الفصل التاسع

القديس توما الأكويني

(١٢٢٥–١٢٧٤)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) هو ابن كونت دي إكوينو بإيطاليا الجنوبية، التحق في الرابعة عشرة بكلية الفنون بجامعة نابولي، وفي هذه المدينة، بعد خمس سنين، دخل رهبنة الدومنيكيين فأرسل في السنة التالية إلى باريس، حيث تتلمذ لألبرت الأكبر ثلاث سنين، ثم رافقه إلى كولونيا، حيث كانت الرهبنة أنشأت معهدًا عاليًا، وبعد أربع سنين عاد إلى باريس، كي يحضر لدرجة الأستاذية في اللاهوت، فأخذ يعلم بصفته حاصلًا على البكالوريا، فشرح الكتاب المقدس سنتين، وكتاب الأحكام سنتين، وبعد حصوله على الليسانس صار أستاذًا وهو في الحادية والثلاثين، أي أربع سنين قبل السن المقررة بقانون الجامعة، وقد أعفاه البابا من هذا القيد، فاحتل أحد كرسيين مخصصين لرهبنته بالجامعة، وعلم بهذه الصفة ثلاث سنين فشهد منه المستمعون «طريقة جديدة، وبراهين جديدة، ومسائل جديدة، وترتيبًا جديدًا للمسائل، ونورًا جديدًا»، وإلى هذا العهد يرجع كتابه «شرح الأحكام» في أربع مقالات، يظهر في الأولى أثر أوغسطين، فلما تحول عنه أعاد تدوينها، ليمحو هذا الأثر ويثبت آراءه الخاصة، وفي المقالتين الأولى والثانية يحيل ثلاث عشرة مرة إلى كتاب لابن سينا «في العقول» ومرة إلى كتاب له أيضًا «في صدور الموجود» وقد ضاع الكتابان وكانا مقتبسين من جزء الشفاء في ما بعد الطبيعة، ويبدو اعتداده بابن سينا وابن رشد في رسالة «في الوجود والماهية» يكثر فيها من ذكرهما تارة للاستشهاد وطورًا للمناقشة، وبعد أن صار أستاذًا دوَّن شروحه على كتب بويس.

(ب) رجع إلى إيطاليا ليعلم في البلاط البابوي، ومكث هناك ست سنين عرف أثناءها جيوم دي موريكي ناقل كتب أرسطو من اليونانية، ثم علم سنتين بروما أرسل بعدهما إلى باريس، وإلى هذه الفترة التي قضاها بإيطاليا وما تلاها من مقام بباريس، ترجع مصنفاته الكبرى، وهي أولًا: شرح الأسماء الإلهية لديونيسيوس، والكتاب أفلاطوني كما هو معلوم، وتوما يئول ما لا يتفق منه مع الأرسطوطالية، ويقر ما لا يتنافى معها ويكملها به، مثل الكلام على لواحق الوجود، الواحد والحق والخير والجمال، ثانيًا: المجموعة الفلسفية أو الرد على الأمم (أي الخارجين عن المسيحية) وضعه لمرسلي رهبنته في الأندلس والمغرب، والكتاب في أربع مقالات، الأولى: في الله، وجوده وصفاته. الثانية: في الخلق، في أزلية العالم، في الجواهر العقلية (أي الملائكة)، في الإنسان. الثالثة: في غاية الإنسان وسعادته، في معاينة الله، في العناية الإلهية، في المعجزات والخوارق، في الشريعة الإلهية، في النعمة الإلهية. والرابعة: في العقائد المسيحية. فالكتاب في معظمه فلسفي، وأسلوب البحث في العقائد فلسفي كذلك، ثالثًا: الشروح على أرسطو: الأخلاق النيقوماخية، العبارة، التحليلات الثانية، السماع الطبيعي، السماء والعالم، الكون والفساد، الآثار العلوية، النفس، الحس والمحسوس، الذكر والتذكر، ما بعد الطبيعة، السياسة. في هذه الشروح يحذو حذو ابن رشد، أي إنه يذكر النص ويحلله، بينما ابن سينا وألبرت الأكبر يضعان كتبًا بعناوين كتب أرسطو وتقسيماتها ويتحدثان من عند نفسيهما، ولكن توما يختلف عن ابن رشد في أنه يقدم لكلام الفيلسوف، ويبين أقسامه، ويقف من حين لآخر لربط الكلام بعضه ببعض واستخلاص النتائج، بينما ابن رشد يعقب على عبارات أرسطو واحدة تلو أخرى من أول الكتاب إلى آخره، وقد عني القديس توما بالحصول على ترجمات دقيقة، فطلب إلى جيوم دي موريكي مراجعة الترجمات المتداولة، والقيام بترجمات جديدة، فقد كان عليه — بعد أن اقتنع بصحة فلسفة أرسطو — أن يجلوها ناصعة، وأن يلائم بينهما وبين الدين بما لا يخالف مبادئها، وأن يناقش مختلف التأويلات، فكانت النتيجة أنه «نصَّر» أرسطو، وقدمه إلى أهل عصره مسيحيًّا، أو يكاد.

(ﺟ) وفي باريس علم أربع سنين (١٢٦٩–١٢٧٢) وهو في صراع عنيف مع الرشديين من جهة، وكانوا قد تكاثروا في كلية الفنون، ومع الأوغسطينيين من جهة أخرى في أشخاص أساتذة كلية اللاهوت جميعًا تقريبًا، يناوئه هؤلاء لأرسطوطاليته، ويحمل أولئك على تأويله لأرسطو، فكان مما كتب في تلك الفترة: رسالة «في وحدة العقل ردًّا على الرشديين» وأخرى «في أزلية العالم ردًّا على المتذمرين» وهم الأوغسطينيون الذين كانوا يقولون: إن أزلية العالم مستحيلة قطعًا، وكان هو يقول — مع ابن ميمون وألبرت — الأكبر بإمكانها عقلًا، وقطع شوطًا بعيدًا في كتابه الأكبر «المجموعة اللاهوتية» فلخص فيه مؤلفاته السابقة في ترتيب بديع ينتظم ثمانية وثلاثين مبحثًا أو مقالة، كل مبحث ينقسم إلى مسائل، وكل مسألة إلى فصول، فيجيء الكتاب في ثلاثة آلاف فصل تشرح وجوه المسائل، وترد على عشرة آلاف اعتراض، ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أقسام كبرى يدل عليها المؤلف في أول كلامه، فيقول: «لما كان الغرض المقصود بالذات في هذا التعليم (أي اللاهوت) هو تعريف الله في ذاته، ومن حيث هو مبدأ الأشياء، ومن حيث هو غايتها، فسنبحث في الله أولًا، وفي حركة الخليقة الناطقة إليه ثانيًا، وفي المسيح الذي هو الطريق إليه ثالثًا»، فالقسم الأول: ينظر في الله الواحد، وفي الله الثالوث، وفي الخلق والمخلوقات، والقسم الثاني: مخصص للأخلاق، ومقسم إلى قسمين، الواحد: في المسائل العامة، والآخر: في الفضائل بالتفصيل، والقسم الثالث: يتناول العقائد، ففي الكتابين الجامعين من بين كتبه، وهما: المجموعة الفلسفية، والمجموعة اللاهوتية، يكاد يكون الترتيب واحدًا، وسنتبعه في تلخيص مذهبه، ويضاف إلى ما تقدم شرح على كتاب العلل، وكان جيوم دي موريكي، ترجم كتب أبروقلوس، فعرف القديس توما أن الكتاب لهذا الأفلاطوني، وأيضًا عدد من «المسائل» ناقش فيها على ما كان متبعًا، وشروح على معظم الكتب المقدسة، ورسائل عديدة، أهمها: مجموعة منطقية، وموجز للاهوت، وهو في كل ما كتب يتوخى الترتيب المحكم، ويقدر القول على قدر المعنى، ويقطع بالرأي دون ما تردد، في اعتدال قليل النظير، حتى في أشد المواقف، يسوق الحجة في وضوح ورشاقة، يرمي إلى الإقناع وتأييد الحق، لا إلى المكابرة والفوز الشخصي.

(د) وأخيرًا عاد إلى إيطاليا لإنشاء معهد عال جديد، فاختار نابولي مقرًّا له، واستأنف التعليم، حتى كان السادس من ديسمبر ١٢٧٣ فإذا تغيير بالغ يعرض له أثناء القداس، فينقطع عن التعليم وعن الكتابة والإملاء، فيسأل في ذلك فيقول: «لقد أوحيت إلي أشياء ما أرى كل ما كتبته إلا كالهشيم بالقياس إليها»، ومن ذلك اليوم فرغ للعبادة، وترك القسم الثالث من المجموعة اللاهوتية ناقصًا، فأتمه رجلند زميله في الرهبنة، وكاتبه مدة الخمس عشرة سنة الأخيرة، آخذًا عن كتبه الأخرى، ودعاه البابا إلى مجمع كنسي يعقد بِلِيون فلبى الدعوة، ولكنه مرض في الطريق بين نابولي وروما، فلجأ إلى دير بندكتي، وتوفي بعد شهر، فكان لوفاته وقع شديد في جميع أنحاء أوروبا.

(٢) وجود الله

(أ) إذا اتبعنا الترتيب الطبيعي للوجود، كانت مسألة الله أو مبدأ الأشياء أول مسألة نلقاها، فإن الله أول الموجودات وأصلها، هل الله موجود؟ كان الرأي السائد أن وجود الله بيِّن بذاته، والقديس توما يذكر ثلاث حجج بهذا المعنى ويرد عليها، فيقدم لنا مثالًا واضحًا على الفرق الذي يضعه بين العقل والإيمان، الحجة الأولى: أن الإنسان يتشوق السعادة بطبعه، والله سعادة الإنسان، وما يتشوق بالطبع يُعرف بالطبع، الحجة الثانية (وهي حجة القديس أنسلم): أن من علم المراد باسم الله علم في الحال أن الله موجود؛ لأن المراد به ما لا يتصور أعظم منه، وما يوجد في الذهن وفي الخارج أعظم مما يوجد في الذهن فقط، الحجة الثالثة (وهي حجة القديس أوغسطين): أن وجود الحق بيِّنٌ بذاته، فإن من ينكره يسلم به؛ لأنه إذا كان الحق معدومًا فمن الحق أنه معدوم، والله هو الحق بعينه، فوجود الله بيِّن بذاته.

