الفصل الخامس

القديس بونافنتورا

(١٢٢١–١٢٧٤)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) إيطالي، فرنسسكي، تتلمذ لألكسندر أوف هاليس، وعلم بجامعة باريس، ثم انتخب رئيسًا عالمًا للبرهنة وهو في السادسة والثلاثين، وكان قد عين كردينالًا في السنة السابقة عليها.

(ب) له كتب فلسفية ولاهوتية وصوفية، أهمها: شرح على «أحكام» بطرس اللومبارذي هو تدوين درسه بالجامعة، ورسالة في «سبيل النفس إلى الله»، وأخرى في «إرجاع الفنون إلى اللاهوت» أي إخضاعها له كآلات أو وسائل.

(ﺟ) أوغسطين مرجعه الأكبر، ويجمع إليه ديونيسيوس وأنسلم، وتبعًا لهذا الاتجاه يفضل أفلاطون على أرسطو: أفلاطون «حكيم» وأرسطو «عالم»، وفي الأفلاطونية العلم هو المعرفة الاستدلالية للطبيعيات المدركة للأشياء الروحية الدائمة، والحكمة المثلى عنده لاهوتية صوفية: فمهمة الفلسفة معاونة اللاهوت والتكمل به، ومهمة اللاهوت التوجه إلى التصوف والانتهاء إلى الجذب، أما الاجتزاء بالفلسفة فإنه يشوه وجه الحقيقة الكلية ولا يدع للعالم سوى قيمة طبيعية بحتة، في حين أن الفيلسوف المسيحي لا يسعه إلا أن يرى امتناع تعقل العالم تعقلًا كاملًا بغير إرجاعه إلى الله علته الفاعلية والنموذجية والغائية، فالفلسفة الحقة تتخذ من دراسة الله نقطتها المركزية، وفي الواقع أن النظر في المعرفة الإنسانية وفي العالم يؤدي بنا إلى الله ضرورة.

(٢) المعرفة

(أ) للنفس معرفتان أو عقلان: عقل أدنى وعقل أعلى، فهي تتجه بجزئها الأدنى نحو المحسوسات، وبجزئها الأعلى نحو ذاتها ونحو الله، ليست كل معرفة آتية من الحواس، وإذا كان أرسطو قال: إنه ليس يوجد في العقل إلا ما سبق وجوده في الحس، فيجب أن يقصر هذا على الأشياء التي توجد صورها في النفس على نحو مجرد وليست هي مجردة في حقيقة وجودها، العقل المنفعل يتجه إلى الصور الخيالية، ويجرد بمعونة العقل الفعال، فيقدم المعاني للعقل الفعال يتأملها، (فبونافنتورا يصطنع نظرية العقلين، ليكمل بها مذهب أوغسطين في معرفة الماديات، أي ليفسر ما لدينا عنها من معان مجردة، ولكنه يفهم فعل التجريد فهمًا خاطئًا، إذ يخلط بين الوظيفتين المجردة والمتعقلة)، وهو يضع العقلين في النفس ويقول: صحيح أن الله هو النور الذي ينير كل إنسان، وأنه الفاعل الأول في كل فعل مخلوق، ولكن النفس ليست منفعلة فحسب، فإن الله منح كل مخلوق قوة فاعلية يحقق بها فعله الخاص، هذا عن العقل الأدنى.

(ب) أما العقل الأعلى فموضوعه الأشياء المفارقة للمادة بالطبع، كالله وصفاته، والنفس وأفعالها، وكيف يسبق لهذه الأشياء وجود في الحس؟ كذلك يقال في مبادئ التعقل: هناك مبادئ تطبق على المحسوسات، حدودها مكتسبة بالحس، ولكن النسبة بين الحدود تدركها النفس من تلقاء ذاتها، فهذه مبادئ فطرية بالإضافة فقط، وهناك مبادئ عقلية بحتة، ترجع إلى العقل الأعلى من حيث حدودها والنسب بينها، مثل أنه يجب احترام المبدأ الأول «الله» فوق كل شيء، ويجب تصديق الله الحق بالذات، ويجب إيثار الخير الأعظم على كل خير، هذه المبادئ يدركها العقل في النفس حالما يتوجه إليها، فهي فطرية إطلاقًا، وهي أعلى من النفس، يحكم بها العقل ولا يحكم عليها، وليس أعلى من النفس سوى خالقها، فهذه المبادئ مطبوعة في النفس من الله، ودالة عليه.

(ﺟ) وإذا حللنا أفعالنا العقلية — نظرية وعملية — وجدناها تنتهي إلى الله كذلك، فمن جهة النظر ننتهي إلى الله في التصور والحكم والاستدلال، أما التصور فهو إدراك حد الشيء، وكل حد فهو بمعان أعم من المحدود، فما يزال العقل يرتقي في سلم المعاني حتى يصل إلى أعلاها وأعمها وهو معنى الموجود بذاته، وعلى ذلك فالله «المعلوم الأول» ولسنا نعلم موجودًا تمام العلم ما لم نرجع حده إلى معنى الموجود المطلق، (هنا يخلط بونافنتورا — كما خلط الأيليون من قبل — بين الموجود بالإجمال، وهو معنى مجرد غير معين، وبين الموجود بالذات، أو واجب الوجود المعين في ذاته تمام التعيين، والذي لا نعرف وجوده إلا بالدليل)، وأما الحكم فهو العلم بأن القضية حقيقة ثابتة، وأما الاستدلال فهو العلم بأن النتيجة لازمة ضرورة عن المقدمتين، ولكن المحسوسات متغيرة لا تثبت على حال، ولا تبرر ضرورة اللزوم، وعقلنا أيضًا خاضع للتغير معرض للخطأ، فيجب أن تقوم الحقيقة والضرورة على ما للأشياء من حقيقة ضرورية في الله نموذجها، (وهنا أيضًا يخلط بونافنتورا، فلو أنه فهم نظرية التجريد على وجهها لرأى أن العقل إذ يستبعد الأعراض المتغيرة ويستبقي الماهية المجردة يحصل على شيء ثابت ضروري)، هذا من جهة النظر.

