الفصل الثامن

القديس ألبرت الأكبر

(١٢٠٦–١٢٨٠)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) في الوقت الذي ألفت فيه لجنة لتهذيب كتب أرسطو، ولم تؤدِّ اللجنة مهمتها كان ألبرت يضطلع بتلك المهمة وحده وهو على بينة من غرضه وأهميته البالغة، فقد كان أول من عرف للأرسطوطالية مزاياها، وأول من عرضها للغربيين، وأول من ساهم في العلوم مساهمة أصيلة، ولد في بافاريا، ولما بلغ السادسة عشرة قصد إلى إيطاليا، حيث اختلف إلى جامعة بولونيا، فإلى جامعة بادوفا. وفي هذه المدينة دخل رهبنة الدومنيكيين، وعكف على العلم، وبعد خمس سنين أخذ في التعليم متنقلًا بين الرهبنة وفي ١٢٤٠ أرسل إلى باريس، فحصل بها بعد خمس سنين على لقب أستاذ في اللاهوت، وشرع يعلم بجامعتها على أساس كتب أرسطو، وكانت ما تزال محرمة رسميًّا، فكان عمله جريئًا، ولكنه كان عملًا ضروريًّا لشدة الحاجة إليه حينذاك، فأصاب نجاحًا عظيمًا وفاز بشهرة أوروبية، ولما توفي كانت كتبه تقرأ وتشرح وتذكر صراحة في معرض الاستشهاد إلى جانب كتب أرسطو وابن سينا وابن رشد، بالرغم مما كان يقضي به العرف من عدم ذكر المعاصرين في الكتب العلمية، ولم يمضِ على وفاته ربعُ قرنٍ حتى كان يلقب بالأكبر.

(ب) تتوزع كتبه إلى طوائف ثلاث: لاهوتية، وفلسفية، وعلمية، أما الكتب اللاهوتية فأهمهما شرح على كتاب الأحكام، شرح على كتب العهدين القديم والجديد، «مجموعة في المخلوقات» و«مجموعة لاهوتية»، شروح ديونيسيوس، وأما الكتب الفلسفية فهي شروح على أرسطو: المنطق، الطبيعيات، ما بعد الطبيعة، الأخلاق النيقوماخية، السياسة، وشرح على كتاب العلل، وهو كتاب كان يعزى لأرسطو ولكن ألبرت كان يعلم أنه منحول، وكان يرى أن داود اليهودي جمعه من كتب أرسطو وابن سينا، ورسالة «في وحدة العقل ردًّا على ابن رشد» حررها بإشارة البابا سنة ١٢٥٦، وأما الكتب العلمية فمنها: كتاب النبات، أساسه الكتاب الموسوم بهذا الاسم والمنسوب إلى أرسطو، في خمس مقالات يشرحها بإسهاب مستبدلًا نباتات ألمانية بالنباتات التي لم يكن يعرفها، ويضيف ثلاث مقالات من عنده، وكتاب الحيوان، أساسه كتب أرسطو في الموضوع ومجموعها تسع عشرة مقالة فضاعف هو حجمه، إذ وصف فيه عددًا كبيرًا من حيوان البلدان الشمالية لم يذكرها أرسطو، وخصص خمس مقالات للحكايات عن الحيوان على الترتيب الهجائي، لتسهيل المراجعة، وصحح بعض أقوال أرسطو وبلينوس، وكتاب المعادن، يقول فيه: إنه قام برحلات عديدة لدراستها، وكتاب الآثار العلوية، يذكر فيه أنه رصد نجمًا مذنبًا في ساكس سنة ١٢٤٠.

