الفصل الأول

نشأة الجامعات

(١) التعليم والنظافة

(أ) القرن الثالث عشر أبهى عهود العصر الوسيط، فيه تكونت الممالك الأوروبية الحديثة، وآتت الحروب الصليبية ثمارًا لم تكن مقصودة منها، ولكنها كانت ذات أثر كبير في تطور أوروبا، فتوثقت العلاقات الثقافية بين الغرب والشرق، وفتح البحر المتوسط للتجارة الأوروبية، فبرزت الطبقة الوسطى «البورجوازي» ونافست بثرائها نفوذ الأشراف، وناصرت العلم والفن، فقامت الكاتدرائيات البديعة تملأ أرض أوروبا، وازدهر أدب محلى باللغات الحية في قصص نثرية وشعرية تفيض بأفكار العصر وأخلاقه وعواطفه.

(ب) في هذا الوسط وثبت الفلسفة ووثب اللاهوت وثبة كبرى، وبلغ العلمان أوجهما بسرعة مدهشة، ويرجع الفضل في ذلك إلى عاملين رئيسيين؛ أحدهما: استبحار التعليم، فنشأت الجامعات، وتكاثرت خلال القرنِ المدارسُ الخاصةُ، رهبانية وأسقفية، وكان أشهرها «السوربون» أقامها سنة ١٢٥٣ روبير دي سوربون (١٢٠١–١٢٧٤) كاهن الملك لويس التاسع، والعامل الآخر: الكتب المنقولة عن العربية واليونانية، وبخاصة كتب أرسطو وشراحه، فنبغ في نفس الوقت عدد من كبار الفلاسفة واللاهوتيين لم يعهد له نظير منذ أمد بعيد، وكان المركزان الرئيسيان فرنسا وإنجلترا، الأولى سباقة كما كانت في القرن السالف، والثانية تابعة من قرب، ويليهما إيطاليا وألمانيا، فكان كل شعب يساهم في العمل بمزاجه ومواهبه: اللاتين يؤثرون النظر والاستدلال والترتيب والتوضيح، والإنجليز يتوجهون إلى العلم الواقعي ويجمعون إليه المثالية الأفلاطونية، والألمان يكدسون المعارف، ويميلون إلى تصوف الأفلاطونية الجديدة.

(ﺟ) وأول جامعة قامت بباريس، فقد كانت مدارس هذه العاصمة اكتسبت شهرة أوروبية، وبالأخص في المنطق واللاهوت، فكان يؤمها الطلاب من جميع أرجاء القارة، ثم ينقلبون عنها وينتشرون في كل صوب، ففي سنة ١٢٠٠ بلغ إحساس الأساتذة والطلاب بقوتهم مبلغًا دفعهم إلى أن يجتمعوا ويعلنوا استقلالهم عن السلطة الأسقفية، واختصاص المدارس باختيار الأساتذة ومنح الإجازات العلمية، فاعترف الملك فيليب أوجست باتحاد المدارس، واعترف به البابا، وذلك مدلول لفظ الجامعة Universitas في العصر الوسيط: لم يكن هناك هيئة منظمة تشتمل على كليات، بل كان المقصود مجموع الأشخاص من الأساتذة والطلاب، المعنيين بالعلم في مدينة ما، على أن اتفاق المصالح جمع الأساتذة شيئًا فشيئًا في طوائف أربع، وهم: اللاهوتيون، والفنانون أي: معلمو الفنون الحرة، والفقهاء، والأطباء، أما الطلاب (وكان أكبرهم عددًا طلاب الفنون) فكانوا يجتمعون بحسب الجنسية في اتحادات تمثل الجامعة بأكملها، أجل، إن أول جامعة منظمة كانت جامعة بولونيا (بإيطاليا) ولكنها كانت قبل كل شيء معهد دراسات فقهية أخذتها عن بيزنطة، ولم تقم بها كلية نظامية للاهوت إلا سنة ١٣٥٢، فمن جهة الفلسفة واللاهوت كانت جامعة باريس الأولى زمنًا ومقامًا.