(ب) أجل، إن من يعلم الله يعلم أنه سعادة الإنسان، وأنه الموجود الأعظم، وأنه الحق بالذات، فإن هذه التعريفات بيِّنة بذاتها في أنفسها، ولكنها ليست بيِّنة بذاتها لنا، فإن كثيرين يعتبرون سعادة الإنسان في الغنى، وآخرين يعتبرونها في اللذة، وغيرهم في غير ذلك، ثم إن كثيرين اعتقدوا أن الله جسم، وأي جسم تصورنا فيمكن تصور جسم أعظم منه، وأخيرًا إذا كان وجود الحق بالإجمال بينًا بذاته، فإن وجود الحق الأول ليس كذلك، يضاف إلى ما تقدم أن حجة القديس أنسلم تدور على تعريف اسم الله، ولكن الوجود اللازم من هذا التعريف وجود متصور فقط لا واقعي، فإن الاعتقاد بالوجود لا يستتبع الوجود، فنحن هنا بإزاء فكرة استمدها أصحاب الحجج المذكورة من الإيمان، وظنوها بديهية في العقل، وحسبوا أن بإمكاننا أن نبرهن على وجود الله ببرهان عالميٍّ يتخذ الماهية — أي التعريف — حدًّا أوسط فيبين النتيجة بعلتها، ولكن ليس في مقدورنا إدراك ماهية الله في ذاتها.

(ﺟ) فلا يبقى لنا سبيل سوى البرهان الإنِّي الذي يمضي من الموجودات الطبيعية التي هي متقدمة في معرفتنا، فيبلغ إلى علتها، وعلى العموم يتوقف الإيمان على المعرفة الطبيعية، إن قيل: إن نؤمن بوحي الله، يتعين أن نعلم وجود الله، وأن عقلنا كفء لهذا العلم وللعلم بأسباب الإيمان، وليس الغرض من هذا البرهان الرجوع إلى لحظة أولى بدأت فيها علية الله، كما يتوهم كثيرون، بل الصعود في الآن الحاضر وفي كل آن إلى علة أولى بغض النظر عن أزلية العالم أو حدوثه، ذلك بأن العالم يظهرنا على معلولات وعلل لها مترتبة بالذات، أي متوقف بعضها على بعض، وأن العقل يدلنا على امتناع التداعي إلى غير نهاية في سلسلة هذه العلل، وإلا لم يوجد المعلول، فنقف عند علة أولى، وثمة فرق بين العلل المترتبة بالذات، والعلل المتعاقبة بالعرض: فليس يستحيل أن يتولد إنسان من إنسان إلى غير نهاية إذا افترضنا أزلية العالم، وهذا تسلسل بالعرض، ولكن التسلسل يستحيل لو كان توليد إنسان متوقفًا على إنسان، وعلى العناصر، وعلى الشمس، وهكذا إلى ما لا يتناهى.

(د) المعلومات أو دلائل الإمكان في العالم، يحصرها القديس توما في خمسة، فيقدم خمسة أدلة لها أصول عند أرسطو، ولكن المقصد يختلف أحيانًا اختلافًا جوهريًّا، الدليل الأول والأوضح: من جهة الحركة، إذ ليس يمكن أن يكون شيء واحد بعينه محركًا لنفسه، لأنه ليس يمكن لشيء واحد بعينه أن يكون بالقوة وبالفعل معًا باعتبار واحد، فكل متحرك فهو متحرك من آخر، ولا يجوز التسلسل إلى غير نهاية، فلا بد من الانتهاء إلى محرك أول غير متحرك، هذا الدليل وارد عند أرسطو في السماع الطبيعي، حيث يبدو المحرك الأول علة فاعلية، وفي ما بعد الطبيعة حيث يبدو علة غائية، ولكن أثره في الحالين مقصور على تحريك الفلك المحيط، وإلى جانبه محركون أوائل لسائر الأفلاك، بينما الكون والفساد في عالمنا السفلي يفسران بدوران الشمس حول الأرض، ودورانها على فلك البروج، أما القديس توما فيطبق نظرية القوة والفعل بكل عمومها، ويعتبر الحركة لا من الوجهة الطبيعية أو الآلية فحسب، بل من الوجهة الميتافيزيقية التي تعني كل تغير أو خروج من القوة إلى الفعل، فيصل إلى محرك كلي يحرك كل موجود مباشرة لا بالواسطة، ويبطل تعدد الآلهة كما سنرى في العدد الآتي، ويقول: إن الله يفعل في كل فاعل؛ لأنه علة كل وجود والفعل وجود، ولكن بحيث يكون للمخلوقات أيضًا فعل خاص، إذ إنما يمتنع صدور فعل واحد عن فاعلين متى كانا متحدي الرتبة، وليس يمتنع صدوره عن فاعل أول وفاعل ثان.

(ﻫ) الدليل الثاني: من جهة جوهر الموجود المتحرك، فإنه مفتقر إلى علة فاعلية، إذ ليس يمكن أن يكون الشيء الذي يخرج إلى الوجود علة فاعلية لنفسه، وإلا لزم وجوده قبل نفسه، وهذا خلف، ولا يجوز التسلسل إلى غير نهاية، فلا بد من إثبات علة فاعلية أولى، هذا الدليل مستفاد من كتاب ما بعد الطبيعة (م٢ ف٢) ولكن أرسطو لا يعرضه لبيان وجود الله بالتخصيص، بل لبيان استحالة التسلسل في جنس العلل الفاعلية، وضرورة علة أولى تفعل بوسائل مترتبة فيما بينها، كما أنه يبين في نفس الموضع ضرورة علة أولى في سائر أجناس العلل، ومنها العلة المادية، أما القديس توما فيرمي إلى بيان ضرورة علة خالقة، وذلك بتطبيق نظرية القوة والفعل تطبيقًا أدق، يستلزم أن الموجود المتحرك ليس موجودًا بذاته.

(و) الدليل الثالث: من جهة الممكن والواجب: ذلك بأن في الطبيعة موجودات معروضة للكون والفساد، ومن ثمة ممكن وجودها وعدمها بعد وجود، فلو كان عدم الوجود ممكنًا في جميع الأشياء، للزم أنه لم يكن حينًا ما شيء، ولو صح ذلك لم يكن الآن أيضًا شيء، فلا بد أن يكون هناك موجود واجب لذاته، هذا الدليل وارد عند أرسطو (فيما بعد الطبيعة م١٢ ف٦) كما يلي: «الجواهر أوائل الموجودات، فإذا كانت كلها فاسدة كانت جميع الموجودات فاسدة» و«إذا كانت القوة متقدمة على الفعل، فإن شيئًا مما هو موجود لم يكن ليوجد»، غير أن أرسطو يرتب وجود الواجب على أزلية العالم والحركة، أما القديس توما فيخلص الدليل من هذه الصلة، ويرى أن نظرية القوة والفعل تحتم إثبات الفعل الواجب لتفسير الممكن الذي بالقوة.

(ز) الدليل الرابع: من جهة تفاوت الموجودات في الصفات العامة المساوقة للموجود من حيث هو كذلك، كالوحدة والحقية والخيرية والجمال والعقل والإرادة، أي الأمور المعنوية الروحانية التي تقبل الإطلاق إلى اللانهاية، على ما ينبغي للموجود الأول، والتفاوت إنما يكون بالإضافة إلى ما هو غاية في شيء، وإذن فهناك موجود هو غاية في تلك الصفات، ومن ثمة غاية في الوجود، وعلة لما في جميع الموجوات من وجود وكمال، هذا الدليل أفلاطوني، وقد صادفناه عند أوغسطين وأنسلم وغيرهما، ولكنه أرسطوطالي أيضًا، وقد جاء فيما بعد الطبيعة (م٢ ف١) أن «الشيء الحاصل على طبيعة ما للغاية هو دائمًا مصدر اشتراك الأشياء الأخرى في تلك الطبيعة»، وقد قيل: إن هذه المقالة دخيلة على أرسطو، وأحرى أن يكون كاتبها تلميذًا أفلاطونيًّا، ومهما يكن من هذه النقطة، فإن لهذا الدليل محلًّا في الأرسطوطالية، على أن يتجه إلى العلية الفاعلية، كما هو الحال عند القديس توما، لا إلى مجرد العلية الصورية أو النموذجية، كما هو الحال عند أفلاطون.

(ﺣ) الدليل الخامس: من جهة نظام الطبيعة، وله وجهان: أما الواحد فإننا نرى الموجودات العاطلة من المعرفة تفعل لغاية، وهذا ظاهر من أنها تفعل دائمًا أو في الأكثر على نهج واحد بحيث تحقق الأحسن، ما يدل على أنها لا تبلغ إلى الغاية مصادفة بل قصدًا، وما يخلو من المعرفة لا يتجه إلى غاية ما لم يوجه إليها من موجود عارف، فإذن يوجد موجود عاقل يوجه الأشياء الطبيعية كلًّا إلى غايته، وأما الوجه الآخر فهو أن جميع الكائنات منظمة فيما بينها لانتفاع بعضها ببعض، والمتباينات في نظام واحد ما لم تكن منظمة من واحد، هذا الدليل مستمد من كتاب السماع الطبيعي (م٢ ف٨)، حيث يبين أرسطو أن كل موجود فهو يفعل لغاية، ومن كتاب ما بعد الطبيعة (م١٢ ف١٠)، حيث يقول: «الأشياء جميعًا منظمة بينها؛ لأنها مرتبة لغاية»، ولكنه يتصور الله نفسه غاية، لا موجهًا غيره توجيهًا فعليًّا إلى غاية، فيرجع مشاركة الموجودات في الصفات، وفعلها لغاية، وتناسقها فيما بينها، إلى شوق الطبيعة للخير الأعظم وتشبهها به، وهذا تفسير غير مفهوم، بينما القديس توما يضع الله علة فاعلية موجهة إلى غاية، ولا يتكلف في ذلك أكثر من إحكام تطبيق نظرية القوة والفعل، التي هي دائمًا عماد فكره، وقطب مذهبه.

(ط) مما تقدم نرى الفرق الحاسم بين موقف القديس توما، وموقف الذين تقدموه من المفكرين المسيحيين، فقد عرف من «التحليلات الثانية» ماهية العلم، فأدرك تمام الإدراك أن الإيمان ليس علمًا لميًّا، وأنه يعتمد على العلم الإني في أسبابه أو علامات صدقه، وأن المعرفة الإنسانية تبدأ من المنظور وترتقي بالعقل إلى غير المنظور، فلا يصح اعتبار المعرفة الإيمانية شيئًا أول، ولكنها فائقة للطبيعة، ومن ثمة زائدة على الطبيعة، ومقصورة على زمان معين وأناس مخصوصين، فالأول هو المعرفة الطبيعية، ونرى من ناحية أخرى الفرق الكبير بين القديس توما وبين أرسطو، وكيف تتفق الفلسفة والدين مع بقائها فلسفة، وسنرى عنده أمثلة أخرى من هذا القبيل، والبراهين الخمسة التي أجملناها هي من الوجهة المنطقية برهان واحد يقوم على تقدم الفعل على القوة أو تقدم الكمال على النقص، ويتكرر بصدد وجهات عامة نتبينها في العالم وفي أنفسها ونصعد من كل منها إلى علة أولى، وإن أيًّا منها ليكفي للوصول إلى الله؛ لأن العلة الأولى من حيث هي كذلك تستلزم باقي الصفات، كما سنبينه في العدد التالي، ولكن اجتماع الأزلية يعطينا فورًا فكرة شاملة عن الله، فيجعلنا نتصور فورًا أن الله هو المحرك الأول الذي لا يتحرك، والعلة الفاعلية الأولى، والموجود الواجب لذاته، والكامل مصدر كل كمال، ومنظم العالم.

