الفصل السابع

روجر بيكون

(١٢١٤–١٢٩٤)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) بعد أن درس بأكسفورد قصد إلى باريس وأقام بها ست أو ثماني سنين، ثم عاد إلى أكسفورد وعلم بها، واضطر إلى الكف عن التعليم؛ لأنه كان يدخل السحر والتنجيم في عداد العلوم التجريبية، ورجع إلى باريس، وظل طيلة حياته مصرًّا على رأيه هذا، ومن ثمة كان موضع ريبة عند رؤساء رهبنته «الفرنسيسكية».

(ب) له شروح على الطبيعيات وما بعد الطبيعة لأرسطو، وعلى كتاب العلل لأبروقلوس، هي ثمرة تعليمه بأكسفورد، ثم طلب إليه البابا — وكان يعرفه ويعطف عليه قبل ارتقائه الكرسي الرسولي — أن يدون آراءه، فوضع «الكتاب الأكبر» وهو أهم مؤلفاته، مقسم إلى سبعة أقسام: أسباب أخطائنا، العلاقة بين الفلسفة والعلوم وبين اللاهوت، علم اللغة، الرياضيات، علم المناظر أو البصريات، العلم التجريبي، الفلسفة الخلقية، وبعد ذلك وضع «الكتاب الأصغر» ضمنه بعض موضوعات الكتاب الأكبر وبحثًا في الكيمياء، ثم «الكتاب الثالث» ردد فيه بعض ما أثبته في الكتابين السابقين وزاد مسائل علمية جديدة، وفي آخر حياته دون «موجز دراسة اللاهوت».

(ﺟ) هو أوغسطيني يجعل للاهوت المقام الأول، ويصطنع جميع قضايا المدرسة الأوغسطينية، فلا نكررها هاهنا ولكننا نذكر له رأيًا خاصًّا في الكليات، ذلك أنه يستنتج من نظرية تعدد الصور في الجزئي الواحد، أن الصور تؤثر في عقل الشخص العارف مباشرة فيدركها مجردة، بحيث تنتفي الحاجة إلى عقل فعال مجرد — وهذا عود إلى الوجودية القديمة كما صادفناها بنوع خاص عند جيوم دي شامبو — فيصير معنى الإشراق الإلهي عنده أنه المدد الذي يبذله الله للإنسان في فعل المعرفة لا يختلف عن المدد الذي يبذله لجميع المخلوقات في جميع أفعالها، وبهذا المعنى يقال: إن الله العقل الفعال، وإنه نور عقلنا.

(د) وعلى الرغم من تصديه لشرح أرسطو لم يحط به إحاطة كافية ولم ينفذ إلى مقاصده، كان يعيب الترجمات اللاتينية لكتبه ويقول «خير للاتين أن يجهلوا أرسطو من أن يعرفوه عن طريق تلك الترجمات» ثم يخطئ هو في علمه به حتى يضيف إليه القول بالثالوث، والخلق، وحدوث العالم! وقد وقف على الكتب الإسلامية وأفاد منها، وبخاصة كتب ابن سينا والحسن بن الهيثم، كان أعرف معاصريه بحياة ابن سينا ومصنفاته، وهو يقدمه على ابن رشد، ويعتبره أول اسم كبير بعد أرسطو «أهم شراحه» و«زعيم الفلسفة»، ولكنه يأخذ عليه قوله بأزلية العالم، وبصدور الموجودات بعضها عن بعض، ويذكر أن ابن سينا وضع مذهبه الخاص به «الفلسفة المشرقية» بعد أن دون للعامة كتاب الشفاء، وينقل عنه في الطب، وينقل تجارب الحسن بن الهيثم في المناظر.

(ﻫ) وهو يمتاز بشعوره القوي بأهمية التجربة وضرورتها، وما أكثر ما نعى على أهل عصره — وبخاصة أساتذة باريس — عدم عنايتهم بالطريقة التجريبية، وصرح بأن هذا التقصير سبب جهل المثقفين بجميع أسرار العلم تقريبًا، وأكبر الأسرار، وفي هذا الباب يعترف بالفضل عليه لعدة علماء، أهمهم أو أعرفهم لدينا رجلان، أحدهما: أستاذه جروستيت، علَّمه ضرورة الرياضيات للعلوم، والآخر: بيير دي ماريكور الفرنسي عرَّفه ضرورة التجربة لتكميل المنهج الرياضي، فقد كان يقول: «إن الفلسفة الطبيعية والرياضيات لا تكفي لتصحيح الأخطاء في العلوم، بل يجب أن يجمع إليها المجرب المهارة اليدوية في إجراء التجارب» فيسميه بيكون «رب التجارب»، ولا نعلم عنه سوى أن له كتابًا في المغناطيس بقي خير كتاب في موضوعه إلى أوائل القرن السابع عشر، ورسالة في «تركيب جديد للأسطرلاب»، يضاف إلى هذين الرجلين المؤلفون اليونان والعرب الذين قرأ كتبهم منقولة إلى اللاتينية.