(د) وقامت جامعة أكسفورد بعد جامعة باريس بقليل وعلى غرارها وبمعونة نفر من خيرة أساتذتها، وكان رجالها يرون المثل الأعلى للعلم في كتاب المناظر للحسن بن الهيثم أكثر منه في طبيعيات أرسطو التي هي في الواقع أقرب إلى الفلسفة منها إلى الرياضيات، فكان تعليم المجموعة الرباعية فيها موضع عناية كبرى، بينما كان لا يكاد يذكر في جامعة باريس، ثم قامت جامعة كمبردج، وكانت أقل أهمية، ولم يتم تنظيمها قبل القرن الرابع عشر، ثم توالت الجامعات في أنحاء أوروبا.

(ﻫ) وقد اختلفت على التعليم أحوال، وبحسبنا هنا أن نذكر نظام التعليم بباريس حوالي سنة ١٢٧٠، كان الطالب ينتسب لأستاذ ويلزمه فيتبعه في تنقله من مدينة إلى أخرى، وكانت دراسته مرانًا على التدريس؛ لأنه كان يعتبر مرشحًا لمنصب الأستاذية بحيث إذا بلغ إليه لم يختلف عمله إلا في كونه يؤديه بصفة جدية ويعتمد على نفسه، وكانت الدرجات العلمية ثلاثًا: البكالوريا، والليسانس، والأستاذية، فكان طالب الفنون يؤدي امتحان البكالوريا أمام ثلاثة أساتذة (أو أربعة فيما بعد) فإذا ما نجح شرع يناقش علنًا، برياسة الأستاذ الذي اختاره، مسائل خلافية، فيورد الحجج المتعارضة ويردفها بالحلول، بعد ذلك «يقرأ» أي يشرح المتون المعينة مدة سنتين، فيحصل على الليسانس، ثم يتقدم للأستاذية، فيلقي درسه الأول، فينال اللقب، وكان معظم الحائزين على الأستاذية في الفنون ينقطعون عن التدريس فيغادرون الجامعة، أو يتوجهون فيها إلى دراسات أخرى، إذ إن دراسة الفنون كانت تمهيدًا وإعدادًا للدراسات اللاهوتية أو الفقهية أو الطبية، فيتقدمون فيها إلى الدرجات الثلاث، وكان بوسع كل حاصل على درجة أن يفتح مدرسة، فكانت حرية التعليم تامة، فاتسع نطاقه، وكان الحد الأدنى في دراسة الفنون ست سنين، وفي دراسة اللاهوت ثماني، وكان الحد الأدنى لسن الأستاذ العشرين للفنون، والرابعة والثلاثين للاهوت.

(و) وفي جميع مراحل التعليم نجد طريقتين: شرح متن، ومناقشة، الشرح أصل الكتب المعروفة بالشروح Commentaria، أما المناقشة فكانت على نوعين: مناقشة خاصة يعرض فيها الأستاذ مسائل متصلة بالدراسة، ومناقشة عامة يشهدها الجمهور وتعقد مرتين في العام: قبيل عيد الفصح، وقبيل عيد الميلاد، يعرض فيها الحضور على الأستاذ المترئس الجلسة مسائل خلافية، فينهض من ناحية معترض أو أكثر، ومن ناحية أخرى مجاوب، ولا يتدخل الأستاذ إلا ليؤيد أو يصحح أو يكمل ردود مجاوبه، وفي جلسة تالية يتناول الأستاذ المسائل واحدة بعد أخرى، فيجمع الآراء والأدلة، ويلخص الاعتراضات والأجوبة، ويعالج النقط التي تركها المجاوب معلقة عمدًا، ويقدم حله الخاص مؤيدًا بالأدلة، حتى إذا ما فرغ من ذلك دوَّن المناقشة ونشرها، وهذا أصل الكتب المعروفة بالمسائل الخلافية questiones disputatac، والكتب المدعوة بالمناقشات المنوعة Quod libeta، يضاف إليها نوعان من التأليف: المجموعات Summae تعرض مجموع المسائل مرتبة ترتيبًا منطقيًّا، والرسائل تعالج كل منها مسألة خاصة.

