الفصل الثالث

جيوم دوفرني (؟–١٢٤٩)

(١) حياته ومصنفاته

فرنسي، أول كبار مفكري القرن، له كتب لاهوتية وصوفية، وكتابان فلسفيان، أحدهما: في خلود النفس، والآخر: في العالم، وهو أوغسطيني، ولكنه يعجب بالعلم الطبيعي الأرسطوطالي، ويعرف فلاسفة الإسلام وعلماءه معرفة وافية ويفيد منهم، يعرف من العلماء: البتاني، وأبا معشر، والخوارزمي، وعلي بن عباس الهادي، والبطروجي، والفرغاني والحسن بن الهيثم، وقد أحال كثيرًا إلى القرآن، وذكر أقوال الفارابي وابن سينا في العقل الفعال، بل ذكر ابن سينا حوالي أربعين مرة وأخذ عنه بعض التعريفات وبعض الأمثلة وكثيرًا من الآراء وترتيب العلوم، ويمكن أن يقال: إنه هو الذي أدخله إلى الجامعة، وذكر الغزالي، وكان يظن أن كتابه «مقاصد الفلاسفة» عرض لآرائه، وهو في الحقيقة تلخيص للفلسفة القديمة وبخاصة لكتاب النجاة، وذكر ابن رشد مرتين، ونعته بالفيلسوف الشريف جدًّا، وذكر من فلاسفة اليهود ابن ميمون، وابن جبرول، وكان يظن الثاني مسيحيًّا ويرى فيه «أشرف الفلاسفة جميعًا» وكان كمعظم معاصريه يعتقد أن الفلسفة الإسلامية أرسطوطالية خالصة، فيقول: «أرسطو وأتباعه من العرب الفارابي والغزالي وابن سينا وغيرهم»، وقد عني كل العناية ببيان وجوه التعارض بين هذه الفلسفة ومقتضيات المسيحية، ورأى التعارض الأساسي في قيام المسيحية على حرية الإرادة الإلهية، بينما «مذهب أرسطو وأتباعه» ينكر هذه الحرية بتاتًا، لذا مبدأ ردوده دائمًا أن هذا المذهب «يهدم مجد الخالق» ذلك المجد الذي يتجلى في الخلق الحر والعناية المتصلة والتجسد والفداء، وهو ينبه على أنه يعول في الفلسفة على العقل وحده فيقول: «لا يداخلنك أني أريد استخدام أقوال أرسطو للبرهنة على أقوالي، فإني أعلم أن الحجة المستمدة من السلطة إنما تولد الإيمان فقط، وغرضي توليد اليقين البرهاني.»

(٢) الله والعالم

(أ) في البرهنة على وجود الله لا يذكر دليل المحرك الأول — ولو أنه يعتبر الله العلة الفاعلية الأولى — وإنما يقدم دليلًا من الموجود بالمشاركة إلى الموجود بالذات، لا بناء على مبدأ العلية، بل بناء على تلازم المعنيين، كما هو الحال في الأفلاطونية، فيقول: «إن كل حادث فهو ممكن بذاته وقابل للوجود، فالوجود عرض له وهو يقبله في كل ماهيته»، ليس الوجود داخلًا في حد المخلوق، فوجود المخلوق خارج عن ماهيته، فهو وجود بالمشاركة، وعند ابن سينا أيضًا يوجد هذا التقابل بين الواجب والممكن وإلحاح فيه.

(ب) ليس العالم أزليًّا كما ذهب إليه أرسطو وابن سينا وغيره من الإسلاميين، ولكنه حادث كما بين أوغسطين، يقول ابن سينا: إن افتراض الحدوث يتضمن القول بأن الفعل المحض يتغير أي يخرج من القوة إلى الفعل، وإن هذا تناقض، ولكن حدوث العالم لا يغير شيئًا في ذات الله، إذ إنه صادر عن إرادة أزلية، وليس صدور الموجودات أجزاء عن الله كصدور الماء عن العين، وإلا كانت الموجودات أجزاء من الله فطلبت اللانهاية الإلهية، وليست الصورة التي يرسمها ابن سينا للعالم، بالعقول المفارقة والنفوس المحركة للكواكب، بمقبولة عند المسيحية ولا عند العقل، إن المسيحي لا يسعه قبول توسط تلك الموجودات بينه وبين الله، فإن الله وحده خالق لا يشاركه في ذلك أحد، والله وحده غاية الإنسان من دون العقل الفعال، وأي عقل آخر، وليس يمكن إقامة البرهان على أنه «عن الواحد لا يصدر إلا واحد» كما يقول ابن سينا، وأنه عن الله صدر عقل أول صدورًا ضروريًّا ولم يصدر عنه سوى ذلك العقل، وأن باقي العقول صدرت على التوالي، كلٌّ عن الذي قبله، وأن العقول عشرة فقط.