(د) أما من جهة العمل، فإن العقل حين يبحث عن خير الوسائل لتحقيق غاية ما، أي عما هو أقرب إلى الخير الكامل، فهو حاصل بالضرورة على معنى الخير الأعظم منطبعًا فيه، (ولكن الحق أن معنى الخير الأعظم مجرد من الخيرات الجزئية، مثل معنى الموجود بالإجمال المجرد من الموجودات الجزئية، أما الخير الأعظم بالذات أو الله، فلا نحصل عليه إلا بالاستدلال).

(ﻫ) والنتيجة التي يخرج بها بونافنتورا من هذا المبحث هي أن العقل الإنساني متصل بالحقيقة الدائمة، بيد أنه ينبه على أن هذا الاتصال ليس اتصالًا بذات الله أو رؤية مباشرة — كما سيذهب إليه مالبرانش وأتباعه — وإنما هو اتصال بفكرة الله المنطبعة في النفس، أو إعداد الله للنفس إعدادًا ذاتيًّا بملكة أو هيئة تؤهلها لهذا الإدراك، ومتى كانت فكرة الله مدركة في النفس على هذا الوجه — أي باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه أفعالنا العقلية — كانت هذه الفكرة موضوعية، ولقي دليل أنسلم التأييد الذي يعوزه، هكذا ظن بونافنتورا، وقد اصطنع بالفعل دليل أنسلم، واعتقد أن الإيمان بوجود الله فطري، وأن التدليل على هذا الوجود مجرد تفسير لإيماننا به، ولكن إذا تبين أن فكرات الموجود والخير والضروري والكامل مكتسبة بالتجريد، فإنها تظل مجرد فكر ولا تدل على وجود واقعي.

(٣) العالم

(أ) يقول بونافنتورا: أنكر أرسطو وجود المثل في الله كأن المحسوسات موجودات مطلقة غير مخلوقة، وهذا خطأ أساسي قاده إلى أخطاء أخرى، فأنكر عناية الله بالعالم، والحساب بعد الموت، وقال بأزلية العالم، وبأن الأخلاق في غير حاجة إلى الخير الأعظم بالذات، وقد نلتمس له العذر فيما ذهب إليه، ولكن مما يؤسف له أن أتباعه، لما رأوا عبقريته في سائر الموضوعات، لم يصدقوا أنه أخطأ في هذه النقط فجروا وراءه، على أن مذهبه باطل من ثلاثة أوجه:

(ب) أما أولًا: فلأن طبيعة العالم مغايرة لطبيعة الله، فالعالم لم يصدر عن الله بالطبع، بل صدر بالإدارة، وهذا يحتم القول بوجود مثل المخلوقات في الخالق، وما دام العالم لم يصدر عن ذات الله فقد أوجده الله من العدم، وما كان لأحد أن يضع المادة إلى جانب الصانع كمبدأ مستقل عنه، (وهنا يظن بونافنتورا أن الإيجاد من العدم يعني الإيجاد بعد لا وجود وأن حرف «من» تلزم عنه علاقة تقدم وتأخر، فإذا عنينا إيجادًا أزليًّا غير مسبوق بعدمٍ وقعنا في تناقض، كأنه يجعل للعدم وجودًا خاصًّا قبل وجود العالم، وحقيقة المراد بالعدم انتقاء مادة سابقة)، وأما ثانيًا: فلأنه لما كان العالم متغيرًا كان معنى أزليته ازدياد اللانهاية بدوامه، وإن عدد دورات القمر مثلًا أكبر من عدد دورات الشمس اثنتي عشرة مرة، وليس يعقل التفاوت في اللانهاية، ثم كيف وصل العالم إلى الآن الحاضر وليس له طرف أول وليس يمكن عبور اللانهاية؟ ولقد كان أرسطو متجنيًا على أفلاطون في نقد قوله ببدء الزمان، وهو قول يلوح أنه تفرد به في العصر القديم، وأما ثالثًا: فلأن من الممتنع وجود عدد لا متناه بالفعل، ولو كان العالم أزليًّا لوجد عدد لا متناه من بني الإنسان، ولكان يوجد الآن عدد لا متناه من النفوس الخالدة، وهذا خلف، فيلزم الإقرار باستحالة مساوقة العالم لله في الأزل، (وإلى هذه النتيجة أراد أن يصل بونافنتورا، ظانًّا أن القول بأزلية العالم قول باستقلاله عن الله، وسنرى القديس توما الأكويني يميز بين القولين، ويرد على حجج أنصار الحدوث والقدم على السواء).

(ﺟ) ونجد عند بونافنتورا سائر الآراء المشتركة بين الأوغسطينيين: تركيب المخلوق أيًّا كان من ماهية ووجود، ومن هيولى (جسمية أو روحية) وصورة، ومن صور متعددة بتعدد الكمالات، وعدم التمايز بين النفس وقواها، وانطواء الهيولى على أصول بذرية، وإلا أضيفت للمخلوقات قدرة خالقة هي لله وحده، ولزم أن الطبيعة تحدث شيئًا من لا شيء، وقد كان لنظريته في المعرفة أثر قوي حتى لنقول: إن ديكارت، وإن مالبرانش وأتباعه أقرب إليه منهم إلى أوغسطين، ومذهبه في جملته قوي، محبوك الأطراف، تتألق فيه مواهب عالية من حرارة الروح، وسمو الفكر، وجمال الأسلوب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