(٢) المنهج العلمي

(أ) يحصر بيكون وسائل المعرفة في ثلاث، وهي: «النقل، والاستدلال، والتجربة، أما النقل فلا يولد العلم ما دام لا يعطينا علة ما يقول، وأما الاستدلال فلا نستطيع أن نميز به القياس البرهاني من القياس المغالطي إلا إذا أيدت التجربة نتائجه، فهي التي تظهره للعيان»، ويرتب الدراسة على النحو التالي: الرياضيات، فالعلوم الطبيعية، فالفلسفة، فالأخلاق، فاللاهوت أو الحكمة الكلية التي تلتقي فيها جميع العلوم.

(ب) خاصية الرياضيات أنها فن البرهان، ولذا يتوقف المنطق عليها، إذ فيها دون سواها نعرف ما المبادئ أو الأصول؟ وما النتائج؟ وما البرهان الحق الذي يبين العلة الذاتية الضرورية؟ بدونها لا تفهم العلوم ولا تعلم، فهي ضرورية للغاية في تكوين العلم، والأمر واضح في الظواهر الفلكية، ولما كانت الظواهر الأرضية تابعة للكواكب، فيمتنع فهم ما يجري على الأرض إذا جهلنا ما يجري في السموات، وفوق ذلك، كما بين جروستيت، من المحقق أن جميع الأفعال الطبيعية تتم وتنتشر وفقًا لخصائص الخطوط والزوايا والأشكال، فإذا لم تستعن العلوم بالرياضيات كانت مجموع ظنون وأخطاء.

(ﺟ) والسبب في وضوح الرياضيات أنها تستخدم ضربًا من التجربة، إذ تبين الحقيقة للحواس في أعداد وأشكال فتجعلها محسوسة، على أن التجربة فيها ناقصة؛ لأنها لا تظهرنا على الحقيقة في جزئيتها، فلا بد من تكميلها بالتجربة التي تقفنا على الظواهر في ذاتيتها، فتولد في النفس يقينًا أقوى من يقين الاستدلال، لنفرض رجلًا يبرهن بحجج سليمة على أن النار تحرق، فإذا كان سامعه لم يرَ النار قط فهو لا يقتنع ولا يتجنب النار ما لم يضع فيها يده أو شيئًا آخر، إن الاستدلال يلزم فقط بتسليم النتيجة، والتجربة تقنع بصحتها، والبرهان الذي يقول أرسطو: إنه يولد العلم، يجب أن يفهم على أنه البرهان المقترن بالتجربة، لا مجرد البرهان.

(د) وللتجربة وظيفتان، هما: تحقيق النتائج التي تصل إليها العلوم بالاستدلال، واستكشاف حقائق جديدة، فتنتهي إلى تكوين علم قائم برأسه، لا يرجع لعلم من العلوم المعروفة، هو العلم التجريبي Scientia experimentalis (وهذه أول مرة يظهر فيها هذا الاسم) ويدل على علم يخولنا سلطانًا على الطبيعة بأن يتيح لنا عمل كل ما تعمله الطبيعة، وكل ما يعمله الفن محاكيًا الطبيعة، ووسيلته الاستقراء، أي الملاحظة وإجراء التجارب بحيث يتألف من جملتها القانون الكلي، وتستخدم في ذلك جميع الحواس، وبخاصة البصر، وتمتاز التجربة العلمية على التجربة العادية بأنها تستعين بآلات، كالكرة والمزولة والأسطرلاب في علم الفلك، ولا تقتصر على ملاحظة الظواهر الواقعة، ولكنها تعمل على إيجاد ظواهر بعد تخيلها وعرضها على العقل، فإن العقل يساعد الطبيعة بالفن، فالمجرب يطهر ويقطر ويحرق ويحلل، وينوع تجاربه «إلى غير حد»، ليضاهي بين مختلف الحالات التي تحدث فيها الظاهرة الواحدة، فإذا كان يبحث عن علة قوس قزح مثلًا قارن بين ظهوره على البلورات، وظهوره على المياه المتدفقة من الطواحين «هكذا على أنحاء لا تحصى طبيعية وفنية»، ويذكر منها بيكون تجارب وردت في كتاب الآثار العلوية لأرسطو (م٣ ف٤).

