الفصل الثامن

هل يمكننا الاستغناء عن القادة؟

اجعل للغرفة أبوابًا ونوافذ،
فتلك الفتحات هي التي تجعل الغرفة نافعة.
ومن ثم تأتي الفائدة مما هو موجود،
في حين تأتي المنفعة مما ليس موجودًا.
(كتاب تاو تي تشينج، المقطع ١١)

في الفصل السابع أشرت إلى أننا بحاجة إلى التركيز على القيادة لا على القادة، إن كنا بصدد فهم كيفية عمل القيادة على أرض الواقع؛ بمعنى أننا في الحقيقة بحاجة إلى إعادة الجماعة إلى القيادة. غير أن هناك قدرًا مساويًا من الخطورة في استبعاد القادة من القيادة التعاونية أو القيادة الموزعة إلى الحد الذي عنده — إذا تعاونَّا أكثر بعضنا مع بعض — نستطيع حل مشكلات العالم بشكل جماعي من دون الاستعانة بالقادة. وفي هذا الفصل الأخير، أريد أن أشير إلى أن هذه النقطة خطأ تمامًا مثل افتراض أن القادة ليسوا بحاجة إلى التفكير في الأتباع، ولكن في هذه الحالة أود أن أعيد القادة إلى القيادة مرة أخرى.

في عصر المشكلات العالمية — سواء أكانت هذه مشكلات مالية أو بيئية أو دينية أو اجتماعية أو سياسية — صارت الدعوات لما هو بعد القيادة البطولية أشد من أي وقت مضى. وتشير بدائل القيادة البطولية (حيث إن هناك العديد من التنويعات لها) إلى أن القيادة غير ضرورية، أو أنه يمكن توزيعها بالتساوي بين الجماعة، أو بمجرد أن يزول سبب الصراع — سواء أكان بشأن ملكية خاصة، كما اقترح ماركس ، أو الدين — تصير القيادة غير ضرورية، أو أن القيادة البطولية هي نتيجة للمؤسسة وليست سببًا لها. وفي محاولة للفكاك من قبضة القيادة البطولية، يبدو أننا مفتونون الآن بالنقيض الظاهري لها، أي القيادة الموزعة ؛ حيث إننا في عصر ما بعد القيادة البطولية سنكون جميعًا قادة حتى إنه لن يكون هناك قادة.
ثمة فكرة مفادها أن القيادة قد تكون جانبًا غير ضروري للمجتمع أو المؤسسة، أو أنه يتعين «توزيعها»، إما على نحو معتدل (ومن ثم تكون القيادة مشتركة) أو على نحو جذري (ومن ثم، نظرًا لأن كل فرد قائد، فلا يكون هناك قائد). هذه الفكرة لها سوابق طويلة. في الواقع، تقوم العديد من مجتمعات الصيد والجمع — مثل مجتمع الهادزا بتنزانيا — من دون وجود قائد واحد رسمي، حيث تُوزَّع مهام القيادة لكي يتمكن أي فرد من «قيادة» رحلة الصيد أو اقتراح الانتقال إلى منطقة جديدة وهكذا. وتتبنى مثل هذه المجتمعات القائمة على الصيد والجمع أنظمة قيادة رسمية فقط حين تقهرها القوى الاستعمارية، كما فعلت عدة قبائل من قبائل الهنود الحمر في القارة الأمريكية على سبيل المثال. لكن حتى تلك الثقافات القائمة بلا قادة ممنهجين وفقًا لنظام محدد لا تزال تحتفظ بعناصر القيادة؛ فقبيلة كومانتشي — على الرغم من أنها تمثل أكثر ثقافات الهنود الحمر في القارة الأمريكية تنقلًا ومعارضةً للاستبداد — اتخذت قادة مؤقتين في حالات الحرب أو الصيد أو حين كان يتطلب دينهم ذلك. وعلى نحو مماثل، فإن قبائل النوير كانت تتبع ما وصفه عالم الإنسانيات إيفانز-بريتشارد بنظام «التجزئة»، حيث يجتمع خليط متنقل من الجماعات القائمة على الأسر باستمرار مع جماعات أسرية أخرى ويعيد ترتيب نفسه، ولكن من دون وجود قيادة نظامية منهجية.

وتُعد مثل هذه المظاهر المحدودة للقيادة أكثر ندرة في الغرب. وعند انتقالنا من مجتمعات الصيد والجمع، مرورًا بما يسمى «عصر أمراء الحرب» (تقريبًا من نهاية عصر الجليد الأخير وحتى الحقبة الصناعية) وما ارتبط بذلك من تطور المجتمعات الزراعية المستقرة إلى مجتمعات صناعية واسعة النطاق، من الواضح أن شكل القيادة تغير حتى إن الأشكال المؤسسية والإدارية الخاصة بالديمقراطية والبيروقراطية استعاضت عن أنظمة أمراء الحرب بشبكات مؤقتة من القادة السياسيين والتجاريين والثقافيين والعسكريين الذين يعكسون الذكورية الصرفة لعصر أمراء الحرب حسبما يدعي الكثيرون.

