الفصل السابع

الطريق إلى السلامة

اعتبارات عامة

يكاد جميع الكُتَّاب الذين تعرَّضوا للرأسمالية بالنقد والتحليل أن يُجمعوا على رأي واحد. كانت الرأسمالية في القرن التاسع عشر تتعرَّض للنقد بسبب إهمالها لرفاهية العُمَّال المادية، بيْد أنَّ هذا الإهمال هو موضع النقد الأساسي. فإنَّ ما يتحدَّث عنه نُقَّاد الرأسمالية، أوين وبرودون وتولستوي ودركهيم وماركس وغيرهم هو «الإنسان» وما يحدث له في نظامنا الصناعي. ولهم في ذلك آراء مُتعدِّدة تتفق كلها في أنَّ الإنسان قد فَقَد مكانته المركزية، وأنَّه أمسى أداة للأهداف الاقتصادية، وبات غريبًا عن زملائه في الإنسانية وعن الطبيعة، وفقد صلته المحسوسة بهما، ولم تعد له حياة لها قيمتها ومعناها. وقد حاولتُ أن أُعبِّر عن هذه الفكرة عينها بالتبسُّط في شرح فكرة الانفصال وبيان النتائج السيكولوجية له، وبيَّنت أنَّ الإنسان ينحدر في اتجاه يكون موقفه فيه موقف القابل لا الفاعل، سلبيًّا لا إيجابيًّا، كأنَّه سلعة في سوق البضائع، ولا يُمكن لمثل هذا الإنسان أن يكون مُنْتِجًا. إنَّه يفقد إحساسه بذاته، ويعتمد في حياته على رضا الناس عن تصرفاته، فيميل إلى التجانس معهم، ويشعر — برغم ذلك — بعدم الأمن والضمان. إنَّه ساخط، ملول، قَلِق، يُنفق أكثر نشاطه في محاولة تعويض حالة القلق أو التغلُّب عليها. ذكاؤه في تقدُّم، وعقله في تأخُّر. أمَّا فيما يتعلَّق بقدراته الفنية، فهو يُعرِّض المدنية، والجنس البشري، للخطر الجسيم.

وإذا بحثنا في الآراء التي تُساق لتعليل هذا التطوُّر، وَجدْنا الباحثِين أقل اتفاقًا منهم في تشخيص الظاهرة. فبينما كان الباحثون في أوائل القرن التاسع عشر يَردُّون أسباب هذا التدهوُّر إلى انعدام الحرية السياسية، وانعدام تعميم حق التصويت خاصةً، كان الاشتراكيون — والماركسيون خاصةً — يؤكِّدون أهمية العوامل الاقتصادية. كانوا يعتقدون أنَّ انفصال الإنسان في حياته عن طبيعته ينشأ عن الدور الذي يلعبه كأداة تُستغل وتُستخدم. أمَّا المفكرون من أمثال تولستوي وبركهارت فكانوا يُؤكِّدون أنَّ السبب في تدهوُّر الرجل الغربي هو الفقر الروحي والخُلقي. أمَّا فرويد فكان يعتقد أنَّ مشكلة الرجل الحديث هي المبالغة في كَبْت دوافعه الغريزية وما يترتَّب على ذلك من مظاهر نورستانية شاذة. ولكن كل رأي من هذه الآراء لا يُحلِّل إلَّا جانبًا واحدًا دون الجوانب الأخرى، ومن ثمَّ فهو رأي ينقصه الاتزان ويميل إلى الخطأ. إنَّ التعليلات الاجتماعية والاقتصادية والروحية والنفسية تنظر إلى الظاهرة الواحدة من جوانب مختلفة، وواجب التحليل النظري الصحيح أن يُدرك ما بين هذه الجوانب المختلفة من تَرابُط، وتأثير كل ناحية في النواحي الأخرى.

