الفصل السادس

حلول مختلفة

أدرك مفكرو القرن التاسع عشر أنَّ التقدُّم الظاهر في المجتمع الغربي، وما عند هذا المجتمع من ثروة وقوة سياسية، إنَّما يُخفي وراءه بوادر الانهيار والانحطاط. وقد كان هؤلاء المُفكِّرون في نقدهم للمجتمع — سواء كان من رأيهم أنَّ الانهيار ظاهرة طبيعية لكل مجتمع يبلغ ذروته، أو أنَّه عَثْرة يُمكن النهوض منها — دِينيين إنسانيين يَسْمُون فوق الواقع، ولم يكونوا من النِّسْبِيِّين الذين يقولون بأنَّ المجتمع الذي يُؤدِّي وظيفته مجتمع طيب سليم، وأنَّ الفرد الذي ينسجم مع المجتمع سليم صحيح العقل. كان بركهارت وبرودون وتولستوي وبودلير وماركس وكروبتكن يؤمنون بأنَّ الإنسان بطبيعته مُتديِّن خلقي، وأنَّ الإنسان هو الغاية، ولا ينبغي قط أن يُستخدم كوسيلة، وأنَّ الإنتاج المادي يجب أن يكون في خدمة الإنسان، ولا يكون الإنسان في خدمة الإنتاج المادي، وأنَّ الهدف من الحياة هو الكشف عن قوى الإنسان الخالقة المُبدِعة، والغرض من التاريخ هو تحويل المجتمع إلى مجتمع يحكمه الحق والعدالة والإنصاف. تلك هي المبادئ التي أُقيم على أساسها كل نقد للرأسمالية الحديثة تصريحًا أو تلميحًا.

وهذه المبادئ الدينية الإنسانية كانت أساس كل اقتراح يهدف إلى إقامة مجتمع أفضل. ولم يكن رجال الدين هم دعاة الإصلاح على هذه القواعد الدينية، بل لقد كان دعاته في المائتي سنة الأخيرة جماعة من المُفكِّرين كثيرًا ما اتُّهموا بالزندقة والانحراف عن أصول الدين. وانحصر نشاط رجال الدين في الوعظ بالكنائس. أمَّا الدين بمعنى العمل على الإصلاح في حماسة وإيمان فقد حملت شعلته فئة لا تَمُت إلى الوظائف الدينية بصلة.

ولكي نُوضِّح ما ذكرنا يجب أن نعرض بعض الظواهر البارزة في تطوُّر الثقافة الغربية المسيحية. لم يكن للتاريخ عند الإغريق هدف أو غاية، ثمَّ كانت الفكرة اليهودية المسيحية عن التاريخ وهي أنَّه يرمي إلى خلاص الإنسان. وكان رمز هذا الخلاص النهائي هو المسيح. وترجع هذه العقيدة في جذورها إلى الأسطورة الإنجيلية عن آدم وحواء. ومَغزى هذه الأسطورة في إيجاز، هو أنَّ الإنسان كان في الأصل مُتَّحدًا مع الطبيعة، ولم يكن هناك بينه وبينها نزاع، كما لم يكن بين الرجل والمرأة نزاع. ولكن الإنسان كانت تنقصه — برغم ذلك — أهم صفة إنسانية، وهي معرفة الخير والشر. ومن ثَمَّ كان عاجزًا عن إصدار قراراته بِحرية مع تحمُّل ما يترتَّب عليها من تَبِعات. وكان أول عمل من أعمال التحرُّر هو كذلك أول عمل من أعمال العصيان، وذلك هو بداية التاريخ الإنساني، ثمَّ طُرد الإنسان من الجنة، وفَقَد انسجامه مع الطبيعة، ووقف على قدميه، ولكنَّه ما برح ضعيفًا، وعقله لا يزال ناقصَ التطوُّر، وقدرته على مقاومة الإغراء ما فَتِئَت ضعيفة كذلك. فكان لا بُدَّ له من أن يُطوِّر عقله، وأن ينمو إنسانًا كاملًا كي يُحقِّق لنفسه صورة جديدة من صور انسجامه مع الطبيعة، ومع نفسه وزملائه. وباتَ الغرض من التاريخ أن يولد الإنسان ميلادًا كاملًا، وأن تكون إنسانيته إنسانية كاملة. فإن تمَّ له ذلك صارت الأمم جميعًا مجتمعًا واحدًا، وتحوَّلت سيوف القتال إلى محاريث الأرض. فإن حدث ذلك لم يكن ثَمَّة ما يدعو إلى معجزة من السماء. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا بُدَّ للإنسان من أن يقع في عديد من الأخطاء، ولا بُدَّ له من أن يزِلَّ، وأن يتحمَّل مسئولية زَلَله. في هذه العقيدة لا يتصوَّر الإنسان أنَّ الله يحل له مشكلاته إلَّا بمقدار ما يكشف له عن الغرض من حياته. وعلى الإنسان أن يُخلِّص نفسه بنفسه، وعليه أن يُولِّد نفسه بنفسه. وفي نهاية العالم يقوم نوع جديد من الانسجام بين الطبيعة والإنسان، وينشأ على الأرض السلام، وتزول النِّقمة التي لحقت بآدم وحواء عندما يصل الإنسان في تاريخه إلى أسمى مراتبه.

وهناك تفسير آخر لفكرة الخلاص في المسيحية، وهو أنَّ الإنسان لا يستطيع قط أن يُخلِّص نفسه من الفساد الذي قاساه نتيجة لعصيان آدم. ولا يستطيع أن ينقذ الإنسان إلَّا الله وحده بمعجزة من عنده. وطريقته في ذلك حوله في شخص المسيح الذي ضحَّى بحياته لينقذ الإنسان. وبالعشاء الرباني في الكنيسة يسهم الإنسان في الخلاص، ويظفر بمزايا المعجزة الإلهية. وتكون نهاية التاريخ بعودة المسيح، وهو حادث غير طبيعي وليس من تطوُّر التاريخ.

