الفصل الثالث

وليم أوف أوكام

(١٢٩٥–١٣٤٩)

(١) حياته ومصنفاته

(أ) هو من الفرنسيسكيين أيضًا، ولكنه تحرر من فلسفتهم، بل من كل فلسفة مدرسية، وكان باعث حركة قوية متصلة في نقد الفلسفة، والفصل بينها وبين الدين، ومهاجمة العلم القديم، والفصل بين السلطتين الدينية والمدنية، فهو يعتبر بحق مؤسس الفكر الحديث، تلقى العلم بأكسفورد، حيث استمع إلى دروس دنس سكوت، ثم صار خصمًا له وناقدًا، علم بباريس واستُدعي للتحقيق معه في قضايا منافية للدين عُزيت إليه، فطال التحقيق أربع سنين، وكانت أقواله فيه ملتوية مبهمة، وكان الخلاف ناشبًا بين البابا والإمبراطور لويس دي بافيير على مدى حقوق السلطة المدنية، ففر هاربًا ولحق بالإمبراطور، وأخذ يدون الرسائل السياسية منكرًا على البابا تدخله في الشئون المدنية، وتوفي الإمبراطور، فحاول هو أن يصطلح مع رهبنته والكنيسة.

(ب) له «شرح على الحكام» يحوى مذهبه الفلسفي، وكتاب منطق اسمه «الشرح الذهبي»، وشرح على السماع الطبيعي، وكتاب «مائة قضية لاهوتية»، هو عرض وجيز واضح، وكتاب «المجموعة المنطقية».

(٢) الاسمية أو المعنوية

(أ) نظريته في المعرفة أصل شكه في الفلسفة والعلم، وهي هامة جدًّا؛ لأنها تظهرنا على الأصول البعيدة التي استمد منها جون لوك ومن جاء بعده من الحسيين، المعرفة عنده إحساس وتعقل، الإحساس حدسي، والتعقل حدسي وتجريدي، المعرفة الحسية واقعة على ما في الخارج من موجودات أو أحداث جزئية، فهي مطابقة للواقع، والمعرفة العقلية الحدسية واقعة من الجهة الواحدة على ظواهرنا الباطنة، فهي أيضًا مطابقة للواقع، ومن الجهة الأخرى على الجزئيات الخارجية من حيث وجودها وعدمه، وإلا لما استطاع العقل أن يؤلف القضايا التي حدودها محسوسات، مثل قولنا: سقراط أبيض، والمعرفة العقلية التجريدية واقعة على معان مجردة، وعلى علاقات بين معان، المعنى إدراك ناقص غامض يمثل وجهة عامة من الجزئي لا تفيد في تعرفه ولا في تمييزه من غيره، مثال ذلك معنى الإنسان، فإنه ينشأ في عقلي حين يقع بصري على سقراط فلا أتبينه، وهكذا الحال حين يكون الإدراك أغمض، مثل قولي حيوان وحي وجسم، أما إذا رأيت سقراط بوضوح فإني أسميه باسمه، وهذا الاسم لا يدل على معنى كاسم إنسان، بل يدل على جزئي، فالألفاظ الدالة على معان تدل على أشياء معلومة بغموض، والألفاظ الدالة على جزئيات تدل على نفس الأشياء معلومة بوضوح، ولا حاجة إذن لافتراض عقل فعال.