(ز) ولم يكن للفلسفة دراسة قائمة برأسها، وإنما كان يدرس شيء منها بكلية الفنون، أهمه المنطق، وشيء آخر بكلية اللاهوت، لاتصاله بشرح العقائد بحيث إن تعلم الفلسفة كان يقتضي الاختلاف إلى دروس الفنانين واللاهوتيين، وكان فريق من أساتذة الفنون يتخصصون في المجموعة الثلاثية اللغوية والمنطقية، ويتشبثون بهذا التخصص فيأبون أن يجاوزوه إلى اللاهوت، فلما عرفت كتب أرسطو في الطبيعة، وما بعد الطبيعة، والأخلاق، وجد أمثال هؤلاء الأساتذة مجالًا جديدًا للتعليم المستقل عن اللاهوت، فالجدليون هم في هذا القرن أيضًا ممثلو الفلسفة البحتة.

(٢) النزاع حول أرسطو

(أ) من أبرز مظاهر الحياة الفكرية في القرن الثالث عشر النزاع حول أرسطو، فقد أثارت كتبه ضجة هائلة لما تضمنته من قضايا معارضة للدين، وأول ما قامت الضجة في باريس، ففي جامعتها — وما كادت تتكون — ظهرت لأول مرة ترجمات طليطلة لأرسطو وشراحه الإسلاميين، وبعد ذلك بقليل جاءت من القسطنطينية نسخة يونانية من كتاب ما بعد الطبيعة سرعان ما ترجمت وشرحت، فخشيت السلطة الدينية سوء العاقبة على العقيدة، وأنكر مجمع كنسي عقد بباريس سنة ١٢١٠ «كتب أرسطو وشروحها في الفلسفة الطبيعية» وحظر تدريسها، وفي سنة ١٢١٥ نشرت «لائحة» الجامعة، وقد وضعها نائب البابا، فإذا بها تنص على الاستمرار في تدريس منطق أرسطو، وتبيح تدريس كتاب الأخلاق، ولكنها تؤيد تحريم كتبه الطبيعية وشروحها، وتحرم تدريس كتاب ما بعد الطبيعة وشروحه.

(ب) على أن هذا التحريم كان منصبًّا على استخدام تلك الكتب في التدريس فقط، ولم يتناول الدراسة الخاصة ولا تدوين الشروح، ثم إنه كان مقصورًا على باريس لصدوره عن سلطة محلية محدودة الاختصاص، فلما أنشئت جامعة تولوز سنة ١٢٢٩، برعاية نائب البابا، أعلنت عزمها على تدريس الكتب المحرمة بباريس، وكان ذلك منها وسيلة لاجتذاب الطلاب ودليلًا على تطور الأفكار، وبعد سنتين رأى البابا — إزاء اتساع الإقبال على كتب أرسطو — أن يعهد إلى لجنة قوامها ثلاثة أساتذة من جامعة باريس في فحصها واستخلاص المفيد منها، ولكن اللجنة لم تتم مهمتها، غير أن مجرد تكوينها اعتبر مؤذنًا بقرب رفع التحريم وشجع على استباق صدوره، فأخذت كتب أرسطو تنتشر في فرنسا وإنجلترا وألمانيا، ولم يحل دون هذا الانتشار تكرار التحريم وإلزام جامعة تولوز به سنتي ١٢٤٥ و١٢٦٣، حتى كان من كلية الفنون الباريسية أن أثبتت كتاب النفس في برنامجها لسنة ١٢٥٢، وسائر كتب أرسطو في ١٢٥٥، دون أن يعترض البابا على أحد القرارين، ومن جهة أخرى كان القديس ألبرت الأكبر يتأثر كتب أرسطو ويلخصها، وكان القديس توما الأكويني يضع الشروح عليها، ويطلب ترجمة جديدة لها عن اليونانية، ودارت الأيام دورتها وانتهى الأمر سنة ١٣٦٦ بأن ألزمت السلطة البابوية طلاب الليسانس في الفنون بدراسة تلك الكتب، فلم يكن التحريم صادرًا عن نفور من العلم، بل عن رغبة في التريث وحماية النفوس من الضلال، وتلك هي الوظيفة التي تعتقد الكنيسة أنها مندوبة إليها قبل كل شيء، ولم يسد أرسطو على العقول أثناء العصر الوسيط بأكمله، كما يظن الكثيرون، وإنما تمت له السيادة في أواخر العصر بجهود الأساتذة والطلاب وتفضيلهم إياه على أفلاطون، لا بضغط من السلطة، بل نقول على العكس: إن السلطة كانت منصاعة تابعة.