وقد ساد هذا الرأي في ذلك الجزء من العالم الغربي الذي كانت للكنيسة الكاثوليكية فيه السيادة. أمَّا في بقية أنحاء أوربا وأمريكا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فلم يكن التفكير الديني بكل هذه القوة، بل لقد تميَّز المُفكِّرون في هذه الأنحاء — فيما يُسمَّى في تاريخ الفكر بعصر النور — بكفاح مرير ضد الكنيسة ورجالها، وزيادة في الشكوك، وإنكار الآراء الدينية في النهاية. بيد أنَّ هذا الإنكار لم يكن إلَّا صورة جديدة من الفكر تُعبِّر عن الحماسة الدينية القديمة، وبخاصةً فيما يتعلَّق بمعنى التاريخ والغرض منه. وبِاسْم العقل والسعادة، وبِاسْم الحرية والكرامة الإنسانية، وَجدَت الفكرة المسيحية تعبيرًا جديدًا.

وفي فرنسا وضع كندرسيه في عام ١٧٩٣م أساس العقيدة في الكمال النهائي للجنس البشري، الذي ينتهي بعصر جديد من العقل والسعادة، كمال ليس له حدود، وكانت رسالة كندرسيه هي التبشير بمملكة المسيح، وكان لهذه الرسالة أثرها في حماسة الثورة الفرنسية، التي كانت في الواقع حماسة مسيحية في لغة دنيوية.

وحدث في الفلسفة الجرمانية نفس الانتقال من الفكرة الدينية عن الخلاص إلى التعبير الدنيوي. فكان لسنج يعتقد أنَّ المستقبل هو عصر العقل وتحقيق الذات، الذي ينشأ عن تربية الجنس البشري، وبذلك يُحقِّق ما وعدت به المسيحية من الكشف للإنسان عن الحقيقة. ولم تكن فلسفة هجل وماركس إلَّا الديانة المسيحية في لغة دنيوية. وليس التاريخ القديم بأسره إلَّا تاريخ انفصال الذات البشرية عن الطبيعة، وليس إلَّا مُقدِّمة للتاريخ الحقيقي للإنسان، ولتاريخ الحرية، الذي يبدأ بتطبيق النظام الاشتراكي. وليس المجتمع اللاطبقي الذي تسوده العدالة والأُخوة والعقل إلَّا بداية لعالم جديد، كان التاريخ السابق كله يتجه نحو تكوينه.

والغرض الأساسي من هذا الفصل من فصول الكتاب هو أن أُقدِّم للقارئ الآراء الاشتراكية باعتبارها أكبر محاولة لإيجاد حل لمساوئ الرأسمالية.

الاشتراكية

النظرية الاشتراكية هي مُحاولة للثورة على النظام الرأسمالي البالي ونقده وبيان عيوبه. والاشتراكية أساسًا رأي نظري، إذا قورنت بالفاشية أو الاستالينية اللتين أصبحتا وقائع سياسية واجتماعية، وذلك بالرغم من أنَّ الحكومات الاشتراكية استولت على السُّلطة لفترات قصيرة أو طويلة في إنجلترا واسكنديناوة؛ وذلك لأنَّ الأغلبية التي استند إليها حكمهم كانت صغيرة إلى درجة لم تُمكِّنهم من تطوير المجتمع طبقًا لبرنامجهم إلَّا إلى حدٍّ ضئيل جدًّا.

وتكتسب — لسوء الحظ — كلمات «الاشتراكية» و«الماركسية» وأمثالهما في هذه الأيام معانِي لا تحتملها مِمَّا يجعل بحث هذه الموضوعات أمرًا عسيرًا. فالمعاني التي تُثيرها هذه الكلمات اليوم عند كثير من الناس هي معاني «المادية» و«الكفر بالله» و«إراقة الدماء» وما إليها، أو باختصار هي معاني السوء والشر. ولا غرابة في هذا؛ لأنَّ الناس في هذه الأيام يلقون أحكامهم على عواهنها دون دراسة أو تعمُّق. وبالرغم من توفُّر الكتب عن نظريات ماركس والاشتراكيين الآخَرِين فإنَّ أكثر المعارِضِين للاشتراكية والماركسية لم يقرءوا كلمة واحدة لماركس، ومعرفتهم به سطحية إلى أبعد الحدود. وما لم يكن الأمر كذلك ما تشوَّهت الآراء الاشتراكية والماركسية إلى هذا الحد الكبير الذي نلمسه اليوم. وكثيرون يعتقدون أنَّ الماركسية نظام يستند إلى أنَّ الاهتمام بالكسب المادي هو أقوى الدوافع عند الإنسان، وأنَّها تهدف إلى اطراد الزيادة في النَّهم المادي، وإشباع هذا النهم. وإذا تذكَّرنا أنَّ أقوى الحُجج التي تُساق لتأييد الرأسمالية هي أنَّ الاهتمام بالكسب المادي هو الدافع الأساسي للعمل، أدركنا في سهولة أنَّ المادية التي تُعزى إلى الاشتراكية هي من أقوى مميزات الرأسمالية. وإذا جشَّمنا أنفسنا مشقة دراسة الكُتَّاب الاشتراكيين دراسة موضوعية تبيَّن لنا أنَّ اتجاههم على نقيض ذلك تمامًا، فهم ينتقدون الرأسمالية لماديتها، ولآثارها التي تقف عقبة في وجه القوى البشرية الحقيقية لدى الإنسان. والواقع أنَّ الاشتراكية في مذاهبها المختلفة حركة من الحركات الهامة المثالية الخلقية في عصرنا الحديث.

وهناك فروق كبيرة بين مدارس الفكر الاشتراكي المختلفة كما تطوَّرت منذ نهاية القرن الثامن عشر، وهي فروق هامة لها دلالتها. بيْد أنَّ الاتفاق بين مختلف المفكرين الاشتراكيين أكبر وأهم مِمَّا بينهما من خلاف. ولكن حدة الجدل بين مُمثلي المدارس المختلفة يطمس أوجه التشابه بينها، وهي ظاهرة ملموسة في تاريخ الفكر البشري في مختلف النواحي.