(٣) ماهية الله

(أ) بعد العلم بوجود الله نحاول تعرف ماهيته، وأول ما يتعين فعله تمييز الله من سائر الموجودات، وهذا ما يدل عليه بالصفات السلبية التي تقول ما ليس هو، أي التي تنزهه عما لا يليق به باعتبار العلة الأولى، فتؤدي بنا إلى أنه تعالى بسيط كل البساطة، وبعد ذلك نضيف إليه الصفات الثبوتية التي تقول ما هو، أي الدالة على كمالاته، ونفحص عن النحو الذي به يعبر اسم الصفة عن الذات الإلهية.

(ب) يجب تنزيه الله عن كل ترتيب، والتركيب على أنواع: تركيب من أجزاء مادية، ومن هيولى وصورة، ومن ماهية وشخص حاصل عليها، ومن ماهية ووجود، ومن جنس وفصل، ومن جوهر وعرض، وفيها جميعًا النسبة بين الطرفين كنسبة القوة والفعل، ولا يمكن أن يكون الله إلا فعلًا محضًا، وإلا كان وجوده متأخرًا عن أجزائه، وكان لتركيب هذه الأجزاء علة من حيث إن الأشياء المتغايرة لا تتفق في واحد إلا بعلة تجمع بينها، والتسلسل ممتنع كما قدمنا فمقتضى العلة الأولى أن تكون بسيطة من كل وجه، وعلى ذلك ليس الله جسمًا، ولكنه صورة مفارقة أي روح خالص بريء من كل تركيب، فيسقط القول بوحدة الوجود، فالله عين ماهيته، بل عين وجوده أيضًا، وعين كل ما قد نثبته له من صفات، هو واجب الوجود أو «عين الوجود القائم بذاته» كما يقتضي مفهوم العلة الأولى، وهذا أخص ما يقال في الله، وقد سمى نفسه لموسى بقومه «أنا الموجود»، أما تقديم الخير على الوجود بين أسماء الله، على ما نرى عند ديونيسيوس والأفلاطونيين عامة، فلا يعتبر إلا من جهة كون الله علة مفضية للخير، لا إطلاقًا، فإن الوجود سابق على العلية أي متقدم بالمرتبة إن لم يكن بالزمان.

(ﺟ) بعد سلب التركيب والنقص عن الله ننظر في الصفات الثبوتية، هي طائفتان: طائفة تشمل صفات هي وجهات مختلفة للذات الإلهية لا تزيد عليها شيئًا، فما إن نعرف الله بأنه عين الوجود القائم بذاته، حتى يخرج لنا أنه الكامل الحاصل على كل الوجود، ومن ثمة أنه الخير الأعظم أو الخير بالذات، وأنه لا متناه؛ لأنه ليس حالًّا في شيء ولا محدودًا بقابل، وأنه من ثمة موجود في جميع الأشياء وجود العلة عند المعلول، وأنه ثابت من حيث إنه فعل محض لا تخالطه قوة، وأنه سرمدي ما دام بريئًا من التغير والتعاقب وحاصلًا على الحياة غير المنتهية حصولًا كاملًا دفعة واحدة، كما يقول بويس، وما تقدم يفيد في تقرير وحدانية الله: ذلك بأنه لو كان آلهة كثيرون لوجب أن يتمايزوا فيما بينهم فيصدق على الواحد شيء لا يصدق على آخر، ولكان أحدهم عادمًا كمالًا ما، فلا يكون إلهًا.

(د) والطائفة الأخرى من الصفات يلوح أنها تنافي البساطة المطلقة الواجبة للعلة الأولى، كالعلم والإرادة والقدرة والعناية، فإن هذه الألفاظ وأشباهها تدل عندنا على قوى وأفعال زائدة على الجوهر، فيجدر بنا أن ننظر في نوع دلالتها على الله، سيما والآراء متضاربة في هذه المسألة، فقد قيل: إن الأسماء المقولة على الله مترادفة، لأنها تدل على ذات واحدة بسيطة: ولكن كيف تكون مترادفة وهي تدل على اعتبارات مختلفة، وهذه الاعتبارات ممثلة في المخلوقات، والله مصدرها؟ فلا بد لها من مقابل في الذات الإلهية البسيطة، وقال الرباني موسى (بن ميمون): إنها سالبة أحرى منها موجبة، فمتى قيل: إن الله حي كان المراد أنه ليس كالجماد، وهكذا في سائر الأسماء، أي إنها تطلق كالأسماء المشتركة: ولكن هذا مخالف لقصد المتكلم عن الله، وعديم الجدوى في تعريفنا بالله، فإن السلب لا يبين ما هو، هل نطلق إذن على الله أسماء الصفات بالتواطؤ، أي بنفس الاعتبار الذي نطلقها به على المخلوقات؟ إن هذا لا يجوز لاختلاف الجنس، كما نرى حتى بين المخلوقات التي لا تتفق في جنس واحد (مثل قولنا عن كل من إنسان وتفاحة: إنه طيب) فما بالنا والمخلوقات متناهية والله لا متناه؟ يبقى أن الأسماء تقال على الله والمخلوقات بالمماثلة، أي باعتبار يختلف باختلاف الماهية المضاف إليها الاسم (كما تختلف الطيبة في التفاحة والإنسان)، فنقول: إن الصفات في الله بحسب ماهية الله، كما أن الصفات في الإنسان بحسب ماهية الإنسان، والمماثلة وسط بين الاشتراك والتواطؤ، فإن وجه التسمية هاهنا ليس واحدًا كما في المتواطئة، ولا مباينًا كل المباينة كما في المشتركة، وهي خير مما ارتأى الأفلاطونيون، وردده ديونيسيوس وسكوت أريجنا، من وضع لفظ «فوق» قبل الصفة المضافة لله، إذ إن هذا الوضع الموجب في الظاهر سالب في الحقيقة، ويرجع إلى الترادف أو الاشتراك، مع أن أحكامنا على الله صادقة من حيث وجوب إضافة الصفة، ولكن جهة حمل الصفة على الله غير معينة لعدم تعين الماهية في علمنا، فالمماثلة تدع لأحكامنا صدقها، وتقتضينا أن نرتفع بمعنى الصفة إلى مقام الموجود اللامتناهي، ونستبعد منها كل نقص.

(ﻫ) وينظر القديس توما في الصفات على ضوء المذهب، ونحن نجتزئ هنا بصفتي العلم والإرادة، فإن الباقي يرجع إليهما، ويقاس عليهما، أما العلم فيجب إضافته لله: ويتضح ذلك؛ أولًا: من كون العلم كمالًا، وكون الله كاملًا، وثانيًا: من أن السبب في كون موجود ما عارفًا هو تجرده عن المادة حتى يقبل الصورة المعنوية للشيء المعروف، وتتفاوت المعرفة بتفاوت حال التجرد، والله في غاية التجرد عن المادة، فهو بالغ غاية المعرفة، وثالثًا: من أن الله العلة الفاعلية الأولى فلا بد أن يكون لمفعولاته وجود سابق في علمه، وعلى ذلك فالله يعقل ذاته؛ لأنها مجردة معقولة، ويعقل ذاته بذاته لا بقوة متمايزة من الذات؛ لأن ليس فيه شيء بالقوة ولكنه فعل محض، فلا بد أن يكون فيه العقل والمعقول واحدًا بعينه من جميع الوجوه، وأن يكون تعقله عين ماهيته وعين وجوده، والله يعرف غيره في ذاته هو من حيث يعرف جميع الأحوال التي تقبل ذاته المشاركة فيها بوجه ما من أوجه المشابهة، وبذا ترتفع الصعوبة التي وقف عندها أرسطو حين ظن أن القول بأن الله يعرف غيره يجعل من الله عارفًا منفعلًا من غيره، ويضع في الله معارف أدنى من ذاته، وبذا يبدو لنا أن ابن سينا وقف في بعض الطريق حين قصر علم الله على الكليات دون الجزئيات، فأضاف إلى الله معرفة ناقصة بالوجود، وأبطل عنايته بالأفراد، يبقى أن نتصور علم الله بالمماثلة فنقول: إنه ليس تدريجيًّا كعلمنا، ولكنه حاصل دفعة واحدة لحضور الذات الإلهية لذاتها حضورًا تامًّا، وعلى ذلك يعرف الله الحوادث بحسب وجودها الحاضر فيه، ومنها الحوادث المستقبلة بالنسبة إلى عللها القريبة، ويعرف القضايا دون تركيب ولا تفصيل، والمركبات دون تأليف ولا تقسيم؛ لأن ما في شيء فهو فيه بحسب حال ذلك الشيء، والله بسيط كل البساطة، فيجب أن تكون صور الأشياء فيه على هذه الحال.

(و) وأما الإرادة فيجب إضافتها أيضًا لله، إذ إن الإرادة تتبع العقل من حيث إنها الميل إلى الخير المعقول، ومحبة هذا الخير متى حصل، فالله يريد ذاته على أنه خير وغاية، والله يريد غيره، فإن من شأن الخيِّر أن يشرك غيره في خيره، وهذا بالخصوص من شأن الخيرية الإلهية، على أن الله يريد ذاته بالضرورة؛ لأنها الموضوع الخاص المعادل لإرادته، ويريد بالاختيار؛ لأن هذا الغير لا يزيد الخيرية الإلهية شيئًا من الكمال، ولكنه موجه إليها على أنها غايته القصوى، ويبقى أن نتصور الاختيار الإلهي بالمماثلة، فننفي عنه ما يلابس اختيارنا من تردد وتغير ونقص، وهكذا يجب أن نصنع بصدد سائر الصفات التي نثبتها لله، كالقدرة والمحبة والعدل والرحمة وما إليها.

