الفصل الثاني

جون دنس سكوت

(١٢٦٦؟–١٣٠٨)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) اسكتلندي، دخل الرهبنة الفرنسيسكية، وتلقى العلم بأكسفورد، ثم علم بها، وعلم بباريس، وبكولونيا.

(ب) كتبه الفلسفية: شرح على أحكام بطرس اللومباردي، والمؤلف الأكسفوردي — ثمرة تعليمه بأكسفورد — والمذكرات الباريسية — مدونة بأقلام بعض طلابه بباريس — ومسائل في ميتافيزيقا أرسطو، ورسالة في النفس.

(ﺟ) هو أوغسطيني ينتمي إلى بونافنتورا، وينبذ مع ذلك بعض الأقوال المعروفة عن المذهب، ويفيد كثيرًا من أرسطو، ويعرف ابن سينا وابن رشد تمام المعرفة، ويعتقد أن ابن رشد أصدق شراح أرسطو، وأن شرحه يمثل مدى العقل الطبيعي، هو فيلسوف ولاهوتي كبير من غير شك، ولكنه صرف مواهبه إلى المعارضة والمحاجة والتخريج حتى لقب بالأستاذ الدقيق doctor subtilis، فجاءت كتبه عسيرة القراءة، وهو يعد طليعة الانحلال الذي عرض للفلسفة المدرسية بعد نهضة القرن الثالث عشر، وكأنه قصد بنوع خاص إلى تعقب القديس توما الأكويني ومعارضته في كل نقطة، ولكنه بوجه عام لم يدرك مقاصده.

(٢) الفلسفة المسيحية

(أ) يعتقد دنس سكوت أن المسيحي يجب أن يصدر عن الوحي، وأن يجعل منه محور مذهبه، طبقًا لرأي أوغسطين وأنسلم وبونافنتورا، ولهذا الرأي تطبيقات أو نتائج يستنبطها هو بكل جرأة، فأولًا: يقلب نظرية أرسطو والقديس توما في المعرفة رأسًا على عقب، فيقول: يعلمنا الوحي أن غايتنا القصوى معاينة الله في ذاته، والله هو الموجود المطلق، فيجب القول مع ابن سينا — خلافًا لأرسطو وتوما الأكويني — إن الموضوع الخاص لعقلنا، المعادل له، هو مطلق الوجود، لا الماهية المجردة من المحسوس، وإن الوجود الذي يدور عليه علمُ ما بعد الطبيعة ليس معنى مجردًا من الموجودات الجزئية، وإنما هو معنى أصيل، وابن سينا كان مسلمًا مؤمنًا، وإيمانه بمعاينة الله في الآخرة هو الذي حداه إلى رأيه هذا، على حين أن أرسطو وصف الحالة الراهنة التي عليها العقل، كما ندركها برجوعنا على نفسنا، فقال: إن الموضوع الخاص لعقلنا، المعادل له، هو الماهية المجردة من المحسوس، ولم يكن يعلم شيئًا عن غايتنا القصوى، ولم يكن يعلم أن عقلنا كفء؛ لأن يدرك الله في ذاته، فالحال التي ظنها أولى هي في الحقيقة أحط حالين، هي حال السقطة بخطيئة آدم، التي ينبئنا بها الوحي، أما قبل السقطة وفي حياة الخلد، فطبيعة العقل الإنساني أن يدرك مطلق الوجود، وإن كنا لا نهتدي إلى ذلك بالعقل كما يبدو الآن طبيعيًّا، ومعنى الموجود هذا حاصل فينا بمثابة علامة طبعها الخالق في خليقته (وهذا كل ما ترجع إليه نظرية الإشراق عند دنس سكوت)، فإذا اعتبرنا الحال الراهنة النظام الطبيعي الأصيل، وقعنا في خطأ أساسي، فلزمنا ما لزم أرسطو وأتباعه من المسيحيين من أن اشتهاء العقل في الحياة الراهنة معاينة الله في الحياة الأخرى لا يلائم الإنسان.