ومع ذلك، في القرن الحادي والعشرين، حين سادت المشكلات المستعصية على ما يبدو، كان من الأفضل أن يلجأ العالم إلى القيادة التعاونية التي استعاضت عن أمراء حرب القرن العشرين بأنظمة حكم أكثر ملاءمة لأولئك الذين يقاسون عادة من تصرفات أمراء الحرب.
وكثيرًا ما يُستغَل الرابط بين أمراء الحرب (بما في ذلك الأنظمة الملكية الصرفة والديكتاتورية السياسية) وجماعات الكهنة الداعمة لهم من أجل الدفاع عن القيادة على أساس رابطها المقدس بالربوبية على اختلاف تنويعاتها. وسواء أكان هذا الرابط يتمثل في «الحق الإلهي » الخاص بالأنظمة الملكية، أم تصوير القادة العلمانيين على أنهم أنصاف آلهة، أم حتى رفع الأتباع لقادتهم إلى منزلة الآلهة، فمن الواضح أن هناك صلة ما بين القيادة ومملكة القداسة. ولكن إلى أي مدى تُعد هذه الصلة مهمة، وما الذي تشير إليه فيما يتعلق بإعادة توزيع السلطة بعيدًا عن القادة الرسميين والفرديين؟
ربما اعتقد البعض أن علمانية الغرب التي بدأت مع عصر التنوير قد قوضت الجانب المقدس من القيادة من خلال فصل الدولة عن الكنيسة. وبالتأكيد أشار نيتشه ، في كتاب له بعنوان «العلم الشاذ»، إلى الوفاة المجازية للإله باعتبارها تحريرًا للإنسانية، مما أتاح آفاقًا لرسم صورة جديدة للبدايات، ومن ثم يمكن للمرء أن يستنتج أن علمانية المجتمع قد تستهل منهجًا جديدًا للقيادة يحرم مداهنة القادة باعتبارهم أنصاف آلهة. غير أن نيتشه طرح أسئلة أخرى:

مات الرب. وبقي الرب في عداد الموتى. لقد قتلناه. فكيف يتسنى لنا أن نواسي أنفسنا، نحن أشر القتلة أجمعين؟ ما كان يمثل أقدس وأعظم ما يمتلكه العالم ينزف الآن حتى الموت تحت نصل سكاكيننا: من سيمسح هذا الدم عنا؟ أي مياه ستنظفنا؟ أي كفارة، وما الحيل المقدسة التي سنبتكرها لنكفر عن أنفسنا؟ أليس هذا الصنيع أعظم مما نستحق؟ ألا يجب أن نصبح نحن أنفسنا آلهة حتى نبدو ببساطة جديرين بذلك؟