(ﺟ) فالفلسفة في القرن الثالث عشر عبارة عن مختلف المواقف من أرسطو وابن سينا وابن رشد، يأخذ الأوغسطينيون من الأفكار الجديدة طائفة يكملون بها مذهبهم مع شيء من التأويل، وينبذون طائفة أخرى، يأخذون عن ابن سينا إشراق العقل الفعال، إلا أنهم يضيفون لله المعاني التي يضيفها ابن سينا لعقل فلك القمر، ولم يكن أوغسطين قد عني بالمعاني المجردة: وهذا ما سمي حديثًا بالأوغسطينية الضاربة إلى السينوية augustinisme avicennisant ومما يأخذون عن أرسطو نظرية الهيولى والصورة، ولكنهم يتصورون الهيولى ذات وجود خاص مستقل عن الصورة النوعية، على ما تصورتها الأفلاطونية الجديدة، ويجعلون التجوهر من هيولى وصورة شاملًا للنفوس الإنسانية والملائكة أيضًا، وكان أوغسطين أثار المسألة وتردد فيها، ويكثرون الصور في الأجسام المركبة ومنها الإنسان، على ما ذهب إليه أفلاطون في «تيماوس»، حيث جعل للإنسان ثلاث نفوس، ومما ينبذون فكرة صدور الموجودات عن الله صدورًا ضروريًّا أزليًّا كما عرضها ابن سينا.

(د) وتظهر الأرسطوطالية المسيحية، ينهض بها فريق من الرهبان الدومنيكيين وقد تألفت جماعتهم من عهد قريب أولهم القديس ألبرت الأكبر، ولكنه لم يوفق تمام التوفيق في استغلالها، فقام بالمهمة تلميذه القديس توما الأكويني، وأظهر مميزات مذهبه رسم الحد بين الطبيعة وما فوق الطبيعة، ووضع علمين متمايزين، الفلسفة واللاهوت، لكل منهما مبادئه وموضوعاته ومنهجه، بحيث تغيرت وجهة النظر السالفة تغيرًا حاسمًا، وأيضًا تصحيح أرسطو بالاستناد إلى ذات مبادئه، وتكميله بالأفلاطونية الجديدة كما جاءت عند أوغسطين وديونيسيوس، ولكن مئولة، وفقًا لروح فلسفته.

(ﻫ) وتظهر الأرسطوطالية الرُّشْدية، تقوم في كلية الفنون الباريسية، بين أولئك الأساتذة الذين كانوا يدعون أنهم فلاسفة فحسب، ويعلنون أنهم أرسطوطاليون خلصاء، ويعتبرون تأويل ابن رشد لمذهب أرسطو أصدق صورة له وأكمل مظهر للعقل، ولا يحفلون بالتوفيق بين فلسفتهم ودينهم بأكثر من الأخذ بهما معًا على ما بينهما من اختلاف، وأكبر اسم فيهم سيجر دي برابان، زعيم الرشدية اللاتينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