(ﺟ) وقد عرض آراء أرسطو عرضًا أمينًا دقيقًا، وجاء عرضه عبارة عن تمثيل وتكميل على طريقة ابن سينا في كتاب الشفاء، لا شرحًا حرفيًّا على طريقة ابن رشد، وكان أوسع منها حرية بإزائه، وقد قال في مفتتح الطبيعيات: «من يعتقد أن أرسطو إله يعتقد بالضرورة أنه لم يخطئ، أما من يعتقد أنه إنسان فهو يعتقد من غير شك أنه قد يكون أخطأ مثلما نخطئ نحن»، ودل في نفس الموضوع على منهجه، قال: «غرضنا أن نرضي رهباننا بقدر استطاعتنا وهم يطلبون إلينا منذ سنوات أن نضع لهم كتابًا في الطبيعة يجدون فيه دراسة وافية للعلوم الطبيعية ويعطيهم مفتاحًا لفهم كتب أرسطو، أما طريقتنا فهي أننا سنتبع ترتيب كتب أرسطو وآراءه، ونقول كل ما يبدو لنا ضروريًّا لتفسيرها والتدليل عليها، ولكن دون إيراد أقواله، ثم نستطرد لتوضيح الشكوك، وتفصيل ما أجمله الفيلسوف فأغمض فكره على كثيرين، وسنبين في عناوين الفصول إن كان الفصل واردًا في كتب أرسطو أو كان استطرادًا منا، ونحن إذ نتبع هذه الطريقة نصنف كتبًا بعدد كتب أرسطو وبنفس أسمائها، ونضيف أجزاء إلى الكتب التي تركها ناقصة، ونضيف كتبًا برأسها لم يدونها أو دونها ولم تصل إلينا»، هذه الطريقة تبين عن غرض أساسي هو الاستفادة من أرسطو مع رده إلى حكم العقل، وتكميله بمكتشفات العلم، فهي تدل على محاولة لوضع مذهب، لذا كان تلاميذه ومعاصروه يعتبرونه فيلسوفًا أصيلًا لا مجرد شارح.

(٢) مذهبه

(أ) على أنه لم يوفق إلى وضع مذهب متسق، ذلك بأنه، مع غلبة أثر أرسطو على فكره، بقي مترددًا بين التيارات المختلفة التي كانت تتجاذب عصره، كانت رهبنته، بل كان الغرب بالإجمال، على مذهب أوغسطين، وقد احتفظ هو منه بأشياء، ولم يفطن إلى إمكان تصحيح «أضاليل» أرسطو في ما بعد الطبيعة بالرجوع إلى أرسطو نفسه وإحكام تطبيق مبادئه، فآثر عليه أفلاطون، وقد قال: «لا يصير المرء فيلسوفًا متينًا ما لم يحصل على العلم بأرسطو وأفلاطون معًا»، كما أنه اصطنع آراء أفلاطونية جديدة، وكان في تأويله لأرسطو يميل إلى اتباع الفارابي وابن سينا وابن ميمون، ويعارض ابن رشد وابن جبرول، فهو متخير، بل متردد في تخيره وقد اجتمعت له هذه المواد الكثيرة، فإن عُد طليعة الأرسطوطالية فبسبب اتخاذ كتب أرسطو أساسًا لغرض الفلسفة، واصطناعه بعض آرائه، وعمله من ثمة على نشر دراسته.

(ب) ولقد كان أكبر أثر لتمثله كتب أرسطو تمييزه الحاسم بين الفلسفة واللاهوت، فقد رأى تلك الكتب تضم مذهبًا تامًّا في الوجود قائمًا على الملاحظة والبرهان ليس غير، فكانت النتيجة المحتومة عنده أن «الأمور اللاهوتية لا تتفق في مبادئها مع الأمور الفلسفية، فإن اللاهوت يقوم على الوحي دون العقل، وإذن فلا نستطيع في الفلسفة الخوض في مسائل لاهوتية»، ولكننا نستطيع في اللاهوت استخدام الفلسفة، بل يتحتم علينا ذلك لتفهمه على قدر الإمكان، وألبرت يحمل على «الجهلاء الذين يريدون محاربة استخدام الفلسفة بجميع الوسائل» ويدعوهم «حيوانات عجماوات يسبون ما يجهلون»، على أن الفلسفة هاهنا عارفة حدودها، فهي تلتزمها بدقة، فيضيق مجال التدليل العقلي في اللاهوت عما هو عند الأوغسطينيين، أما في سائر العلوم فالمرجع إلى العقل، ولألبرت أقوال كثيرة بهذا المعنى: فهو يردد قول سنيكا: «لا من يقول بل ما يقول أعقل» ويعلن أن «من العار إبداء رأي في الفلسفة دون دعمه بالدليل» وأيضًا «نقول مع ابن رشد: ما من سبب لاتباع المشائين طرق أرسطو في معظم الأحوال سوى أن صعوبات قليلة أو لا صعوبة بالمرة تنتج من أقواله» وأيضًا «إن اهتمام البعض بالمؤلفين عديم الجدوى، الفيثاغوريون وحدهم اتبعوا رأي زعيمهم في كل شيء، أما الباقي فيقبلون الآراء من أي جهة جاءت بشرط أن تحمل معها أدلتها.»