(٣) العلوم وفوائدها

(أ) هذا العلم — بوسائله المذكورة — في غير حاجة إلى تبرير عقلي، إنه يبرر نفسه بما يخول الإنسان من سلطان على الطبيعة، وهذا السلطان يبرر نفسه بفائدته في خلاص الإنسانية وفوز المسيحية، فمما يعمله بمحاكاة الطبيعة وتسخير قواها: حمامات ساخنة تحتفظ بسخونتها بغير نار، مصابيح تضيء باستمرار دون تجديد وقودها، مواد ملتهبة تهلك جيشًا بأكمله في طرفة عين، مواد متفجرة تحدث دويًّا هائلًا وأضواء شديدة، مساحيق تهلك الحيوانات السامة للحال، مرايا ترسل على العدو أشعة محرقة، وأخرى ترسل سحبًا مسمومة ومرايا سحرية، وأخرى تكثر الصور أو تكبرها أو تصغرها للغاية، آلات وأدوات توفر للناس الراحة وترفه عنهم، سفن بلا مجاديف ولا أشرعة يدفعها شخص واحد فتجري بقوة وسرعة لا تبلغ إليها سفننا ولو كانت غاصة بالمجدفين، مركبات شديدة السرعة تجري بذاتها دون أن يجرَّها حيوان، آلات طائرة يحرك الإنسان أجنحتها كما يفعل الطير، آلات للغوص في أعماق البحر دون التعرض لأي خطر، آلات لرفع الأثقال الضخمة بسهولة، جسور تقام على الأنهر دون أعمدة تسندها.

(ب) وللعلم التجريبي آيات في الكيمياء والتنجيم والسحر، ليست الكيمياء مقصورة على أنها العلم النظري بالمعادن، ولكنها أيضًا وبنوع خاص علم عملي يرمي إلى تحويل المعادن، وإيجاد حجر الفلاسفة (وبيكون يخصص له أبحاثًا مطولة غامضة) وتركيب إكسير الحياة — ولم لا؟ إن عمر الإنسان لا يجاوز الثمانين، ولكننا نستطيع أن نعمر مثل النسر والغراب والثعبان، إن السبب في ضعف الشيخوخة وقصر العمر الإسراف الجسمي والخلقي، وتنقل الوراثة الضعف من جيل إلى جيل، ولا يستطيع لها الطب سوى مقاومة ضئيلة، ولكن الكيمياء العملية تقضي على أسباب الضعف بإكسير الحياة (ويذكر بيكون واحدًا من تراكيبه في عبارة مبهمة لأهمية السر!).

(ﺟ) أما التنجيم فعلم صحيح من حيث إن حركات الأجرام السماوية علل الأحداث الأرضية، فإذا عرفنا قوانين هذه الحركات استطعنا أن نعرف الماضي والحاضر والمستقبل، وإن التنبؤ بالمستقبل لعظيم الفائدة في تدبير الحياة الخاصة والعامة، والمنهج في علم التنجيم المقارنة بين الأحداث الإنسانية المدونة في التاريخ، وبين مواقع النجوم في أوقاتها، ثم الاعتماد على هذا التقابل لتوقع المستقبل واختيار الأوقات الملائمة للعمل، فمثلًا يمكن تعديل أخلاق شعب ما باستخدام التأثيرات السماوية المنتشرة على سطح الأرض لتعديل الجو، أو يمكن إنزال الدهش بجيش كامل بوساطة حجر بسيط نلائم بينه وبين الأفاعيل العلوية، أو يمكن استبعاد شخص مدى الحياة إذا جعلناه يأكل نباتًا زرع ونما تحت تأثير مواقع معينة من مواقع الشمس.

