الفصل السادس

روبرت جروستيت

(١١٧٥–١٢٥٣)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) ننتقل من باريس إلى أكسفورد، ونتحدث عن أستاذ كان أول ممثل بارز للعلم التجريبي في العصر الوسيط، ومن واضعي أسس العلم الحديث بمناهجه ونزعاته، كان أستاذًا بالجامعة فمديرًا عليها، فنظم الدراسة فيها مسترشدًا بالبرامج الباريسية، وكانت له علاقات متصلة ببعض الأساتذة الباريسيين، ثم عين أسقفًا على لنكولن.

(ب) كان مترجمًا وشارحًا ومؤلفًا، نقل من اليونانية كتبًا دينية، وأعاد نقل كتابي الأسماء الإلهية واللاهوت الصوفي لديونيسيوس، ونقل عن أرسطو كتاب السماء، وكتاب الأخلاق النيقوماخية، ولم يكن نُقِل إلى اللاتينية من قبل، وله شروح على ديونيسيوس، وعلى التحليلات الثانية، والأغاليط، والسماع الطبيعي، والأخلاق النيقوماخية، وقد ألحق بهذا الكتاب الأخير تعليقات على المعجم اليوناني والأجرومية اليونانية لتوضيح ترجمته وتبريرها، وله رسائل في الفلسفة الطبيعية، وما بعد الطبيعة، والنفس.

(٢) مذهبه

(أ) كانت عنايته بأرسطو عناية العالم المطلع فحسب، فقد كان أوغسطينيًّا، خالف أرسطو في أصول جوهرية ترجع إلى مسألة المعرفة، وإلى منهج العلم الطبيعي، وإلى العلم الطبيعي نفسه، ففي مسألة الممعرفة يأخذ على مذهب أرسطو أنه يتصور الروحيات بصور حسية، لاعتماده على العقل الاستدلالي وحده لا على قوة أخرى دراكة للروحيات، بالعقل الاستدلالي يبرهن الأرسطوطاليون على وجود الله والعقول والنفوس، فإذا ما أرادوا أن يتصوروها «لم يروها إلا خلال التصورات الجسمية»، مثال ذلك: أنهم «عرفوا بالاستدلال أن السرمدية بسيطة لا تتجزأ، ثم لم يدركوها إلا بصورة خيالية هي الامتداد الزماني»، هذا خطأ أساسي جرهم إلى أضاليل شتى كأزلية الحركة والزمان، ومن ثمة أزلية العالم، فيجب القول بقوة أخرى في الإنسان تدرك الروحيات، أما عبارة أرسطو القائلة «من فقد حسًّا فقد علمًا» فهي صحيحة في حال الإنسان بعد سقطة آدم لا إطلاقًا، وأما التجريد فمجاله العلم بالمحسوسات لا العلم بالمعقولات.

(ب) وكان مثال العلم عنده وعند أساتذة أكسفورد، كتاب المناظر للحسن بن الهيثم، لذلك هو يستخدم الأسلوب الرياضي في التدليل، ويعتقد أن الرياضيات وحدها تفسر الظواهر الطبيعية، أي «أن علل هذه الظواهر يمكن أن تكون خطوطًا وزوايا وأشكالًا»؛ لأن الطبيعة تعمل بأقصر الطرق، تبعًا لمبدأ الاقتصاد والكمال، وأقصر طريق هو الخط المستقيم، بهذا المنهج الرياضي تصير العلوم الطبيعية علومًا برهانية، وهذا يعني أنها تصير آلية تفسر الظواهر بالعلل الفاعلية دون الصورية، والعلل الغائية الملحوظة عند أرسطو.

(ﺟ) وهو يضع علمًا طبيعيًّا آليًّا يقوم على نظرية النور المعروفة عن الأفلاطونية الجديدة، والتي اصطنعها أوغسطين والأوغسطينيون، فيذهب إلى أنه لما كان الله النور بالذات، كانت الموجودات أنوارًا بالمشاركة، مركبة أول ما تتركب من الهيولى والصورة الجسمية، ثم تقبل باقي الصور على حسب درجتها في سلم الوجود، والصورة الجسمية نور، والنور جوهر غاية في اللطافة، يقارب اللاجسمي، خصائصه أنه يتولد بذاته أبدًا، وينتشر في الهيولى فيمدها في الأبعاد الثلاثة ويولد الكم، ويعطي الجسم خصائصه من جمال ولون وفعل، وانتشاره دائري فجائي حول نقطة مركزية يتكاثف عندها ويتخلخل عند المحيط، سواء في جملة العالم، وفي كل جسم جسم، وهكذا حدث العالم: تكوَّن الجلد حين بلغ النور الغاية من التخلخل، وعكس الجلد نورًا على مركز العالم، ومن هذا النور المنعكس تكونت الأفلاك التسعة واحدًا بعد آخر على التوالي حتى فلك القمر، ثم أفلاك العناصر، النار، فالهواء، فالماء، فالتراب، بحيث تجتمع في الأرض آثار الأفلاك العلوية وتتركز فيها.

(د) والنفس الإنسانية نور أسمى من نور الأجسام، وهي منتشرة في الجسم كله، ولكنها لا تنفعل به، إذ لا ينفعل الأعلى بالأدنى، لذا كان الإحساس والفكر فعلين للنفس ذاتها، ولا تمايز بين النفس وقواها، والرباط الذي يربط النفس بالجسم نور، والإدراك فعل من طبيعة نورية، والعلم الإنساني إشراق من النور غير المخلوق نرى به حقائق الأشياء، كذلك قال بونافنتورا بنور هو في ذاته صورة كاملة، ويتفاوت مرتبة بتفاوت مراتب الوجود، حتى يصل إلى أدنى مظاهره الذي هو النور المدرك بالحس، وهكذا تبدو الخليقة كأنها إشعاع النور الإلهي، ومثل بونافنتورا أيضًا يئول العالم تأويلًا روحيًّا قائمًا على الخلط بين الحقيقة والمجاز، ولكن استخدام نظرية النور يسمح لروبرت جروستيت بتطبيق المنهج الرياضي في دراسة الطبيعيات، فمتى كان النور جوهر الأشياء، وكان فعله آليًّا متمشيًا على قوانين رياضية، كانت الطبيعة خطوطًا وزوايا وأشكالًا، حتى في علم الحياة، بل في الإحساس، وبونافنتورا لم يؤسس علمًا طبيعيًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