(ﺟ) وإذا أردنا تلخيص آرائه في المسائل الرئيسية بدأنا بمسألة الله، فقلنا: إنه في مؤلفاته الأولى يشرح ويفسر وجود الله أكثر مما يبرهن عليه، تمشيًا مع الأوغسطينية، بل في شرحه على قول ديونيسيوس: إن الله مجهول، نراه كأنه يسبق كنط إلى أن الحكم بوجود الله، أي ذات لا متناهية، ابتداء من المعلومات المتناهية، خروج بمبدأ العلية إلى أبعد مما ينبغي، إذ إن هذا المبدأ لا يتطلب سوى علة متناسبة مع المعلول، وليس بين الله والعالم تناسب، ولكنه بعد أن تحول إلى أرسطو، لم يعتبر وجود الله بينًا بذاته كما يعتبره الأوغسطينيون، ولم يرَ إمكان استنباطه من فكرة الله كما يستنبطه أنسلم، وإنما قال بوجوب البرهنة عليه، وعاد إلى الإشكال المتقدم فحله على النحو التالي: إننا أولًا نصل إلى علة أولى بناء على استحالة التسلسل إلى غير نهاية، وبعد ذلك يلزم لدينا من كونها العلة الأولى أنها غير متناسبة مع العالم بالضرورة؛ لأنها إن كانت متناسبة معه كانت متناهية مثله، فلم تكن أولى بل افتقرت إلى علة، وعدنا إلى التسلسل وهو مستحيل بموجب مبدأ العِلِّيَّة، ويستعيض ألبرت عن وصف الله بأنه المحرك الأول، وهذه صفة تدل على الفعل فقط، بقوله: إنه الموجود اللامتناهي، وهذه صفة دالة على الذات الإلهية.

(د) وفي مسألة الخلق يتبع رأي ابن ميمون فيقول: إن أدلة أرسطو على أزلية العالم والأدلة المقابلة لها على الحدوث متعادلة القوة، وإن العقل قاصر عن البرهنة على أحد الطرفين، وإن الوحي وحده يحسم هذه المشكلة، وكذلك سيكون موقف القديس توما الأكويني، كما سنبينه في الفصل الآتي، أما كيفية صدور الموجودات عن الله، فلألبرت فيها قولان أو ثلاثة: ففي شرحه على كتاب العلل يقول: إن الله أوجد «العقل» أو المعلول الأول بفعل خالق (يسميه صدورًا وانبثاقًا، ولكنه يريد به غير ما يريد الأفلاطونيون وأتباعهم) وأن العقل عاون الله في إيجاد سائر العقول المفارقة والنفس العالية والجواهر الجسمية، وفي شرحه على طبيعيات أرسطو يقرر أن السموات صدرت عن الله رأسًا باختيار إرادته، ثم يستدرك فيقول: «على أنه ليس يمكن البرهنة على أحد هذين الرأيين، وكل ما يمكن إنما هو إيراد حجج محتملة»، فهو يعود هنا أيضًا إلى الوحي.

(ﻫ) والمخلوقات مركبة من ماهية ووجود، فإن الوجود لا يدخل في حدها، فهو طارئ عليها، والعقول المفارقة أو الملائكة مركبة من موضوع وصورة تحل في الموضوع، دون أن يكون هذا الموضوع هيولى أو يمت إلى الكمية بسبب، ثم يقول تارة: إن الملائكة أنواع متشخصة، وطورًا: إنهم أفراد نوع واحد، أما النفس الإنسانية فصورة خالصة غير مركبة من هيولى روحية، وأما الأجسام فمركبة من هيولى وصورة جسمية هي نور، ينضاف إليها في كل جسم صور نوعية بقدر كمالاته، والهيولى مستودع لأصول بذرية، لا مجرد قوة، ففي جميع هذه النقط تجد ألبرت مترددًا بين الأوغسطينية والأرسطوطالية.