(٤) الخلق

(أ) كل موجود ما خلا الله مخلوق من الله ضرورة؛ لأن الوجود القائم بذاته لا يمكن أن يكون إلا واحدًا، فيلزم أن كل ما خلا الله ليس عين وجوده ولكنه موجود بالمشاركة، وليس الوجود بالمشاركة صدورًا عن ذات الله، كما تقول الأفلاطونية الجديدة؛ لأن ما يصدر عن الذات صدورًا ضروريًّا فهو مثل الذات، وليس العالم مثل الله، ومن هذه الناحية أيضًا يسقط مذهب وحدة الوجود الذي يعتبر العالم مظهرًا لله، أما قول ابن سينا: إن من شأن الواحد دائمًا أن يصدر عنه واحد فيصدق على الفاعل بالطبع، لا على الفاعل الإرادي الذي يفعل بالصورة المعقولة، ولما كان الله يتعقل أمورًا كثيرة، فهو يقدر أن يصنع أشياء كثيرة، يضاف إلى ذلك استحالة صدور الموجودات بعضها عن بعض؛ لأن المخلوق غير موجود بذاته، فلا يستطيع أن يمنح وجودًا ليس له بالذات، ولما كان الموجود المخلوق متناهيًا، والمسافة بين اللاوجود والوجود لا متناهية، فالخلق يقتضي قدرة لا متناهية، لذلك كان خاصًّا بالله وحده.

(ب) وقد سبق القول بأن الله لا يريد بالضرورة إلا ذاته، وأنه يريد غيره بالاختيار، فهو ليس يريد بالضرورة أن يكون العالم، ولا أن يكون أزلًا، ولا أن يكون حادثًا، وهكذا يحسم الخلاف الطويل العنيف بين أنصار القدم وأنصار الحدوث، ذلك بأن البحث العقلي في الإرادة الإلهية لا يمكن أن يتناول سوى الإرادة الضرورية، أما الاختيار فليس يكشف عنه سوى الله، وقد فعل إذ أوحى أن العالم حادث، ولكن من جهة العقل البحت، الأزل والحدث ممكنان على السواء، ولا سبيل إلى إقامة البرهان على ضرورة أحد الحدين وإسقاط الآخر، فلئن كان الله منذ الأزل علة كافية للعالم، وكان فاعلًا بذاته — على ما يقول أنصار الأزلية — إلا أنه ليس يلزم من ذلك جعل العالم صادرًا عنه إلا بحسب ما استقر في إرادته، أما أدلة أرسطو فليست برهانية، وقد صرح هو في كتاب الجدل بأن مسألة أزلية العالم من المسائل الجدلية.١
(ﺟ) كذلك ليس يمكن إثبات الحدوث بالبرهان، لا من جهة الله كما أسلفنا، ولا من جهة العالم، فإن الماهيات مجردة عن خصوص المكان والزمان، فليس يمكن أن نثبت حدوث الإنسان أو السماء أو الحجر،٢ ولأنصار الأزلية ردود على حجج أنصار الحدوث، يقول هؤلاء: إن كل مصنوع فهو حادث، ويرد أولئك: إن هذا يصدق على المفعول بالحركة الذي لا يوجد إلا عند نهاية الفعل، أما الخلق ففعل آني، وهو إذن لا يقتضي تقدم الفاعل على المفعول بالمدة، يقول أنصار الحدوث: إذا كان العالم مصنوعًا من العدم فهو موجود بعد أن لم يكن موجودًا، ويرد أنصار الأزلية: ليس القصد من المقدم أن العالم مصنوع بعد العدم، بل إنه ليس مصنوعًا من شيء، يقول أنصار الحدوث: لو كان العالم أزليًّا لكان مساويًا لله في المدة، ويرد أنصار الأزلية: إن الوجود الإلهي حاصل كله دفعة واحدة، ووجود العالم حاصل بالتعاقب، فليست هناك مساواة، يقول أنصار الحدوث: لو كان العالم قديمًا لكان قد سبق هذا اليوم أيام لا متناهية، ولما كان بلغ إلى هذا اليوم من حيث إن عبور اللامتناهي مستحيل، ويرد أنصار الأزلية: الانتقال يكون دائمًا من طرف إلى آخر، وأي يوم ماض أخذت فالأيام التالية إلى يومنا هذا متناهية وقد أمكن قطعها، وهذه الحجة إنما تنهض لو كان بين الطرفين أوساط لا متناهية، يقول أنصار الحدوث: لو كان العالم والتوليد أزليين لتقدم ناس في عدد لا متناه، ونفس الإنسان خالدة، فيلزم أن يوجد الآن بالفعل نفوس إنسانية في عدد لا متناه، ومحال أن يوجد عدد لا متناه بالفعل، ويرد أنصار الأزلية بأن هذه الحجة جزئية، ولنا أن نقول: إن العالم أزلي لا الإنسان، ويخرج القديس توما من هذه المناقشة بأن الحدوث لا يعلم إلا بالإيمان، وبأن في اعتبار ذلك فائدة لمن يدعي إثبات العقائد بالبرهان، فلا يأتي بحجج غير قاطعة، لئلا يظن بنا أننا إنما نتمسك بالعقائد، استنادًا إلى مثل هذه الحجج، فما أظهر التمييز هنا بين الإيمان والعقل!

(٥) الملائكة

(أ) هم رأس الخليقة، تذكرهم الكتب المقدسة، ويمكن إقامة الدليل على وجودهم، ومن هذه الناحية يكون لهم مكانهم في الفلسفة، وقد قال أفلاطون وأرسطو بعقول مفارقة كعلل لحركات الأفلاك، وقال بها رجال الأفلاطونية الجديدة وهم يلحظون مراتب الموجودات، والقديس توما يميل إلى هذه الوجهة الثانية فيقول: «إن قصد الله من الخلق إفاضة كماله، والله عقل وإرادة، والعقل المفارق أعلى وأكمل من العقل المتصل بالحس، فمن اللائق وجود بعض مخلوقات روحية، كي يتحقق في العالم ترتيب متصل من الروح الصرف إلى المادة الصرفة»، لكن هذا الدليل من جهة «اللياقة» فقط، لا من جهة الوجوب.

(ب) يترتب على روحانية الملائكة نتيجتان، الواحدة: أنه ليس يوجد ملاكان من نوع واحد، إذ إن ما يميز الأفراد في النوع هو المادة التي تقبض الصورة وتحدها وتشخصها، فنرى الإنسان مثلًا يتضمن شيئًا لا تتضمنه الإنسانية، وهذا الشيء هو المادة الشخصية مع جميع الأعراض المشخصة لها، والتي لا تدخل في حد النوع، أما الصورة الخالصة فتتحقق بكليتها بحيث تكون شخصًا قائمًا بنفسه، وعلى ذلك فكل ملاك صورة نوعية على حيالها كالمثل، ولم يخطئ أفلاطون إلا في وضع صور نوعية للماديات فبين أرسطو استحالة وجود هذه الصور، النتيجة الأخرى: أن الملائكة خالدون بالطبع، إذ إن الشيء يوجد بالفعل بحصول الصورة له، والوجود يلائم الصورة لذاتها، وليس يفسد شيء إلا بمفارقة صورته لمادته.

(ﺟ) ما عدد الملائكة؟ لقد اختلفت الآراء في ذلك: فذهب أفلاطون إلى أن الجواهر المفارقة هي أنواع المحسوسات من جهة، وقد أبطل أرسطو هذا الرأي، ومحركات الأفلاك من جهة أخرى، وقد أخذ أرسطو بهذا الرأي، وأراد أن يجعل عددها بعدد الأفلاك، معتبرًا أن الجواهر المفارقة لا يكون في وجودها فائدة إذا لم تظهر منها حركة محسوسة، ولكن ليس بصحيح أن الجواهر المفارقة موجودة لأجل الجواهر المادية؛ لأن الغاية أشرف مما هو مرتب إليها، وليست المادة أشرف من الروح، بل الحال على العكس، فيجب القول إن عدد الملائكة وافر جدًّا ومجاوز كل كثرة مادية؛ لأنه كلما كان شيء أكمل كان مخلوقًا من الله بزيادة أعظم، من حيث إن كمال العالم هو المقصود بالذات من الله.

(د) كون الملاك مجردًا لا يعني أنه بسيط كالله، لقد خشي البعض مثل هذا الخلط فجعلوا الملاك مركبًا من هيولى وصورة، اعتقادًا منهم أن الروحية الصرفة لله وحده، وأن المادية خاصية الخليقة، ولكن لا وجه لهذا التركيب، مهما تتوهم الهيولى الملائكية لطيفة أو روحية؛ لأن التعقل فعل مجرد عن المادة بالكلية، ولا خوف من استبعاد هذا التركيب، فإن هناك نوعًا من التركيب أعمق منه يجب وضعها في كل مخلوق، وهي كافية للدلالة على نقصه وتبعيته، قلنا: إن وجود المخلوق وجود بالمشاركة، وإذن فليس وجوده عين ماهيته، وليس فعله عين ماهيته ولا عين وجوده، وإنما هو يفعل بقوى متمايزة منهما، وسنعرض لهذا التركيب الثاني عند الكلام على النفس الإنسانية، أما التركيب الأول، فليس معناه — كما يظن كثيرون — أن الماهية شيء من ناحية، والوجود شيء آخر من ناحية أخرى، ولكنه يعني أنهما — في الموجود الواقعي — متمايزان تمايز الفعل والقوة، ومتحدان اتحاد الفعل والقوة: الوجود بالإضافة إلى الماهية كالفعل بالإضافة إلى القوة، فالتمايز وجودي، ولو كان ذهنيًّا فقط لكان معناه أن الماهية موجودة بذاتها، وهذا محال.

(ﻫ) كيف نتصور علم الملائكة؟ إنهم خلائق محدودة إلى جنس ونوع، فليست ذاتهم جامعة للوجود كالذات الإلهية، وهم إذن لا يعلمون جميع الأشياء بذاتهم كالله، ومن ناحية أخرى هم أرواح مفارقة، فلا يعقلون بصورة مستعادة من الماديات، فلا يبقى إلا أنهم يبلغون إلى كمالهم العقلي بفيض إلهي يعقلون به إذ يوجدون، أي بمثل أو معان غريزية، وهم في ذلك متفاوتون بتفاوتهم في رتبة الوجود، فالملائكة الأعلون يعقلون بمثل أعم، ومن ثمة أقل عددًا من مثل الملائكة الأدنين، والملاك يعقل نفسه بصورته التي هي جوهره؛ لأنه صورة قائمة بذاتها، فهو معقول بالفعل، والملائكة يعرف أحدهم الآخر كما يعرف سائر الأشياء، أي بالمثل التي فطر الله عليها كلًّا منهم، وهم يعرفون الله، لا في ذاته، فإن هذه المعرفة ممتنعة على الخليقة بقوة طبيعتها، ولا يشبهه الحاصل في المخلوقات، فهذه معرفتنا نحن في الحياة الراهنة، بل بماهيتهم من حيث إنهم أشباه الله، وهذه المعرفة متوسطة بين المعرفتين المذكورتين، وتشبه المعرفة التي بها يرى الشيء بالصورة المستفادة منه، وهذا البحث في الملائكة يتناول مسائل أخرى كثيرة، وهو محاولة لتصور الروح الخالص كيف يكون.

