الفصل الحادي عشر

ريمون لول

(١٢٣٥–١٣١٥)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) شخصية عجيبة تلاقت فيها خصائص العصر، ولكنه على كل حال فيلسوف متواضع، ولعله لولا محاولة منطقية سبق بها ليبنتز لم يكن اسمه ليذكر في تاريخ الفلسفة، ولد بجزيرة ميورقة في أسرة غنية، ولما أتم دراسة الفنون الحرة، حوالي الرابعة عشرة، انتظم في سلك الغلمان بالبلاط الإسباني وعاش عيشة لهو وقصف، وهو في الثلاثين وقع له حادث خارق صرفه عن الدنيا إلى الدين: ذلك أن المسيح تراءى له ذات ليلة، فاضطرب، ثم لم يحفل بالأمر، ولكن الرؤيا تكررت أربع مرات في الظروف عينها، فأدرك أن المسيح يريده على أن يتوفر على خدمته، أي على الدفاع عن الدين والعمل على نشره، فمهد لمهمته بدراسة العربية، وكان سواد أهل ميورقة يتكلمونها، ولكنه هو كان يجهلها، وأقبل على اللاتينية يجودها، وعلى المنطق، وصرف في ذلك تسع سنين وضع بعدها مؤلفه الأول والأشهر «الفن الأكبر» أو «الفن الكلي»، ثم أعقبه بمؤلفات كثيرة في المنطق وفي الرد على ابن رشد والرشديين، وأخذ يطوف في أنحاء أوروبا وشمال أفريقيا ومصر وفلسطين والهند، ويعود إلى الترحال، وكان حينما حل نشر آراءه: فعلم بباريس «الفن الأكبر» وجادل الرشديين، وفي البلاد الإسلامية غلا في النقاش والاستفزاز حتى سجن مرة بتونس وأخرى بالجزائر، وفي الجزائر أيضًا رجمه الجمهور بالحجارة فأخذه بعض أهل جنوى في عودتهم إلى أوروبا، ولكنه قضى قبالة شاطئ ميورقة.

(ب) كان لاهوتيًّا فيلسوفًا متصوفًا، وله في ذلك كتب باللاتينية، وكان أديبًا دوَّن القصص ونظم الشعر، وخاصة بلغته القطالونية، ومما نظمه بها كتاب في منطق الغزالي، وآخر في العرض والجوهر، وكان متضلعًا في العربية حتى نقل عنها وصنف بها، ولكن لم يُعثر بعد على كتبه العربية، فكان الأول بين الغربيين الذي كتب بالعربية، ومن الأوائل القلائل الذين كتبوا بلغتهم الدارجة للإعراب عن أفكار فلسفية ولاهوتية، ويذهب أسين بلاسيوس المستشرق المعروف إلى أن أصول مذهبه عربية، ويخالفه كثيرون، أجل، لقد كان واسع الاطلاع على العلم الإسلامي وأفاد العربية أشياء كثيرة في الفلك والكيمياء والطب، أما في الفلسفة واللاهوت والتصوف، فهو تلميذ أوغسطين وأنسلم وبونافنتورا وروجر بيكون، يريد مثلهم أن يجاوز العقل إلى إشراق الإيمان وضياء الجذب، ويقول بتركيب الجواهر المفارقة من هيولى وصورة، وبالأصول البذرية، وبنظرية النور، ولا يقبل تمايزًا حقيقيًّا بين النفس وقواها، وليس يكفي لرد بعض أقواله إلى العرب أن تكون واردة عندهم، بل يجدر بالباحث أن يرجع إلى المسيحيين السابقين على العرب لعله يجد مثلها في كتبهم، فتكون هذه الكتب مصدره الطبيعي، وكان لول يلح في ضرورة تعليم المبشرين اللغات الشرقية، ويطلب إلى الأمراء والجامعات إنشاء المدارس لهذا الغرض، فقرر أحد المجامع الكنسية إنشاء كراسي لتعليم العربية واليونانية والعبرية والكلدانية في جامعات باريس وأوكسفورد وبولونيا وسلامنكا، وقد قيل: إنه اشتغل بالكيمياء وبالسحر، ولكن هذا القول لا يلقى أقل تأييد من دراسة حياته ومصنفاته.