(ب) فالمعنى قائم في عقل العارف ولا مقابل له في الخارج من حيث هو كذلك، وعلى أي نحو تصورناه متحققًا في الخارج انتهينا إلى نتيجة باطلة، فإن كان واحدًا كما يتصوره العقل، لم نفهم كيف يتكثر بتكثر الأفراد، وإن كان متكثرًا، لم نفهم كيف يكون واحدًا في العقل، (وهذا يذكر بحجج أرسطو ضد المثل الأفلاطونية)، فإذا كان المعنى في العقل فقط، لم يبقَ هناك محل لمسألة مبدأ التشخيص، إذ إنها تعني أن الكلي أو الماهية أو الطبيعة يوجد قبل الجزئي، وليس يوجد في الواقع سوى الجزئي، (وهذه حجة غير ملزمة، إذ يكفي القول: إن الماهية توجد في الجزئي أي معه)، وإذا كان المعنى في العقل فقط، لم يعد هناك ما يضمن حقيقة خارجية للعلاقات التي يقررها العقل بين المعاني ويراها ضرورية، إن المعنى يقوم في العقل مقام كثرة الأفراد، وهو ليس كليًّا بذاته، بل بحمله عليها، أي باعتباره (إشارة) إليها signum، وبعبارة أدق: إن اللفظ أو الاسم الذي يُدَل به على المعنى هو الذي يطلق على الأفراد، والاسم موضوع العلم، باعتباره رمزًا أو إشارة إلى الجزئيات، لا المعنى نفسه الذي هو متصور فقط: وهذا أصل تسمية مذهب أوكام بالاسمية، على أن بينه وبين اسمية القرن الحادي عشر فرقًا كبيرًا، فإن أوكام لا يقول مثل روسلان إن المعنى «صوت في الهواء» بل يعترف له بمفهوم في العقل، وهذا يضع فرقًا آخر بينه وبين المذهب الحسي الحديث الذي يرد المعنى إلى صورة خيالية، فمذهبه وسط بين المذهبين، وهو أحرى أن يدعى بالمعنوية conceputalisme وإن كان يمت إلى الاسمية بسبب.

(ﺟ) وقد لقب أوكام منذ عصره بمبتدع الاسمية وبملك الاسميين وحامل لوائهم، والحق أن قد سبقه إلى هذه الأقوال تمامًا اثنان من معاصريه الفرنسيين: أحدهما: دوران دي سان بورسان، والآخر: بيير أوريول أو دوريول، حتى لقد اتهم أوكام بالأخذ عن هذا الثاني (وهو من رهبنته) فأنكر ذلك بشدة، وقال: إنه قرأه قراءة عجلى بعد أن أنجز مقالته الأولى في الأحكام، ومهما يكن من هذه النقطة التاريخية، فإنه يبقى أن أوكام هو الذي طبق المذهب الاسمي على مسائل الفلسفة واستخرج نتائجه، على ما سنرى الآن.

(٣) نقد الفلسفة

(أ) ولن نرى إلا التشكك في العقل بمعانيه وعلاقاتها، فإن أوكام يقول عن الجوهر إنه لا يُعلم إلا بتعريفات عامة مثل قولنا: إنه ما يتقوَّم بذاته، وما ليس في غيره، وما هو محل الأعراض، وهذه التعريفات تدعنا في جهل تام بما هو الجوهر في ذاته، إن التجربة لا تقع إلا على الأعراض أو الكيفيات، ونحن لا نعرف عن النار مثلًا إلا الحرارة، فإن قيل: إن الكيفيات معلولات الجوهر، وإن معرفتها تؤدي إلى معرفته، أجاب: إن معرفة شيء ما لا يمكن أن تؤخذ إلا من الشيء نفسه لا من شيء آخر، بناء على ما ذكرناه من أنه ليس هناك ما يضمن موضوعية العلاقات التي يضعها العقل بين المعاني، وما دام الأمر كذلك، فلا برهان إلا البرهان اللمي القائم في مطابقة الشيء لنفسه، أو في استخراج المعلول من العلة، والأعراض — من جهتها — ليست بمتمايزة في الجزئي، ولكنها معان أي وجهات له، فلا نقل: إنها متمايزة من الجوهر، ولا نفصل الكم أو الامتداد مثلًا عن الجوهر كأنه شيء مغاير له، ولا القوى النفسية عن النفس، ولا المكان الذي يبدو فيه الشيء، ولا الزمان الذي يقيس أفعاله، ولا علاقاته مع غيره، كل أولئك أنحاء مختلفة لتصورنا الشيء، ليس غير، وكذلك تبطل تلك الصور التي قال بها دنس سكوت، ويبطل التمييز بين الماهية والوجود، فهما يدلان على شيء واحد ويرجعان إلى تمييز المعاني.