(ب) ونحن نقول: إن الأمر هنا أهون مما توهم دنس سكوت، وإن ما ما غفل عنه أرسطو أو فاته، لا يلزم القديس توما، فإنه يرى أن معاينة الله في الحياة الأخرى ممكنة للإنسان من جهة كونه عاقلًا مدركًا مطلق الوجود، سواء كان هذا الموضوع أولًا أو ثانيًا، ثم سواء كان هذا الموضوع أولًا أو ثانيًا فليست تحصل هذه المعاينة لمخلوق ما بقوة طبيعته، حتى لو كان ملاكًا موضوع عقله مطلق الوجود، بل تحصل بمدد إلهي فائق للطبيعة، لا يغني عنه شيء بسبب لا نهائية المسافة بين المخلوق والخالق، فما كان هناك من حاجة للنظرية الجديدة.

(ﺟ) تطبيق آخر للتفكير المسيحي يتعلق بنوع البرهنة على وجود الله، إن إله المسيحية لا متناه، وما هكذا اعتبره قدماء الفلاسفة فإن هذه هي الصفة الأساسية التي تميز الخالق من المخلوق فيجب أن يمضى البرهان من مقدمة تؤدي رأسًا إلى هذه النتيجة، وعلى ذلك فبرهان المحرك الأول، على ما له من ضرورة عقلية لا متناهية على مبدأ العلية، قيمته نسبية؛ لأنه برهان إني يبلغ إلى العلة بمعلول هو ظاهرة مادية حادثة على كل حال، فلا يعرفنا بالله إلا بأدنى كمالاته، ولا ينتج بالذات أن الله لا متناه؛ لأن الأول في جنس معين يمكن أن يكون متناهيًا.

(د) ونحن نقول: هذا غير صحيح؛ لأن المحرك الأول ليس متحركًا أول، كالفلك المحيط في العلم القديم، ولكنه المحرك غير المتحرك، أي العلة الأولى للحركة، فهو علة خارجة عن المتحركات، وإلا كانت مفتقرة إلى محرك وتسلسلنا إلى غير نهاية، أي لم نصل إلى علة حقة، فالعلة الأولى موجود لا متناه بالضرورة من حيث هو علة أولى، فلئن لم تكن العلة الأولى هاهنا لا متناهية رأسًا، فإنها لا متناهية بهذه الملاحظة البسيطة وهي أنها «أولى» فلننظر في البراهين التي يرتضيها دنس سكوت.

(ﻫ) البرهان اللمي يذهب من فكرة عن العلة جلية، هي حدس لها، أو فكرة معادلة للحدس، ويستخرج منها النتيجة بالقياس، فيرينا ضرورة النتيجة في ذات العلة، شأن البرهان الرياضي الذي هو مثال البرهان اليقيني، وإن برهانًا من هذا القبيل لا يبدأ من ظاهرة حادثة، بل من فكرة مطلق الإمكان، وهذه الفكرة تؤدي إلى علة أولى ممكنة، والعلة الأولى الممكنة موجودة ضرورة؛ لأن الموجود بذاته الممكن إذا افترضنا أنه لا يوجد إلا في الذهن، يكون ممكنًا ومستحيلًا في آن واحد، ومن ثمة متناقضًا، ولكن فكرة العلة الأولى بريئة من التناقض وهي موضوع حق للعقل، بل هي مثال المعقولية، ولم يكن هذا الموجود ليكون معقولًا تمام المعقولية لو لم يكن أولًا موجودًا عينيًّا وموضوعًا للتعقل، وبذلك نصل مباشرة إلى أن الله لا متناه؛ لأن الأول من حيث الوجود هو بالضرورة الموجود الكامل الذي لا يحتمل أي حد، إذن يستطيع الميتافيزيقي، وموضوعه الوجود من حيث هو كذلك، البرهنة على وجود الله دون الالتجاء إلى برهان المحرك الأول، ولكن الفيزيقي لا يستطيع البرهنة على أن المحرك الذي يصل إليه هو الموجود الأول إلا بالالتجاء إلى الميتافيزيقا، فهذا العلم يقربنا من اللاهوت الذي موضوعه الإله اللامتناهي، الإله الذي يؤمن به المسيحي.