(١٩٩١، المقطع ١٢٥)
لقد حطمت عودة الأصولية الدينية باختلاف تنويعاتها الادعاء القائل إن الرب المجازي قد مات، ولكن من وجهة نظر كارل بوبر فإنه لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا بسؤال آخر: إذا كان الرب قد مات، «فمن يقوم مكانه؟» تشير إعادة صياغة القائد — أو ربما «إعادة القداسة» كلمة أفضل في هذا المقام — إلى أن القيادة صارت حتمًا حبيسة مملكة القداسة ، وإن كان الأمر كذلك، فهل توجد إشارات تتضمن إعادة توزيع للسلطة بصورة جذرية؟
يبدو أن الموضوع لا يتعلق بالطبيعة المقدسة للقيادة — لأنه إذا كان هناك سبيل للعيش بدون قيادة، فإن طبيعتها المقدسة لا يمكن أن تكون من متطلبات المؤسسات — بل إن الموضوع يتعلق أكثر بكيفية تنسيق الحياة الاجتماعية. لكن المفارقة أن الشيء الثابت في المجتمعات «البديلة» هو أنها عادة ما تحتفظ بالطبيعة المقدسة للمجتمع، أو «قداسة» الحرية. قد يتحول شكل القداسة على نحو حسن ويصير عرضة للتأويل إلى ما لا نهاية؛ ومع ذلك يظل مقدسًا بصورة جوهرية. في الواقع، رفض تخويل السلطة لشخص آخر يتحكم فيك — وذلك لأن هذا يمكن أن يهدد سلامتك — يولد قداسة منيعة فيما يتعلق بحرمة الفرد أو المجتمع. أو كما أوضحت جو فريمان (إحدى رائدات الحركة النسوية الأمريكية في السبعينيات من القرن العشرين)، أن النتيجة المترتبة على اللاهيكلية لا تعني التحرر من الهيكل التنظيمي أو السلطة (البابوية أو أي شكل آخر) ولكنها تعني الانتقال من هيكل تنظيمي رسمي إلى آخر غير رسمي، مع الوضع في الاعتبار كل الاحتمالات للاستبداد الذي يمكن أن تحشده الجماعات غير الرسمية والفرق المسلحة. أشارت فريمان إلى أن الهيكلية الديمقراطية قد تكون ذات أفضلية على اللاهيكلية؛ لأن الهيكل التنظيمي على الأقل أكثر شفافية وقابلية للتغيير. ولكن نكرر مرة أخرى أن تفويض السلطة وتوزيعها وتناوب المهام يتطلب من جميع المشاركين أن يكون لديهم الاستعداد والقدرة على تقديم إسهامات مهمة فيما يتعلق بالوقت والجهد. ومن وجهة نظر البعض، ربما يكون الجهد في غير محله. على سبيل المثال: أشار فليتشر إلى أن النماذج الجديدة لفترة ما بعد القيادة البطولية، على الرغم من أنها تُعزى إلى نماذج أكثر أنثوية، لا تزال تضرب بجذورها في المنظمات الذكورية، حيث يعتبر التعاون وبناء العلاقات والتواضع أعراضًا دالة على الضعف، لا القيادة. وبالطبع، فإن القيادات العليا في المؤسسات لا تزال في أيدي الرجال على نحو سائد، حتى إن نماذج القيادة لفترة ما بعد القيادة البطولية هي ببساطة نماذج أبطال.
أما من وجهة نظر البعض الآخر، فالموضوع لا يتعلق ﺑ «القيادة»، بقدر ما يتعلق بنوع «القيادة»، ولا سيما تلك الجوانب الخاصة بالقيادة والمتعلقة بتطوير القيادة الموزعة ، التي تتولى فيها الجماعة نفسها القيادة. حاولت رالين أن تقارن بين الشركات ذات القيادة الموزعة أو الشركات القيادية والشركات التقليدية من خلال إشارتها إلى أنه داخل الشركات القيادية تُعد القيادة متوازية وجماعية وليست متوالية وفردية؛ بمعنى أن الكثير من الناس يشاركون فيها، ولا تقتصر المشاركة على من يشغلون المناصب الرسمية. وهذه القيادة تعاونية ولا تقوم على السيطرة، وهي قيادة رحيمة وليست قاسية. وهذا يولد مجتمعًا وليس شركة فحسب. ووفقًا لجرون ، فإن التداعيات الظاهرية للقيادة الموزعة ذات ثلاثة أوجه؛ أولًا: «العمل التآزري » — أو التآزر القيادي، بمعنى أن إجمالي القيادة الفردية أكبر من مجموع أجزائها، وثانيًا: حدود القيادة صار من السهل اختراقها، مما يشجع الكثير من أفراد المجتمع على المشاركة في قيادة شركاتهم، وثالثًا: هي تشجع على إعادة التفكير فيما يعتبر خبرة داخل المؤسسات وتزيد درجة المعرفة المتاحة للمجتمع. وخلاصة القول، لم تصر القيادة ملكية للقائد الفردي الرسمي، ولكنها ملكية ناشئة للجماعة أو الشبكة أو المجتمع.
دون الرغبة في الدفاع عن «القيادة البطولية »، ثمة سؤال في هذا الصدد: إذا كان القادة البطوليون ظلوا معنا زمنًا طويلًا — وكانوا يتحملون مسئولية معظم الأحداث المأساوية التي حدثت للجنس البشري منذ بدء التاريخ — فلماذا توقفنا عند حد إدراك قابليتهم للوقوع في الخطأ؟ ولو أننا عرفنا قابليتهم للوقوع في الخطأ منذ أن نشئوا، فلماذا لم يُطَوَّر بديل فعال، طويل المدى وواسع النطاق؟ بعبارة أخرى، هل يعد البديل الافتراضي للقيادة في عصر ما بعد القيادة البطولية بديلًا قادرًا على البقاء؟