(ب) وكل العلاقة بين معنى العلة ومعنى المعلول هي العلاقة التي تقررها التجربة، فالعلة هي الشيء الذي إذا وُضع وُضع المعلول، وإذا رُفع ارتفع المعلول، وفيما عدا تقرير التجربة لا سبيل إلى معرفة العلية أي القوة الفعلية التي تحدث المعلول، فنحن نعرف بالتجربة أن للنار قوة التسخين، ولا نعلم شيئًا في النار يقتضي التسخين، فليس إذن من حجة تبرهن على ضرورة علة لا تدل عليها التجربة، إذ إن معلولًا واحدًا بعينه قد يكون صادرًا عن علة أو عن أخرى، مثل بعض الظواهر العجيبة التي تضاف إلى القدرة الإلهية، قد يكون في استطاعة الأجرام السماوية أن تحدثها ونحن لا ندري، أما العلة الغائبة، فليست بمعنى الكلمة، سواء اعتبرناها في الفاعل الإرادي أو في الفاعل غير الإرادي: فمن الجهة الأولى «يقولون: إنها تحرك الفاعل، وهذا يعني فقط أن الفاعل يحب الغاية، فالتحريك هنا مجازي لا حقيقي»، ومن الجهة الثانية نرى الموجودات الطبيعية تفعل باطراد، فلا يمكن القول بأن فيها فعل علة غائية، (وقد كان الاطراد دليل أرسطو على الغائية، فإذا به ينقلب هنا دليلًا على عدمها).

(ﺟ) فإذا ما تناولنا مسألة وجود الله، رأينا أوكام يعتبرها موضوع إيمان فقط، ويعمل على إبطال البرهان عليها، تبعًا لمبدئه التجريبي القائل: إن الوجود يدرك بالحدس لا بالاستدلال، ولسنا ندرك الله بالحدس في الحياة الراهنة، فينقد أوكام برهان المحرك الأول في مقدمتيه، يقول: إن أصحاب هذا البرهان يعتمدون على امتناع تحريك الشيء لنفسه، ولكن الملاك يحرك نفسه، وكذلك النفس الإنسانية، والجسم الثقيل في سقوطه إلى الأرض، ويعتمدون على امتناع التسلسل إلى غير نهاية في سلسلة العلل المحركة، ولكن هناك من الحالات ما يضطرنا إلى التسليم بالتسلسل، فإنك إذا ضربت طرف عصا انتشرت الضربة شيئًا فشيئًا حتى الطرف الآخر، فيلزم القول بعلل محركة لا نهاية لها من حيث إن في المقدار عددًا لا متناهيًا من الأجزاء، فأوكام لا يلتفت إلى تفسير المقدمة الأولى عند أرسطو، ويقع في غلط زينون الإيلي في المثل الذي يضربه ضد المقدمة الثانية، ولكنه يستدرك فيقول: غير أن تناهي العلل أكثر احتمالًا من لا تناهيها، بمعنى أن تفسير الظواهر بالفرض الأول خير من تفسيرها بالفرض الثاني، ولو أن التفسيرين ممكنان.

(د) والصفات الإلهية إضافات محتملة فقط من الوجهة العقلية، فالوحدانية مثلًا يقابلها أن كثيرين اعتقدوا بآلهة عدة، وأن ليس هناك ما يمنع من تفسير العالم بعدة علل أولى تشترك في تدبيره، بل ليس ما يمنع من تفسيره بعلاقات متبادلة بين جزئياته تابعة لما بينها من مسافات، ولنا أن نتساءل: لمَ لا يكون هناك عوالم أخرى لكل عالم محركه الأول، أي إلهه؟ إن الظواهر تفسر بوحدانية الله وبتعدد الآلهة على حد سواء، ولكن الأفضل أن نقول بالوحدانية، وإذا نظرنا في اللانهائية رأينا اللاهوتيين يقولون: إنها ثابته لله من تعريفه، من حيث إن اسم الله يعني الموجود الذي لا يُتصور أعظم منه، ولكن معاني الأسماء وضعية اصطلاحية، فليس هناك ما يلزمنا بإعطاء هذا الاسم مثل هذا المعنى، ثم إن المعلومات متناهية، فليست تقتضي سوى علة متناهية، وميل الإرادة نحو الخيال اللامتناهي — كما يقولون — معناه الميل نحو خير يتزايد إلى غير نهاية ويبقى في كل وقت متناهيًا، وأزلية الحركة، على افتراضها، يكفي لتفسيرها ملاك يحرك السماء الأولى، وهكذا في سائر الصفات، لا نجد سبيلًا إلى البرهنة عليها، فحتى بعد إقامة البرهان على وجود علة فاعلية أولى، تبقى البرهنة على أن هذه العلة الأولى هي أيضًا الموجود الأعلى الكامل من كل وجه، وأنها كلية القدرة، وأنها تعلم ما عداها من الموجودات وتريدها، وأنها العلة المباشرة لأفعال الموجودات، هذه القضايا مؤكدة من جهة الإيمان، ولا يعارضها العقل، لكنه لا يبرهن عليها، وإنما يؤيدها بأدلة احتمالية، ويتمسك بها لأن من اللائق أن نضيف لله كل ما نستطيع تصوره من كمال، (وكأن أوكام لم يقرأ أرسطو والقديس توما!)