(و) هذه هي الطريقة التي ابتكرها دنس سكوت ظانًّا أنها تقوم مقام الحدس، وما برهانه في الواقع إلا برهان الممكن والواجب الذي صادفناه عند القديس توما، ولكن بعد الاستعاضة عن الممكن الجزئي (أيًّا كان)، أي الموجود العيني البادية فيه دلائل الإمكان، بمطلق الإمكان، فيقع في نفس غلط أنسلم، وقد أراد أن يدعم دليله، إذ ينتقل من التصور إلى الموجود، فإن المسألة تصبح: هل الله الممكن موجود؟ وهل هو موضوع حدس عقلي؟ وهذه محاولة أولى لتبيان «إمكان فكرة الله» ستتبعها محاولة من جانب ديكارت، وأخرى من جانب ليبنتز، ولكن دون جدوى، لامتناع الانتقال من مجرد الإمكان إلى الوجود الفعلي.

(ز) أما الصفات الإلهية فطائفتان: طائفة عرفها الفلاسفة القدامى بالبرهان الإني مثل: إن الله العلة الفاعلية الأولى، والغاية القصوى، والكمال الأعلى، وطائفة لم يعرفها وإنما أضافتها المسيحية، مثل: إن الله كلي القدرة، موجود في كل مكان، عادل، رحيم، معني بالمخلوقات: هذه الصفات موضوع اعتقاد فقط، لا يبلغ العقل إلى أدلة قاطعة عليها بل فقط إلى حجج محتملة، (ولكن القديس توما استنتجها صحيحًا من كون الله الوجود القائم بذاته، وكونه خالق الكل، وسيتكرر في تاريخ الفلسفة تمييز دنس سكوت بين «إله الفلاسفة» و«إله الدين» كأنهما متنافيان)، وأما كيفية وجود الصفات في الله، فموضع آخر للخلاف، يرفض دنس سكوت قول القديس توما: إن الصفات متمايزة تمايزًا ذهنيًّا، ويزعم أن هذا القول لا يخولنا الحق في إضافة صفات لله إضافة صريحة، فيسقط اللاهوت، مع أن القديس توما يبين أن للتمايز الذهني أساسًا في كمال الذات الإلهية، وأن أحكامنا في حق الله صادقة باعتبار هذا الكمال، على أن دنس سكوت يعترف من جهة أخرى بأننا لا نستطيع أن نجعل بين الصفات تمايزًا عينيًّا فندخل الكثرة على الذات الإلهية، فيبتدع تمييزًا يحسبه وسطًا، هو «التمييز الفعلي الصوري من جهة الشيء» actualis-lormalis a parte rei. ولكن التمييز الفعلي من جهة الشيء هو في الواقع تمييز عيني، فكيف يكون صوريًّا في نفس الوقت؟ هذا مثال على ما ستتهم به الفلسفة المدرسية من وضع الألفاظ موضع المعاني، إن دنس سكوت أفلاطوني يحكم على الموجود تبعًا لطريقة تعقلنا، لا تبعًا لحال الموجود المعقول، فيضع فيه تمييزًا مقابلًا لما نعقل من تمييز، كما فعل أفلاطون حين وضع للماديات مثلًا مفارقة لكوننا نعقل ماهياتها مجردة عن المادة، وهو أوغسطيني ينظر إلى العقائد قبل كل شيء، فيرى أن تمييزه المذكور يسمح له بتفهم سر الثالوث الأقدس إلى حد ما، أي بتفهم تمايز الأقانيم في وحدة الذات الإلهية، وكان جديرًا به أن يفطن إلى أن السرَّ سرٌّ، فلا يقاس عليه، بل تستبقى له سريته.