بالطبع، قد يبدو هذا تمثيلًا غربيًّا إلى حد بعيد، ومن الواضح أن أفكار القيادة ومفاهيم القدسية غالبًا ما تختلف اختلافًا جذريًّا باختلاف الثقافات، وهو موضوع فضفاض للغاية ولا يمكن تغطيته في هذا الكتاب. في الواقع، الأمور التي تمثل القيادة والقداسة في الولايات المتحدة الأمريكية غالبًا ما تبدو مختلفة على نحو ملحوظ عن نظائرها في المملكة المتحدة. فالسخرية من — وليس هجاء — القادة الدينيين قد تلقى قبولًا من الأوساط الاجتماعية في العديد من المجتمعات في شمال أوروبا، ولكن الأمر على النقيض في إيران أو الولايات المتحدة الأمريكية. علاوة على ذلك، فإنني لا أهتم بالأساس بالإشارة إلى أن تفسيرات الغرب أو بريطانيا للرابط بين القدسية والقيادة صالحة في أي مكان، ولكن هناك على الأرجح صلة مهمة بين الظاهرتين في مختلف الثقافات، على الرغم من أن الطبيعة المحددة للمفاهيم والروابط قد تختلف اختلافًا كبيرًا في مختلف أنحاء العالم. وإنني سأقترح أن القدسية شيء لا يجرؤ أحد على ذكره وكأنه الحيز الذي تعمل داخله القيادة. ولهذا السبب نادرًا ما يُطرح لأنه يشكل إطار العمل الذي تعمل بداخله القيادة.

إن دراسة أصل مصطلح «القدسية» في اللغة الإنجليزية Sacred يقدم لنا دلائل على طبيعة الكلمة دون أن يقدم تفسيرًا لها (قاموس كولينز الإنجليزي، ٢٠٠٥، قاموس أكسفورد لدراسة أصل الكلمات الإنجليزية، ١٩٦٦). ويأتي أصل كلمة Sacred من الكلمة اللاتينية Sacer التي تعني «مقدس أو قدسي أو محظور مَسُّه»، وهذه الكلمة اللاتينية تأتي من كلمة لاتينية أخرى هي Sancire التي تعني «مبجل، مكرس لغرض ديني، موقر باعتباره مقدسًا، محصن ضد التدنيس، معزول». هكذا، يكمن أحد عناصر القدسية في الفصل بين المقدس والمدنس أو الاختلاف بينهما. وتتعدى كلمة Sacrilege التي تعني «تدنيس المقدسات » — التي تأتي من الأصل اللاتيني المركب الذي يعني «سرقة الأشياء المقدسة» — هذه الحدود وتدنس ما هو مقدس. وبالطبع، كان المعنى الأصلي لكلمة Hierarchy التي تعني «التسلسل الهرمي » هو «السيادة المقدسة»، وللكلمة الإنجليزية أصول إغريقية: فكلمة Arkhos تعني «سيادة أو حاكم» وكلمة Hieros تعني «مقدس أو إلهي»، في اللغة الإغريقية الأصلية. فالكلمة الإغريقية Hierarkhia كانت تعني رتبة مقدسة، ومن ثم تعد فكرة «الهرمية » الحيز التنظيمي المقدس الذي يسهل قيادة الإله (أو قيادة الكهنوت). وتعني الكلمة اللاتينية Sacerdos «راهب»، وتأتي الكلمة الإنجليزية Sacrifice التي تعني «التضحية » من اللاتينية المركبة التي تعني جعل الشيء مقدسًا، ومن ثم فإن العنصر الثاني للقدسية مرتبط بموضوع أساسي خاص بتقديم القرابين على أيدي من يعتبرون مقربين للإله وهم الكهنة، ومن ثم التضحية هي ما يجعل الشيء مقدسًا، فهي ممارسة للقيادة. وفي النهاية تشير كلمة «قدسية» إلى «موقف الاحترام والإجلال»، «الصمت في حضرة الآلهة». وقد يبدو هذا الصمت إشارة إلى إسكات مخاوف المؤمنين حين يزيح الإله أو ممثلو الإله المخاوف الوجودية، أو كما جاء في النسخة الإغريقية القديمة، حيث كان الآلهة أنفسهم يقضون على المخاوف الوجودية للبشر.

علاوة على ذلك، تشير دراسة أصل الكلمات إلى أن الجانب المقدس للقيادة يتضمن على الأقل ثلاث صفات فيما يتعلق بالمناقشة الدائرة حول القيادة: «الفصل» أي الفصل بين المقدس والمدنس، و«التضحية» أي التصرف الذي يضفي القدسية على شيء ما، و«الإسكات» الذي يمارسه الزعماء الدينيون أو العلمانيون لمخاوف الأتباع أو معارضتهم. دعنا نتعرض بإيجاز لهذا الجانب المقدس من القيادة قبل النظر فيما إذا كان الجانب المقدس ضروريًّا أو إذا كان لهذا تداعيات فيما يتعلق بالعمل من دون قادة.

