الفصل الرابع

الاسميون الباريسيون

(١) نقولا دوتركور

(أ) قام للاسمية أنصار كثيرون في أكسفورد وكمبردج وخصوصًا باريس، كانوا يعلمون حق العلم أنهم مبتدعون، فكانوا يسمون انفسهم بالمحدثين moderni ويسمون مذهبهم بالطريقة الحديثة via moderna معارضة للطريقة القديمة antiqua التي كان يمثلها «الوجوديون» أي القائلون بحقيقة المعاني في الوجود، relaesa أتباع القديس توما ودنس سكوت جميعًا، وكان هؤلاء من جهتهم يتسمون بالقدماء antiqu وهم يعلمون أنهم يدافعون عن تراث ثمين، وفي كلية الفنون الباريسية تمت هذه الفلسفة الحديثة، فإن خمولًا طرأ على الحياة العلمية بأكسفورد وكمبردج، أجل، إن تلك الكلية أنكرت الاسمية وحظرت تعليمها (١٣٣٩ و١٣٤٠) ولكنها ما لبثت أن أخذت بها وحملت لواءها قرنًا ونصفًا.

(ب) أول من نلقاه من أساتذتها الاسميين نقولا دوتركور اتهم في سنة ١٣٤٠ بأضاليل مختلفة، وبعد ست سنين أدانه البابا في خمس وستين قضية مستخرجة من كتبه، يفهم منها أنه كان يذكر تلميحًا أنه ملهم من الله ومندوب لإحياء العلم، وكان الحكم يقضي بإحراق كتبه، وتجريده من لقب أستاذ في الفنون، وحرمانه حق التقدم للأستاذية في اللاهوت، ولكنه كان لجأ إلى بلاط لويس دي بافيير ملتقى المبتدعة حينذاك، إلا أنه عاد إلى باريس، وأنكر القضايا المأخوذة عليه أمام هيئة الجامعة.

(ﺟ) أخذ عن أوكام أن المعرفة اليقينية «الطبيعية» تستفاد من مصدرين اثنين لا ثالث لهما: التجربة التي تظهرنا على الواقع، والقياس اللمي المستند إلى مبدأ عدم التناقض والذي يثبت مضايقة الشيء لنفسه، أي يثبت للموضوع — مباشرة أو بقياس آخر — محمولًا هو نفس الموضوع أو جزء منه، وإلا لم يكن من البين بالذات أن المحمول يوافق الموضوع، وعلى ذلك ليس في وسع العقل أن ينتقل من معنى إلى آخر، أي إلى معنى مختلف عنه غير متطابق معه، وإلا خرج على مبدأ عدم التناقض، وهو المبدأ الوحيد البين بذاته، وكانت نتائجه محتملة فقط، والاحتمال مؤقت تابع لما يبدو لنا وقت النظر، وقد ينتقل من قضية إلى أخرى، والقضية المحتملة ليست صادقة بالضرورة، ومهما يبلغ الاحتمال فلن يبلغ أبدًا إلى يقين الإيمان، فجميع العلوم (أي كتب أرسطو) التي تدرس بالجامعات أقاويل محتملة.

(د) يلزم من هذه المقدمة أن مبدأ العلية لا يثبت أمام العقل؛ لأنه ينتقل من معنى هو المعلول إلى معنى آخر هو العلة، وليس يخولنا مبدأ عدم التناقض الحق في أن نستنتج استنتاجًا بينًا وجود شيء من وجود شيء آخر، ولا أن ننكر وجود ذلك الشيء، فكل دليل يذهب من معلول منظور إلى علة غير منظورة هو دليل غير بين، لكن التجربة تقفنا على العلاقة بين المعلول وعلته حين تقفنا عليهما مجتمعين، ولا يدوم هذا اليقين بالعلية إلا مدة التجربة، ولا يبقى بعدها إلا مجرد الاحتمال بأن نفس المعلولات تحدث إذا توفرت نفس العلل، فدوتركور يسبق هيوم إلى إنكار العلاقة التحليلية بين العلة والمعلول، ويفترق عنه في الاعتقاد بأن التجربة تعطينا هذه العلاقة، ويسبق كنط إلى أن العقل لا يحق له الربط بين ظاهرتين إلا متى اجتمعتا في التجربة، ويفترق عنه في توقيت الرابطة بمدة التجربة.