(ﺣ) وأما البرهان الإني فيذهب من حدوث الموجودات إلى محدث هو واجب الوجود (كما فعل توما الأكويني) وذلك بموجب مبدأ العلية القاضي بتناقض سلسلة من العلل غير متناهية، هذا البرهان أساسي، ودنس سكوت يكمله ببرهانين مأخوذين من الموجودات الحادثة، غير مقصورين على المادة: أحدهما: برهان العلية الغائية، وهي تتحقق في الموجودات الروحية العاقلة، كما تتحقق في الماديات، بل على وجه أتم وأقوى، فنصل إلى موجود أول عاقل رتب الأشياء كلًّا في طبيعته، وبعضها بالنسبة إلى بعض، ولما كان روحًا صرفًا، غير متصل بمادة أي نوع من الاتصال، ولا معين بماهية، كان لا متناهيًا بالضرورة، من حيث إن المادة هي التي تقبض الصورة، وإن تعيين الماهية حد لها، والبرهان الآخر برهان العلو أي التنزيه، أي التعالي بالله إلى ما فوق كل خليقة، وذلك بتنزيهه عن كل حد وكل تركيب.

(ط) والمسيحية — علاوة على تعليمها أن الله لا متناهٍ — تعلم أن الله محبة وحرية، خلافًا للفلاسفة الوثنيين الذين ظنوا أن كمال العلية هو في العلية المادية المطردة الرتيبة، فتصوروا الله فاعلًا بضرورة ذاته، وتصوروا العالم خاضعًا للضرورة كذلك، نعبر عنها بالقوانين، لكن المسيحي ينظر إلى الأمر نظرة مخالفة لهذه، ليس عقل المسيحي أقوى وأعمق من عقل الوثني، فقد جرحت الخطيئة الأصلية طبيعة الإنسان إطلاقًا، فصارت هذه في الواقع أدنى وأضعف ممَّا تسمح به كفايتها الذاتية، غير أن المسيحي، ومن ثمة اللاهوتي، يجد في الوحي أنوارًا حرم منها الوثني، فيحاول أن يرتفع إليها وأن يتعقلها، وفي الواقع أن الإرادة حائزة على مزية تعيين فعلها بذاتها، دون الخضوع لشيء ما، فالحرية كمال، فكيف لا تكون الإرادة الإلهية حرة ليس المقصود حرية مضطربة متعسفة متغيرة، بل حرية أساسية شأنها ألا تفعل الإرادة بضرورة الذات، حتى حين تفعل دون أن يمكن أن يكون الحال بخلاف، مثل محبة الله لذاته، فإنها ضرورية، ولكنها حرة إطلاقًا.

(ي) وعلى هذا فالعالم ثمرة المحبة الإلهية والحرية المطلقة، ونحن هنا في صميم التعارض بين اللاهوتيين والفلاسفة، فإذا استثنينا المنطق، وهو علم قانوني أو منهجي، لم يعد من وجه ولا من حاجة لدراسة الفلسفة كعلم مستقل عن الدين يتجاهل الحقائق النازلة من لدن الله، والتي تهمنا هي وحدها، وعلى هذا أيضًا لا يبحث دنس سكوت عن حدوث العالم في الأشياء أنفسها، وتركيبها مثلًا من ماهية ووجود، أو جوهر وعرض، أو هيولى وصورة، بل في سيطرة الإرادة الإلهية على العالم سيطرة تامة، فالإيمان بالحرية الإلهية هو الذي يجعلنا نتفادى ضرورة العالم كما تصوره اليونان والعرب، وما كان للفلاسفة أن يقولوا لنا الكلمة الأخيرة في هذه المسألة، وإنما قالها القديس يوحنا في مفتتح إنجيله: «الله محبة»، فحدوث العالم «تاريخ» مختار بملء الحرية، ويثبت، ويستحيل افتراض الأزلية إذا تأملنا أن خلق موجود ما يقوم في إيجاد بعد عدم، هكذا يضع دنس سكوت ما جاء به الوحي من حدوث العالم موضع القضية الضرورية، كأن فهمه للخلف يجعل من اللاوجود شيئًا معينًا ويعطيه وجودًا سابقًا، في حين أن الخلق عند القديس توما يقوم في تعلق الخليقة بعلتها، بغض النظر عن الزمان، بحيث يمكن أن يكون الخلق أزليًّا.