ويُمكن أن يُقال: إنَّ الاشتراكية كحركة سياسية، وكنظرية تُعالج — في الوقت نفسه — قوانين المجتمع وتُشخِّص ما يُعانيه من أمراض، بدأت بِبَابِيف إبان الثورة الفرنسية. فهو يُؤيِّد إلغاء المِلكية الفردية للأرض، ويُطالب بالاستهلاك المشترَك لثمار الأرض، وبإلغاء الفارق بين الغني والفقير، والحاكم والمحكوم. ويعتقد أنَّ الحين قد حان لقيام جمهورية أساسها المساواة بين الناس، أو — على حد تعبيره — إنشاء «البيت الكريم الذي يفتح أبوابه للجميع.»

ويُقدِّم لنا شارلس فورييه نظرية أخرى أشد تعقيدًا من هذه النظرية البدائية الساذجة، ويتعمَّق تشخيص المجتمع، فيضع الإنسان وميوله أساسًا لكل إدراك سليم للمجتمع. ويعتقد أنَّ المجتمع الصحيح لا يخدم زيادة الثروة المادية بمقدار ما يخدم تحقيق ميول الإنسان الأساسية، ويُعزِّز صلات المحبة الأخوية بين الناس. ومن بين الميول البشرية يهمه بنوع خاص ما يُسمِّيه «ميل الفراشة» أي حاجة الإنسان إلى التنقُّل من حال إلى حال، حتَّى يستطيع أن يجد مجالًا للإمكانيات الكثيرة المُتنوِّعة التي تُميِّزه ككائن بشري. ويجب — عند فورييه — أن يكون العمل مُتَّفقًا مع ميل المرء، فيصير متعة من المتع، ولا يزيد مداه عن ساعتين كل يوم، يُمارس بعدها المرء لونًا آخر من ألوان النشاط. ويعترض فورييه على الأعمال المحتكرة الكبرى في جميع فروع الصناعة، ويقترح عوضًا عنها إنشاء جمعيات تعاونية، في ميادين الإنتاج والاستهلاك، ينتمي إليها الأعضاء في حرية وعن طواعية، ويجد فيها المرء مجالًا لشعوره بفرديته ورغبته في العمل المشترَك في آنٍ واحد بدافع من نفسه، دون أن يُفرض عليه من خارج نفسه نظام بعينه. وبهذه الطريقة وحدها يُمكن للمرحلة التاريخية الثالثة، مرحلة الانسجام، أن تحل محل المرحلتين السابقتين، مرحلة المجتمعات التي تقوم على أساس العلاقة بين العبد والسيِّد، والمرحلة التي تقوم على أساس العلاقة بين المأجورين وأصحاب المشروعات.

وبينما كان فورييه رجلًا نظريًّا مُتحيِّزًا لناحية معينة، كان روبرت أوين رجلًا عمليًّا في رأيه. كان مُديرًا ومالكًا لمصنع من أحسن مصانع النسيج إدارة في اسكتلندا. والهدف من مجتمع جديد عند أوين — كذلك — لم يكن زيادة الإنتاج أولًا، وإنَّما كان النهوض بخير ما في الوجود، وهو الإنسان. وكان أوين كفورييه يبني تفكيره على اعتبارات سيكولوجية لشخصية الإنسان. فالناس يُولدون بصفات بدنية مُميَّزة، ولكن صفاتهم الخلقية تخضع قطعًا للظروف التي يعيشون فيها دون غيرها. فإذا كانت ظروف الحياة الاجتماعية طيبة مرضية، نمت وازدهرت الفضائل الكامنة في شخصية الإنسان. ويعتقد أوين أنَّ الناس كانوا يتدربون في كل ما مضى من التاريخ إمَّا على الدفاع عن أنفسهم أو على القضاء على غيرهم، فحسب. ولا بُدَّ من خلق نظام اجتماعي جديد يتدرَّب فيه الناس على مبادئ تسمح لهم بالعمل مُتَّحِدِين، كما يتدرَّبون على إيجاد روابط بين الأفراد واقعية صادقة. يجب أن تنشأ مجموعات فيدرالية تتكوَّن الواحدة منها من عدد يتراوح بين الثلاثمائة والألفين؛ وتنتشر هذه المجموعات في كل مكان، وتنظم طبقًا لمبدأ التعاون الجماعي، بين أفراد المجموعة الواحدة، وبين المجموعات بعضها مع بعض. وفي كل مجموعة من هذه المجموعات تقوم الحكومة المحلية بعملها في انسجام وثيق مع كل فرد من أفرادها.

ویكیل برودون فيما كتب أشنع التهم لمبدأ التحكُّم وتسلسل السُّلطات. والمشكلة الأساسية عنده لا تنحصر في استبدال نظام سیاسي بآخر، وإنَّما هي بناء نظام سياسي يُعبِّر عن المجتمع نفسه. ويرى أنَّ السبب الرئيسي لكل عيوب المجتمع وأمراضه هو إقامة السُّلطة على أساس حكم الفرد والتمييز بين الطبقات، ويعتقد في عبارته «أنَّ الحد من واجبات الدولة مسألة حياة أو موت بالنسبة للحرية، سواء كانت حرية الجماعة أو حرية الفرد.»

وهناك آخرون كثيرون غير هؤلاء لهم مذاهبهم الاشتراكية الخاصة، ولكني أكتفي منهم بذكر آراء ماركس وإنجلز. وتقتضي مناقشة نظرياتهما مجالًا أوسع مِمَّا أفسحنا لغيرهما من الكُتَّاب الاشتراكيين، أولًا؛ لأنَّ آراءهما أشد تعقيدًا، وأكثر تناقضًا، وأوسع مدًى فيما تتعرَّض له من موضوعات. وثانيًا؛ لأنَّ مدرسة ماركس الاشتراكية أصبحَت هي المذهب السائد في التفكير الاشتراكي في جميع أنحاء العالم.