(و) والنفس الإنسانية صورة جوهرية أو هي الفعل الأول للجسم كما يقول أرسطو، ولكن بعد الصورة الجسمية، وهي مبدأ جميع الأفعال الحيوية، فليس الإنسان مؤلفًا من ثلاث نفوس، أما اتصالها بالجسم، فتارة يقول ألبرت: إنه مباشر، وطورًا يتابع بعض الأوغسطينيين فيضع بينهما واسطة هي نور، والنفس روحية، يدل على ذلك استقلالها بأفعالها العليا من تجريد وحكم واستدلال وإرادة وانعكاس على ذاتها، لذا كانت مخلوقة من الله، بينما النفس النباتية والنفس الحيوانية صادرتان عن الأصول البذرية الكامنة في الهيولى، ولما كانت النفس الإنسانية روحية كانت خالدة، ويظن ألبرت أن النفس عند أرسطو على قدر الجسم وتابعة له في مصيره، فيستعين بأفلاطون للتدليل على الروحية والخلود، يقول: «يجب القول وتكرار القول: إننا حين نفحص عن النفس ذاتها يتعين علينا اتباع أفلاطون، وحين ننظر إلى ما تمنح الجسم من حياة يتعين علينا اتباع أرسطو»، وهكذا يستمر في التخير والتوفيق.

(ز) وفي المعرفة يوفق بين أوغسطين وأفلاطون وأرسطو فيقول: إن الكليات موجودة في الذات الإلهية، وتشع عنها فتوجد خالصة، وتتحقق في الأفراد، ويجردها العقل الإنساني، وهو يدعو كل معرفة تجريدًا، حتى المعرفة الحسية على اعتبار أن الحس يدرك موضوعه منفصلًا أو مجردًا عن سائر كيفيات الشيء، وسنصادف هذا المعنى عند الحسيين المحدثين يحاولون أن يردوا إليه التجريد العقلي، على أن التجريد الأكمل عند ألبرت هو هذا التجريد العقلي الذي يستخلص الماهية من علائقها المادية، وهذا التجريد يستلزم عقلًا فعالًا، وجميع المعارف العقلية مستمدة من الإحساس، ما خلا المبادئ الأولية، كمبدأ عدم التناقض، فإنها وإن كانت حدودها مجردة من الإحساس، إلا أن معانيها غريزية في النفس أو مدركة في النور الإلهي كما يقول أوغسطين، ولكل نفس إنسانية عقلها الفعال، وعقلها المنفعل، وذلك موضوع رسالته في «وحدة العقل ردًّا على ابن رشد»، يورد فيها ثلاثين دليلًا على رأي الفيلسوف الإسلامي، ويرد عليها واحدًا بعد آخر، ثم يورد ستة وثلاثين دليلًا ضد الرأي، وينتهي بتقرير رأيه هو والخلود الشخصي المترتب عليه.

(ﺣ) وخلاصة القول فيه أنه استوعب المذاهب ولم يسيطر عليها، فلا عجب أن يكون تلاميذه انقسموا فريقين، فريق مضوا في الأفلاطونية الجديدة، وهم الجرمان، وفريق مضوا في الأرسطوطالية، وعلى رأسهم توما الأكويني، هذه الحركة الثانية هي أثره الخاص، فقد كانت الأفلاطونية شائعة من قبل، في حين كانت الأرسطوطالية موضع إنكار، فصارت بإقدامه ونفوذه موضع نظر وتقدير، دون أن ينتهي هو إلى أرسطوطالية خالصة، ولما اشتدت الحملة على القديس توما بسبب أرسطوطاليته، قصد إلى باريس من كولونيا، على بعد الشقة وتقدم السن، ليدافع عن تلميذه العظيم، دون أن يكون هو توماويًّا، جمع المواد وبذل في ذلك جهدًا هائلًا، فجاء توما فتمثل هذه المواد وميَّز بين قيمتها ومراميها المختلفة بعقله اللاتيني النيِّر الواضح، فأقام مذهبًا هو آية من آيات العقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