(٦) الإنسان

(أ) ننزل إلى المرتبة الثانية من مراتب الخليقة، وهي الإنسان المركب من جوهر روحي وآخر جسمي، يؤلفان منه موجودًا وسطًا بين الملائكة والعجماوات، موجودًا واحدًا يشارك على نحو خاص في خصائص المرتبة العليا والمرتبة الدنيا، لا كلًّا مجموعيًّا يتجاور فيه الجوهران ويتفاعلان من خارج على ما وضعه وتابعه فيه كثيرون، الجوهر الروحي في الإنسان يسمى نفسًا، ويقال هذا الاسم على مبدأ الحياة بالإجمال في الأحياء الطبيعية: النبات، والحيوان، والإنسان، ولكن النفوس تختلف ماهيةً ووظائفَ، أما أن النفس بإطلاقها موجودة، فيدل عليه أن الحياة لا تصدق على الجسم بما هو جسم، وإلا لكان كل جسم حيًّا أو مبدأ للحياة، فلا بد من مبدأ في الحي لا يكون جسمًا بل فعلًا أو صورة لجسم، وأما أن النفس الإنسانية جوهر روحي، فيتضح من كون الإنسان يدرك الأجسام إدراكًا مجردًا، ويستحيل ذلك لو كان الإدراك بآلة جسمية؛ لأن لكل جسم طبيعة مخصوصة، والطبيعة المخصوصة في المدرك تمنعه من إدراك الأجسام على نحو مجرد، كما يرى في الحواس الظاهرة والباطنة، فالنفس الإنسانية تدرك الماهيات بقوة خاصة هي العقل، لها فعل تستقل به دون الجسم، مما يدل على أن العقل روحي، وأن النفس روحية، إذ ليس يفعل بذاته إلا ما يقوم بذاته، وعلى خلاف ذلك النفس الحاسة والنفس النامية، فإن جميع أفعالهما تحدث في الجسم وبالجسم، فليس لهما وجود خاص، ولكنَّ لكل منهما وجودًا في المركب منها ومن الجسم، ويلزم من روحانية النفس أنها خالدة: فهي غير فاسدة بما يعرض لها من فساد الجسم، كما تفسد النفس الحاسة والنفس النامية، وغير فاسدة بالذات، لأنها صورة قائمة بذاتها يلائمها الوجود بما هي كذلك، ويمكن الاستدلال على الخلود أيضًا من كون العاقل الذي يدرك الوجود مطلقًا، لا معينًا أينًا وآنًا كإدراك الحس، ينزع بطبعه إلى الوجود دائمًا ولا يجوز أن يذهب النزوع الطبيعي سدى، فالنفس الإنسانية تبقى إذن بعد فساد الجسم، مع استعدادها للاتصال به ونزوعها الطبيعي إليه، من حيث إنها صورة لجسم، وهذا هو الأصل الطبيعي للبعث.

(ب) غير أن الرشديين يأبون أن تكون النفس العاقلة متصلة بالجسم اتصال الصورة بالمادة، فيقولون: إنه ليس هناك سوى عقل مفارق واحد للجميع، هو العقل الفعال، عقل فلك القمر، وإن اتصاله بالشخص يحصل بوساطة الصورة المعقولة الفائضة عنه، ولكن هذه الصورة إن حصلت في شخص خلو من العقل لم تجعله يعقل بل كانت هي معقولة، كلون الحائط يبصر ولا يبصر فلم نجد وجهًا لإضافة التعقل إلى الشخص، وكل يعلم بالوجدان أنه هو الذي يعقل، وإنما قال أرسطو: «إن العقل مفارق، وليس فعلًا لجسم»، وهو يعني أن العقل ليس قوة لآلة جسمية، فإن قيل إن الجوهر المجرد ليس يتكثر في نوع واحد، كما سلف في حق الملائكة، كان الجواب أن النفس العاقلة وإن كانت روحية كالملاك، إلا أنها صورة ناقصة معدة بالطبع للاتحاد بجسم، بخلاف الملاك، ولذا جاز أن تكون نفوس كثيرة في نوع واحد، تتشخص كل منها بنسبتها إلى جسمها.

(ﺟ) ويستنكف الأوغسطينيون أن تكون النفس العاقلة صورة الجسم ولكن لا يوجد في الإنسان صور أخرى مختلفة ذاتًا كما يعتقدون، والدليل من ثلاثة أوجه، الأول: أن الإنسان لا يكون له وجود جوهري واحد، الثاني: أن يكون حيوانًا بنفس وإنسانًا بنفس، فيكون من ثمة حيوانًا بالعرض، والحيوان يحمل على الإنسان بالذات، الثالث: أنه متى كان أحد أفعال الإنسان شديدًا منع غيره، ولا يفسر هذا إلا بأن مبدأ الأفعال واحد، فالنفس الناطقة تشتمل بقوتها على كل ما للنفس الحاسة وللنفس النامية، وهكذا شأن النفس الحاسة في العجماوات تشتمل على قوى النفس النامية، وشأن النفس النامية في النباتات تشتمل على قوى العناصر الطبيعية، وبالإجمال شأن الصور الكاملة بالقياس إلى الناقصة، وليس لجسم الإنسان أو لأي جسم آخر صورة جسمية، تلك الصورة التي يقولون: إنها النور، كذلك ليس لجسم الإنسان صورة جوهرية هو بها هذا المزاج المركب من العناصر، ولكن النفس الناطقة صورة الجسم، وصورته الوحيدة.

(د) يلزم مما تقدم أن للنفس قوى متمايزة، هذه القوى متمايزة من ماهية النفس، ومتمايزة فيما بينها، أما القضية الأولى فواضحة مما قلناه من أن القوة والذات واحد في الله فحسب، فليست تفعل الخليقة بذاتها، بل بقوة زائدة على الذات، وإلا لأشبهت الخالق، وأما القضية الثانية فواضحة من أنه لو كانت قوة النفس عين ماهيتها لكانت النفس تفعل دائمًا جميع أفعالها، كما أنها دائمًا حية بالفعل، ولكن الواقع يشهد بأنها تفعل تارة كذا وطورًا كذا، تتمايز القوى بالأفعال، وتتمايز الأفعال بالموضوعات، فليس السمع كالبصر، وليس التعقل كالإرادة، وقس على ذلك سائر الأفعال، والقوى موجودة في النفس وجود الشيء في المحل، مع اعتبار أن من أفعال النفس ما يزاول دون آلة جسمية، كالتعقل والإرادة، فالعقل والإرادة محلهما النفس، ومنها ما يزاول بآلة جسمية، وهي أفعال الحياتين النامية والحاسة، فمحل القوى المصدرة لها المركب من النفس والجسم، لا النفس وحدها، وجميع القوى النفسية صادرة عن ماهية النفس، وبعد الموت يبقى من القوى في النفس العقل والإرادة، وأما القوى الأخرى فلا تبقى بالفعل، بل بالقوة من حيث إن النفس مبدؤها أو أصلها.

(ﻫ) كيف تعقل النفس وهذه حالها؟ ذهب أفلاطون إلى أنها تجيء هذا العالم المحسوس وفيها صور المعقولات، وكلما عرض لها إحساس بشيء تذكرت الصورة المعقولة المقابلة له، وتأثر كثيرون بالأفلاطونية، فذهب بعض إلى أن في النفس معانيَ غريزية كالتي عرفناها للملائكة، ويذكر عن أوغسطين قوله: إننا ندرك الأشياء في الحقائق الأزلية. وارتأى ابن سينا أن المعقولات تصدر إلى أنفسنا عن العقل المفارق الأخير الذي يسميه العقل الفعال، وإننا لا نحتاج إلى الحواس إلا لنتنبه بها فنتجه إلى هذا العقل الفعال، وتابعه ابن رشد في وضع المعقولات في العقل الفعال المفارق، ثم جعل العقل المنفعل مفارقًا أيضًا، وجميع هذه الآراء تفترض أن الإحساس لا يعدو كونه فرصة أو مناسبة للتعقل، وأن المعقولات موجودة بالفعل سواء في أنفسها أو في عقل أعلى، ولكن الواقع يدلنا على أن فعل التعقل يتوقف على القوى الحاسة في تحصيل العلم، وفي مزاولته بعد تحصيله، فمن الناحية الأولى نرانا نجهل أن لنا معرفة غريزية، ونعلم أننا مضطرون إلى تحصيل المعرفة بالتجربة والاستدلال، ونرى الذي يحرم حاسة من أول أمره يحرم العلم بمدارك تلك الحاسة، ومن الناحية الثانية نرى العقل لا يقدر أن يعقل بالمعقولات الحاصلة عنده دون أن يتجه إلى الصور الخيالية، فمتى تعطل فعل المخيلة بداء السرسام، أو فعل الذاكرة بداء السبات، امتنع على الإنسان أن يعقل بالفعل حتى ما كان له به سابق علم، ومتى حاولنا أن نتعقل شيئًا استحضرنا في ذهننا صورًا خيالية على سبيل أمثلة نتمثل فيها ما نحاول تعقله، ومتى أردنا إنسانًا على أن يتعقل شيئًا أوردنا له الأمثلة الخيالية، ليستعين بها على التعقل، وبهذا الالتفات إلى الصور الخيالية يدرك العقل الجزئيات أيضًا، ولكن بالتبعية وبنوع من الانعكاس على ذاته، فيركب هذه القضية مثلًا: سقراط إنسان.

(و) فالحق المطابق لماهية الإنسان أن الاتصال وثيق بين العقل والحس، وأن العقل الإنساني، وإن كان داخلًا في جنس العقل بالإطلاق، ليس عقلًا ملائكيًّا، ولكنه عقل معادل لماهية الإنسان يستفيد المعقولات من المحسوسات، فمن حيث هو عقل إنساني فله موضوع خاص معادل له هو ماهية الشيء المحسوس، فلا بد من وجود قوة في النفس تجرد الماهية من علائقها المادية الممثلة في الصورة الخيالية الحاصلة عن الإحساس، فتجعلها معقولة بالفعل، وقوة أخرى تتعقلها، القوة الأولى تسمى عقلًا فعالًا، وتسمى الثانية عقلًا منفعلًا، وقد قال أرسطو: «كما أن في كل طبيعة شيئًا به تنفعل، وشيئًا به تفعل، كذلك في النفس أيضًا» بحيث إن الطبيعية التي يعرض لها التجرد لا توجد إلا في الأفراد، وأما التجرد وما يلحقه من معنى الكلية فهما من العقل وفي العقل، وتلك هي نظرية الوجودية المعتدلة في أخصر الكلم.

