الفصل الثالث

مترجمون

(١) القرن الثاني عشر

النصف الثاني من القرن الحادي عشر، والقرن الثاني عشر بأكمله، عصر تقدم اجتماعي وسياسي، وازدهار أدبي وعلمي، نمت المدن ونشطت التجارة وأثرتْ طائفةً من الشعب ألفت طبقة جديدة إلى جانب طبقات: الأشراف والأكليروس والفلاحين، هي طبقة «البورجوازي» حصلت لنفسها على امتيازات من الملك، وبعثت في الشعب نزوعًا إلى الحرية الشخصية، وأذاعت الترف، وتنافس أفرادها في تنشيط الفنون، مضت فرنسا في تدعيم كيانها وبناء حضارتها بخطوات واسعة، وكانت إيطاليا الجنوبية ملحقة ببيزنطة إلى القرن الحادي عشر، فاحتفظت بالثقافة اليونانية، وخضعت بصقلية للسيادة العربية من سنة ٩٠٢ إلى سنة ١٠٩١، فكانت مركزًا للثقافتين اليونانية والعربية، وبقيت كذلك في القرن التالي حين انتقلت إلى سلطان الملوك النورمانديين، وكانت إسبانيا قد شرعت تستخلص استقلالها من أيدي العرب وتوثق صلاتها بفرنسا فتجمع بين الثقافتين الغربية والعربية، وكان طلاب العلم يتنقلون بين المدارس، ويلحقون بمشاهير الأساتذة من بلد إلى بلد، هذا إلى النظم باللغات الحية، مع عود إلى الأساليب اللاتينية العالية.

(٢) أديلارد أوف بث

(أ) إنجليزي تثقف في فرنسا، وعلم بها وأراد أن يستكمل ثقافته فقصد، في أوائل القرن إلى إيطاليا وصقلية فاليونان فآسيا الصغرى، وذهب إلى إسبانيا، ويقال إنه جاء مصر وقام برحلة إلى بلاد العرب.

(ب) نقل من العربية «مبادئ أقليدس» حوالي سنة ١١١٦، وزيجات الخوارزمي، ورسائل فلكية، فكان لتلك الكتب أثرها في تدريس المجموعة الرباعية، ووضع من عند نفسه كتبًا رياضية، ورسالة في الأسطرلاب، وكتابًا في «المسائل الطبيعية» تبدو فيه عنايته بالعلم التجريبي.

(ﺟ) وضرب بسهم في الفلسفة بكتاب أسماه «في الهُوَهُوَ والمباين»، والكتاب حوار بين الهوهو أي الفلسفة وهي ثابتة باقية هي هي، ومعها الفنون الحرة السبعة، وبين المباين أي العلم الطبيعي وهو علم الموجود المتغير المباين لذاته باسمرار، والكتاب مشبع بالأفلاطونية، وقد أخذها أديلارد من كتب أوغسطين وبويس وعن «تيماوس» رأسًا، وعن خلقيديوس وماكروبيوس، وعنوانه مقتبس من كلام أفلاطون في «تيماوس» عن تركيب النفس العالمية، وفيه نزوع إلى التوفيق بين أفلاطون وأرسطو، وكلام عن الجدل يدل على أن المؤلف كان واقفًا على مجموع الأروغانون، وأديلارد على العموم مقتبس متخير، لا يقتصر اقتباسه على ناحية معينة، وهو معتد بالعقل يقول: «إن المعول على السلطة يشبه حيوانًا لا يدرى إلى أين ولمَ يساق.»

(د) ومن أمثلة توفيقه بين أفلاطون وأرسطو قوله: إن الله يخلق النفس حاصلة على الصور المعقولة، ولكن هبوطها إلى «سجن الجسم» يفقدها بعض علمها، فتبحث عما فقدته، فتخونها الذاكرة، فتلجأ إلى الظن، فأرسطو على حق في قوله: إننا في حياتنا الراهنة لا نعلم بغير الاستعانة بالمخيلة، ولكن أفلاطون على حق أيضًا في توكيده أن العلم الكامل هو العلم بالمثل كما هي حاصلة في العقل الإلهي، ولا فرق بينهما سوى أن أفلاطون يريد أن يعرف الأشياء بمبادئها أو مثلها، بينما أرسطو يبدأ من المحسوسات المركبات، كذلك كلاهما على حق من وجهته الخاصة في مسألة الكليات، فالجزئي جنس ونوع وفرد معًا، ولكن الجنس والنوع نحوان من أنحاء النظر إلى الفرد مكتسبان بحدس أعمق من الإدراك الحسي، ونحن حين نتأملهما لا نلغي الصور الفردية بل نغفلها، لذا وضع أرسطو الأجناس والأنواع في المحسوسات، وقال: إن وحدة الجنس والنوع هي من فعل العقل، وليست وحدة وجودية مفارقة كما ذهب إليه أفلاطون، وإنما ذهب أفلاطون إلى هذا؛ لأنه نظر إليها خارج المحسوسات، في العقل الإلهي.

