الفصل العاشر

سيجر دي برابان

(١٢٣٥–١٢٨٢)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) بينما كان توما الأكويني يعمل على تحقيق فكرة ألبرت الأكبر وينشئ الأرسطوطالية المسيحية، وكان معظم أساتذة كلية الفنون بباريس يراعون العقيدة في عرضهم للفلسفة — كان بعض زملائهم يرون في فلسفة أرسطو كما شرحها ابن رشد علمًا قائمًا برأسه أصلًا والمثل الأعلى للعقل الإنساني، ويعلمونها لذاتها غير عابئين بما بينها وبين الدين من خلاف، كانت كلية الفنون مرحلة مهيئة لدراسة اللاهوت، ولم يكن أساتذتها كهنة، وإنما كانوا إكليريكيين مرشحين للكهنوت، فكان من الممكن أن يتجاهل بعضهم تعاليم الدين، ويدعي أنه إنما يشغل بالفلسفة ليس غير، وأن ليس من شأنه التوفيق بين الطرفين، وهذا ما كان من أقلية ظهرت ابتداء من ١٢٥٠ وبلبلت الجامعة ربع قرن بالتمام، وسميت حركتها بالرشدية اللاتينية، وقد مر بنا أن كلًّا من ألبرت الأكبر وتوما الأكويني وضع رسالة «في وحدة العقل ردًّا على الرشديين» وكانا يقصدان الآخذين بهذا القول المعروف عن ابن رشد، على أن هؤلاء الرشديين، مع تعويلهم على شروح ابن رشد واعتبارها المرآة الصادقة لفكر أرسطو، لم يكونوا يمتنعون من الانحراف عنه في بعض المسائل إلى أبروقلوس وابن سينا، بحيث لو أردنا أن نطلق على هذه الحركة اسمًا شاملًا سميناها بالأرسطوطالية الضاربة إلى الأفلاطونية الجديدة، غير أنه لما كان القول بوحدة العقل يستتبع إنكار الخلود الشخصي، وتقويض أسس الأخلاق برفع الجزاء الحق على الأفعال الإنسانية، فقد بدا كأنه الطامة الكبرى في الكفر، وبدا اسم «الرشدية» أدعى الأسماء إلى تمييز الفرقة.

(ب) أشهر هؤلاء الرشديين سيجر دي برابان، أخذ يعلم بكلية الفنون حوالي ١٢٦٥، فكانت حياته بها سلسة اضطرابات عنيفة وضم إليه فريقًا هامًّا من أساتذة الكلية وطلابها ذهبوا إلى حد انتخاب عميد لهم، والغالبية تقاومهم، حتى أنكر الأسقف عددًا من القضايا الرشدية، فكف عن التعليم، لكن رئيس محكمة التفتيش أعلنه بالمثول أمامه، ويلوح أن سيجر رده واحتكم إلى روما، أو أنه تمكن من الهرب، فإنه في تلك السنة تقدم إلى محكمة روما، فحبسته وأصدرت ضده حرمًا كان القضاء المبرم على التعليم الرشدي بباريس، وهو في مدينة أورﭬﯿﺘﻮ Oruietto جن كاتبه واغتاله.

(ﺟ) وقد ظل اسمه مغمورًا، وظلت كتبه مطمورة زمنًا طويلًا، إلى أن استكشفت بالتدريج ابتداءً من ١٨٤٧، ولم يعثر بعد على كتب أحال إليها في المخطوطات المستكشفة، أو ذكرها معاصروه، مثل شرحه على سياسة أرسطو، ومن الكتب ما نشر باسمه ولم تثبت نسبته إليه، وتتوزع كتبه إلى ثلاث طوائف، طائفة شروحه على كتب أرسطو، لا يلتزم فيها الشرح الحرفي بل يجاوزه إلى البحث الشخصي، ويفترق عن تأويل ابن رشد في غير ما موضع، وطائفة تنتظم «مسائل» على كتب أرسطو، البحث الشخصي فيها أكثر ظهورًا، وطائفة تضم رسائل في موضوعات خاصة، أهمها: رسالة في النفس الناطقة، يتحدث فيها كزعيم مدرسة، ويتهم ألبرت الأكبر وتوما الأكويني بتشويه فكر أرسطو، ولو أنه يبدو فيها أقل تشددًا بصدد وحدة العقل.

(٢) مذهبه

(أ) يبرهن سيجر على وجود الله بالحركة، جريًا مع أرسطو، وبتفاوت الموجودات في الكمال، جريًا مع الأوغسطينيين والتوماويين، ويقول بالخلق، ولكنه يقصر فعل الله على خلق العقل الأول، متابعًا ابن سينا في مبدئه «أن عن الواحد لا يصدر إلا واحد» وفي القول بأن خلق هذا الواحد ضروري، ويذهب إلى أنه لما كان المحرك الأول بالفعل دائمًا كان العالم أزليًّا، بما فيه النوع الإنساني، فلم يكن هناك إنسان أول ولن يكون هناك إنسان أخير، ويستنتج من أزلية العالم أن كل ماهية فهي متحققة دائمًا، وأن ليس بين الماهية والوجود تمايز حقيقي، ويلح في هذه النتيجة معارضًا ألبرت وتوما، ويعتقد أن ظواهر العالم السفلي حادثة عن دوران الأجرام السماوية، وأن هذا الدوران يعيد نفس الظواهر، بما فيها «نفس الآراء والقوانين والديانات»، فالعالم خاضع للجبرية بما في ذلك أفعالنا الإرادية، خارج عن العناية الإلهية من حيث إنه غير صادر عن الله مباشرة، والله بالإضافة إليه علة غائية فحسب كما يقول أرسطو.