وما يصدق على الأسباب يصدق بطبيعة الحال — كذلك — على أنواع العلاج التي يُمكننا أن نُعالج بها عيوب الإنسان الحديث. فإذا اعتقدنا أنَّ السبب في الظاهرة المَرَضية اقتصادي، أو روحي، أو سيكولوجي، تحتَّم قطعًا أن ينحصر العلاج الذي يُؤدِّي إلى سلامة العقل في إحدى هذه النواحي. أمَّا إذا اعتقدنا أنَّ للظاهرة المَرضية أَوجُهًا مختلفة ولكنَّها مُترابطة، تحتَّم قطعًا ألَّا تتحقَّق سلامة العقل وصحته إلَّا بالإصلاح في ميدان النظام الصناعي والسياسي، وفي ميدان التوجيه الروحي والفلسفي، وميدان التكوين الخلقي، والنشاط الثقافي في آنٍ واحد. أمَّا أن نُركِّز جهودنا في إصلاح ناحية واحدة من هذه النواحي مع إهمال النواحي الأخرى، فذلك هدم للإصلاح برُمَّته. وقد كانت هذه النظرة الجزئية دائمًا عقبة في سبيل تقدُّم الجنس البشري. فقد نادت المسيحية بالتجديد الروحي، وأهمَلَت النهوض بالنظام الاجتماعي، فبقي التجديد الروحي عديم الأثر بالنسبة لأكثر الناس. وافترض المُفكِّرون في عصر النور في القرن الثامن عشر أنَّ استقلال الحكم والاعتراف بقيمة العقل يُؤدِّي حتمًا إلى النهوض بالحضارة الإنسانية، وآمن بعض المُفكِّرين بأنَّ المساواة السياسية لا يُمكن أن تُؤدِّي إلى الإخاء بين الناس إذا لم يصحبها تعديل أساسي في النظم الاجتماعية والاقتصادية. وأكَّدت الاشتراكية — والماركسية خاصة — ضرورة التقدُّم الاجتماعي والاقتصادي، وأهملت ضرورة التطوُّر النفسي في الكائنات البشرية. ولا يُمكن أن يُؤدِّي التطوُّر الاقتصادي إلى المجتمع الطيب بغير هذا التطوُّر النفسي. وقد اهتمت كل حركة من حركات الإصلاح الكبرى التي جرت في الألفي سنة الأخيرة بجانب واحد من الحياة مع استبعاد الجوانب الأخرى. وبرغم ما قدَّمت هذه الحركات من آراء نافذة في الإصلاح، والتجديد، فقد فشلت في نتائجها فشلًا ذريعًا؛ نظرًا لسيرها في اتجاه واحد دون الاتجاهات الأخرى. وانتهت التعاليم المسيحية الفاضلة بالكنيسة الكاثوليكية المتزمِّتة، وتعاليم دعاة التعقُّل في القرن الثامن عشر إلى روبسير ونابليون، ومبادئ ماركس إلى حكم ستالين. وكانت النتائج مُتشابهة في جميع هذه الحالات. ذلك أنَّ الإنسان وحدة: تفكيره وشعوره وطريقة حياته مترابط ترابطًا وثيقًا. ولا يُمكن أن يكون الإنسان حُرًّا في تفكيره إذا لم يكن حُرًّا في مشاعره، ولا يُمكن أن يكون حُرًّا في مشاعره إذا كان مُعْتَمِدًا على غيره ومُقيَّدًا في طريقة حياته، وفي علاقاته الاجتماعية والاقتصادية. إنَّ محاولة التقدُّم تقدُّمًا ملموسًا في جانب واحد مع استبعاد الجوانب الأخرى تنتهي حتمًا إلى ما انتهت إليه، فلا يحقق المثل الأعلى في ميدان واحد دون الميادين الأخرى سوى أفراد قلائل، ويبقى هذا المثل بالنسبة للأكثرية مجرد ألفاظ وشعائر، تُشير إلى أنَّ الميادين الأخرى في الحياة لم يحدث فيها أي إصلاح. ومن المؤكَّد أنَّ خطوة «واحدة» من التقدُّم المُتكامل في جميع ميادين الحياة لها نتائج أبعد مدى وأطول دوامًا في تقدُّم الجنس البشري من مائة خطوة يُوعَظُ بها — أو لا يحياها المرء إلَّا لفترة وجيزة جدًّا — في ميدان واحد بمعزل عن غيره من ميادين الحياة. ويجب أن نتعظ بالفشل الذي أصابنا بعد ألوف عديدة من محاولة التقدُّم عن طريق النهوض بالإنسان في ناحية واحدة فقط من نواحي حياته.

وترتبط بهذه المشكلة مشكلة أخرى هي التردُّد بين الثورة والتطوُّر في الإصلاح، أو بين الانقلاب والتقدُّم الوئيد. ويبدو أنَّ الحلول السياسية المختلفة تتذبذب بين هذين الاتجاهين. غير أنَّ دقة التحليل تُبيِّن لنا أنَّ هذه التفرقة خادعة لا تقوم على أساس صحيح. فالثورة والتطوُّر — أو الانقلاب والتقدُّم — كلاهما طريقة في الإصلاح، ولا فرق بينهما إلَّا في درجة العمق. وإنَّما يكون الإصلاح انقلابيًّا إذا اتصل بالجذور، وتطوريًّا أو سطحيًّا إذا حاول أن يُعالج الأعراض دون مساس بالأسباب. والإصلاح الذي لا يكون انقلابيًّا بهذا المعنى؛ أي الذي لا يتصل بالجذور، لا يُحقِّق البتة أغراضه، وينتهي دائمًا إلى عكس ما يرمي إليه. إنَّ ما نُسمِّيه «بالانقلاب» الذي نُنادي فيه بأنَّنا نستطيع حل المشكلات بالقوة، حينما تكون الملاحظة والصبر والعمل المتواصل ضرورة من الضرورات، أمر خيالي غير واقعي، وخير منه التطوُّر أو التقدُّم الوئيد. وسواء كان الإصلاح سطحيًّا لا يمتد إلى الجذور، أو انقلابيًّا بمعنى اعتماده على القوة فالنتيجة واحدة، وهي الفشل في كلتا الحالتين. فثورة البلشفيك أدت إلى الاستالينية، وإصلاح الجناح الأيمن من الديمقراطيين الاشتراكيين في ألمانيا أدى إلى حكم هتلر. إنَّ المقياس الصحيح للإصلاح ليس في سرعته ولكنَّه في واقعيته، أو ثورته الحقة التي تمس الأعماق. والفارق بين إصلاح وإصلاح هو هذا: هل يبلغ الجذور ويُحاول أن يُغيِّر الأسباب، أو يبقى على السطح ويُحاول أن يُعالج الأعراض فقط؟

وإذا كنَّا سنُعالج الطرق التي تُؤدِّي إلى سلامة العقل في هذا الفصل؛ أي وسائل العلاج، فيحسن بنا أن نقف هنا لحظة ونُسائِل أنفسنا: ماذا نعرف عن طبيعة العلاج في حالات الأمراض العقلية الفردية؟ ويجب أن نبني علاج الأمراض الاجتماعية على نفس الأُسس التي نراعيها في علاج الأمراض النفسية الفردية؛ لأنَّ أمراض المجتمع إنْ هي إلَّا أمراض أفراد كثيرين من البشر، وليست أمراض وحدة خيالية تنفصل عن الأفراد وتعلوهم.