(٣) قسطنطين الإفريقي

قرطاجني المولد، طوف في البلاد الشرقية أواخر القرن الحادي عشر، ترجم كتبًا طبية عن العرب واليهود واليونان، منها كتاب الفصول لبقراط مع شرح جالينوس، وكتابان لجالينوس نفسه، في هذه الترجمات ذكر لنظرية ديموقريطس في الجوهر الفرد، وبيان للوجهة الفسيولوجية في الإدراك الحسي، ولم يكن الغربيون ألفوا بحث الإحساس من هذه الوجهة.

(٤) جند يسالفي

(أ) على أن أهم مركز للترجمة في القرن الثاني عشر مدينة طليطلة، وكان الإسبان استردوها من العرب ١٠٨٥، فقد أسس كبير أساقفتها ريمون، ديوانًا للترجمة أدى للغربيين خدمات لا تقدر، في مقدمتها تعريفهم بكتب أرسطو، من بين رجال هذا الديوان دومنيك جونزاليز، المدعو جند يسالفي وجند يسالينوس، عمل بمعاونة بعض اليهود، وخاصة ابن داود الذي تنصر فسمي يوحنا وعرف بيوحنا ابن داود، ويوحنا الإسباني، ويوحنا الإشبيلي، كان يوحنا ينقل من العربية إلى الإسبانية، فينقل جند يسالفي منها إلى اللاتينية، فترجما هكذا، فيما بين سنتي ١١٣٠ و١١٥٠، أجزاء من كتاب الشفاء لابن سينا، هي: المنطق، وما بعد الطبيعة، ومقتبسات من الطبيعيات، وكتاب إحصاء العلوم للفارابي، وينبوع الحياة لابن جبرول، وهو فيلسوف يهودي (١٠٢٠–؟) كان بعض المدرسيين يظنونه مسلمًا وبعض آخر يحسبونه مسيحيًّا، وترجمنا أيضًا رسالة العقل والمعقول للكندي، ورسالة قسطا بن لوقا في الفرق بين النفس والروح، ومقاصد الفلاسفة للغزالي، وكتبًا فلكية لمحمد بن جابر الحراني المعروف بالبتاني، وأحمد بن كثير الفرغاني، وأبي معشر، وغيرهم.

(ب) وتذكر له خمسة كتب: في تقسيم الفلسفة، في خلود النفس، في صدور العالم، في الوحدة، في النفس، وهو يبدو فيها متخيرًا عن المصادر المذكورة وعن أوغسطين وبويس، أهم آرائه الفلسفية تتصل بترتيب العلوم، وما بعد الطبيعة، والنفس.

(ﺟ) فكتابه في تقسيم الفلسفة مأخوذ بتصرف عن كتاب الفارابي في إحصاء العلوم وعن إسحق الإسرائيلي وابن سينا وبويس وإيزيدور الإشبيلي وغيرهم، وهو يميز فيه تمييزًا صريحًا بين اللاهوت أو العلم الإلهي الصادر عن الوحي، وبين الفلسفة أو العلم الإنساني المكتسب بالعقل، ويعلن أن ليس هناك علم إلا وهو جزء من الفلسفة، أي إن الفلسفة هي العلم الشامل، وسيتابعه في ذلك جميع المدرسيين، ثم يذكر التقسيمات العامة، وهي أولًا: علوم الحكمة أو العلوم الفلسفية بمعنى الكلمة نظرية وعملية كما رتبها أرسطو، ثانيًا: المنطق، وهو آلة الفلسفة ومقدم على كل تحصيل، ولو أنه من وجهة أخرى جزء من الفلسفة، ويجب أن يمهد له بالأجرومية من جهة، والشعر والبلاغة من جهة أخرى، ثم يفصل القول في كل علم، وكتابه هذا مرحلة حاسمة في تاريخ التصنيفات العلمية في العصر الوسيط: به ينتهي ما كان قبله من تردد، وبه تسترشد كل محاولة جديدة.

(د) آراؤه فيما بعد الطبيعة مزيج من الأرسطوطالية والأفلاطونية الجديدة العربية، موضوع الفلسفة الأولى الوجود ولواحقه (أي الجوهر والعرض، الكلي والجزئي، العلة والمعلول، القوة والفعل) الله الوحدة العليا أو الوحدة الخالقة، منذ «تنزل» الوحدات المخلوقة، لا بالصدور كما يذهب إليه ابن سينا بل «بمشاركة فعلية» لا يحددها المؤلف ولكنه يرمي بها إلى صيانة التمايز بين اللامتناهي والمتناهي، وكل موجود، ما خلا الواحد، مركب من هيولى وصورة على ما قال ابن جبرول، الهيولى أصل الكثرة، والصورة أصل الكمال، الخليقة على ثلاث مراتب: العقل الكلي، والنفس الكلية، والعالم. وتضعف وحدة الموجود ويزداد تركيبه بقدر ابتعاده من موجده، وتفسر كمالاته المتعددة بصور عدة تقابلها، وهذا يخالف الأرسطوطالية ويتفق مع الأفلاطونية الجديدة، وقد قال به ابن جبرول، وكل مخلوق فله بدء، على ما بيَّن أوغسطين، فرأي أرسطو وابن سينا في قدم العالم غير مقبول.