(ب) أما الإنسان فنفسه نامية حاسة تفنى بموته، أجل، إن التعقل يدل على روحانية مصدره، ولكن هذا المصدر عقل مفارق، لا نفس ناطقة هي صورة الجسم، فإن اتصال الروح بالمادة يدنسها ويقضي على روحانيتها، وهذا العقل المفارق واحد؛ لأن الصورة المادية هي التي تتكثر بتكثير المواد، أما الصورة الروحية ففريدة في نوعها، فالعقل واحد بالإضافة إلى النوع الإنساني بأجمعه، يتصل بالأفراد بفعله لا بجوهره، ولما كان هذا الفعل يتم داخل الجسم فتمكن إضافته للإنسان أيضًا، بحيث يصح القول: إن سقراط يعقل، والعقل الفعال هو الخالد، وهو الممثل الدائم للنوع الإنساني، أما الأفراد ففانون، وأما الأخلاق فتلقى جزاءها في هذا العالم.

(ﺟ) يقول سيجر إن هذه الآراء — وعلى العموم فلسفة أرسطو كما شرحها ابن رشد — تمثل حكم العقل الطبيعي يؤدي إلى النظر ضرورة، غير أن الإيمان يكشف لنا عن نظام فائق للطبيعة أراده الله وأعلنه إلينا، فنحن نقبله إلى جانب ما يعقله العقل، ليس يعلم العقل الطبيعي سوى النظام الطبيعي، وكان يكون هذا النظام حقًّا لو لم يستبدل به الله النظام الفائق للطبيعة، فليست الفلسفة تقرير الحق، ولكنها «مجرد الفحص عن مقصد الفلاسفة — وبخاصة أرسطو — حتى ولو كان الفيلسوف قد ذهب إلى غير الحق، وكان الوحي قد أعلن أمورًا لا تستنبط بالأدلة الطبيعية، لسنا نعرض للمعجزات في الفلسفة، بل للطبيعيات نبحثها بحثًا طبيعيًّا»، وفي الواقع لم ينقطع سيجر عن التنبيه في كل مسألة على أنه إنما يقول ما يقول «وفقًا لرأي الفيلسوف دون أن يثبت أنه حق.»

(د) يتبين من هذا أنه كان يتصور العلاقة بين العقل والإيمان تصورًا خاصًّا لم يسبق إليه: لم يكن يضع العقل والإيمان في مستوى واحد حتى يضطر إلى الاختيار بينهما كما يختار المرء بين الحق والباطل، ولكنه حوَّل التعارض بين العقل والإيمان إلى تمايز بين نظام طبيعي منسوخ ونظام فائق للطبيعة ناسخ، في حين أن المسيحية تعلم أن القضايا العقلية الضرورية صادقة بالضرورة، وأن الله لم ينسخ الطبيعة بل زاد عليها وكمَّلها، وابن رشد يذهب إلى أن الفلسفة هي الحق الخالص البرهاني يتقلده الخاصة، وأن الشرع حق خطابي موضوع للجمهور، فهو أدنى مرتبة، فكلما نجم خلاف بينهما وجب تأويل الشرع وحمله على المعنى المطابق للفلسفة، مع ترك الجمهور على اعتقاده، أما سيجر فيقتصر على عرض نتائج الفلسفة، ويصرح بأن الوحي هو الحق، وأن الحكم يرجع إليه كلما ثار خلاف.

(ﻫ) وهذا وضع غاية في الخطورة يجعل من العقل يقينًا بلا اعتقاد، ومن الإيمان اعتقادًا بلا يقين، ويجمع بينهما في نفس واحدة! وللنفس التي تأبى هذا الجمع الغريب أن تختار إحدى نتيجتين بحسب استعدادها: إما أن موضوع الإيمان باطل من حيث إن العقل يبرهن على ضده، وإما أن موضوع الإيمان حق وأن العقل لا يؤدي بذاته إلا إلى الباطل، وفي كلا الحالين إنكار وتبديد للجهود التي بذلها المدرسيون، بغية إقرار العقل والدين جميعًا ومحاولة التوفيق بينهما، وبخاصة جهود ألبرت الأكبر وتوما الأكويني، وليس يهمنا بعد أن يكون سيجر عدل عن آرائه أو لطفها، على ما يرى بعض الباحثين المعاصرين في مخطوطات استكشفوها، فإن موقفه هذا هو الذي يميز شخصيته، ويجعل له مكانًا في تاريخ الفلسفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