(ﻫ) ومتى استبعدنا الدليل العلي أن القول بالجوهر بناء على ملاحظة الأعراض، ليس قولًا ضروريًّا؛ لأنه انتقال من شيء إلى آخر، فلم نستطع الانتقال من أفعالنا إلى قوى نفسية، ثم إلى نفس، ولا من إدراكاتنا الظاهرية إلى أشياء خارجية، فقد تكون الإدراكات مسببة عن تأثير الله فينا ونحن نعتقد أنها مسببة عن أشياء، وإذن «فالموجود حقًّا بالنسبة إلينا ظواهر خارجية وداخلية»، وهذه هي التصورية التي نبهنا عليها في ختام الفصل السابق، وهي لازمة هنا من إنكار مبدأ العلية، إذ إن الإحساسات متى لم تُردّ إلى علل بقيت مجرد صور، واستبعاد الدليل العليِّ يقطع علينا سبيل الانتقال من العالم إلى الله، حتى من باب الاحتمال؛ لأن شرط الاحتمال التجربة السابقة بالعلة والعلول معًا، إن وجود حقيقة إيمانية ليس غير، لا يبرهن عليها بالعلة الفاعلية كما تقدم، ولا بالعلة الغائية، لاستحالة إثبات أن شيئًا غاية شيء آخر، ولا بما يدعى درجات الكمال من حيث إن كل شيء فهو ما هو وما يجب أن يكون عليه لتحقيق كمال الكل، فلا يقل: إن الأشياء متفاوتة كمالًا، ونحن لا نرتب الأشياء من هذا القبيل إلا تبعًا للذوق الشخصي.

(و) ولا يمكن إقامة برهان لمي على الاستحالة والكون والفساد؛ لأن مثل هذا البرهان لا ينتقل من شيء إلى آخر مختلف عنه، والشيء الذي يقال إنه استحال إلى شيء آخر قد يكون انقسم إلى أجزاء غاية في الصغر لا تدركها الحواس، فتسقط بذلك طبيعيات أرسطو، ولا يبقى إلا أن نتصور الأجسام مركبة من جواهر فردة، وأن نفسر ظواهرها بحركات الجواهر، وما دامت علية الموجودات المحسوسة غير ثابتة ثبوتًا لميًّا، فلا يبقى إلا أن نضيف كل علية إلى الله.

(ز) لا عجب إذن أن يقول دوتركور: إنه «ليس في طبيعيات أرسطو ولا في ما بعد الطبيعة قضيتان يقينيتان، بل قد لا يوجد فيهما قضية واحدة يقينية» أي لمية، وما دامت لا تحتمل البرهان اللمي فهي ليست علومًا، فيجب الانصراف عن المسائل غير قابلة الحل والتوجه إلى التجربة، بالتجربة نكتسب عددًا قليلًا من المعارف، ولكنها معارف محققة، «ويمكن اكتسابها في وقت قصير لو وجه الناس عقولهم إلى الأشياء لا إلى تفهم أرسطو وابن رشد، ومن عجب أنهم ينفقون العمر كله في دراسة ذلك المنطق، مطرحين جانبًا المسائل الخلقية والعناية بالخير العام، حتى إذا ما قام محب للحق ونفخ في البوق كي يوقظهم من سباتهم، اغتاظوا وبادروا إلى السلاح ليحاربوه»، وهذه هي اللهجة التي سيرددها رجال عصر النهضة، والتي سنصادفها عند ديكارت.