(ﻫ) كتابه في خلود النفس رسالة وجيزة اقتبس مسائلها وأفكارها من مصادره المختلفة، ثلثها من أقوال ابن سينا في طبيعيات الشفاء، جمع فيها الأدلة على الخلود فأضحت مرجعًا لمن جاء بعده، ميز بين الإدراك الحسي والإدراك العقلي، ورد إدراك المعقولات إلى انفعال النفس بها عن عقل فعال مفارق كما يقول ابن سينا، غير أنه لم يتابع ابن سينا في قوله: إن العقل الفعال هو عقل فلك القمر، بل قال: إنه الله، وفي مسألة الخلود يرى تطبيق قواعد البرهان كما حددها أرسطو، والبرهان يجب أن يؤخذ من ماهية الموضوع أو من خصائصه، والموضوع هنا النفس، وتبعًا لذلك لا يعوِّل على الدليل المبني على العدالة الإلهية التي تأبى إلا أن تبقى النفس للثواب أو للعقاب؛ لأنه لا يراه برهانيًّا بالمعنى المتقدم، كذلك لا يعوِّل على تدليل أفلاطون، فيقول: إن هذا التدليل قائم على فكرة عن النفس مشتركة بين أنواع النفوس من نباتية وحيوانية وإنسانية، وإن من الواضح أن بقاء نفس النبات والحيوان بعد فساد الجسم لا فائدة منه أصلًا، والحقيقة أن أفلاطون بنى دليل الخلود على روحانية النفس الإنسانية، وبنى دليل الروحانية على تعقل المثل، وأخيرًا يستمد جند يسالفي من أرسطو تعريف النفس الناطقة الذي يجب أن يقوم عليه البرهان، فيبين خلود النفس باستقلال فعل العقل عن الجسم لتجرد موضوعه، وهو يصطنع نظرية الأفلاطونية الجديدة في الجذب، فيقول: إن النفس — حين يعيا الجسم بالتعب وتضعف مقاومته لها — تتحرر منه بالكلية وتتوجه نحو العالم المعقول ونحو الله بالذات، لا نحو عقل فلك القمر كما يقول ابن سينا، والنفس عنده تارة مبدأ حياة الجسم كما هي عند أرسطو، وطورًا شريكة الجسم كما يتصورها أفلاطون، خلقها الملائكة من مادة روحية بأمر الله، على نحو ما جاء في «تيماوس».

(٥) جيراردو دي كريمونا (؟–١١٨٧)

إيطالي، زميل جند يسالفي بديوان طليطلة، كان كثير الإنتاج: ترجم من العربية بعض كتب أرسطو: التحليلات الثانية وشرح ثامسطيوس عليها، والسماع الطبيعي، والسماء والعالم، والكون والفساد، والمقالات الثلاث الأولى من الآثار العلوية، وكانت أجزاء الشفاء التي نقلها جند يسالفي ويوحنا ابن داود حاوية الشيء الكثير مما في هذه الكتب، وترجم رسائل الكندي، منها رسالة العقل والمعقول، ورسالة النوم والرؤيا، ورسالة الماهيات الخمس، وقانون ابن سينا، وهو أكبر كتاب في الطب عرفه العصر الوسيط، والمجسطي لبطليموس، وهو من أمهات الكتب الفلكية، وكتاب الإيضاح في الخير المحض، وهو يدور على مبحث العلل، فعرف بكتاب العلل، وكان يعزى إلى أرسطو، وهو مجموعة نصوص مختارة من كتاب مبادئ الإلهيات لأبروقلوس، نقلت إلى السريانية ثم إلى العربية، وقد شرحه غير واحد من المدرسيين، وكتاب المناظر للحسن بن الهيثم، وقد كان له أثر كبير جدًّا كما سنذكر في غير ما موضع، وشرح الفارابي على السماع الطبيعي، وكتبًا لإسكندر الأفروديسي.

(٦) هنري أرستيب

(أ) هو من علماء صقلية الذين كانوا يترجمون من اليونانية، ترجم المقالة الرابعة من الآثار العلوية، وكتاب المناظر لبطليموس، وكتاب المناظر لإقليدس، ومحاورتي فيدون ومينون لأفلاطون، ولم يكن الغربيون يعرفونهما، وفي ذلك الوقت ترجمت المبادئ الطبيعية لأبروقلوس، وليس من المستطاع إحصاء جميع الترجمات، فإن عددًا هائلًا من المخطوطات لا يزال مدفونًا في المكتبات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