وهذه هي الأُسس التي يقوم عليها علاج المرض الفردي:

  • أولًا: لا بُدَّ من حدوث تطوُّر نفسي يعوق أداء النفس لوظيفتها أداءً صحيحًا. ومعنى ذلك في نظرية فرويد أنَّ الطاقة الحيوية قد فشلت في أن تتطوَّر تطوُّرًا طبيعيًّا. فظهرت أعراض المرض نتيجة لذلك. وإذا طبَّقنا هذا الرأي على المجتمع وجَدْنا أنَّ أسباب المرض تنحصر في الفشل في خلق مجتمع منتج، وهو فشل ينتهي بظهور الميول المنحرفة، وأخصها الرغبة في الارتباط الأموي الذي يعوق المرء عن تنمية فرديته وشخصيته المُستقلة، والرغبة في التحطيم والاستقلال. ويترتَّب على الفشل في التطوُّر الطبيعي شعور الناس بالألم، عن وعي أو غير وعي، ويُؤدِّي ذلك إلى السعي وراء التغلُّب على هذا الشعور، أي إلى السعي إلى تغيير الحال للانتقال من المرض إلى الصحة، وهذا السعي وراء الصحة — في تكوين الإنسان البدني وتكوينه العقلي — هو الأساس في علاج الأمراض النفسية. ولا يختفي إلَّا في حالة المرض الشديد.
  • ثانيًا: وأولى الخطوات الضرورية التي تجعل لهذا الميل نحو الصحة أثره الفعَّال هي «إدراك» الألم. وإدراك ذلك الشعور الباطني الذي يخفى على شخصيتنا الواعية وينفصل عنها. وهذا الشعور الباطني المكبوت هو عند فرويد الرغبة الجنسية الجامحة، وهو عندي — فيما يتعلَّق بالخلل الاجتماعي — الميول المكبوتة التي لا تنطبق على العقل، والشعور المكبوت بالوحدة والتفاهة، والتشوُّق إلى الإنتاج وتحقيق المحبة.
  • ثالثًا: ومَهما اشتد إدراكنا لذواتنا، فلا يُمكن أن يكون له أثره إلَّا إذا خطَا الإنسان خطوة أخرى، وهي تغيير مسلكه في الحياة الذي بُنِيَ على أساس شاذٍّ من الناحية العقلية، والذي يُسبِّب بدوره هذا الشذوذ. ولنضرب لذلك مثلًا، ذلك المريض الذي يدفعه تكوينه الشخصي الشاذُّ إلى الخضوع لشخصيات أبوية، إنَّ هذا المريض يرسم لنفسه حياة ينصب فيها عليه شخصيات مُتسلطة أبوية، تتحكَّم فيه، بل وتؤذيه، وتتمثَّل هذه الشخصيات في الرؤساء والمُعلِّمين ومَن إليهم. ولا يُمكن لمثل هذا المريض أن يُشفى إلَّا إذا عدَّل من واقع حياته بحيث لا يعود إلى ميوله نحو الخضوع لغيره، وهي تلك الميول التي يود أن يتخلَّى عنها. كما ينبغي له — بالإضافة إلى ذلك — أن يُغيِّر من درجات تقويم الأشياء، ومن مُثله العليا، ونماذجه الرفيعة، بحيث يُصبح تقويمه للأمور، وهذه المثل وتلك النماذج، مُعينًا له — لا عائقًا — على تحقيق مسعاه نحو الصحة والنضوج.

وهذه الأُسس عَينُها التي يقوم عليها علاج المرض الفردي، وأقصد بها أولًا «صراع النفس» مع متطلبات الطبيعة البشرية وما يترتَّب على هذا الصراع من ألم، ثمَّ «إدراك» مكنون النفس المكبوت ثانيًا، «فتعديل» مسلك الإنسان وتقديره للقيم ونظرته إلى المُثل العليا والنماذج الرفيعة ثالثًا، هذه الأُسس لا بُدَّ منها كذلك لعلاج المرض «الاجتماعي».

وقد كان الغرض من الفصل السابق من هذا الكتاب بيان الصراع بين الحاجات البشرية ونظامنا الاجتماعي، كما كان الغرض من هذا الفصل كذلك توضيح إدراكنا لهذا الصراع، وللمكبوت في نفوسنا، المنفصل عن سلوكنا. وهدفنا من هذا الفصل أن نُناقش الإمكانيات المختلفة لِمَا يُمكن أن نُدخله من تعديل عملي في نظمنا الاقتصادية والسياسية والثقافية.

وقبل أن نشرع في بحث الاقتراحات العملية لتعديل هذه النظم، دعنا نُفكِّر مرة أخرى فيما تتألَّف منه الصحة العقلية، وفي أيَّة ثقافة يُمكن الأخذ بها لكي تُؤدِّي بنا إلى الصحة العقلية، وذلك على أساس المُقدِّمات التي فصَّلناها في بداية هذا الكتاب.

من هو الشخص السليم العقل؟ إنَّه الشخص المُنتِج، الذي لا ينفصل في مسلكه عن طبيعية. هو الشخص الذي يرتبط بالدنيا عن طريق المحبة. والذي يستخدم عقله لكي يُدرك الواقع إدراكًا موضوعيًّا. هو الشخص الذي يعيش كوحدة فريدة مُتفرِّدة. ويشعر في الوقت نفسه بالاتحاد مع إخوانه في الإنسانية. وهو الشخص الذي لا يخضع لسلطة لا تقوم على أساس من العقل، ولكنَّه يخضع للسلطة المعقولة طواعية، وهي سلطة الضمير والعقل. هو الشخص الذي تستمر ولادته ما دام حيًّا، ويعتبر هبة الحياة أثمن ما يملك من فرص.