(ﻫ) وإذا نظرنا في النفس الإنسانية لم نجد دليلًا عقليًّا يثبتها، إن المعرفة المؤكدة هي الحدسية، والحدس الباطن يدرك الظواهر النفسية ولا يجاوزها، والاستدلال بالظواهر على الجوهر جائز كما أسلفنا، بل إننا لو اقتصرنا على العقل دون الوحي، لم نستطع البرهنة على أن نفسًا روحية يمكن أن تكون صورة لجسم، ولقلنا: إن النفس صورة ممتدة فاسدة، فبالوحي فقط نعلم أن لنا نفسًا روحية خالدة.

(و) وأخيرًا، إذا فحصنا عن القواعد الخلقية لم نجدها ضرورية، فإنها هي أيضًا عبارة عن تأليفات معان، كمعاني الماهية والقانون والعلة والغاية، فليس هناك خير وشر بالذات، ولكن ما يسمى كذلك قائم على إرادة إلهية أعلنت إلينا بالوحي، وكان الله يستطيع أن يقرر قواعد خلقية معارضة للقواعد التي فرضها علينا، فكانت تكون حسنة لمحض أنه أرادها، حتى لكان يستطيع أن يجعل من الكراهية له فعلًا نثاب عليه، (وهذه نتيجة منطقية للمذهب، فما دام أوكام أنكر على المعنى أن يمثل ماهية ثابتة، فقد لزم أن ليس هناك من شيء إلا كان يمكن أن يكون على خلاف ما هو، وليس هناك من رابطة ضرورية بين مبدأ ونتيجة، أو بين علة ومعلول).

(ز) فانظر كيف انهارت الفلسفة كلها بعد أن جُرِّد المعنى من قيمته الموضوعية ومُحيت الماهيات الثابتة، وكيف تورط أوكام في أغلاط ومغالطات من السهل كشفها بالرجوع إلى أرسطو والقديس توما، ولما كنا ما نزال في عصر إيمان، وكان فيلسوفنا مؤمنًا مخلصًا فيما يلوح، فقد قنع بما يعطينا الوحي من يقين في المسائل الميتافيزيقية، فضيق دائرة الفلسفة أكثر مما فعل دنس سكوت، وفصل بينها وبين اللاهوت فصلًا تامًّا، إذ نزع عنه صفة العلم وأسقط منه مناهج التدليل، بل صنع مثل ذلك بالإضافة إلى الفلسفة نفسها، إذ لم يدع سبيلًا إلى إيجاد علاقة بين حدي أية قضية، سواء أكانت طبيعية أم موحاة.

(٤) نقد العلم

(أ) وكان محتومًا أن يتناول أوكام بالنقد العلم الطبيعي الأرسطوطالي، ونقده في هذه الناحية جدير بالتنويه؛ لأنه يشق الطريق للعلم الحديث الذي كان قد برز بوضوح على أيدي أساتذة أكسفورد الذين تصوروا العلم عبارة عن صوغ التجربة في أسلوب رياضي، وهذه وجهة لا نجدها عند أرسطو، ولكننا نجد عنده محاولة لتفسير الطبيعة تفسيرًا فلسفيًّا محضًا، وإغفال الوجهة الآلية، مع أن أفلاطون كان ألح فيها في كتاب «تيماوس»، فكان لهذا النقص مدعاة لتجريح طبيعياته، وتطرق سوء الظن بها إلى فلسفته دون تمييز بين المجال، فتلاشت الثقة بفلسفته وعلمه على السواء في نفوس المحدثين.