(ك) المخلوق مركب، أجل ليس في كتب دنس سكوت المقطوع بصحة نسبتها إليه ما يؤخذ منه ان الملائكة والنفوس الإنسانية مركبة من هيولى وصورة، ولكن هذه النظرية الفرنسيسكية واردة في الكتب المعتبرة منحولة، أما الجواهر الطبيعية فمركبة من هيولى، وصورة جسمية متحدة بالهيولى دائمًا، وصورة نوعية هي بسيطة في الجماد والنبات، نامية حاسة في الحيوان، نامية حاسة ناطقة في الإنسان؛ لأن النوع هو المتحقق في الواقع، والتجربة الباطنة تدلنا على وحدة الحياة فينا، والصورة النوعية موجودة في الأفراد بما هي صورة نوعية، لذا كانت بحاجة إلى ما يقبضها ويرد الشيء واحدًا مع تعدد صوره، فيجعل منه «هذا» الشيء hacc res: تلك وظيفة صورة أخيرة هي مبدأ التشخيص، يسميها «الهذية» hacceitas ويعرفها بأنها «ما تتعين به الطببيعة فتصير جزئية»، وما دامت الهذية صورة فهي معقولة لنا، أي إن العقل يدرك الجزئي إدراكًا مباشرًا، لا بانعكاس على الصورة الخيالية كما يقول أرسطو وتوما الأكويني، فإن هذا الانعكاس عارض له، هو نتيجة الخطيئة الأصلية، وبذا يستبعد دنس سكوت قول أرسطو: إن الجزئي لا يتعقل من حيث هو كذلك، ويعتقد أن هذا القول يعود بنا إلى الثنائية القديمة، ثنائية الله والمادة، ويخرج الهيولى من علم الله وقدرته، على ما يذهب إليه ابن سينا وابن رشد، ولكن القديس توما بين أننا لا نعلم الهيولى؛ لأنها بالقوة، وأننا لا نعلم الجزئي، لأن عقلنا مجرد، أما الله فيعلم الهيولى والجزئيات؛ لأنه خالقها، ودنس سكوت أفلاطوني يشخص في الخارج كل ما يدرك على نحو من الأنحاء، ويجعل الصور في الموجود الواحد متمايزة «تمايزًا فعليًّا صوريًّا من جهة الشيء» فيقع في الوجودية المسرفة، حتى الهيولى يعتبرها شيئًا موجودًا بالفعل في ذاته، يقابلها معنى في العقل، ويمكن إطلاقًا أن توجد على حيالها دون صورة، ويقول: «لست أدرك موجودًا ما خارج علته إلا وله وجود خاص»، ولكنه لا يفسر لنا كيف يمكن أن يكون فعلٌ ما (أي صورة ما) فعلًا لشيء هو من قبل بالفعل بصورة أخرى، وماذا يصير بوحدة الموجود، إذ إن الهذية تزيد في عدد الصور فتعقد المسألة بدل أن تحلها.