(٢) جان دي ميركور

ومن بين الأساتذة الباريسيين الذين ساروا في هذا التيار طائفة غير قليلة نذكر أشهرهم: جان دي ميركور، ذهب إلى مثل ما ذهب إليه نقولا دوتركور، فأدانته الجامعة بسبب أربعين قضية، منها: أن المعرفة اليقينية هي الحكم التحليلي المعتمد على مبدأ عدم التناقض، والحدس المباشر لوجودنا، أما العالم الخارجي فليس لمعرفتنا به مثل هذا اليقين، إذ إن الله أو موجودًا آخر قد يوهمنا وجود أشياء بينما لا يوجد شيء، وإرادة الله محتومة على المخلوقات، والله هو الفاعل الأوحد، فلا حرية ولا خطيئة، وتفاعل الموجودات يمكن تفسيره بأفعال باطنة في كل موجود، أي بأن كل موجود يفعل كما لو كان منفعلًا (وسيقول بمثل هذا ليبنتز).

(٣) جان بوريدان (؟–١٣٦٠)

(أ) علم بجامعة باريس، ثم صار مديرًا عليها مرتين، مصنفاته مقصورة على الفلسفة والعلم، ولنا أن نعتبر إغفاله اللاهوت دليلًا على عقليته.

(ب) اشتغل بمسألة الحركة واستمرارها بعد انفصال المحرك عن المتحرك، فأخذ بفكرة قوة دافعة يحدثها المحرك في المتحرك، فتتدرج في العقل حتى تتغلب عليها مقاومة الهواء والثقل، ولولاهما لاستمرت الحركة إلى غير نهاية، فإذا افترضنا أن الله حرك الأجرام السماوية عند خلقها، وأنه يحفظ لها حركاتها كما يحفظ سائر الأشياء، وأن هذه الأجرام لا تلقى مقاومة داخلية أو خارجية، لم نرَ سببًا يحول دون استمرار الحركة، فنستغني عن تلك العقول المفارقة أو الملائكة التي يقال: إنها محركة الأفلاك، يقول: «لست أزعم أن كل ذلك محقق ولكني أسأل السادة اللاهوتيين أن يفسروا لي كيف يمكن أن يحدث كل ذلك»، ومن آرائه العلمية أن الأجسام في سقوطها تزداد سرعتها باطراد، وأن الأرض تدور، وأن هذا الدوران يفسر الظواهر تفسيرًا أبسط من القول بسكونها، وهذه فكرة كان العصر الوسيط يعرفها عن الفيثاغوريين.

(ﺟ) ويعزى إليه قوله في معرض الكلام على الحرية: إن الإنسان إذا وجد أمام داعيين متشابهين، استطاع أن يخرج من التردد بينهما، لا كالحمار الذي وجد من طعامه وشرابه على مسافة واحدة كمًّا، فمات جوعًا وعطشًا لعدم استطاعته الاختيار، لقد عني بوريدان بمسالة الحرية، واشتهر تشبيهه هذا بالحمار، غير أن هذا التشبيه لم يرد في كتبه، وقد يكون ورد في دروسه الشفوية.

(٤) ألبير دي ساكس (؟–١٣٩٠)

تلميذ بوريدان بالجامعة، علم بها وصار مديرًا عليها، ولما أنشئت جامعة فينا كان أول مدير عليها سنة ١٣٦٥، وضع نظرية في الثقل، وحاول أن يعين النسبة بين سرعة الحركة ومدتها ومسافتها، وقال هو أيضًا: إن الأرض متحركة والسماء ساكنة.