(ز) ومن حيث هو عقل بالإطلاق فموضوعه هو الموضوع المشترك بين العقول جميعًا على تفاوت مراتبها، أي الوجود، وقد قال أرسطو: إن أول ما يحصل في تصور العقل هو الوجود، لأن كل شيء إنما يكون معلومًا من حيث هو موجود بالفعل، إذن العقل الإنساني يدرك الوجود في كل ما يدرك؛ لأن كل مدرك بالفعل فهو موجود بالفعل وجودًا عينيًّا أو ذهنيًّا، ويدرك شرائط الوجود من أن كل موجود فهو ما هو، وأنه لا يمكن أن يكون كذا ولا كذا في نفس الوقت ومن نفس الجهة، وأنه إما موجود وإما غير موجود، ولا وسط بين النقيضين، وأن ما يظهر للوجود فلا بد من علة لوجوده، هذه المبادئ الأولى للوجود وللمعرفة يدركها العقل بداهة حالما يجرد حدودها من التجربة، فإنها بينة بذاتها لا يحتاج إدراكها إلى حد أوسط، وبهذا المعنى يقال: إنها فطرية أو غريزية، لا بمعنى أنها موجودة في النفس قبل كل تجربة وكل تعقل، فيعتمد عليها العقل لتفهم الوجود وإقامة العلم بإطلاقه، العلم الطبيعي، وما بعد الطبيعي.

(ﺣ) ولا وجه بعد ذلك لما ذهب إليه بعض المتصوفة والأوغسطينيين من أن لنا قوة عقلية أخرى تدرك الروحانيات في أنفسها، بحجة أن ليس للروحانيات صور خيالية، وأننا نعقلها مع ذلك، لو صح مذهبهم لما جهل كثير من الناس ماهية الله والنفس، ولما ضل كثيرون في معرفتهما، والحق أننا ندرك وجود الله بالاستدلال، وندرك ماهيته بالتنزيه والمماثلة، على ما بينا آنفًا، أما النفس فلسنا نعقلها مباشرة، بل بواسطة فعل التعقل، ذلك بأن الشيء إنما يدرك من حيث هو بالفعل، وليس العقل الإنساني عقلًا بالفعل كالملاك، ولكنه بالقوة، فلا يعقل إلا متى خرج إلى الفعل، وحينئذ نلاحظ طبيعة نفسنا من طريق تحليل فعل التعقل، على ما سبق بيانه، فدليل ابن سينا (الذي اصطنعه جيوم دوفرني) لا يطابق الواقع من أن النفس لا تدرك ذاتها خلوًا من كل فعل، فالعقل الإنساني مجرد ومستدل، وهاتان علامتا نقص تدلان على منزلته بين العقول، بيد أن أحكامه على الموجودات جميعًا صادقة؛ لأنها قائمة على المبادئ الأولى، هذه المبادئ بمثابة صورة من الحق الإلهي منعكسة على النفس، بحيث يصح القول مع الأوغسطينيين بأننا نرى الأشياء في الحقائق الأزلية، أو بإشراق إلهي، ولكن بمعنى أن العقل يرى ما يرى في ضوء تلك المبادئ، فيكون الله «النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آت إلى هذا العالم» باعتباره العلة الكلية التي تستمد النفس منها القوة على التعقل، ويكون عقلنا الفعال بمثابة الإشراق الإلهي أو المشاركة في النور الإلهي، وهكذا يقف القديس توما في مسألة المعرفة موقفًا متواضعًا، ولكنه موقف متين هو الوسط الصحيح بين الأفلاطونيين الذين يزعمون أننا ندرك الروحانيات إدراكًا معادلًا لها، والحسيين الذين يدعون أن لا سبيل لنا إلى العلم بها أصلًا، فيقول بل نحن نعلمها علمًا يقينيًّا، ولكن بالتجريد والاستدلال على ما تطيق طبيعتنا المركبة من نفس وجسم.

(ط) إلى جانب العقل يوجد في الإنسان إرادة، إذ إن كل مدرك فهو يحرك في المدرك ميلًا أو نزوعًا يخرج به من القوة إلى الفعل، والمدرك بالفعل مجرد كلي مغاير بالجنس للمشخص الجزئي المدرك بالحواس، والإنسان يتجه إلى خيرات لا مادية كالعلم والفضيلة، بل إنه حين يتعلق بالماديات، فإنما يتعلق بها باعتبار مجرد كلي هو اعتبار الخير لاعتبار اللذة، وإذن فهو حاصل على قوة مغايرة للنزوع الحسي تسمى إرادة، وهذا هو الأصل في الحرية، أي إن الإنسان حر لكونه عاقلًا: ذلك بأنه لا يتعلق طبعًا وضرورة إلا بالخير الكلي الذي يملأ نزوعه كله، والخيرات المعروضة في الحياة الراهنة، حتى الله باعتباره معلومًا بالتجريد والاستدلال، هي خيرات جزئية بينها وبين الخير الكلي مسافة جد واسعة، فتثير ميلًا ما، ولا تحركه تحريكًا كافيًا، فيبقى حرًّا بإزائها، ولا تبطل هذه الحرية بالنسبة إلى الله إلا برؤيته تعالى، إذ يظهر حينئذ تمام الظهور أنه الخير الكلي الذي يملأ شهوته فيتحد به اتحادًا ضروريًّا.

(ي) هل الإرادة أعلى من العقل؟ أو العقل أعلى من الإرادة؟ ليست هذه المسألة «مدرسية» وحسب كما قد يظن كثيرون، ولكن لها أهمية في ذاتها، وأهمية بالنسبة إلى معرفتنا بالله ومحبتنا إياه، قلنا: لا يراد إلا المعلوم، والعقل هو الذي يتمثل موضوع الإرادة ويعرضه عليها فيحركها كعلة غائية، حتى حين تحرك الإرادةُ العقلَ إلى التعقل، لا بد أن يكون قد سبق في العقل أن التعقل خير، وهكذا يكون العقل أعلى مطلقًا، ولكن قد يكون موضوع الإرادة موجودًا أعلى من العقل، ففي هذه الحالة تكون الإرادة أعلى بالإضافة، من حيث إنها تميل إلى الموجود نفسه، وإن العقل حاصل على صورته فقط، ولذا كانت محبة الله أفضل من معرفته، وكانت على العكس معرفة الماديات أفضل من محبتها.

(ك) هل تقتضي الحرية أن يصدر فعل الإرادة عنها أصلًا؟ لقد قيل هذا، ولكنه غير صحيح، فإن الله المحرك الأول الذي يحرك كل قوة إلى فعلها، فالله يحرك الإرادة بإمالته إياها باطنًا، وليس هذا التحريك قسرًا؛ لأن المقسور هو الذي يتحرك ضد ميله الخاص، والله يحرك الإرادة بأن يؤتيها ميلها الخاص فتتحرك من تلقاء نفسها، لذلك لا يرتفع الثواب أو العقاب، وإنما كان يلزم الارتفاع لو كانت الإرادة تتحرك من الله بحيث لا تتحرك من تلقاء نفسها، أجل، إن الإنسان باختياره يحرك نفسه إلى الفعل، لكن ليس ضروريًّا للاختيار أن يكون المختار هو العلة الأولى لنفسه، كما ليس يلزم لكون الشيء علة لآخر أن يكون علته الأولى، فالله كما أنه بتحريكه العلل الطبيعية لا يزيل كون أفعالها طبيعية، كذلك بتحريكه العلل الإرادية لا يزيل كون أفعالها إرادية، فإنه إنما يفعل في كل شيء بحسب طبيعة الشيء.

(٧) الأخلاق

(أ) النظر في الإنسان من حيث هو مريد مختار، موضوع الأخلاق، فلا تتناول الأخلاق سوى الأفعال الصادرة عن الإنسان بما هو إنسان، أي الصادرة عن الإرادة العامدة، وتلك الأفعال هي التي تسمى إنسانية بمعنى الكلمة، أما التي تصدر من غير روية وإرادة، فالأولى أن تسمى أفعال الإنسان، مثل: تحريك اليد، أو العبث باللحية مع انشغال الفكر بأمور أخرى، فحقيقة الفعل الإنساني أنه المتجه إلى غاية مدركة ومرادة، وهكذا تكون الغاية مبدأ الأفعال الإنسانية، ويلزم تعيين غاية الحياة.

(ب) لا بد للحياة الإنسانية من غاية قصوى، وإلا لم يُشْتَهَ شيءٌ، ومن ثمة لم يُفعل فعلٌ، فإن التسلسل مستحيل في العلل الغائية استحالته في العلل الفاعلية، ومفهوم الغاية القصوى أنها التي تملأ شهوة الإنسان بأسرها حتى لا يبقى شيء يشتهيه خارجًا عنها، وتسمى السعادة أي استيفاء الإنسان كماله، وكمال كل شيء على قدر وجوده بالفعل، فيجب أن تقوم السعادة بالفعل الأقصى، وليس فعلنا الأقصى فعل الجزء الحسي، فإن هذا الجزء مشترك بين الإنسان والحيوان، يبقى أنه فعل الجزء العقلي الخاص بالإنسان، ولكن هل هو فعل العقل أو فعل الإرادة؟ إن الإرادة تشتهي الغاية، فإذا ما حصلت عليها سكنت عندها والْتذتْ بها، فلا بد من فعل غير فعل الإرادة به تحصل الغاية لدى الإرادة، وهذا الفعل هو فعل العقل، هل المقصود أن السعادة قائمة بمطالعة العلوم؟ إن أرسطو لما رأى أن ليس لنا من معرفة في هذه الحياة سوى العلوم النظرية، قال: إن الإنسان ليس يسعى إلى السعادة الكاملة، بل إلى السعادة التي تلائم حاله، ولكنا نقول: إن المبادئ الأولى للعلوم النظرية تكتسب حدودها بالحس، فلا تعدو مطالعة هذه العلوم ما يؤدي إليه إدراك المحسوسات، أي ما يكتسب بالتجريد والمماثلة، فلا بد أن يكون كمال الإنسان من جهة الموضوع المشترك للعقول جميعًا، وهو الوجود، وذلك بمعرفة موجود أعلى معرفة مباشرة، هل يكون هذا الوجود الأعلى عالم الملائكة؟ بذلك قال الذين جعلوا النفوس البشرية صادرة عن الملائكة أو عن العقل الفعال المفارق، كابن سينا وابن رشد، وهم الذين رأوا مع الأفلاطونية الجديدة أن كل مرتبة من مراتب العالم متعلقة بالتي فوقها مباشرة، فرأوا السعادة في اتصال النفس بمبدئها، ولكن الملائكة موجودون بالمشاركة، فهم حق بالمشاركة، وما كان كذلك فهو لا يوفر للعقل كماله الأقصى، فالحقيقة أن موضوع الإرادة هو الخير الكلي، كما أن موضوع العقل هو الحق الكلي، وليس يوجد الخير الكلي في الخليقة، بل في الله وحده، فالله غايتنا القصوى، يدفعنا إليه دفعًا طلبُ السعادة، فإن العقل الذي يدرك ماهية معلول ولا يستطيع أن يدركَ بها ماهية العلة، يظل متشوقًا طبعًا إليها، فلا يكون سعيدًا حتى يدركَها.