يهتم ماركس أساسًا — كغيره من الاشتراكيين — بالإنسان. وقد كَتب مرة يقول: «إنَّ الانقلاب معناه أن نصل إلى الجذور، والجذور هي الإنسان نفسه.» وليس تاريخ العالم سوى خلق الإنسان وتطوُّر الإنسانية، هو تاريخ ميلاد الإنسان ميلادًا كاملًا. بيد أنَّ التاريخ كله هو كذلك تاريخ انفصال الإنسان عن طبيعته، وعن قواه الإنسانية. «إنَّ إنتاج الإنسان كله يَتِّجه نحو تحقيق ما تهدف إليه قوة خارج أنفسنا، تُهيمن علينا، ولا تخضع لسلطاننا، بل وتتحدَّى أمانينا، وتقضي على كل ما نقدر ونحسب لأنفسنا. وهذا التوجيه عامل من العوامل الرئيسية في تطوُّر ما انقضى من تاريخ الإنسان.» فالإنسان — في الواقع — يخضع للظروف، في حين أنَّه ينبغي أن يُسيطر عليها بحيث يُصبح «في نظر نفسه أرقى الكائنات». والحرية — عند ماركس — ليست هي التحرُّر من الظلم السياسي فحسب، بل هي أيضًا التحرُّر من سيطرة الظروف والأشياء على الإنسان. والرجل المُتحرِّر هو الرجل الغني، ولا أقصد بالغنى المعنى الاقتصادي، وإنَّما أقصد الغنى بالمعنى الإنساني. الرجل الغني عند ماركس هو الرجل الغني بنفسه وليس الرجل الغني بما يملك.

إنَّ تحليل المجتمع وسير التاريخ يجب أن يبدأ بالإنسان الواقعي المحسوس، بصفاته الفسيولوجية والسيكولوجية، وليس بفكرة مُجرَّدة. يجب أن يبدأ بفكرة عن جوهر الإنسان، ولا نفيد من دراسة الاقتصاد والمجتمع إلَّا أن نفهم كيف كانت الظروف سببًا في شلل الإنسان، وكيف أصبح الإنسان أداة منفصلة عن طبيعته وعن قواه. وينبغي أن يكون هدفنا في البحث أن نعرف ما هو الخير للإنسان.

إنَّ الهدف من تطوُّر الإنسان — عند ماركس — هو إيجاد حالة جديدة من الانسجام بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة. ويجب في تطوُّر الإنسان أن يتفق نوع العلاقة بين الفرد والفرد وأهم حاجات الإنسان الطبيعية. والاشتراكية — عند ماركس — هي «مجتمع التطوُّر الحر فيه لكل فرد شرط لا بُدَّ منه للتطوُّر الحر للجميع.» ومجتمَع «القاعدة السائدة فيه هي التطوُّر الكامل الحُر لكل فرد من الأفراد.» ويصف ماركس هذا الهدف بأنَّه تحقيق للمذهب الطبيعي وللمذهب الإنساني، وهو هدف يختلف عنده «عن المثالية كما يختلف عن المادية، وإن كان يجمع بين ما في كل منهما من حق.»

وكيف يُمكن — في رأي ماركس — أن يتحقَّق هذا «التحرير للإنسان»؟ إنَّ حل المشكلة عند ماركس يقوم على أساس الزعم بأنَّ انفصال الإنسان عن طبيعته قد بلغ شدته في ظل نظام الإنتاج الرأسمالي؛ لأنَّ نشاط الإنسان البدني أصبح في هذا النظام سلعة من السلع، ومن ثمَّ فَقدْ بات الإنسان شيئًا من الأشياء. ويقول ماركس: إنَّ الطبقة العامِلَة هي أكثر طبقات السكان انفصالًا في حياتها عن طبيعتها، وهي من أجل ذلك الطبقة التي سوف تقود حركة الكفاح في سبيل تحرير البشرية. وهو يرى أنَّ الإنسان لكي يتحوَّل إلى إنسان مُساهم فعَّال مسئول في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، ولكي يتغلَّب على القطيعة بين الفرد وطبيعته الاجتماعية، لا بُدَّ له من إخضاع أدوات الإنتاج للنظام الاشتراكي. يقول ماركس: «إنَّ تحرير الإنسان لا يتحقَّق إلَّا إذا اعترف بقدراته الأصيلة باعتبارها قُوًى اجتماعية.» ونظَّم هذه القوى (وليس إذن من الضرورة — كما يظن روسو — أن تتغيَّر طبيعة الإنسان، وأن نحرمه من قدراته الأصيلة ونمده بقدرات جديدة ذات صبغة اجتماعية) وبناءً على ذلك، لا يعزل عن نفسه قواه الاجتماعية ليُشكِّل منها القوة السياسية (أي إنَّه لا يُنشئ الدولة باعتبارها مجال الحكم المُنظَّم).

ويزعم ماركس أنَّ العامل إذا لم «يُستخدم» فإنَّ طبيعة عمله ونوع هذا العمل لا بُدَّ أن تتغيَّر. فيُصبح العمل تعبيرًا عن قوى الإنسان له معناه، ولا يكون تسخيرًا للعامل لا معنى له. وهذه الفكرة الجديدة عن العمل لها أهمية قصوى عند ماركس. ويتبيَّن ذلك عندما نعرف أنه لم يُقرَّ إعفاء الأطفال من العمل إعفاءً كاملًا، كما كان يُنادي أحد الأحزاب في ألمانيا. كان ماركس — بطبيعة الحال — لا يُقرُّ استغلال الأطفال، ولكنَّه كان كذلك يُعارض في مبدأ إعفائهم من العمل، وقد طالب بإدخال العمل اليدوي في برنامج التربية. وكتب يقول: «من نظام المصنع انبثقت — كما بيَّن لنا روبرت أوين تفصيلًا — نواة التربية في المستقبل، وهي تربية تشتمل على العمل المُنْتِج كما تشتمل على المعارف والتوجيه الإنساني لا بقصد تدعيم الكفاية الإنتاجية، ولكن لأنَّ العمل هو الوسيلة الوحيدة لتكوين أفراد كاملي التطور.» ويرى ماركس — كما يرى فورييه — أنَّ العمل يجب أن يكون جذَّابًا ومُلائمًا لحاجات الإنسان ورغباته. وهو لهذا السبب يقترح — كما اقترح فورييه وغيره من قبل — ألَّا يتخصَّص الفرد في نوع واحد من أنواع العمل، وإنَّما يجب أن يشترك في أعمال مختلفة، تُقابل إمكانياته واهتماماته المختلفة.

