ﺣ) ففكرة الله القائم على الدليل مستفادة من الإيمان، وأنسلم في الفصل الأول من «بروسلوجيوم» يدعو الله أن يوفقه إلى شيء مما كان لآدم من معرفة بالله قبل الخطيئة، ويريد أن يتبين صورة الله التي كانت مطبوعة في الإنسان ثم محتها الخطيئة، وهذا ما ينبغي أن نذكره إذا أردنا أن نفهم الدليل كما فهمه صاحبه، أما الاعتراض بأن الله ليس موضوع إدراك مباشر، كما فعل جونيلون، أو أنه ليس بصحيح أن الناس كلهم يعقلون الله على أنه الموجود الذي لا يتصور أعظم منه، كما سيفعل القديس توما الأكويني، فناشئ من ترك موقف أوغسطين وأنسلم، والتمييز بين المعرفة الطبيعية والمعرفة الإيمانية، في حين أن الرأي الحق عند أنسلم هو أن فكرة الله مشتركة بين المؤمن وغير المؤمن؛ لأنها «مطبوعة في الإنسان» بالوحي الأول، وفي هذه الحالة لا يكون الدليل دليلًا بمعنى الكلمة، بل مجرد تفسير اسم الله، وفي الحالة الأخرى يكون غلطًا؛ لأن الانتقال من العقل إلى الواقع في معرض التدليل على الوجود، غير جائز بحال، كما قال جونيلون، وكما سيقول القديس توما الأكويني وكنط، وقد أخطأ في ذلك ديكارت وسبينوزا وليبنتز وجميع الذين اصطنعوا هذا الدليل ونقلوا مقدمته من ميدان الإيمان إلى ميدان العقل الطبيعي.

(ط) وللقديس أنسلم فصول شائقة في الصفات الإلهية، وقد عارض اسمية روسلان معارضة شديدة، غير أنه لم يبين نوع العلاقة بين الحس والعقل، وقال بالإشراق في المعرفة العقلية كما قال أوغسطين، وقد كان له مقام كبير في نفوس معاصريه، ثم أهمل زمنًا طويلًا امتد إلى القرن السابع عشر، فعاد كثيرون إلى قراءته وقراءة أوغسطين يستبدلونهما بالمدرسية الأرسطوطالية، وأحسن طبعات كتبه هي الأربع التي صدرت بين سنتي ١٥٧٣ و١٦٧٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