(ﺟ) تلك ماهية السعادة الكاملة القائمة كلها برؤية الله، وهي لا تتحقق إلا في الحياة الآجلة، أما في الحياة العاجلة فالسعادة الميسورة لنا سعادة ناقصة تقوم أولًا وأصالة: بمعرفة الله ومحبته، وثانيًا: بمزاولة الفضائل، وأخيرًا: بصحة الجسم وبالخيرات الخارجية إن أمكن، من مال وكرامة، وتستخدم كوسائل للحياة الفاضلة، فإن السقم والفاقة قد يعوقان عن أفعال فاضلة كثيرة.

(د) ما دامت الإرادة تابعة للعقل تميل إلى الخير الذي يعرضه عليها، فإن العقل قاعدتها التي يتقدر بها صلاحها، فإذا كان الفعل موافقًا لحكم العقل كان خيرًا، وإذا كان منافيًا لحكم العقل كان شريرًا، وفي الفعل الإنساني يعتبر الخير والشر من ثلاثة أوجه، الأول: الموضوع إن كان موافقًا للعقل أو مخالفًا له، كاستعمال الإنسان ما له، أو أخذه ما لغيره، الثاني: الظروف من حيث هي أعراض للفعل، مثل الكمية الملائمة أو المكان اللائق، فإن خلا الفعل عن شيء يقتضيه منها كان شريرًا، والثالث: الغاية التي يتوقف عليها، أي نسبته إلى علة الخير. ولما كان الفعل الإرادي يشتمل على فعلين: الفعل الباطن، والفعل الظاهر، وكان لكل منهما موضوع يستفيد منه حقيقته النوعية — كانت الغاية إما الطبيعية وهي ما ينتهي إليه الفعل في الواقع مثل قتل الإنسان، أو خلقية وهي ما يقصد من الفعل، كقتل الإنسان للقصاص العادل أو للانتقام. والغاية الخلقية هي التي تفيد الأفعال الإنسانية حقيقتها النوعية؛ لأنها في حكم الصورة لما هو من جهة الفعل الظاهر، فقد يقصد بفعل خيِّر في نوعه أو في ظروفه غاية شريرة، كما لو تصدق إنسان لأجل المجد الباطل، وقد يقصد بفعل شرير غاية خيِّرة، كما لو سرق إنسان ليتصدق على فقير، فلا يكون الفعل خيرًا مطلقًا إلا إذا اجتمعت له أوجه الخير كلها، لأن كل نقص فهو شر، وقد يعرض أن يكون بعض الأفعال لا خيِّرًا ولا شريرًا بحسب حقيقته النوعية، كالذهاب إلى الحقل، ولكنه خير أو شرير بحسب حقيقته الشخصية أي من جهة قصد الغاية، فإنه لا بد أن يكون متوجهًا إلى غاية لائقة أو غير لائقة، أما الانفعالات النفسية — والرواقيون يعتبرونها شرًّا في أنفسها — فتتصف هي أيضًا تبعًا لحكم العقل وللغاية المتوخاة فالغضب للحق خير، والغضب لمنفعة ذاتية شر، على أن بعض الانفعالات خيِّر أو شرير بنوعه، من حيث يعتبر موضوعه شيئَا موافقًا في نفسه للعقل أو مخالفًا له، فالرحمة ترجع إلى الفضيلة، والحياء كذلك، فإنه تخوف أمر قبيح، والحسد يرجع إلى الرذيلة، فإنه اغتمام بنعمة الغير.

(ﻫ) كل هذا يقره العقل الطبيعي بالنظر في الإنسان وما يليق أن يكون عليه، وفي الأشياء المحيطة به وأثرها فيه، لذلك يسمى مجموع القواعد الخلقية بالقانون الطبيعي الذي يعلم دون وحي، فإن لكل موجود قانونًا منطبعًا في ماهيته: الموجود غير العاقل يتبع قانونه حتمًا، والموجود العاقل يدرك قانونه ويملك أن يتبعه أو يخالفه، فالقانون الخلقي خاص بالعاقل، والمبدأ الأول البين بذاته لهذا القانون قائم على المعنى الأول من معاني العقل العملي، وهو معنى الخير، وصيغته: «يجب اتباع الخير واجتناب الشر»، فإن كل موجود إنما يعمل لغاية أي لخير، والخير مطلوب، والشر مهروب منه بالضرورة، وكل المسألة ترجع إلى تمييز الخير الحقيقي من الخير المظنون، وسائر المبادئ تنطوي تحت هذا المبدأ الأول، بمعنى أن موضوعاتها هي الخيرات التي يدرك العقل أنها خيرات إنسانية، غير أن من هذه المبادئ أو القواعد ما هو بين بذاته، مثل قولنا: يجب ألا تضر أحدًا، ومنها ما هو نتيجة لمبدأ بين بذاته، مثل قولنا: لا تمسك الأمانة عن صاحبها؛ لأنه يجب ألا تسرق؛ لأنه يجب ألا تضر أحدًا، لذا تنقسم قواعد القانون الطبيعي إلى أولية وثانوية: أما الأولية فثابتة لا تتغير يشترك فيها الناس جميعًا اشتراكهم في المبادئ الأولى النظرية، وأما الثانوية فقد يعرض لها التغير بتغير ظروف الزمان والمكان، أو من جراء الجهل والخطأ والهوى، تحجب عن الناس وجه الحق، وتميل بهم إلى تقرير الباطل.

(و) على أن العقل الإنساني ما هو إلا القاعدة القريبة للقانون الطبيعي، أما القاعدة البعيدة والأولى فهي القانون الأزلي، أي العقل الإلهي الذي يرى في الذات الإلهية جميع الطبائع ونظام علاقاتها، والإرادة الإلهية التي حققت الطبائع فأرادت أن يحترم هذا النظام، إن ما لدينا من نور العقل إشراق القانون الأزلي في الخليقة الناطقة، فللقواعد القويمة قوة الإلزام في الضمير بموجب القانون الأزلي الصادرة عنه، وطاعة هذه القواعد تحقيق للنظام وتكريم لواضعه، فهي تستحق للمطيع ثوابًا، وهذا الاستحقاق يقوم مؤقتًا مقام الغاية القصوى ويؤدي إليها، والمعصية إخلال بالنظام وإهانة لواضعه، فهي تستحقق للعاصي عقابًا، وهكذا يلزم عن القانون الجزاء، وتكفل لنا المبادئ الأساسية للأخلاق.

(٨) السياسة

(أ) الدولة هيئة موحدة بتنظيم أفرادها، مثلها مثل الجيش يعاون عمل الجندي فيه عمل المجموع دون أن يختلط به، توجد وحدة النظام في الجماعات الحيوانية كالنمل والنحل، ولكنها تصدر فيها عن الغريزة، أما في الجماعات الإنسانية فهي راجعة إلى العقل والإرادة، وبهذا المعنى تقوم على ضرب من التعاقد، وقد عرف شيشرون الجماعة بأنها «كثرة منظمة خاضعة لقانون عادل يرتضيه الفرد، ابتغاء منفعة مشتركة» (الجمهورية م١ ف٢٥)، وكان أوغسطين قد نقد هذا التعريف؛ لأنه لم يكن يرى أن العدالة الكاملة يمكن أن توجد خارج المسيحية، وعرف الجماعة بأنها «اتحاد أفراد عاقلين لأجل الاستمتاع معًا بما يحبون» (مدينة الله م١٩ ف٢١) وقد يكون ما يحبون: المال، والتجارة، واللذة، والحرب، ولكن القديس توما يصطنع تعريف شيشرون؛ لأنه يعتقد بالقانون الطبيعي ويجعل منه الأساس القريب للاجتماع، يستند إلى الأساس البعيد والأول الذي هو القانون الأزلي، وقد أوجد الله الإنسان مدنيًّا بالطبع، وحاصلًا بداهة على المبادئ الأولى للحق والخير، وتبعًا لهذا الموقف يقرر من جهة واحدة أن كل سلطان فهو آت من الله حسب قول القديس بولس، بمعنى أن الترتيب الطبيعي يقتضي الاجتماع فيقتضي السلطان، ويقرر من جهة أخرى أن غاية الاجتماع ليست الاستمتاع بل استكمال الفرد لطبيعته الإنسانية وتحقيق غايته بما هو إنسان، فمهمة الدولة معاونته على ذلك فيما تستطيعه ويفوق طاقته الخاصة، أما الناحية الخلقية والدينية، فمهمة الكنيسة أولًا وبالذات، فتكون الدول خاضعة للكنيسة بقدر خضوع الغاية الزمنية للغاية الأبدية.

(ب) كيف يكون نظام الحكم؟ الأرستقراطية أو حكومة الأفاضل أكثر حكمة من الديموقراطية (التي يسميها «بوليتيا» ويعرفها بأنها حكومة الشعب العادل)، والموناركية أو حكومة الفرد الفاضل خير من الأرستقراطية، وأكثر مطابقة للطبيعة، حيث كل شيء يدبره مبدأ واحد: الجسم تدبره النفس، والأسرة يدبرها الأب، والعالم يدبره الله، ويجب أن تكون الموناركية انتخابية، إذ ليس يكفي الحسب، بل تجب الفضيلة، ولكن ليس يوجد في الواقع نظام كامل أو نظام دائم، كل نظام فهو ينطوي على جرثومة فساد، فقد تنقلب السلطة الملكية إلى طغيان، والأرستقراطية إلى أوليغركية أو حكومة الأغنياء، والديموقراطية «بوليتيا» إلى ديماغوغية (ويسميها ديموقراطية)، والأنظمة متداولة باستمرار، فمن الوجهة العملية خير الأنظمة وأثبتها النظام الوسط، وهو موناركية معدلة بأرستقراطية وديموقراطية، أي بمجلس أرستقراطي ينتخبه الشعب، وذلك هو النظام الذي سنه الله لموسى، كان موسى وخلفاؤه يحكمون بمعاونة اثنين وسبعين رجلًا حكيمًا يختارهم الشعب، بينما كان الله نفسه يختار الملك.