(١) الفصل

هناك ارتباط طويل وتاريخي بين الفصل والقرب والقيادة. على سبيل المثال: لنتأمل «اللمسة البسيطة من هاري في جنح الليل» التي طمأنت الجيش الإنجليزي عشية معركة أجينكورت في مسرحية شكسبير «هنري الخامس»: وهذا يُعد أمرًا مهمًّا لأنه نادرًا ما يقترب الأتباع من القادة، ناهيك عن لمسهم. بالطبع، يستمد الملوك شرعية حكمهم عادةً من صلتهم بالإله، ومن ثم فهم مسئولون أمام الإله فقط، ومن ثم افتراض أن لمستهم مقدسة تترتب منطقيًّا على افتراض أن كيانهم ككل مقدس. يجب حماية هذه الاختلافات — الفصل بين المدنس والمقدس — من خلال مراقبة الحد الفاصل، وهذا قد يتحقق من خلال منع الوصول المباشر أو من دون وسيط إلى القائد أو من خلال ارتداء القائد ملابس معينة أو أي مظاهر أخرى دالة على الاختلاف. وبالطبع، تمثل الثقافات المختلفة آليات فصل مختلفة، وبالطبع مفاهيمَ مختلفة لمسافة البعد المقبولة، غير أن بعض أشكال البعد — سواء أكانت رمزية أم مادية، وسواء أكنا نتأمل قيادة معنية بالمهام أو قيادة معنية بالأشخاص — تبدو عالمية. على سبيل المثال، كان يُلاحظ على هتلر بساطة ملبسه، الأمر الذي ميزه عن باقي القادة النازيين في ملابسهم المبالغة في التفاخر التي تمتلئ بالأوسمة والنياشين، وهذا ما ربطه ﺑ «العامة»، على الرغم من أنه لم يكن «واحدًا منهم» على الإطلاق.
ثمة فكرة مفادها أن القيادة تتضمن بعض آليات «التباعد» بين القائد والأتباع، وهي فكرة مألوفة، خصوصًا الاعتقاد أن القادة القريبين أفضل من القادة البعيدين. على النقيض من ذلك، كان مكيافيلي حريصًا على الإشارة إلى أن الابتعاد نصيحة مفيدة لمنع الأتباع من إدراك طبيعة القادة «المشوبة بالأخطاء»؛ لأن:

الناس عمومًا يحكمون بعيونهم أكثر من أيديهم؛ حيث إن الجميع يستطيع أن يرى ولكن القليلين هم من باستطاعتهم أن يشعروا. فالجميع يرى ما الذي تبدو عليه، لكن قليلين هم من يلمسونك، وهؤلاء القلة لا يجرءون على معارضة رأي الكثيرين الذين يحظون بهيبة الدولة للدفاع عنهم.

لهذا تداعيات عميقة لمن يسعون لأن يصبحوا قادة؛ لأن القدرة على الحفاظ على البعد، وخاصةً منع الآخرين من الاقتراب منك والاحتفاظ بنفسك بعيدًا عن أنظارهم، أمر مهم للحفاظ على هيبة القيادة، مثلما حدث مع ساحر أوز بعد أن سقط الستار الذي يخفي طبيعته «العادية».
إن البعد وسيلة لتسهيل اضطلاع القادة بالمهام البغيضة والضرورية وإفساح حيز لرؤية الأنماط التي تتعذر رؤيتها حين يكون المرء على مقربة شديدة من الأتباع أو على مقربة من الحدث، وهو موضوع تناوله هافيتز ولينسكي بالاستعارة المكنية: «الخروج إلى الشرفة» لرؤية المشهد على نحو أكثر وضوحًا.

وعلى الرغم من أن البعد ربما كان أمرًا مهمًّا للقيادة في أزمنة سابقة، فإن الاتجاه المعاصر في الأنظمة الديمقراطية بالغرب، على الأقل تحت أضواء وسائل الإعلام المتاحة ٢٤ ساعةً، هو ترسيخ صورة القيادة التي تحد من التباعد الاجتماعي؛ هكذا خرج توني بلير للتحدث إلى وسائل الإعلام خارج مكتبه بداونينج ستريت وهو يرتدي كنزة صوفية ويمسك بكوب من الشاي — كما لو أنه «واحد منا» — على الرغم من أن قلة قليلة منا هم من قد يفعلون ذلك أمام الصحافة العالمية، وأقل هم من يمكن أن ينادونه باسمه «توني» مباشرة، سواء أكانوا أصدقاء أم أعداء.