ولنذكر أيضًا أنَّ هذه الأهداف لتحقيق الصحة العقلية ليست مُثلًا تفرض على الشخص من خارج نفسه، وليست مثلًا لا يستطيع أن يُحقِّقها إلَّا إذا تغلَّب على طبيعته وضحَّى بحبه لذاته الموروث، بل إنَّ السعي لتحقيق الصحة العقلية — على نقيض ذلك — والسعي وراء السعادة، وتحقيق الانسجام، والمحبة، والإنتاج، من الميول الكامنة في كل نفس بشرية لم يُولد صاحبها ناقصًا في قدرته العقلية أو استعداده الخلقي. وهذه الأهداف — إذا أُتيحت لها الفرصة — لا مناصَ من تحقيقها، كما نُشاهد في عديد من المواقف. وإنَّ قلب هذه الأهداف الطبيعية التي تُؤدِّي إلى صحة العقل، أو خنقها، ليحتاج إلى قُوًى عظيمة، وظروف قاسية. والواقع أنَّ استخدام الإنسان للإنسان — خلال الجزء الأكبر من تاريخ الإنسان المعروف — قد أدَّى إلى هذا القلب، أو هذا الانحراف. وليس الانحراف من طبيعة الإنسان. وإنَّما هو من طبيعة الظروف التي تُحيط به. وما أشبه الإنسان في ذلك بالبذرة السليمة يُلقَى بها في الصحراء المُجدِبة. إنَّ البذرة لا تنمو ولا تُثْمِر، ولكن ليس هذا من طبيعتها، إنَّما هو من طبيعة الأرض القاحلة التي أُودعت فيها.

وإنَّا لنتساءل بعد هذا، أي نوع من أنواع المجتمع تتحقَّق فيه هذه الأهداف للصحة العقلية؟ وكيف يكون بناء المجتمع السليم؟ إنَّه أولًا مجتمع لا يكون فيه إنسان من الناس وسيلة لتحقيق غايات غيره، وإنَّما يكون دائمًا وبغير استثناء غاية في حدِّ ذاته. ومن ثمَّ فهو مجتمع لا يُستخْدَم فيه أحد، ولا يَستخدِم فيه أحد نَفسَه، لأغراض غير أغراض الكشف عن قواه البشرية، حيث يكون الإنسان هو المركز، وحيث تخضع كل ضروب النشاط الاقتصادي والسياسي لغرض واحد، هو نمو الإنسان. المجتمع السليم مجتمع لا تجد فيه صفات مثل الطمع والاستغلال، وحُب التملُّك، وحب الذات فرصة لاستغلالها في زيادة الكسب المادي أو في تعزيز السُّلطة الفردية. هو مجتمع يُعتبر فيه السلوك وفقًا لما يُمليه الضمير صفة أساسية لا محيص عنها. كما تُعتبر فيه الانتهازية وانعدام المبادئ العليا صفتين غير اجتماعيتين. وهو مجتمع يهتم فيه الفرد بشئون المجتمع فيعدها أمورًا شخصية، وتكون فيه علاقة الفرد بإخوانه في الإنسانية غير منفصلة عن علاقاته في محيطه الخاص. والمجتمع السليم — فوق ذلك — هو الذي يسمح للإنسان أن يعمل في ميدان يُمكن تحديده كما تُمكن السيطرة عليه، وأن يكون مشاركًا في حياة المجتمع مشاركة إيجابية فيها مسئولية، كما يكون سيِّدًا على حياته الخاصة. والمجتمع السليم يُعزِّز قوة التماسك البشري، ولا يكتفي بأن يسمح للأفراد بارتباط كل منهم بالآخر برباط المحبة، بل يستحثهم على ذلك ويدفعهم إليه. والمجتمع السليم يزيد من نشاط الفرد الإنتاجي في محيط عمله، ويحث على الكشف عن العقل، ويُمكِّن الإنسان من التعبير عن حاجاته الباطنية بإشراكه في الإنتاج الفني وفي مختلف الطقوس.

الإصلاح الاقتصادي

(أ) مشكلة الاشتراكية

الحل الإنشائي الوحيد لمشكلات العصر الحاضر هو الاشتراكية التي تهدف إلى إعادة تنظيم الجهاز الاقتصادي والاجتماعي من الأساس وتوجيهه نحو تحرير الإنسان من استخدامه كوسيلة لأغراض خارجة عن نفسه، كما تهدف إلى خلق نظام اجتماعي يشتد فيه التماسك البشري، ويُقوِّي العقل، وتزداد القدرة على الإنتاج. غير أنَّه مِمَّا لا جدال فيه أنَّ نتائج الاشتراكية — كما طُبِّقت حتَّى الآن — جاءت مُخيِّبة للآمال. فما سبب هذا الفشل وما هو الهدف من إعادة البناء الاجتماعي والاقتصادي لكي نتفادى هذا الفشل ونسير نحو مجتمع سليم.

إنَّ المجتمع الاشتراكي — وفقًا للاشتراكية الماركسية — قد بُنْيَ على أساس فرضين: اشتراكية وسائل الإنتاج والتوزيع. ومركزية الاقتصاد وتخطيطه. ولم يَشكَّ ماركس والاشتراكيون الأوائل في أنَّ تحقيق هذه الأغراض يتبعه حتمًا التحرير الإنساني لجميع البشر من الحياة التي لا يعيشون فيها طبقًا لحاجاتهم الطبيعية، كما يتبعه إنشاء مجتمع لا طبقي على أساس الأُخوة والعدالة. وكل ما يلزم لهذا الانتقال هو — في رأيهم — أن تظفر الطبقة العاملة بالسلطان السياسي، إمَّا بالقوة أو بالانتخاب، وأن تُحوِّل الصناعة إلى النظام الاشتراكي، وتقوم بتخطيط الاقتصاد. ولم يعد ما زعم ماركس وأتباعه مجالًا للجدل العلمي؛ لأنَّه وُضِعَ موضع التنفيذ، وقامت روسيا بما رأى الاشتراكيون الماركسيون ضرورة القيام به في الميدان الاقتصادي. ولئن دلَّ النظام الروسي على أنَّ الاقتصاد الاشتراكي المُخطَّط — من الناحية الاقتصادية البحت — يُمكن أن يُؤدِّي وظيفته بكفاية، فقد برهن كذلك على أنَّه ليس البتة شرطًا كافيًا لخلق مجتمع حُر أخوي، لا يعيش فيه المرء منفصلًا عن طبيعته.