(٢) الفن الأكبر

(أ) يزعم هذا الكتاب أنه يكشف عن طريقة منطقية فعالة للدفاع عن الدين والإقناع به، وهذا الغرض هو الحافز على ابتكار هذه الطريقة، إن لم نقل مع المؤلف: إنه تلقاها بالوحي، هي على كل حال أخص ما يؤثر عنه، ترمي إلى بيان أن بين العقل والدين توافقًا أساسيًّا، خلافًا لما يدعيه الرشديون، ولبيان هذا التوافق الأساسي يجب البدء بالأصول المسلمة من الجميع، المبادئ الكلية البينة بذاتها المشتركة بين العلوم، بذلك نحصل على «علم كلي تتضمن مبادئه العامة مبادئ جميع العلوم الجزئية، كما يتضمن الكلي الجزئي»، فالفن الأكبر هو العلم الأعلى، وهو يختلف عن المنطق وعن الميتافيزيقا: فإن المنطق ينظر في الوجود الذهني، وتنظر الميتافيزيقا في الوجود العيني، في حين أن الفن الأكبر ينظر في الوجود على النحوين جميعًا.

(ب) مبادئ هذا الفن نوعان: مطلقة ونسبية، المبادئ المطلقة هي الصفات الإلهية التي نصعد إليها بتأمل صفات المحسوسات، وهي تسعة: الخيرية، العظمة، السرمدية، القدرة، الحكمة، الإرادة الفضيلة، الحق، المجد، والمبادئ النسبية تدل على العلاقات الكلية بين الموجودات، أو المحمولات الإضافية للكائنات الحادثة، وهي تسعة كذلك: الاختلاف، الاتفاق، التضاد، المبدأ، الوسيلة، الغاية، الأكبر، المساوي، الأصغر، يلي ذلك تسع مسائل، وتسعة موضوعات، وتسع فضائل، وتسع رذائل، ويضيف لول إلى الثبت المتقدم — وهذا هو سر الفن الأكبر — قواعد تأليف أجزائه بعضها مع بعض، فتخرج لنا الحقائق والأسرار الطبيعية التي يستطيع العقل إدراكها في هذه الحياة، تلك القواعد هي عشر مسائل غاية في العموم تطبق على سائر المسائل، وهي: هل الموضوع موجود؟ ما هو؟ ممَّ هو مركب؟ لِمَ هو موجود؟ ما كميته؟ ما كيفيته؟ متى هو موجود؟ أين هو موجود؟ مع أي شيء هو؟ واخترع لول أشكالًا ودوائرَ تدور فتؤلف بطريقة آلية بين المعاني الأساسية الموضوعة في جداول، وبعبارة أخرى إذا ألَّفْنَا بين مختلف الأوضاع الممكنة لهذه الجداول، حصلنا آليًّا على جميع الحقائق الجوهرية، ففي مركز الدوائر الله، مدلول عليه بالحرف الأول من حروف الهجاء، وحوله المبادئ التسعة المطلقة أو الصفات الإلهية، مدلول عليها بحروف أيضًا، فيتألف منها أربعة أشكال كبرى، ويمكن تأليفها على مائة وعشرين شكلًا بطرق معقدة، مثال ذلك أن القول بأزلية العالم يؤدي إلى الخلف، فإن الصفات الإلهية تتحد في ذات الله، ومن ثمة تشارك جميعًا في فعل الله، والمخلوقات لا تشارك في الصفات الإلهية إلا على نحو متناه، فإذا افترضنا العالم أزليًّا كان معنى ذلك أن القدرة الإلهية أوسع من سائر الصفات، وهذا محال.

(ﺟ) هل كان يرى هذا التأليف كفيلًا بتوليد قضايا ضرورية؟ إنه إذن كان بعيدًا جدًّا عن تصور القرن الثالث عشر للمنطق، فإن هذا العلم لم يصر آليًّا إلا في القرنين التاليين، ويعد لول طليعة هذا التحول الذي جر على الفلسفة المدرسية من الهزء والسخرية مقدارًا كبيرًا، ولكنه كان يرمي في أغلب الظن إلى تنظيم المعارف وربطها بعضها ببعض، فوضع جداوله كوسيلة عرض لا كوسيلة برهان أو استكشاف واختراع، ولا شك أنه متعسف في اختيار المعاني الأساسية، تلك التساعيات من الصفات والإضافات والمسائل والموضوعات والفضائل والرذائل، ولكنه مفتن في هذا الضرب من الجبر المنطقي، غير أنه يستخدمه كتمثيل محسوس ووسيلة لمعاونة الذاكرة، فإذا خلصنا الفن الأكبر من هذا التمثيل، وغضضنا النظر عن هذه الآلية الظاهرية فربما بدا منهجًا قياسيًّا لإقامة العلم الكلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