ومع ذلك، يرى كولينسون أن الإفراط في التركيز على القادة أصحاب الكاريزما يجعلنا نهمل إمكانية أن المسافة تمنح الأتباع أيضًا فرصًا مهمةً «لتكوين بديل وهويات أكثر معارضة وثقافات مناهضة في بيئة العمل تعبر عن التشكيك في القادة وتباعدهم عن الأتباع». وهذا يتضح على وجه الخصوص في طريقة استخدام الدعابة لإبعاد الأتباع عن القادة، على الرغم من أن هذا قد يشجع الأتباع على الإذعان لقادتهم كوسيلة للتنفيس عن إحباطهم بدلًا من تنظيم مقاومتهم.
إن الفصل بين القادة والأتباع يوضح بصورة جلية طبيعة عدم التكافؤ أو التفاوت الذي يمثل أساسًا من أسس القيادة، على الرغم من الغموض الذي يكتنف القيادة بالتفويض أو القيادة الموزعة أو الديمقراطية أو القيادة بالمشاركة. وبالطبع، فإن هارتر وزملاءه يشيرون إلى أن عدم التكافؤ أمر شرعي وضروري وهو ما يولد تفاوتًا مفيدًا على نحو متبادل، شريطة الحفاظ على تدابير احترازية معينة. ومسألة «احتياج» هذا التفاوت الموجود في صميم القيادة لأن يكون شرعيًّا في حد ذاته وعلى نحو تام قد تفسر أيضًا لماذا يبدو أن لدينا نوعًا من تقديس القيادة؛ لأنه يجب التعامل معها باعتبارها مقدسة من أجل الحفاظ على شرعيتها.
وربما يفسر هذا أيضًا درجة العنف المستخدم ضد هؤلاء الذين يمتلكون الجرأة لتحدي القيادة التي تعتبر مقدسة على نحو صريح؛ ذلك لأنه لا يمكن الحفاظ على القداسة إلا إذا تم التعامل بشدة مع هؤلاء الذين يقدمون على الإساءة إلى القداسة، أي هؤلاء الذين يقدمون على التدنيس. ومن ثم عوقب داميان الذي أقدم على محاولة اغتيال ملك فرنسا بالإعدام الوحشي كما حكى لنا الفيلسوف الفرنسي فوكو في كتاب له بعنوان «التأديب والعقاب». ويلعب التدنيس — تخطي الخط الفاصل بين المقدس والمدنس؛ أي تلويث المقدسات — دورًا مهمًّا في بناء القيادة وأيضًا يعتبر هجومًا عليها. على سبيل المثال: فتحت انتقادات جورباتشوف للحزب الشيوعي السوفييتي — أي تدنيس ما هو مقدس — الباب على مصراعيه أمام المزيد من الانتقاد الذي عصف في نهاية المطاف بالاتحاد السوفييتي نفسه. فإلى أن جاء هجومه اللفظي على الملأ، لم تكن سوى القلة القليلة هي التي تجرؤ على انتقاد الحزب، ولكنه بمجرد أن منح الإذن للآخرين بالمشاركة في الانتقاد، دُمِّرَ الكيان المقدس للحزب الشيوعي على نحو لا يمكن التعافي منه. وربما يمكن قول الشيء نفسه عن توني بلير، الذي استهل استنكاره للمادة الرابعة (الملكية العامة لوسائل الإنتاج والتوزيع والتبادل) في مؤتمر حزب العمال البريطاني عام ١٩٩٤ عملية تحويل حزب العمال إلى العمال الجديد.

ومن ثم فإن هناك جانبًا مهمًّا خاصًّا بالمقدس وهو أنه يتضمن بالضرورة الفصل بين المقدس والمدنس؛ يجب أن يكون هناك تباعد بين الاثنين حتى يكون للفصل معنى، على الرغم من أن الطبيعة الدقيقة للفصل تتسم بالمرونة الشديدة وعرضة للتفاوت باختلاف الثقافات. في الواقع، ربما كان «الاختلاف»، لا «البعد»، طريقة أفضل لفهم أهمية التمييز في هذا المقام. فربما كان البعد المادي أو الرمزي بين القائد والتابع كبيرًا أو صغيرًا، ولكن الاختلاف بين الاثنين ربما يكون مفتاح النجاح. بعبارة أخرى، هل لو أُزيل الاختلاف، بحيث لا يكون هناك قادة لأن الجميع قادة أو ليس هناك من قائد، تختفي القيادة حينئذٍ؟ لا نلمح بهذا إلى أن بعض الأشكال المؤسسية لا يمكنها الاستمرار بلا قيادة في ظل ظروف معينة، وإنما أن القيادة لا يمكنها الصمود بدون وجود اختلاف. الاختلاف عنصر أدائي من عناصر القيادة، وليس مظهرًا خارجيًّا تافهًا للدلالة على المكانة.

(٢) التضحية

التضحية في المجتمعات القديمة، بالطبع، أمر مألوف بقدر ما تراه المجتمعات المعاصرة أمرًا مستهجنًا. فبينما كانت إمبراطورية الأزتيك تقدم المئات كقرابين لإله الشمس ويلبسون جلود ضحاياهم، كان الرومان والإغريق القدماء والسلتيون والقرطاجيون والأفارقة والآسيويون، وكل جماعة أخرى تقريبًا، ينغمسون في دماء البشر والحيوانات؛ لاسترضاء آلهتهم، أو لحماية القبيلة، أو لضمان الخصوبة، أو المؤن الغذائية، أو لضمان أن القبيلة المهيمنة لن تخرب أرضك، أو لمجرد ضمان طاعة الأتباع الخانعين. وكانت أعراف ديانة الفارماكوس الإغريقية القديمة تتضمن طقوسًا لتقديم كبش فداء من البشر — بالنفي أو ربما الإعدام — يقوم بها المجتمع الذي يواجه خطر الحرب أو المجاعة.