(ب) يرفض أوكام فكرة القوة أي الوجود اللامُعيَّن؛ لأن مثل هذا الوجود لا يمكن في اعتقاده أن يوجد، ولأن الحدس على كل حال لا يقع إلا على الموجود بالفعل، فيرفض فكرة الهيولى، ويستبدل بها فكرة المادة يتصورها موجودة بالفعل بالصورة الجسمية، وكان مقصد أرسطو من الهيولى أن يفسر التغير الجوهري، أما وقد استبعدت وحلت محلها مادة معينة، فقد رُدت جميع التغيرات إلى التغير العرضي، وحق المذهب الآلي الذي يفسر الأجسام وتغيراتها بأجزاء من المادة تجتمع وتفترق، وصارت الأجسام مركبات لا وحدة لها، فنرى هنا الصلة الوثيقة بين الاسمية والآلية.

(ﺟ) ولما كان قد زعزع اليقين بمبدأ «أن كل متحرك فهو متحرك بغيره»، فقد انساق إلى نقد الرأي اللازم من هذا المبدأ في حركة الأجسام، كان أرسطو يفسر الحركة الطبيعية بصورة الجسم المتحرك وهي ذاتية له تكفل حركته، أما الحركة القسرية فكانت تبدو معضلة، وهي الحركة التي تستمر بعد انفصال المتحرك عن المحرك وانتهاء انفعاله به، فيلوح كأن لا محرك له في مراحله التالية، فكان يفسرها بدفع الهواء المحيط للجسم المتحرك، وفسرها بعض شراحه بأن المحرك يولد في المتحرك قوة تحركه بعد ذلك، فعارض أوكام هذه التفسيرات، وقال: إن أبسط وأوكد حل للمعضلة أن المتحرك إنما يتحرك؛ لأنه يتحرك، ولا داعي لافتراض محرك متمايز من المتحرك، فكأنه فطن إلى قانون القصور الذاتي، وهذا القانون يعني أن لا حاجة لغير الحركة نفسها لتفسير استمرارها، ويستحيل تأييده بالتجربة أو بالنظر العقلي، ولكنه الموقف الوحيد بعد إنكار قيمة المعاني وعلاقاتها الضرورية.

(د) ويضع أوكام مادة واحدة للأجسام جميعًا علوية وسفلية، فينكر الأثير أو العنصر الخامس الذي كان عند أرسطو مادة الأجرام السماوية، ويقول: إن هذه الأجرام إذا كانت مادتها غير فاسدة، فذلك أمر واقع فقط بالنسبة إلى العلل الطبيعية المعروفة.

(ﻫ) وهو ينكر نظرية الأمكنة الطبيعية وما رتبه عليها أرسطو من أن العالم واحد متناهٍ، ويقول: إنه إذا كان الجسم الثقيل يميل إلى السقوط، فليس ذلك لتحقيق كماله بإدراك مكانه الطبيعي، بل لأن الأرض تجذبه إليها، وليس هناك ما يمنع أن تكون العناصر الأخرى عرضة للجذب كل من جهة، فلا يمكن البرهنة من هذا السبيل على وحدانية العالم، وكثرة العوالم أمر ممكن طبعًا، كما أنه لا يمكن البرهنة على تناهي العالم في المكان، والله قادر أن يزيد في مقدار العالم ويجعله يجاوز كل حد، أو على تناهيه في الزمان، وأصحاب هذا الرأي يخالفون أرسطو الذي قال بأزلية العالم، ويأخذون عنه المبدأ الذي يعوِّلون عليه وهو استحالة العدد اللامتناهي بالفعل، ولكن لا نهائية العالم في الزمان لا تعني عددًا معينًا بل تقدمًا مطردًا إلى ما لا نهاية.

(و) فأهمية المذهب الاسمي تقوم في أنه، إذ يعد المعاني المجردة غير موضوعية، يفتح الطريق للشك في المعقولات وعلاقاتها الضرورية فتتبدد الميتافيزيقا، ويفتح الطريق للتصورية، فما دام المعنى مجرد إشارة تثير في الفكر موضوعًا مغايرًا له بالمرة هو الجزئي، أي ما دام الموضوع المباشر للعقل ليس الشيء نفسه بل ما يقوم مقام الشيء، فمن يدرينا؟ لعل صور الجزئيات هي أيضًا تقوم مقام الجزئيات أنفسها فلا نعلم إن كانت الصور مطابقة للجزئيات، بل لا نعلم إن كانت الجزئيات موجودة، وسنرى هذه النتائج بارزة بشكل أصرح في الفصل التالي، كما سنرى فيه اطراد تقدم العلم نحو شكله الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