وجد ماركس في تحوُّل المجتمع اقتصاديًّا من نظام الرأسمالية إلى نظام الاشتراكية الوسيلة الوحيدة لتحرير الناس، ولتحقيق الديمقراطية الصحيحة. وبينما كان البحث في الشئون الاقتصادية يشغل في كتاباته الأخيرة حيِّزًا أكبر وأهم مِمَّا يشغله البحث في الإنسان وحاجاته البشرية، غير أنَّ الميدان الاقتصادي لم يكن في أي وقت من الأوقات غاية تُطلب لذاتها، ولم يكن إلَّا وسيلة لإشباع حاجات الإنسان. ويتضح ذلك خاصة في مناقشته لِمَا يُسمِّيه «الاشتراكية المبتذَلة» التي يعني بها الاشتراكية التي ينحصر الاهتمام فيها في إلغاء المِلكية الخاصة لأدوات الإنتاج. «إنَّ الملكية المادية المباشِرة تظل في الاشتراكية المبتذَلة الهدف الوحيد للحياة وللوجود. أمَّا نوع العمل فلا يتغيَّر، وإنَّما يمتد فقط ليشمل الكائنات البشرية كلها. إنَّ هذه الاشتراكية بإنكارها شخصية الإنسان إنكارًا تامًّا لا تختلف في شيء عمَّا تؤدِّي إليه المِلكية الخاصة من إنكار الإنسان … وليست الاشتراكية المبتذَلة إلَّا الحسد في أعلى مراتبه، وهي المثل الأعلى للتسوية بين الناس على أساس الحد الأدنى الذي يتصوَّره العقل … وليس إلغاء المِلكية الفردية وضعًا للقوى البشرية في وضعها الصحيح إلَّا بدرجة ضئيلة جدًّا؛ لأنَّ هذا الإلغاء وشدة الاهتمام به يتضمَّن إنكار أهمية التربية وأهمية المدنية. وليست العودة إلى بساطة الإنسان الفقير بساطة غير طبيعية خطوة أرقى من المِلكية الفردية، بل إنَّها مرحلة أدنى من مرحلة الملكية الفردية.»

وآراء ماركس وإنجلز في موضوع الدولة أشد من ذلك تعقيدًا وأكثر تناقضًا. وليس من شكٍّ في أنَّ ماركس وإنجلز كانَا يريان أنَّ الهدف من الاشتراكية لا يقتصر على إنشاء مجتمع لا طبقي، بل يمتد إلى مجتمع لا دولي، لا تقوم الدولة فيه «بحكم الناس» وإن قامت «بإدارة الأمور»، ويقول في ذلك إنجلز: «إنَّ الاشتراكيين جميعًا مُتَّفقون على أنَّ الدولة ستزول نتيجة لانتصار الاشتراكية.» وهذه الآراء التي نادى بها ماركس وإنجلز ضد الدولة، وعارَضَا بها السُّلطة السياسية المُركَّزة، بثَّها ماركس بشدة في رسائله وخطاباته. ففي خطاب له بمناسبة الحرب الأهلية في فرنسا أكَّد ضرورة اللامركزية التي تحل محل سلطة الدولة المركزية، التي ترجع في أصولها إلى المِلكية المُطلَقة. المجتمع عند ماركس يجب أن يكون لا مركزيًّا إلى أبعد الحدود.

ويبدو أنَّ في آراء ماركس تناقضًا بين دعوته لللامركزية ودعوته للمركزية في مجال آخر. وتفسير ذلك أنَّ ماركس كان يؤمن باللامركزية وزوال الدولة، ويعتبر هذا الزوال الهدف الذي ينبغي أن تتجه نحوه الاشتراكية، والذي يجب أن تبلغه في النهاية. بيد أنَّه كان يعتقد أنَّ ذلك لا يُمكن أن يحدث إلَّا بعد أن تقوم الطبقة العاملة بالانقلاب وتستولي على السُّلطة السياسية. ويستحيل أن يتم قبل ذلك. والاستيلاء على الدولة هو — عند ماركس — الوسيلة التي لا مناصَ منها لبلوغ الغاية، وهي إلغاء الدولة بتاتًا.

ولعل تطوُّر الاشتراكية في روسيا قد استند إلى الجانب الذي يدعو إلى استيلاء الطبقة العاملة على السُّلطة أولًا قبل زوالها، وقد وقف التطوُّر عند هذا الحد فكان قيام الحكومات المركزية دون الأمل في زوال الدولة. وربما كان لينين يتطلَّع على الأقل إلى تحقيق اللامركزية في نهاية الأمر، ويمنح الجمهوريات السوفيتية شيئًا من الحكم اللامركزي. إلَّا أنَّ ستالين أخذ من ماركس الجانب الذي يدعو إلى التركيز. فتحكَّمت الدولة في الشعب تحكُّمًا لم يعرف العالم الحديث له نظيرًا، يفوق حتَّى المركزية الفاشية أو النازية.

