الفصل الأول

إيكارت

(١٢٦٠–١٣٢٧)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) هو من الدومنيكيين الألمان، تلقى العلم بجامعة باريس، ثم علم بها أوائل القرن، وتولى في رهبنته عدة مناصب كبيرة، وقبل وفاته بسنة أخذت عليه، وهو يعلم بكولونيا، ثمان وعشرون قضية مخالفة للدين، وأدانه أسقف المدينة المدينة بسببها، فاحتكم إلى روما، وبعد وفاته بسنتين صدر الحكم بتأييد الإدانة، لقوله بوحدة الوجود، وبنتائج هذا القول في الفلسفة واللاهوت.

(ب) كتب باللاتينة على ما كان مألوفًا حينذاك ووعظ وكتب بالألمانية فكان من أوائل الذين استخدموا اللغة الدارجة في الدين والفلسفة، وقد نشرت عظاته وكتبه الألمانية، فلقب بمنشئ النثر الألماني وبأبي الفلسفة الألمانية، من كتبه اللاتينية «الكتاب الثلاثى» (وقد ضاع معظمه) يشتمل ثلاثة أقسام، الأول: «كتاب القضايا» يثبت فيه نيفًا وألف قضية؛ أولاها: «في أن الوجود هو الله»، والثاني: «كتاب المسائل» ينتظم مسائل على ترتيب المجموعة اللاهوتية للقديس توما الأكويني، أولاها «هل الله موجود؟» ويحل كل مسألة تبعًا للقضية المقابلة لها في الكتاب الأول، وأخيرًا: «كتاب التفسيرات» أي تفسير آيات الكتاب المقدس تبعًا للقضايا المقابلة لها كذلك، والآية الأولى «في البدء خلق الله السموات والأرض»، يعرض هذا المنهج، ثم يقول: «ابتداء من القضية الأولى، إذا أحكمنا الاستدلال، حللنا جميع المسائل تقريبًا الخاصة بالله، وفسرنا بالعقل الطبيعي تفسيرًا واضحًا معظم الآيات التي تتحدث عنه، حتى الغامضة العسيرة منها»، ومعنى ذلك أن المذهب يخرج خروجًا منطقيًّا من قضية أولى، أو أن المفكر يضع نفسه في المبدأ الأول ويستنبط منه الموجودات بحركة ذاتية أو «جدل باطن»، وهذا هو الجدل الذي سيصطنعه جيور دانو يرونو وجاكوب بوهمى وفختى وشلنج وهجل وشوبنهور وغيرهم من الألمان بنوع خاص، بحيث يعد إيكارت من أهم الحلقات التي تربط بين الأفلاطونية الجديدة وبين مذاهب عصر النهضة والفلسفات الألمانية الحديثة.

(٢) مذهبه

(أ) المبدأ الأول بسيط غير معين: كما تتصوره الأفلاطونية الجديدة لا بمعنى البسيط الغني بكمال الوجود، بل بمعنى البسيط الفقير إلى التعيين، فيذهب إيكارت إلى أن «الله يوجد بما يعلم» أي يتعين ويصير واعيًا بإدراك الوجود المعين بالمقولات العشر، ويبدو نفس هذا الغرض في تمييزه بين الألوهية والله (وكات جلبير دي لابوري قد وضع مثل هذا التمييز) وتعريفه الألوهية بأنها الواحد الذي لا يقال عنه شيء، القفر، الهاوية المتجانسة، السكوت الثابت، أو بأنها الله بصرف النظر عن علاقاته، أي أقانيمه، وهو يلح في وحدة الله أكثر مما يلح في تمايز الأقانيم، فيرى أن ميلاد الابن وانبثاق الروح القدس عودة الموجود البسيط الوحيد على نفسه أي مدركًا ذاته بانعكاسه على ذاته، ولا يقبل نظرية المشاركة؛ لأنها تفترض موجودات متمايزة من الموجود الأوحد، وعنده أن ما ليس عين من الوجود فهو لا وجود، ناسيًا أن ما ليس موجودًا بذاته قد يوجد بغيره نوعًا من الوجود، وهو لا يقبل القول بحدوث العالم، ويذهب إلى أن الله خلق العالم وقت خلقه لابنه، أي إن العالم هو الله، أو صور الموجودات في الله، فهو أزلي كالله.

(ب) ولسنا ندري كيف يفسر وجود الإنسان وحياته الخلقية والدينية، على أنه يقول: إن الطبيعة الإنسانية تتحول في الحياة الأبدية إلى الطبيعة الإلهية، ووسيلة الاتحاد بالله هي الزهد الذي يمحو الكثرة الناشئة في النفس من تعلقها بالأشياء، الزهد حتى في القداسة وملكوت الله، من حيث إنه ليس للإنسان الحاصل على الله أن ينزع إلى الله، وترك العبادات الخارجية ورياضات التقشف، فإنها ضرورية في مبدأ الأمر فقط حين تشرع النفس في إنكار ذاتها والانصراف عن الأشياء.

(ﺟ) وسيتعاقب بعده متصوفون طوال القرن، ولكنه هو أقربهم إلى الفلسفة، وأكثرههم دلالة على النزعة الأفلاطونية الجديدة في المسيحية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