والواقع أنَّ تحقيق الاقتصاد الاشتراكي المُخطَّط في روسيا لا يعني أنَّ النظام الروسي هو تنفيذ للاشتراكية كما فهمها ماركس وإنجلز. إنَّما يعني أنَّ ماركس وإنجلز كانا على خطأ حينما حسبا أنَّ انتقال المِلكية شرعًا إلى الأمة، وأنَّ تخطيط الدولة لشئون الاقتصاد، يكفيان لإحداث الانقلاب الاجتماعي والإنساني الذي كانا يرميان إليه.

كانت اشتراكية وسائل الإنتاج، مع تخطيط الاقتصاد القومي، أهم ما تسعى إلى تحقيقه الاشتراكية الماركسية. وكانت لهذه الاشتراكية أهداف أخرى فشل تحقيقها فشلًا تامًّا في روسيا. لم يفترض ماركس المساواة التامة في الدخل، ولكنَّه — برغم ذلك — كان يهدف إلى تخفيف شديد في المفارقة الموجودة في النظام الرأسمالي. بيد أنَّ المفارقة في الدخل لا تزال في روسيا أشد مِمَّا هي في الولايات المتحدة أو بريطانيا.

وكان ماركس يرى أنَّ تحقيق الاشتراكية يُؤدِّي إلى زوال الدولة، وإلى التلاشي التدريجي للطبقات الاجتماعية. والواقع أنَّ سلطة الدولة، والتمييز بين الطبقات الاجتماعية ما فتئت في روسيا أقوى منها في أي بلد رأسمالي.

وأخيرًا لا بُدَّ أن نذكر أنَّ محور الفكرة الماركسية عن الاشتراكية هو أنَّ الإنسان — بقواه العاطفية والذهنية — هو هدف الثقافة ومرماها، وأنَّ الأشياء «أو رأس المال» يجب أن تكون في خدمة الحياة «أو العمل»، كما أنَّ الحياة يجب ألَّا تخضع لِمَا هو فاقد للحياة؛ أي إنَّ الإنسان يجب ألَّا يكون تابعًا لرأس المال وأدوات الإنتاج.

بيد أنَّ روسيا لم تكن البلد الوحيد الذي حاول أن يُطبِّق الآراء الاقتصادية التي تتعلَّق بالاشتراكية الماركسية؛ فلقد حاولت ذلك بريطانيا أيضًا. فحزب العُمَّال — وإن كان لا يقوم على أساس النظرية الماركسية — سار في تصرفاته العملية وفق المذهب الماركسي، الذي يرى أنَّ تحقيق الاشتراكية إنَّما يقوم على أساس اشتراكية الصناعة. والفارق بين ما اتُّبع في بريطانيا وما اتُّبع في روسيا واضح كل الوضوح. فلقد كان حزب العُمَّال البريطاني يعتمد دائمًا على الوسائل السلمية لتحقيق أهدافه، ولم يبنِ سياسته على أساس تحقيق كل شيء أو لا شيء، وإنَّما جعل من الممكن اشتراكية الطب، والبنوك، والصلب، والتعدين، والسكك الحديدية، والصناعات الكيماوية، دون تأميم بقية الصناعات البريطانية. ولكنَّه — برغم إنشائه لنظام اقتصادي تختلط فيه العناصر الاشتراكية بالعناصر الرأسمالية — كان يرى أنَّ بلوغ الاشتراكية في أعلى مراتبها لا يكون إلَّا بتأميم جميع وسائل الإنتاج.

والتجربة البريطانية — وإن تكن أقل درجة في فشلها من التجربة الروسية — كانت نتيجتها كذلك مُثبِّطة للهمم. فقد كانت — من ناحية — سببًا في تجنيد الناس لغير أغراضهم الخاصة، وحافزًا على بيروقراطية الإدارة، فجلبت البُغض لها من كل من يهمه تعزيز الحرية الإنسانية والاستقلال الذاتي. ومن ناحية أخرى لم تُحقِّق التجربة في بريطانيا أي أمل من الآمال الأساسية التي عُقِدَت على النظام الاشتراكي. وبات من الواضح أنَّ العامل في صناعة التعدين أو الصلب في بريطانيا سواء كانت الصناعة ملكًا لبضعة آلاف أو حتَّى مئات الألوف من الأفراد — كما يحدث في المؤسَّسات التعاونية العامة — أو كانت ملكًا للدولة، بات من الواضح أنَّ العامل لم يجد فارقًا ما، فإنَّ أجوره وحقوقه — وأهم من هذا وذاك ظروف عمله — والدور الذي يلعبه في سير العمل، كل ذلك بقي كما كان في أساسه. ولا نُنْكِر أنَّ هناك بضع مزايا نجمت عن التأميم، ما كان للعامل أن يظفر بها عن طريق نقاباته في اقتصاد رأسمالي بحت. ثمَّ إنَّه — فوق ذلك — إذا كانت أساليب حكومة العُمَّال لم تُحقِّق الغرض الأساسي من الاشتراكية، فمن قُصر النظر أن نتجاهل أنَّ الاشتراكية البريطانية قد أدَّت إلى تغيرات مُستحبَّة ذات أهمية قصوى في حياة الشعب البريطاني. ومن هذه التغيرات امتداد نظام الضمان الاجتماعي حتَّى يشمل الصحة. وأمسى الفرد في بريطانيا لا يخشى المرض ككارثة ربما أخلَّت بحياته تمامًا (أو حتَّى ربما أفقدته حياته لنقص في الرعاية الصحية الصحيحة). وقد يبدو ذلك أمرًا هينًا لعضو في الطبقة الوسطى أو الطبقة العليا في الولايات المتحدة لا يجد مشقة في دفع نفقات العلاج والمستشفيات. ولكنَّه في الواقع إصلاح أساسي في نظام المجتمع يُقاس إلى التقدُّم الذي أحدثه تعميم التعليم. ومن الحق أيضًا أنَّ تأميم الصناعة، حتَّى بالدرجة المحدودة التي أُدْخِل بها في بريطانيا (أي حوالي خُمس مجموع الصناعات)، من الحق أن نقول: إنَّ هذا التأميم قد مكَّن الدولة من تنظيم الحياة الاقتصادية بأسرها في المجتمع إلى حدٍّ ما، تنظيمًا أفادت منه كل ناحية من النواحي الاقتصادية في بريطانيا.