(٢-١) كبش الفداء

تشكل الضرورة الشعائرية لتقديم كبش الفداء جوهرًا أساسيًّا لأعمال رينيه جيرارد وترتبط بدور المحاكاة، أي رغبة البشرية في تقليد بعضها لبعض. تؤدي استباحة الآخرين في النهاية إلى تجريد الآخرين من ممتلكاتهم؛ منافسة لا مفر منها ورد فعل عدواني وعنف اجتماعي معمم ومترتب على ما سبق. ويشير جيرارد إلى أنه على مدار آلاف السنوات استطاعت الإنسانية احتواء هذه النزعة «الطبيعية» للعنف الاجتماعي من خلال تقديم القرابين من الأفراد. في الواقع، يطهر القتل البدائي لكباش الفداء المجتمع من عنف اجتماعي أعظم ويوفر حالة مؤقتة من السلم، إلى أن تتطلب الدورة التالية من المنافسة التي تتسم بالتقليد وعدوى العنف كبش الفداء التالي. ومن ثم كان الحل الوحيد أمام معضلة هوبز «حرب الكل ضد الكل» هو تضييق نطاق التركيز للوصول إلى «حرب الكل ضد واحد». وكانت كريستيفا محقة بالطبع، فكثيرًا ما يُضحى بالمرأة للحفاظ على قيادة الرجال؛ كما تشير ضمنيًّا «جرائم الشرف» المزعومة، على سبيل المثال. وغالبًا ما يصير المضحي أضحية، خاصة الملوك، مثل تشارلز الأول ملك إنجلترا ولويس السادس عشر ملك فرنسا، وكذلك أيضًا بعض القادة الذين كانت سياستهم موجهة للإطاحة بهؤلاء الملوك، مثل روبسبير أو حتى كرومويل الذي توفي لأسباب طبيعية، ولكن أُخرج بعد ذلك من قبره وعُلِّق جسده في سلاسل في حين عُرِضَ رأسه على سارية خارج كنيسة وستمينستر.
غير أننا لسنا بحاجة إلى تقييد أنفسنا بالموت الفعلي للاعتراف بأن تقديم القرابين لا يزال يلعب دورًا مهمًّا في القيادة، وخاصة في تقديم كباش الفداء من القادة أو الأتباع؛ فالأنظمة الديمقراطية كثيرًا ما تقدم قادتها السياسيين كأكباش فداء لفشلهم السياسي، وكثيرًا ما يقدم المديرون التنفيذيون جزءًا من موظفيهم كأكباش فداء حين تظهر المشكلات، أو يقدم المساهمون المديرين التنفيذيين أنفسهم كأكباش فداء. وأكباش الفداء التي تهرب من التضحية الحتمية تنفى أو تُتجنب أو تُعاقب أو تُحط رتبهم أو يُصرفون من الخدمة أو يُسجنون، وكل هذه الإجراءات تسبقها محاكمة صورية بأي شكل من الأشكال، ومن ثم يقدم كبش الفداء في أوسع ميدان عام، ولا يجب أن تتم التضحية وحسب، بل يجب أن تُرى وهي تُنفذ. وأكرر مرة أخرى أن التضحية غير الدموية قد تتمثل في تضحية القائد بنفسه. على سبيل المثال: وعد المدير التنفيذي لشركة فورد في عام ٢٠٠٩، آلان مولالي، بإدارة الشركة مقابل دولار واحد في العام لو قدم الكونجرس مساعدة مالية في عام ٢٠٠٩.

بالطبع، نحن نقدم تضحيات طوال الوقت؛ فنضحي باستراحة الغداء للتخلص من رسائل البريد الإلكتروني غير المرغوبة، ونضحي بالنوم حتى وقت متأخر في صبيحة أيام الأحد للعناية بالحشائش وجزها وهلم جرًّا. بيد أن التضحية التي أشير إليها هنا هي التضحية من أجل المصلحة العامة. ومن ثم فإن تضحياتنا الشخصية العادية التي لا تشتمل أي تأثير على العلاقة بين القادة والأتباع غير متضمنة في هذه الفئة. فالامتناع عن كعكة الكريمة من أجل صحتك لا تتساوى مع التضحية بالخباز من أجل تحسين الروح المعنوية الجماعية في المخبز. ولا تُعد التضحية جانبًا مشئومًا ومحرجًا لبعض الطواغيت غير الأخلاقيين أو السيكوباتيين، ولكنها آلية ضرورية لأداء أشكال القيادة كافة. فالتضحية تخلق الحيز المقدس الذي لا يمكن أن توجد القيادة بدونه.