(ﺟ) أهم وظائف الدولة تأمين الجماعة من الخطر الداخلي والخطر الخارجي، فمن الوجهة الأولى تضطلع الدولة بالتشريع، أي بإقامة العدالة بين الأفراد، فلا قيمة للقانون الوضعي إلا إذا صدر طبقًا للعقل ولأجل الخير العام، طبقًا للقانون الطبيعي، ومن ثمة طبقًا للقانون الأزلي، إذ ليس لإنسان حق التشريع لإنسان إلا باسم الله، ولكي يوجهه وفق العقل والطبيعة، فإذا انعدم هذا الشرط لم يعد القانون الوضعي قانونًا، بل كان فساد القانون، والتشريع يستتبع القضاء، فإن القانون يظل لغوًا بغير جزاء، على القاضي تطبيق العدالة، ومراعاة الإنصاف دون التقيد بحرف القانون عند الاقتضاء، وتبرئة المتهم حين لا تقوم البينة على الذنب، فلأن يخطئ في حسن الظن بمجرم خيرٌ من أن يظلم بريئًا، ولا يدين القاضي بحسب اعتقاده الشخصي، بل بحسب ما تبين له باعتباره شخصًا عموميًّا، وهذا لا يمنعه من استخدام معارفه الخاصة لجلاء الحقيقة، فإن لم تنجلِ على النحو الذي يعلم، كان عليه أن يحكم بما ظهر أمامه فقط، أما العقاب فهو على العموم تعويض عن الذنب، ولكنه في هذه الحياة تأديب أيضًا، فهو رادع ومصلح، ومن ثمة عامل من عوامل السلام في المجتمع، وعقوبة الإعدام مشروعة، فإن الجاني يخل بنظام العقل فينزل عن الكرامة الإنسانية إلى دركة الحيوان، فيستحق أن يُقتل كحيوان، وللسلطة الحق من باب أولى في أن تبتر عضوًا، أو تمنع الحرية بالحبس.

(د) والجماعة عرضة للخطر الخارجي، فالاستعداد للحرب وظيفة جوهرية، ويجب أن تكون الحرب عادلة، ولذلك ثلاثة شروط ذكرها أوغسطين، الأول: أن تعلنها السلطة الشرعية وتباشرها بنفسها، الثاني: أن تعلنها لسبب عادل، أي لدفع ظلم، والثالث: أن تمضي فيها بنية مستقيمة، أي موجهة إلى إرغام العدو على قبول السلم، لا إلى الإيذاء وحب التسلط والانتقام، هل يجوز الخداع في الحرب؟ الخداع إما بالكذب أو بكتمان المقاصد، فأما الكذب فغير جائز بحال حتى مع الأعداء، والحرب لا تحل من القانون الطبيعي، وأما كتمان المقاصد وإخفاء التدابير فجائز لضرورة المضي في الحرب وإحراز النصر، هل تجوز الحرب أيام الأعياد؟ تجوز إذا اقتضت الظروف، كان المسيح يشفي المرضى أيام السبت، وللأطباء أن يعالجوا مرضاهم يوم الأحد، والأمر في الحرب أمر خلاص الأمة، هل يجوز للإكليريكيين أن يحاربوا؟ لا يجوز، إن توزيع العمل ضروري في الدولة لخير الدولة، ومهمة الإكليريكيين مهمة روحية لا تتفق مع عمل من أعمال الدنيا، ومن باب أولى مع الحرب وسفك الدم، بل اللائق بهم والواجب عليهم أن يكونوا دائمًا على استعداد للتضحية بأنفسهم في سبيل الحق، فمهمتهم في الحرب استخدام الأسلحة الروحية، من صلاة ووعظ وتشجيع وإقامة شعائر الدين.

(ﻫ) وعلى المواطنين واجب احترام أولي الأمر والطاعة لهم ما داموا يتوخون العدالة، إن طاعة القانون العادل واجبة وإلا تقوض المجتمع، أما القانون الجائر المعارض للقانون الطبيعي وللقانون الإلهي فلا تجوز الطاعة له بحال، وإذا كان معارضًا لحق ثانوي فيطاع متى كانت مخالفته أشد خطرًا على المجتمع، خير للشعب أن يطاول الملك الظالم، إذ قد تفشل الثورة فينتقم الملك، وإذا أفلحت فما أكثر الخلاف والاضطراب بين الشعب أثناء الثورة وبعدها! فضلًا عن إمكان قيام طاغية آخر أو نشوب ثورة معارضة، ولا طاعة لملك غاصب، فإن السلطة لا تعتبر شرعية إلا إذا آلت إلى صاحبها طبقًا للعدالة، فليس الغاصب ملكًا حقًّا، إلا إذا رضيه الشعب ولو رضي ضمنيًّا، أو أقرته سلطة عليا من شأنها التعيين والعزل، فإذا لم يتوفر أحد هذين الشرطين كان الانتقاض عليه واجبًا، إلا إذا خيف من الانتقاض شر أعظم، أما قتل الطاغية أو الغاصب فغير جائز لفرد يقوم به من تلقاء نفسه، ولكن للشعب بأجمعه أو ممثلًا في مجلس مشروع أن يستعمل هذا الحق، كما حدث بروما، إذ قضى مجلس الشيوخ بإعدام أحد الأباطرة ونقض قوانينه الظالمة، ذلك لأن حق اختيار الملك بيد الشعب، فللشعب حق عزله أو الحد من سلطانه، والملك الذي ينكث عهده يحل الشعب من عهده، وإذا كان اختيار الحاكم يرجع لسلطة عليا فيجب رفع أمره إليها، كما فعل اليهود حين شكوا الملك أرخيلاوس إلى القيصر أوغسطس فأنصفهم، وإذا عدم الشعب كل وسيلة فليتوجه إلى الله صادقًا، فيغير الله قلب الملك أو يذله أو يسقطه، فما يسمح الله بالطغيان إلا عقابًا على الخطيئة.

(و) وثمة أصل من أصول التدبير الاجتماعي هو توزيع الثروة والأرض، لقد أخطأ أفلاطون في قوله بالشيوعية، كما بين أرسطو في كتاب السياسة، إن على الفرد واجب حفظ حياته، وواجب تغذية أولاده وتربيتهم وتهيئة مستقبلهم، فله حق امتلاك خيرات مثمرة باقية، والاستقلال بأسباب المعاش داعية إلى نمو الشخصية والجد في العمل والزيادة في الخير العام، ويذهب حق الملكية من الضروري إلى الرخاء، بيد أن هذه الاعتبارات — على وجاهتها — ليست ضرورية ضرورة مطلقة، فإن القانون الطبيعي لا يقضي بشيء لمصلحة الملكية الفردية أو ضدها، لجواز أن يحقق الإنسان غاياته في نظام الملكية المشتركة، كما يحدث في الرهبنات، ولو دامت حالة البرارة الأولى لكان الناس يفيدون من خيرات الأرض بالاشتراك ولا ينشب بينهم خلاف، فحق الملكية اصطلاح اجتماعي نافع، ومن هذه الوجهة فقط، أي من حيث هو وضع عام لأجل الخير العام، فهو يندرج في القانون الطبيعي، إن النزول عن الخيرات الدنيوية وسيلة للفضيلة، ولكن من الممكن أن تجتمع الفضيلة وهذه الخيرات، إنما ينصح الإنجيل بالفقر الإرادي؛ لأن هاته الخيرات تولد في الغالب الطمع والبخل والحسد والكبرياء والتعلق بالدنيا، ولكنه لا يلزم به، وكل ما يلزم به ألا يتعلق الغني بالمال، وأن يعطي الفقير مما يفيض عنه، وقد قال بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «مر الأغنياء أن يجزلوا العطاء»، فليس الشر في الملكية مهما عظمت، بل في الاستئثار بغلتها وسوء التصرف بها، وللفقير المدقع حق أخذ ما يسد به الرمق إن لم يتيسر له العون، في حالة الفقر المعدم تعتبر الأشياء مشتركة، وينزل القانون الوضعي عن نصوصه للقانون الطبيعي الذي يقضي بأن يسد فائض الواحد عوز الآخر، وفيما عدا هذه الحالة ليس للفقير حق شخصي يطالب به شخصًا معينًا، بل يظل للغني حق التصرف بفائضه، فيمنح هذا، ويحرم ذاك، على ما يراه معقولًا، ولأجل تعيين الفائض يجب اعتبار تكاليف الأسرة ومركزها الاجتماعي، فليست المسألةُ مسألةً حسابية بل اعتبارية.

(٩) مصير التوماوية

(أ) ذلك مجمل مواقف القديس توما، يتبين منه أنه عارض المواقف المأثورة من أوغسطين إلى بونافنتورا، تبعًا لنظرة أخرى إلى العقل الإنساني والوجود أدت به إلى الفصل بين الفلسفة واللاهوت مع استبقاء الصلة بينهما، فأعاد إلى الفلسفة استقلالها بمبادئها ومناهجها، تبدو خالصة لذاتها في الشروح على أرسطو، ومحتفظة بكيانها في سائر المؤلفات، حيث نراها آلة للاهوت، وهي لا تنزل عن شيء من خصائصها ومقتضياتها، بل توجه اللاهوت وجهة جديدة وتوحي فيه بحلول معينة، ولقد ثار معاصروه لهذه الجرأة في التمرد على السلف وتحدي أوغسطين، تألب عليه في باريس وأكسفورد الفرنسيسكيون أنصار التقاليد، وغيرهم من أساتذة اللاهوت، وبعض المتصوفة الذين كانوا يتبرمون بالصبغة العقلية البارزة عنده، وفريق من أعضاء رهبنته الذين نشئوا على الأوغسطينية قبل ظهور مذهبه.

(ب) على أن السلطة الكنسية العليا وقفت موقفًا آخر ما كان أحكمه وأنفذه إلى الحق! فقد أيد جميع البابوات تعاليم القديس توما من وقته إلى وقتنا، وفي ١٣١٨ أعلن البابا أن مذهبه معجزة من المعجزات، وأنه بمفرده يفيض على الكنيسة من النور أكثر من سائر الأساتذة مجتمعين، وفي ١٣٢٣ أعلنه قديسًا، وتعاقبت الرسائل البابوية في امتداح مذهبه والحض على الاستمساك به، وكان الكاثوليك في أشد الحاجة إلى هذا التوجيه، والفلسفة الحديثة تغمرهم من كل جانب، وهي في جملتها إلحادية أو لا أدرية، فوجدوا عند توما الأكويني أسلحة فلسفية يحاربونها بها لم يكونوا ليجدوها عند غيره من السلف، والسلف لم يعن بالفلسفة لذاتها، وكان أفلاطونيًّا، ولا شك أن الأفلاطونية أقل توفيقًا إلى الحق من الأرسطوطالية في تفسير المعرفة والوجود، والتوماوية الآن فلسفة حية تقيم الحجة على سائر الفلسفات.

١  ردودنا على أدلة أرسطو في «تاريخ الفلسفة اليونانية» مأخوذة من هذا التواضع من «المجموعة اللاهوتية» القسم الأول، المسألة ٤٦، الفصل الأول.
٢  هذه الحجة فيها نظر والعلم الراهن بحسب عمر الأرض وعمر الإنسان على سطح الأرض، وبنوع خاص يقول يتناقش الطاقة، مما قد يميل بنا إلى نظرية الحدوث، غير أن أنصار الأزلية يستطيعون أن يقولوا: إن العالم أزلي وإن الله يجدد الطاقة، أما غير المؤمنين منهم فماذا عساهم أن يقولوا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