(ﺟ) ومما هو بَيِّنُ البطلانِ تعليلُ ابن سينا تحريك النفوس الفلكية لأجرامها، فإنه يقول: إن كل نفس تتأمل العقل المفارق الخاص بفلكها وتحب كماله وتريد أن تتشبه به بأن تجعل فلكها ثابتًا مثله، ولكن لما كان كل جزء من الفلك لا يحصل في كل آن إلا على جزء فقط من مكان الفلك، ويبقى بالقوة إلى سائر الأجزاء، فإن النفس تحرك فلكها لكي يحصل كل جزء منه على جميع الأجزاء بالتوالي ما دام يحصل عليها جميعًا في وقت واحد، إن هذا التعليل عبث لا يحقق الغرض المقصود منه، إذ إن الحصول على جميع الأجزاء بالتوالي يعني ترك جزء، والحلول في آخر، وهكذا إلى غير نهاية، فالشوق الذي يحرك الفلك يناقض نفسه في كل أن، ويتعادل الربح والخسارة في كل آن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا سلمنا بمقدمات ابن سينا لم يلزم منها أن تتحرك النفس الفلكية، بل أن تبقى ثابتة كالعقل الثابت الذي تتأمله، إن تلك النفوس تشبه الخيل والحمير التي تحرك طواحين البشر، وجيوم إذ يبطلها على هذا النحو يجعل للسماوات نفسًا واحدة تدبرها جميعًا، ولم يعرض لنظرية أرسطو في العقول المحركة المذكورة في المقالة الثانية عشرة من كتاب ما بعد الطبيعة؛ لأنه لم يكن يعرف من هذا الكتاب سوى المقالات العشر الأولى.

(د) ويختلف تجوهر المخلوقات في الأرواح عنه في الماديات، فالأرواح صور خالصة أو عقول مفارقة، وجيوم أول من ذهب إلى هذا الرأي بين مفكري القرن الثالث عشر، وكان اللاهوتيون من قبل يؤلفون كل مخلوق من هيولى وصورة، فرد عليهم بأنهم يجهلون مبادئ فلسفة أرسطو وشرح ابن رشد عليها، وهي تبين ما كان قد أثبته بويس من أن لا مادة إلا في الجواهر الجسمية، ولكن جيوم يضع من الصور الجوهرية في كل موجود جسمي بقدر ما له من كمالات متمايزة، خلافًا لما يقرره أرسطو، ووفقًا لما تضعه الأفلاطونية.

(٣) النفس الإنسانية

(أ) ليست النفوس الإنسانية صادرة عن العقل الفعال أو عقل فلك القمر كما يقول ابن سينا، ولكنها مخلوقة من الله مباشرة، أما ماهية النفس ونوع اتصالها بالجسم، فلا تخلو أقوال جيوم فيهما من اضطراب: فهو يعرِّف النفس بعبارة أرسطو (وهي أنها كمال أول لجسم طبيعي آلي) ويقول: إنها الصورة الجوهرية للجسم، ثم يشبه اتحادهما باتحاد القيثاري بالقيثارة كما فعل أوغسطين آخذًا عن أفلاطون، على أنه يعتبر هذا الاتحاد طبيعيًّا، أسوة بأوغسطين أيضًا، لا قسريًّا كما يرتئي أفلاطون وأفلوطين، ومع قوله تتعدد الصور الجوهرية حيث توجد كمالات مختلفة، ينكر تعدد النفوس في الإنسان ويقول بنفس واحدة روحية، فيعود إلى أرسطو ويخالف عامة الأوغسطينيين لعهده.