وليس هذا التناقض الظاهر بين الدعوة إلى المركزية تارة وإلى اللامركزية تارة أخرى، والتذبذب بينهما، إلَّا صورة خفيفة من التناقض الذي وقع فيه ماركس في أكثر ما دعا إليه من آراء. كان ماركس — كغيره من الاشتراكيين — يعتقد من ناحية أنَّ تحرير الإنسان ليس في أساسه مشكلة سياسية إنَّما هو مشكلة اقتصادية واجتماعية. وأنَّ حل مشكلة الحرية لا يُلتمس في تغيير شكل الدولة السياسي، وإنَّما يُلتمس في انقلاب المجتمع اقتصاديًّا واجتماعيًّا. وكان ماركس وإنجلز — من ناحية أخرى — وبرغم نظرياتهما، يتأثران في كثير من المواقف بالرأي التقليدي الذي يضع المجال السياسي فوق المجال الاجتماعي والاقتصادي، ولم يستطيعا أن يتخلَّصا من الرأي القديم الذي يعزو إلى الدولة والسلطان السياسي أهمية كبرى، والذي يُعلِّق أهمية عظمى على مجرد التغيير السياسي. وهو الرأي الذي كان يُسيطر على الطبقة الوسطى في ثوراتها التي أجَّجتها في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وقد يبدو من التناقض أن نقول: إنَّ التطوُّر اللينيني للاشتراكية أمْيَل إلى الفكرة البورجوازية عن الدولة، وإلى الاهتمام بالنفوذ السياسي منه إلى الفكرة الاشتراكية الجديدة، وإلى الاهتمام بالجانب الاقتصادي والاجتماعي من حياة الإنسان، وهي الفكرة التي عبَّر عنها في وضوح أوين وبرودون وغيرهما.

قد يبدو ذلك من تناقض القول، ولكنه الواقع الذي يُثبته التاريخ.

ويتصل اتصالًا وثيقًا برأي ماركس في نظام الحكم الذي يتذبذب بين المركزية واللامركزية، موقفه إزاء العمل الثوري، فبينما يعترف ماركس وإنجلز بأنَّ الإدارة الاشتراكية للدولة لا ينبغي حتمًا أن يتم الاستيلاء عليها بالقوة أو بالثورة (كما حدث في إنجلترا والولايات المتحدة حيث دخلت الآراء الاشتراكية بغير عنفٍ) نراهما يعتقدان على وجه الإجمال أنَّ الطبقة العاملة — لكي تُحقِّق أهدافها — يجب أن تستولي على السُّلطة بالثورة. وكانا في الواقع يُؤيدان الخدمة العسكرية العامة ويُحبِّذان أحيانًا الحروب الدولية كوسيلة تُسهِّل الاستيلاء على السُّلطة استيلاءً ثوريًّا.

ورأينا كيف أنَّ استخدام القوة في المجتمع يهدم السعادة البشرية كاستخدامها في العلاقات الدولية حينما تنشب الحرب بين دولة وأخرى. ولكنَّنا حينما نتهم اليوم ماركس — أولًا وقبل كل شيء آخر — بتحبيذه للقوة والثورة، نُجافي الحقيقة والتاريخ. ليست فكرة الثورة السياسية ماركسية خاصة بهذا المذهب، وليست اشتراكية، وإنَّما هي فكرة الطبقة الوسطى التقليدية، فكرة المجتمع البورجوازي في الثلاثمائة سنة الأخيرة. ولمَّا كانت الطبقة الوسطى تعتقد أنَّ القضاء على النفوذ السياسي الذي يتمتَّع به أصحاب المِلْكِية، واستيلاء الشعب على السُّلطة السياسية هو حل المشكلة الاشتراكية، فقد كانت ترى أنَّ الثورة السياسية وسيلة لتحقيق الحرية. إنَّ ديمقراطيتنا الحديثة نتيجة للقوة والثورة. ومن أخطاء ماركس التي يُؤْسَف لها، والتي كانت سببًا في تعزيز الاستالينية، أنَّه كان يُقدِّر القوة والنفوذ السياسي فوق قدرهما، كغيره مِمَّن سبقه. بيد أنَّ هذا الرأي أسبق من ماركس، وليس من صميم الفكرة الاشتراكية الجديدة.

ولا يتم الكلام عن ماركس — مَهما أوجزنا — دون الإشارة إلى نظريته في المادية التاريخية. وربما كانت نظرية ماركس في هذا المجال أبقى وأهم ما قدَّمه لنا لإدراك القوانين التي تحكم المجتمع، مِمَّا جعل لها مكانة ملحوظة في تاريخ الفكر البشري. يفترض ماركس أنَّ الإنسان قبل أن يشتغل بأي لون من ألوان النشاط الثقافي لا بُدَّ له من إنتاج وسائل بقائه المادي. والطرق التي يُنتج ويستهلك بها تخضع لظروف خارجة عنه، منها تكوينه الفسيولوجي، ومنها القوى الإنتاجية التي تحت تَصرُّفه والتي تخضع بدورها لخصوبة الأرض، والموارد الطبيعية، والمواصلات، والوسائل الفنية التي يعمل على ارتقائها والنهوض بها. وكان ماركس يفترض أنَّ ظروف الإنسان المادية تُحدِّد طرق إنتاجه واستهلاكه. وإنَّ هذه الطُّرق بدورها تُحدِّد نظمه الاجتماعية والسياسية، وأسلوب حياته، وتُحدِّد في النهاية طريقته في التفكير والشعور. ولكن هذه النظرية أُسِيء فهمها في كل مكان، وفُسِّرت على أنَّ ماركس إنَّما عنى أنَّ «الجهاد في سبيل الكسب» هو الدافع الأساسي للإنسان. والواقع أنَّ هذا الرأي يسود التفكير الرأسمالي ويُعبِّر عنه، وهو رأي يؤكِّد في إصرار وإلحاح أنَّ الدافع الأساسي الذي يُحفِّز الإنسان إلى العمل هو اهتمامه بالجزاء المالي. إنَّ تصوُّر ماركس لأهمية العامل الاقتصادي لم يستند إلى أساس «سيكولوجي»؛ أي إنَّ الدوافع الاقتصادية لم تكن في رأيه دوافع «ذاتية»، إنَّما كان تصوُّره لأهمية العامل الاقتصادي يستند إلى أساس «اجتماعي»، فالتقدُّم الاقتصادي عنده شرط «موضوعي» للتقدُّم الثقافي، بل إنَّ نقده الأساسي للرأسمالية هو أنَّها أثقلت كاهل الإنسان بعبء المصالح الاقتصادية، والاشتراكية عنده مجتمع يتحرَّر فيه الإنسان من سيطرة هذه المصالح عليه بصورة من صور التنظيم الاقتصادي تكون أكثر اتفاقًا مع العقل، ومن ثمَّ أكثر إنتاجًا. إنَّ مادية ماركس كانت تختلف بالضرورة عن المادية التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر. فقد كان الماديون في القرن التاسع عشر يعتقدون أنَّ الظواهر الروحانية ليست إلَّا نتيجة للظواهر المادية، فكان المتطرفون في هذا المذهب — مثلًا — يعتقَّدون أنَّ التفكير نتيجة لحركة في الذهن «أو المخ» — كما يكون البول نتيجة لنشاط الكُلْيَة — أمَّا ماركس فكان يرى أنَّ الظواهر الروحية والمادية يجب أن يُنظر إليها كنتيجة لعملية الحياة كلها، أو كنتيجة لنوع العلاقة بين الفرد والطبيعة وبين الفرد وبقية الأفراد. إنَّ ماركس — بطريقته الجدلية — تغلَّب على نظرية القرن التاسع عشر، وجاء بنظرية جديدة حية شاملة. تقوم على أساس «نشاط» الإنسان أكثر مِمَّا تقوم على «فسيولوجيته» أو تكوينه المادي.