ومع تقديرنا لما قامت به حكومة العُمَّال في بريطانيا، لا يسعنا إلَّا أن نُقرِّر أنَّ ما قامت به لم يؤدِّ إلى تحقيق الاشتراكية بالمعنى الإنساني لا بالمعنى الاقتصادي البحت. وإذا قلت إنَّ حزب العُمَّال إنَّما بدأ في تحقيق برنامجه، ولم يُعط فرصة المتابعة، وأنَّه كان من الممكن أن يُحقِّق الاشتراكية إذا تولَّى الحكم مدة تكفي لتنفيذ مشروعاته، إذ قلت هذا لما كان القول مقنعًا أو شافيًا؛ لأنَّنا حتَّى لو تصوَّرنا تأميم كل الصناعات البريطانية الثقيلة، فقد نُحقِّق للأفراد قسطًا أكبر من الضمان الاجتماعي، وقد نكفل لهم مستوًى أعلى من العيش، وقد لا يخشى الشعب أن تكون البيروقراطية الجديدة أشد خطرًا على الحرية من بيروقراطية الشركات الكبرى. قد يكون كل ذلك، ولكن برغم كل المزايا المُحْتَملة لمثل هذه الاشتراكية، فإنَّ مثل هذا التأميم والتخطيط ليس بالاشتراكية بمعناها الصحيح، إذا قَصدْنا بالاشتراكية نوعًا جديدًا من الحياة، إذا قَصدْنا بها مجتمعًا متماسكًا مؤمنًا، يجد الإنسان فيه نفسه ويتخلَّص من الحياة الانفصالية التي ينطوي عليها النظام الرأسمالي.

إنَّ النتيجة المؤسِفة للشيوعية السوفيتية، والنتائج المُخيِّبة للآمال لاشتراكية حزب العُمَّال في بريطانيا من ناحية أخرى، أدَّت إلى حالة من الاستسلام وفقدان الأمل عند كثير من الاشتراكيين الديمقراطيين. وما زال بعضهم يؤمن بالنظام الاشتراكي، ولكنَّه إيمان التفاخر أو العناد، لا إيمان الاقتناع الصحيح. وآخرون مِمَّن يشتغلون ببعض الأعمال الصغرى أو الكبرى في حزب من الأحزاب الاشتراكية، لا يقدحون أذهانهم مُفكِّرين، فيقنعون بالنظام الاشتراكي كما هو قائم. وآخرون مِمَّن فقدوا الإيمان في إمكان تجديد المجتمع يعتبرون أنَّ من واجبهم الأساسي أن يُقرِّروا حربًا صليبية ضد الشيوعية الروسية على أيَّة صورة من الصور. تراهم يُردِّدون التهم ضد الشيوعية، التي يعرفها حق المعرفة ويؤمن بها كل فرد سوى الاستالينِيِّين، ولكنَّهم يمتنعون عن نقد النظام الرأسمالي نقدًا ثوريًّا، كما يمتنعون عن إبداء أي اقتراح جديد تأخذ به الاشتراكية الديمقراطية في أدائها لوظيفتها. إنَّهم يحملوننا على الاعتقاد بأنَّ الدنيا بخير إنْ هي نجت من خطر الشيوعية. مثلهم مثل العاشق يفقد أمله في موضع حبه فيفقد كل إيمان بالحب.

ومن واجبنا ألَّا نُخْدَع بآراء هذه الفئة المضلِّلة المضلَّلة، فما برحت الاشتراكية الصحيحة في طموحها الإنساني والخلقي هدفًا لملايين البشر، ومعقد الآمال لإنقاذ الناس مِمَّا هم فيه من ألم وخيبة أمل.

ومِمَّا لا جدال فيه أنَّ مشكلة الإصلاح الاجتماعي ليست أشد عسرًا — نظريًّا أو عمليًّا — من المشكلات العلمية والعملية التي توصَّل علماء الطبيعة والكيميا إلى حلها، ومِمَّا لا جدال فيه أيضًا أنَّنا أحوج إلى نهضة إنسانية منَّا إلى الطائرات والتليفزيون. ولو أنَّنا سلَّطنا جانبًا يسيرًا جدًّا من العقل والإدراك العملي الذي نستخدمه في حل مشكلات العلوم الطبيعية، لو أنَّنا سلطنا هذا الجانب اليسير من العقل على المشكلات الإنسانية، لاستطعنا أن نُتابع الجهود التي كان يفخر بها أسلافنا في القرن الثامن عشر.