(٣) السكوت

يشتمل الجانب المقدس للصمت على عدة مبادئ تتعدى مجرد إفساح المجال للتأمل؛ إسكات المعارضة وإسكات المخاوف. أما الأول، فموثق على نحو جيد (على سبيل المثال توثيق كولينز وأكرويد الوارد في جزء المزيد من القراءات) ولسنا بحاجة إلى تعطيل أنفسنا بالاستغراق في هذا الصدد.

في الأساس يتعارض مفهوم القيادة المتعلقة بكل ما هو مقدس مباشرةً مع الوجودية، التي تقف على طرف النقيض من الناحية الفلسفية والتي تقول إننا لسنا نتيجة تدبير الرب ولكننا نتيجة تصرفاتنا الحرة الواعية. ومع ذلك، هذا الاتجاه يشير ضمنيًّا إلى أن الشعور بالقلق الناشئ عن الشك والتخبط هو تحديدًا السبب في جعل المسئولية عبئًا ثقيلًا للغاية. حين نؤمن بالقدر الذي قضى به الرب، فإن المسئولية تُزاح عن كاهلنا نظرًا لأن كل ما نفعله كتبه بالفعل الإله الذي يتولى المسئولية. ولكن إذا كان كل ما نفعله هو نتيجة للإرادة الحرة الطليقة التي لا تقيدها مبادئ أخلاقية مستقاة من الإله، فسنبدو مسئولين عن قراراتنا ومنحرفين عن أي قبلة أخلاقية أساسية نتخذ بها تلك القرارات. الحقيقة المطلقة والحل من الواجب هما الشيئان اللذان تعد بهما أرض القيادة الأسطورية هذه وتلك الاتفاقية المزدوجة المعقودة مع الشيطان. فبالنسبة للقادة، تُبادل الاتفاقية الامتياز والسلطة في اللحظة الراهنة بالتضحية فيما بعد؛ أما بالنسبة للأتباع، فإن الاتفاقية تتضمن غطاء أمان من «سوء النية»، أو ما قال عنه جان بول سارتر «تعريض الحرية للخطر» الذي يكمن وراء أكثر القرارات يأسًا بين شرين متبادلين. في الواقع، تخرس القيادة مخاوف الأتباع.
يشير إريك فروم إلى أن الخوف من الحرية كان تفسيرًا جوهريًّا لخضوعنا القهري للسلطة. من وجهة نظر فروم، اجتثت الحداثة جذور العلاقات المشتركة مع الآخرين، ومن ثم كانت هناك الوحدة التي لا يمكن تحملها وما ترتب عليها من عبء المسئولية الذي جعلنا نسعى وراء السلوان بين أذرع السلطة الحامية، أو القادة الذين كانوا فاشيين أو ديمقراطيين؛ لأنه بهذه الطريقة وحدها يمكننا أن نتجنب الخوف الناشئ عن تحمل المسئولية الشخصية.
fig20
شكل ٨-١: معضلة الحرية. (© Mark Ruchlewicz/Getty Images)

إلى أين وصلت القيادة؟ من جانب، يمكننا الاستغناء عن القادة إذا رغبنا في تنظيم الحياة الاجتماعية وفق شبكات مؤقتة ومحدودة النطاق، غير أن أي شيء أكبر لو استمر مدة أطول يبدو أنه يتطلب نوعًا من القيادة ذات الطابع المؤسسي. الخبر السار أننا بحاجة الآن إلى التركيز على آليات تحميل القادة على مستوى الفرد والجماعة المسئولية وخلق المواطنة التي تتسم بتحمل المزيد من المسئولية والأكثر استعدادًا للانخراط في القيادة. والخبر السيئ يتمثل في أن هناك شكوكًا كثيرة تشوب افتراض أن القيادة التعاونية ليست عرضة للتلاعب والفساد مثل القيادة الفردية. ولا يمكننا تحقيق استجابات منسقة للمشكلات المزعجة للقيادة الجماعية من خلال أن ندير ظهورنا للقيادة الفردية، فحتى القيادة التعاونية تتطلب أفرادًا لأخذ الخطوات الأولى والاضطلاع بالقيادة وتفعيل القيادة الجماعية. في الواقع، يجب على أفراد الجماعة أن يخولوا سلطة القيادة بعضهم لبعض لأن الجماعة تشتهر بكونها سيئة في اتخاذ القرارات. ومن ثم فإن القيادة ليست المشكلة التي يتحاشاها الكثيرون، ولكنها الحيز الذي لا يمكن الاستغناء عنه. وهذا ما يطلق عليه بومان: «صمت المسئولية الذي لا يمكن تحمله.» وهذا هو التحدي الماثل أمامنا على مستوى الفرد والجماعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