وقد فات ماركس في نظريته في المادية التاريخية أنَّ الإنسان إذا كان يتأثَّر بشكل النظام الاجتماعي والاقتصادي، فهو كذلك يُشكِّل هذا النظام. وقد اعترف إنجلز فيما بعد أنَّه إذا كان لم يُعنَ هو وماركس العناية الكافية بالنظر في أثر العوامل الثقافية في أساس المجتمع الاقتصادي، وإنَّما عُنِيَا فقط بأثر الظروف الاقتصادية في تطوُّر التاريخ فمَرَد ذلك إلى حداثة نظرتيهما وجدتها.

وقد اشتد اهتمام ماركس تدريجًا بالتحليل الاقتصادي البحت للرأسمالية. وكان من أسباب خطئه إكباره الخيالي للطبقة العاملة لضعف ملاحظته لمسلك أفراد هذه الطبقة، بيد أنَّ نظريته الاقتصادية وتحليله الثاقب لبناء الرأسمالية الاقتصادي — برغم ما فيهما من عيوب ونقائص — يُعتبران من الناحية العلمية تقدمًا على كل النظريات الاشتراكية الأخرى.

ومهما يكن من أمر فقد شغل ماركس نفسه بالعوامل الاقتصادية، ولم يدرك القوى الخفية في طبيعة الإنسان التي تبعث في نفسه الخوف من الحرية، وتُؤجِّج بين جوانبه شهرة التسلُّط والتحطيم، بل على نقيض ذلك كان ماركس يفترض الخير في طبيعة الإنسان، ويعتقد في انطلاق هذا الخير إذا تحطَّمت الأغلال الاقتصادية. ويُنهي ماركس بيانه الشيوعي المشهور بهذه العبارة: «إنَّ العُمَّال ليس لديهم ما يفقدونه سوى الأغلال.» وفي هذا خطأ سيكولوجي بيِّن. فالعُمَّال لا بُدَّ أن يفقدوا مع أغلالهم تلك القناعة وذلك الرضا — اللذين لا يقومان على أساس من العقل — واللذين أوجدتها في نفوسهم هذه الأغلال عينها. ومن ثَمَّ فإنَّ ماركس وإنجلز لم يتجاوزا قط ذلك التفاؤل الساذج الذي ساد في القرن الثامن عشر.

إنَّ كارل ماركس لم يُقدِّر كل التقدير ما في الميول البشرية من تعقيد، مِمَّا أدى به إلى الوقوع في ثلاثة أخطاء خطيرة. وأول هذه الأخطاء إهماله العامل «الخُلُقي» عند الإنسان؛ إذ كان يُفترض أنَّ عامِل الخير في الإنسان يظهر ويكون له أثره في الحياة الاجتماعية من تلقاء نفسه عندما يتم الانقلاب الاقتصادي في مصلحة الشعب. ولم يُدرك أنَّه يستحيل على قوم لم تصلح نفوسهم خلقيًّا أن يُنشئوا مجتمعًا أفضل. أو بعبارة أخرى لم يدرك {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. لم يلتفت ماركس إلى ضرورة توجيه خُلُقي جديد، كل إصلاح سياسي واقتصادي بدونه عديم الجدوى.

والخطأ الثاني الذي وقع فيه ماركس، وهو نتيجة أيضًا لاعتقاده في طبيعة الخير عند الإنسان، هو اعتقاده في تحقيق الاشتراكية وظهور المجتمع السليم بعد وقت قصير. ولم يُدرك إمكان ظهور بربرية جديدة في شكل حكومة استبدادية بأي شكل من الأشكال، ونشوب حروب هدَّامة بدرجة لم يسبق لها في التاريخ مثيل. وهذا الإدراك الخاطئ الذي لا يُطابق الواقع كان سببًا في كثير من الأخطاء النظرية والسياسية في تفكير ماركس وإنجلز، كما كان أساس انهيار الاشتراكية الصحيحة الذي بدأ بعهد لينين.