(ب) اشتراكية جديدة

إنَّ اهتمام الماركسية الزائد باشتراكية وسائل الإنتاج أثَر من آثار رأسمالية القرن التاسع عشر. فقد كان الموضوع الرئيسي الذي يشغَل الأذهان في الاقتصاد الرأسمالي هو المِلكية وحقوق المِلكية، ولم يتجاوز ماركس هذه الحدود حينما عرَّف الاشتراكية بأنَّها قلب نظام المِلكية الرأسمالية، وحينما نادى «بنزع المِلكية مِمَّن انتزعوها من قبل.» وكان ماركس — في هذا — كما كان في توجيهه للعوامل السياسية التي تُقابل العوامل الاجتماعية؛ مُتأثرًا بالروح البورجوازية أكثر من تأثُّره بمدارس الفكر الاشتراكية التي كانت تهتم بوظيفة العامل في سَير عجلة العمل، وبعلاقته الاجتماعية بغيره في المصنع، وبأثر طريقة العمل في شخصية العامل.

إنَّ فشل الاشتراكية الماركسية مع انتشار فكرتها يرجع إلى مُبالغة البورجوازية في تقديرها لحقوق الملكية وللعوامل الاقتصادية البحت، غير أنَّ مدارس الفكر الاشتراكية الأخرى كانت أكثر إدراكًا لهذه العيوب التي أخذت على الماركسية، فعرَّفت الغرض من الاشتراكية تعريفًا أصح وأشمل. فأوين، والنقابات، والاتحادات الاشتراكية، اتفقت في هدفها الرئيسي، وهو الموقف الاجتماعي والإنساني للعامل من عمله ونوع العلاقة بينه وبين زملائه في العمل (وبالعامل أقصد هنا وفي الصفحات التالية كل من يعيش بعمله دون كسبٍ إضافي مصدره استغلال الآخرِين). إنَّ الهدف في كل هذه الصور المختلفة من الاشتراكية هو تنظيم صناعي يكون فيه «كل شخص عاملًا مساهمًا إيجابيًّا مسئولًا، ويكون فيه العمل جذَّابًا ذا معنًى، ولا يستخدم فيه رأس المال العمل، وإنَّما يستخدم العمل رأس المال.» كان هؤلاء الاشتراكيون يؤكِّدون ضرورة تنظيم العمل والعلاقات الاجتماعية بين الناس، ثمَّ تأتي مشكلة المِلكية في المحل الثاني. وسوف أُبيِّن فيما بعد أنَّ هناك اليوم عودة إلى هذه النظرة من جانب الاشتراكيين في جميع أرجاء العالم، وقد كانوا منذ بضع عشرات من السنين يعدون الماركسية الخالصة الحلَّ الوحيد لجميع المشكلات. ونُورد هنا نصًّا منقولًا عن كتاب «معنى الحرية الصناعية» لمُؤلِّفه كول؛ لكي نُعطي القارئ فكرة عامة عن المبادئ التي ينطوي عليها هذا اللون من التفكير الاشتراكي الاجتماعي الذي يكاد أن يُجْمِع عليه الاشتراكيون المُحدَثون.

يقول كول: «إنَّ الإصرار القديم على ضرورة الحرية صحيح في أساسه بيْد أنَّ هذا الإصرار قد تلاشى اليوم؛ لأنَّه كان ينبعث من الرأي القائل بأنَّ الحرية تتحقَّق بتحقيق الحُكم الذاتي من الناحية السياسية. ولكن الصورة الذهنية الجديدة عن الحرية أوسع من ذلك مدًى. إنَّها تشمل النظر إلى الإنسان لا بوصفه مُواطنًا في دولة حرة فحسب، ولكن بوصفه كذلك شريكًا في النظام الصناعي. إنَّ المصلح البيروقراطي، عندما يُوجِّه كل اهتمامه إلى الجانب المادي من الحياة وحده، إنَّما يعتقد في مجتمع يتألَّف من أفراد كالآلات، يتوفَّر لهم الطعام والمأوى والملبس، ويعملون لآلة أكبر، وهي الدولة … إمَّا هذا، وإمَّا الجوع والعبودية. إنَّ الحرية الحقيقية، وهي هدف الاشتراكية الجديدة، تؤكِّد حرية العمل والحصانة من الضغط الاقتصادي، وذلك بمعاملة الإنسان كإنسان.»

«الحرية السياسية وحدها وهْم في الواقع. إنَّ الرجل الذي يعيش في خضوع اقتصادي ستة أيام، بل سبعة في الأسبوع، لا يتحرَّر لمجرَّد تأشيرِه على ورقة الانتخاب مرة كل خمس سنوات، وإذا كان للحرية أي معنًى عند الرجل العادي فلا بُدَّ أن يشمل هذا المعنى الحرية الصناعية. وإلى أن ينظر الرجال إلى أنفسهم أثناء العمل كأعضاء في جماعة من العُمَّال تحكم نفسها بنفسها، فلا بُدَّ من بقائهم أذلاء مَهما يكن النظام السياسي الذي يعيشون في ظله، ولا يكفي زوال العلاقة السيئة بين الأجير المُسْتَعبَد وصاحب العمل المُفرد. وكذلك الاشتراكية التي تملك زمامها الدولة تُبقي العامل أسيرًا لنوع من أنواع الاستبداد لا يَقِل عن ذلك مرارة؛ لأنَّها اشتراكية حكومية وليست شخصية. إنَّ الحكم الذاتي في الصناعة لا يُتمِّم الحرية السياسية فحسب؛ بل يُمهِّد لها كذلك.»

«الإنسان مُكبَّل بالأغلال في كل مكان، ولن تتحطم أغلاله حتَّى يحس أنَّه مِمَّا يحط من قدره أن يكون أسيرًا سواء للفرد أو للدولة. إنَّ مرض المدنية ليس هو الفقر المادي الذي يُعانيه الكثيرون بمقدار ما هو انهيار روح الحرية والثقة بالنفس. إنَّ الثورة التي سوف تُغيِّر العالم لن تنشأ عن الخير الذي يُصيبه العامل من رفع مستواه المادي، ولكنَّها تنشأ عن إرادة الحرية. لا بُدَّ أن يعمل الناس معًا وهم على تمام الوعي بأنَّ كُلًّا منهم يعتمد على الآخر، وأنَّهم يعملون لأنفسهم. ولا بُدَّ أن ينالوا حريتهم بالأصالة عن أنفسهم، لا هبة تهبط عليهم من أعلى.»