(ل) والنفس الإنسانية جوهر له قوى متمايزة لتمايز موضوعاتها (خلافًا لما يقول الأوغسطينيون)، على أن هذا التمايز ليس عينيًّا (خلافًا لما يقول توما الأكويني) ولكنه «تمايز فعلي صوري من جهة الشيء»، والنفس تدرك ذاتها إدراكًا مباشرًا حالما تنتبه بمعرفتها المحسوس، فإنها روح عاقل ومعقول معًا، أما خلود النفس فمسألة لا تحتمل البرهان لا بلمَ ولا بإن: لا بلمَ، لامتناع البرهان على أن النفس الناطقة جوهر قائم بذاته قادر أن يوجد من دون الجسم، ولم يقم أرسطو مثل هذا البرهان، (ولكن القديس توما أقامه وفقًا لمبادئ أرسطو) وعلى افتراض أن البرهان قد قام على روحانية النفس، فليس يستتبع الخلود بالضرورة، وإلا للزم أن ننكر على قدرة الله اللامتناهي أن تعيدها إلى العدم هي أو أي مخلوق روحي كان، (ولكن هل يليق بحكمة الله أن يُعدم موجودًا بسيطًا باقيًا بالطبع أو يعدم كائنًا حقيقًا بثواب أو عقاب؟) وأما برهان إن فيؤخذ من وجوب الثواب والعقاب، ومن نزوعنا الطبيعي إلى الخلود، ولكن الأمر الأول يستلزم البرهان على وجود ديان، وهذا ما لا يثبته لنا غير الإيمان، والأمر الثاني مصادرة على المطلوب، إذ لا يمكن الشعور بنزوع طبيعي إلى شيء لا ندري إن كان ممكنًا أو غير ممكن، فلنا أن نعتبر هذه الحجج التي تقام تأييدًا للخلود محتملة أو راجحة، ولا سبيل لنا إلى ما يحيلها حججًا ضرورية، فإن الإيمان وحده يعطينا اليقين بالخلود، وبالإيمان تكتسب هذه الحجج قيمة كبيرة، (وهكذا يمارس دنس سكوت في براهين واضحة، ويأخذ من العقل ليعطي الإيمان، غير ناظر إلى أن العقل أساس الإيمان، وأنه بموقفه هذا يفوت على غير المؤمن معتقدات يمكن الوصول إليها بالعقل.)

(م) والإرادة أعلى من العقل في الإنسان، وبيان ذلك من وجهين، أما أولًا: فلأن غايتنا القصوى محبة الله، والمحبة في الإرادة، ومحبة الله أكمل من معرفته، وأما ثانيًا: فلأن الإرادة قوة فاعلة بذاتها لا تفتقر في اختيارها إلى أن تتعين بصورة معقولة، وأن صورة معقولة ما لا تؤثر فيها تأثيرًا ضروريًّا، حتى الخير الكلي، أن الله الخير الأعظم، فإنها تستطيع التوقف بإزاء كل خير والامتناع عليه بتحويل انتباه العقل إلى جهة أخرى، الإرادة تأمر العقل وتوجهه، فاختيارها لشيء أو لفعل تابع لاختيارها توجيه العقل إليه، بحيث إنها إنما تريد؛ لأنها تريد، (ولكن دنس سكوت ينسى أن الإرادة، لكي تأمر العقل، يجب أن تتعين من جهة العقل؛ لأنها قوة اشتهاء ليس غير، والمشتهى خير معلوم، فلكي تريده يجب أن تنتظر حكم العقل.)

(ن) وبالجملة هو يفسد المعاني التي جهد القديس توما نفسه لتوضيحها ويضيق نطاق العقل ظانًّا أن هذا النطاق يتمثل في شرح ابن رشد لكتب أرسطو، فلا ينفذ إلى روح هذه الكتب، وينتهي إلى توسيع نطاق اللاهوت بأن يقصي إليه مسائل ظن أن العقل لا يبرهن عليها، ويجعل من اللاهوت علمًا عمليًّا غرضه تدبير أفعالنا أكثر منه تعريفنا حقائق معينة، فيحيد به عن موقف توما الأكويني، وتتباعد الشقة بين الوحي والعقل، ويفتح الطريق إلى القول بتعارضهما فيضيع العقل والوحي جميعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