والخطأ الثالث الذي زلَّ فيه ماركس هو اعتقاده بأنَّ اشتراكية أدوات الإنتاج ليست شرطًا «ضروريًّا» فحسب لقلب المجتمع الرأسمالي إلى مجتمع اشتراكي مُتعاون، ولكنَّها كذلك شرط «كافٍ» وحده لإحداث هذا الانقلاب. وتدل هذه العقيدة الفاسدة على أنَّ ماركس كان يُبالغ في تبسيط الأمور وفي التفاؤل والتعليل العقلي لمستقبل الإنسان ومصيره. وكما أنَّ فرويد اعتقد أنَّ تحرير الإنسان من التحريم الجنسي الصارم الذي لا يتفق وطبيعة الإنسان الحيوانية يُؤدِّي إلى الصحة العقلية، فكذلك اعتقد ماركس أنَّ التحرُّر من الاستغلال الاقتصادي يُؤدِّي من تلقاء نفسه إلى إنشاء مجتمع حُر متعاوِن. كان ماركس مُتفائلًا في الأثر المباشر الذي يُحدثه تَغيُّر العوامل البيئية كما كان كتاب دائرة المعارف في القرن الثامن عشر، ولم يُقدِّر قوة الميول الإنسانية التي لا تقوم على أساس من العقل، والميول الهدَّامة التي لم تضعفها التطوُّرات الاقتصادية بكافة صورها، لم يُقدِّر هذه الاتجاهات في طبيعة الإنسان حق قدرها. وبعد خبرة الحرب العالمية الأولى أدرك فرويد رغبة الإنسان القوية في التحطيم والهدم، وأدخل على نظرياته تعديلًا أساسيًّا، فاعترف بأنَّ قوة الدافع إلى التحطيم لا تقل عن قوة الدافع الجنسي. ولكن ماركس لم يُدرك ما أدركه فرويد، ولم يُدخل أي تعديل على نظريته المبسطة التي يزعم فيها أنَّ اشتراكية أدوات الإنتاج وسيلة مباشرة لتحقيق الهدف الاشتراكي.

ويرجع كذلك خطأ ماركس في هذه النظرية إلى مبالغته في تقدير النظم السياسية والاقتصادية. ولم يمس ماركس الواقع عندما تَجاهَل أنَّ الفارق — بالنسبة إلى العامل — يسير جدًّا بين أن يكون المشروع مِلكًا «للأمة» (أو الدولة، أو البيروقراطية الحكومية) أو يكون مِلكًا لبيروقراطية خاصَّة ينيبها أصحاب الأسهم عن أنفسهم، ويولونها إدارة المشروع. لم يُدرك ماركس أنَّ ما يهم العامل هو ظروف العمل الحقيقية الواقعية، والعلاقة بين العامل وعمله، وبينه وبين زملائه في العمل، وبينه وبين مُديري المشروع.

ومن اليسير لنا — نحن الذين نعيش في منتصف القرن العشرين — أن نلمس خطأ ماركس؛ فقد رأينا مثلًا من أمثلة هذا الخطأ يقع في روسيا. فقد برهنت الاستالينية على أنَّ الاقتصاد الاشتراكي يُمكن أن يكون ناجحًا من الناحية الاقتصادية البحت، ولكنَّها برهنت كذلك على أنَّ هذا الاقتصاد لا يخلق حتمًا روح المساواة والتعاون بين الناس. بيَّنت الاستالينية أنَّ تأميم أدوات الإنتاج يُمكن أن يكون حجابًا نظريًّا يستر استغلال الناس بواسطة بيروقراطية صناعية أو عسكرية أو سياسية. إنَّ اشتراكية بعض الصناعات في إنجلترا، التي قامت بها حكومة العُمَّال، تدلنا على أنَّ عُمَّال المناجم وعُمَّال الصناعات الكيماوية وصناعات الصلب لا يهمهم من يكون مديرًا للمشروع الذي يعمل فيه، ما دامت ظروف عملهم الحقيقية الواقعية باقية كما هي دون أي تعديل.

موجز القول، أنَّ الغاية البعيدة من الاشتراكية الماركسية لم تختلف في شيء عن غيرها من الغايات التي كانت تهدف إلى تحقيقها المدارس الاشتراكية الأخرى، وهي تحرير الإنسان من سيطرة الإنسان عليه واستغلاله له، وتحريره من ثقل وطأة النفوذ الاقتصادي، وجعل الحياة الإنسانية الهدف الأعلى من الحياة الاشتراكية، وذلك بإيجاد نوع من الاتحاد بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة. وإنما ترجع أخطاء ماركس وإنجلز، ومبالغتهما في تقدير العوامل السياسية والقانونية، وتفاؤلهما الساذج، وتوجيههما الحياة الاقتصادية توجيهًا مركزيًّا، إنَّما يرجع ذلك كله إلى أنَّهما كانا أشد تأثُّرًا بتقاليد الطبقة الوسطى في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر — من النواحي السيكولوجية والعقلية — من غيرهما من الاشتراكيين، من أمثال فورييه وأوين وبرودون وكروبتُكن.

وكانت لأخطاء ماركس أهمية من الناحية التاريخية؛ لأنَّ الفكرة الماركسية عن الاشتراكية انتصرت في حركة العُمَّال في القارة الأوربية. وكان أتباع ماركس وإنجلز في هذه الحركة تحت تأثير سلطان ماركس الشديد، فلم يُحاولوا إدخال أي تعديل على نظرياته، واكتفوا بتكرار آرائه كما صاغها، مع زيادة في الجمود والعقم.

وقد أدَّت نظريات ماركس عند تطبيقها في ألمانيا وروسيا إلى خيبة الأمل؛ إذ تركَّزت السُّلطة في أيدي أفراد قلائل، وأُهْمِلت النواحي الإنسانية التي لا بُدَّ من توفيرها لكي يكون الإنسان طبيعيًّا في حياته وسعيدًا في عيشه. وإذن فقد تدهورت الفكرة الأساسية من الاشتراكية؛ إذ عَنى بالاشتراكية في روسيا مِلكية الدولة لأدوات الإنتاج، وعَنى بها في الدول الغربية ارتفاع أجور العُمَّال. وَفقدت الاشتراكية مَغزاها الإنساني الأساسي، الذي يهدف إلى تحرير الإنسان، وإلى إقامة قيم خلقية جديدة، وتحقيق التماسك البشري؛ لأنَّ المجتمع الاشتراكي ينبغي أن يُعين الإنسان على أن يحيا حياة طبيعية، لا ينفصل فيها عن عمله وعن نفسه، ليعبد الاقتصاد، أو ليقدِّس الدولة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