(ب) وهو يذهب إلى أن النفس تدرك ذاتها، ويأخذ من ابن سينا الدليل على ذلك، وهو دليل وارد مرتين في كتاب الشفاء (م١ ف١، م٥ ف٧) ومرة في كتاب الإشارات (ص١١٩ من طبعة ليدن)، حيث يقول ابن سينا: «ارجع إلى نفسك وتأمل، هل تغفل عن وجود ذاتك ولا تثبت نفسك، ولو زعمت أن ذاتك قد خلقت أول خلقها العقل والهيئة، وفرض أنها على جملة من الوضع والهيئة لا تبصر أجزاءها ولا تتلامس أعضاؤها، بل هي منفرجة ومعلقة لحظة ما في هواء طلق، وجدتها قد غفلت عن كل شيء إلا عن ثبوت إنيتها»، هذا الدليل يتفق مع الأفلاطونية، ومعروف بدليل الإنسان الطائر، وجيوم يستنبط منه بساطة النفس، ويستدل بالبساطة على امتناع تعدد القوى في النفس، فلا يعترف إلا بتعدد الأفعال، النفس تدرك ذاتها واحدة بسيطة، وأنها هي التي تحس وتدرك وتريد، ألسنا نضيف لله صفات دون أن نعتبرها زائدة على الذات الإلهية؟ كذلك الحال في النفس.

(ﺟ) وفي مسألة المعرفة يعارض جيوم نظرية التجريد الأرسطوطالية بنظرية الإشراق الأوغسطينية، فيقول: لو كان العقل يجرد المعقول من المحسوس لكان المعنى جزءًا من الصورة المشخصة — وهما في الحقيقة متمايزان — ولما بقي للعقل ميزة خاصة، إن للصور المعقولة التي نعرف بها الماديات، وللمبادئ التي نحكم بها عليها، قيمة مستقلة عنها، فلا يمكن أن تتولد عن معرفتها، وليس بصحيح أن إدراك العقل مقصور على الكلي، فإن النفس تعرف ذاتها وهي موجود جزئي، وتعرف أفعالها وهي جزئية، وهذه المعرفة تدل على أن باستطاعة العقل إدراك موجودات جزئية، الموجودات الروحية على الأقل، بل يجب أن يقال: إن من طبيعة العقل إدراك الجزئي، غير أن الخطيئة الأصلية أوهنته حتى لم يعد يرى المعقولات إلا كما يرى البصر الأشياء من بعيد، ويجب أن يقال إن الله يشرق المعاني والمبادئ على العقل فيدركها العقل، ومعنى الإشراق إخصاب النفس بحيث تصير المعاني والمبادئ فيها بالقوة، فتدركها بالفعل حالما تتأثر بإدراك حسي، وذلك هو المعنى الوحيد لقول أرسطو: إن النفس لا تتعقل دون صور خيالية، فالعقل منفعل وفاعل، يفعل بعد أن ينفعل بالإشراق أو الإخصاب الإلهي، ولا حاجة إذن إلى وضع عقل فعال من دون الله، سواء داخل النفس كما يفعل أرسطو، أو خارجها كما يفعل ابن سينا، أما داخل النفس، فلأن النفس بسيطة فلا يتعدد فيها العقل، وأما خارج النفس، فلأن التعقل فعل النفس ذاتها، وإن الوجدان لا يدل على ما يقوله ابن سينا من أن التعقل يتم بتوجه النفس إلى العقل الفعال المفارق، والاتحاد به كلما أرادت أن تتعقل.

(د) فنحن هنا بإزاء فكر أوغسطيني تلقى فلسفة أرسطو وشراحه، فميز فيها بين ما يقبله وما لا يقبله، ورائده المسيحية، ومنهجه النقاش والبرهان، وقد جاءت محاولته في مسألة المعرفة مثالًا لما سمي بالأوغسطينية الضاربة إلى السينوية: أخذ عن ابن سينا المعنى المجرد الكلي، ولم يكن أوغسطين أعاره انتباهًا كافيًا، وأخذ عنه إشراق العقل الفعال للمعاني المجردة الكلية، فأضاف هذا الإشراق إلى الله، وكان أوغسطين وضع الإشراق كمدد يؤيد العقل في الحكم الكلي الضروري، وسنصادف محاولاتٍ أخرى من هذا القبيل إلى أن يتناول هذه المسألةَ وغيرَها القديسُ توما الأكويني، ويحلها جميعًا على مقتضى الأرسطوطالية الخالصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