(د) وأما السحر فعلم كذلك يحصل على نتائج مدهشة بمجرد الكلام، ذلك بأن الأجسام، بما فيها جسم الإنسان، ينبعث عنها بخارات نافعة أو ضارة بحسب حال الجسم المنبعثة عنه من السلامة أو الفساد، والنفوس أيضًا ترسل من خلال الجسم بخارات أدق وأفعل من تلك، فإذا ما صدرت عن نفس سليمة ذات جسم سليم إرادة قوية بأن يحدث كذا في الطبيعة، تحققت هذه الإرادة، وبخاصة إذا صدرت في أوقات مناسبة من مواقع النجوم، فاجتمعت إلى تأثيرها تأثيرات السماء، والكلام هو الذي ينشر إرادات النفوس خلال الطبيعة، الكلمة بنت النفس، بها تأمر النفس الجماد والحيوان وجسم الإنسان، بل تأمر النفوس خلال الأجسام، سواء في ذلك الكلمة الملفوظة أو الكلمة المكتوبة كالأحجية والتعازيم، على أن السحرة ثلاث فئات: سحرة جهلاء دجالون، وآخرون علماء ولكنهم يستعملون علمهم في سبيل الشر بالائتمار مع الشياطين! وسحرة علماء يخدمون الدين والأخلاق، فهناك سحر حلال نافع، وكان بيكون يلح في هذه النقطة، ويريد السلطة الكنسية على أن توافقه فيها وترفع عنه الشبهة، على أنه كان يرى أن ليس من الحكمة ترك مزاولة السحر الحلال لأي كان، ويقول بوجوب تقييد هذا الحق بأن يخوله البابا رجالًا ممتازين.

(ﻫ) هذه علوم عجيبة تبدو أفاعيلها كالمعجزات؛ لأنها تفوق ما للطبيعة والفن من سلطان مألوف، فهي سرية بالذات، ويجب أن تبقى كذلك فتلقن سرًّا وتقصر على نخبة، لذا يجتهد جميع الإخصائيين في إخفاء علمهم تحت الصور والرموز، والعلم التجريبي السري رأس العلوم والفنون الطبيعية، فإن سلطانه يحقق غاياتنا الكبرى الثلاث: فهو يوفر لنا الخير الأعظم للجسم بإكسير الحياة، والخير الأعظم من حيث الثروة بحجر الفلاسفة، ويعاون بهذين الخيرين على توفر الخير الروحي للنفس، وهذه الغاية الأخيرة هي الغاية القصوى، لذا يجب أن يكون العلم التجريبي في خدمة الكنيسة، يهيئ لها أسباب النجاح في مهمتها الجلى، فإذا استخدمه المبشرون إلى جانب الوعظ والإرشاد، جنوا منه ثلاث فوائد، الواحدة: أن مصنوعاته العجيبة تبدو كالمعجزات في نظر الكفار، فيقولون في أنفسهم: إذا كانت الطبيعة تحدث أمثال هذه العجائب، فلمَ لا نخضع عقلنا للحقائق اللإلهية؟ والفائدة الثانية: أن هذا العلم يكشف خداع السحر الكاذب الذي تقوم عليه ديانة الكفار، والفائدة الثالثة: أنه يغني المسيحيين عن كثير من الدم والجهد في محاربة الكفار الذين يصرون على كفرهم، بما يتيحه لهم من وسائل وآلات، وإذن فليس يليق أن يضطلع بالتبشير إلا العلماء من لاهوتيين وفلاسفة، يخاطبون المستنيرين من الكفار فيكسبون الشعب بواسطتهم، أو يستكشفون وسائل حربية، إن عالمين أو ثلاثة لخير من جيش، وهذا درس تعلمه الصليبيون بالتجربة القاسية، فإذا لم يقلد اللاهوتيون والفلاسفة زمام الحكم، فلا أقل من أن يتخذ الأساقفة والحكام مستشارين منهم، ليدبروا المجتمع تدبيرًا عقليًّا، كما أراد أفلاطون لمدينته.

(و) وهكذا يمتزج عند روجر بيكون الدين والعلم والعمل، ويلتقي بعد النظر مع شيء غير قليل من السذاجة، عالج كل ما عالجه مفكرو عصره من مسائل لاهوتية وفلسفية، وزاد عليهم اشتغاله بالعلم التجريبي فدل على سعة اطلاع وحسن إدراك للشروط اللازمة لتقدم العلم، ولكنه لم يساهم شخصيًّا في هذا التقدم، إذ لم يكن عالمًا مجرِّبًا، وكل ما يذكر له بهذا الصدد أنه صنع آلات بصرية، وأدخل شيئًا من التحسين على بعض منها كان موجودًا، وهو يعرف ذلك التقصير من نفسه، ويعتذر بقلة المال، وقد أربت نفقاته العلمية في عشرين سنة على ألفي جنيه إسترليني، يبقى أنه وضع نظرية العلم التجريبي، وفطن لفوائده، وتنبأ بمستقبله، ورسم لأوروبا طريق السيادة على العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