(٥) نقولا أورسم (؟–١٣٨٢)

تلقى العلم بجامعة باريس، ونال منها درجة الأستاذية في اللاهوت، كتب باللاتينية وبالفرنسية، فكان الأول في استعمال «اللغة العامية» في العلم والفلسفة من بين الفرنسيين، نقل إليها كتابي أرسطو في الأخلاق والسياسة، وألف في السياسة والاقتصاد كتبًا تضعه من هذه الناحية في المقام الأول بين أهل عصره، منها كتاب «في أصل النقود وطبيعتها وتطورها»، على أن أهم مؤلفاته هي التي صنفها في العلم الطبيعي والفلك، منها: شرح كتاب أرسطو في السماء والعالم، دوَّنه أولًا باللاتينية ثم بالفرنسية، وقد فطن بوضوح إلى قانون سقوط الأجسام، وإلى الفكرة الأولى للهندسة التحليلية التي سيُتِمُّ وضعَها ديكارتُ، وعني بمسائل الحركة وعلاقتها بالسرعة والزمان والمكان، فاكتشف في هذا الميدان قوانين صحيحة ستصل إلى جليليو، وكان أول من دلل على حركة الأرض اليومية، وأدلته «تفوق كثيرًا ما كتبه كوبرنك في الموضوع وضوحًا ودقة» على حد قول بيير دوهيم Duhem مؤرخ هذه الحركة العلمية الباريسية في كتابه الكبير: «نظام العالم» Le système du monde.

(٦) بيير دابى (١٣٥٠–١٤٣٠)

علم بجامعة باريس، وصار مديرًا عليها، هو اسمي صريح، يصطنع أقوال دوتركور وميركور، ويضع اليقين في الإيمان وحده، يعجب للحكم على دوتركور، ويعلن أنه صدر عن حسد، وأن القضايا المنكرة علمت بعد ذلك جهارًا بالمدارس، مما يدل على اتساع الحرية، وازدياد الجرأة، وانتشار الاسمية، وله مؤلفات في الفلك والآثار العلوية والجغرافيا متأثرة بروجر بيكون، ويلوح أنها أثرت في كريستوف كولومب وأمريكو فسبوتشي.

(٧) خاتمة الكتاب

(أ) أولئك جميعًا تحرروا من المدرسية ومن سلطان أرسطو، واشتغلوا بالعلم التجريبي، فأقاموا الميكانيكا والفلك على أصول جديدة قبل عصر «النهضة» المعتبرة عادة «يقظة بعد سبات طويل» و«ثورة على أرسطو والكنيسة».

ونرجو أن يكون اتضح من هذا الكتاب — بالرغم من إغفاله أسامي كثيرة — أن السبات حديث خرافة، وأن الثورة بدأت فعلًا بابتداء القرن الرابع عشر، فإن كل ما يربط رجاله بالعصر الوسيط مقصور على كونهم رجال دين وأساتذة جامعيين، كما نرجو أن يكون اتضح أنه كانت في ذلك العصر فلسفة حقيقة بهذا الاسم، تمثلت الفلسفة اليونانية وعدلت فيها وزادت عليها، فصبغتها بصبغة جديدة، فكانت عملًا ذاتيًّا له طابعه شأن كل عمل حيوي.

(ب) ولا ينبغي أن يفهم أنها انتهت عند هذا الحد من التاريخ، بل ستكون لها رجعة عند أثمة الفلسفة الحديثة، ديكارت ومالبرانش وليبنتز وسبينوزا، حتى ليمتنع بدونها فهم اصطلاحاتهم ومقاصدهم ونظرياتهم، وحتى ليتعين الرجوع إليها دائمًا في تفهم سائر من جاء بعدهم، على أن الحد الذي بلغنا إليه يعتبر فاصلًا من حيث تطور العقلية العامة ومن حيث الظروف الاجتماعية، فقد اشتد التمرد على الدين، وانقضى استقلال الكنيسة بالعمل العقلي، فتجاوز العلم نطاق الأكليروس إلى المدنيين، واستولى هؤلاء على الجامعات وأنشئوا الأكاديميات ومختلف الجمعيات الفلسفية والعامية والأدبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