«فالاشتراكيون إذن يجب أن يُناشدوا العُمَّال لا بقولهم: «إنَّ الفقر ممقوت، وعليكم أن تُعينوا على رفع شأن الفقير.» ولكن بقولهم: «ليس الفقر إلَّا دليلًا على الاستعباد، ولعلاجه ينبغي لكم أن تكفُّوا عن العمل لغيركم، ويجب أن تثقوا في أنفسكم.» وسيبقى رِق استئجار الناس ما دام هناك رجل — أو هيئة — سيِّدًا على الناس. ويزول هذا الرق حينما يتعلَّم العُمَّال أن يضعوا حريتهم فوق راحتهم. يجب أن يُصبح الرجل العادي اشتراكيًّا لا لكي يحصل على «حدٍّ أدنى من الحياة المتمدِّنة» ولكن لأنَّه يشعر بالخجل من الرِّق الذي يخضع له هو وزملاؤه؛ ولأنَّه مُصمِّم على إنهاء النظام الصناعي الذي يجعلهم عبيدًا أرقاء.»

«فما هي أولًا طبيعة المثل الأعلى الذي يجب أن يهدف إليه العمل؟ وما معنى «التحكُّم في الصناعة» الذي يُطالب به العُمَّال؟ يُمكن تلخيص الإجابة عن هذين السؤالين في كلمتين اثنتين: «الإدارة المباشرة». فإنَّ واجب إدارة العمل فعلًا ينبغي أن يُعهد بالجانب الأكبر إلى العُمَّال المشتغِلِين بالعمل نفسه. ويجب أن يكون للعُمَّال نصيب من تنظيم الإنتاج والتوزيع والتبادل. يجب أن يظفروا بالحكم الذاتي في الصناعة، مع حق انتخاب مُوظَّفِيهم، ويجب أن يفهموا وأن يُديروا كل أجهزة الصناعة والتجارة المُعقَّدة. يجب أن يكونوا الوكلاء المُفوَّضين عن الجماعة في الميدان الاقتصادي.»

(ج) الاعتراضات الاجتماعية النفسية

قبل أن نبحث في الاقتراحات العملية لتنفيذ هذا اللون من ألوان الاشتراكية، التي أُسمِّيها الاشتراكية الاجتماعية، في أي مجتمع صناعي، يجب أن نقف بُرهة للنظر في بعض الاعتراضات الأساسية لمثل هذه الاحتمالات؛ وأول نوع من أنواع هذه الاعتراضات يقوم على أساس طبيعة العمل الصناعي ذاتها، والنوع الثاني يقوم على أساس طبيعة الإنسان والدوافع النفسية للعمل.

إنَّ أهم ما يُوجِّهه الباحثون المُفكِّرون المُحِبُّون للخير من اعتراضات على فكرة الاشتراكية الاجتماعية يتعلَّق باستحالة إحداث أي تعديل في طبيعية العمل نفسه. إنَّهم يحتجون بأنَّ العمل الصناعي الحديث آلي، مُمِل، منفصل عن شخصية العامل، بطبيعته، وهو يقوم على أساس توزيع العمل إلى درجة قصوى، ولا يُمكن أن يشغل اهتمام الإنسان أو انتباهه كله. وكل رأي يرمي إلى إعادة العمل — كما كان قديمًا — شائعًا ذا معنًى، إنَّما هو حلم خيالي، وتحقيقه يتطلَّب التخلِّي عن نظامنا في الإنتاج الصناعي، والعودة إلى الطريقة القديمة في الصناعة، طريقة الإنتاج بالعمل اليدوي. إنَّ المعارضين في الاشتراكية الاجتماعية يزعمون أنَّ آلية العمل أمر لا مناصَ منه، بل إنَّ هدفنا ينبغي أن يكون المبالَغة في تجريد العمل من المعنى، وفي آليته. ولقد شهدنا تخفيضًا شديدًا في عدد ساعات العمل خلال المائة سنة الأخيرة، وليس بمُستبعدٍ أن يهبط عدد ساعات العمل إلى أربع أو حتَّى اثنين في اليوم. كما أنَّنا نلحظ اليوم انقلابًا أساسيًّا في طريقة العمل، وينقسم العمل الواحد إلى جزئيات صغيرة جدًّا بحيث يُصبح واجب كل عامل أن يقوم بعملية آلية يسيرة لا تتطلَّب منه التفاتًا إيجابيًّا، بل إنَّه ليستطيع خلالها أن يسترسل في أحلام اليقظة وفي التخيلات. ونحن فوق ذلك نستزيد من الأدوات الآلية التي تعمل «بذهنها» لا بذهن الإنسان في مصانع نظيفة صحية حسنة الإضاءة. ولا يُؤدِّي العامل شيئًا سوى أن يُراقب آلة ما أو يجذب رافعة بين الحين والحين. ويقول أصحاب الدعوى إلى آلية العمل: إنَّ الآلية التامة للعمل هي أملنا النهائي. ولا بُدَّ أن ينحصر عمل الفرد في ساعات قلائل كل يوم، ويجب أن يكون عمله مريحًا له، وألَّا يتطلَّب منه شدة التنبُّه، وأن يكون رتيبًا، يتم بغير وعي، وينبغي أن ينتقل مركز الاهتمام إلى ساعات الفراغ في حياة الأفراد.

وهي حجج تبدو مقنعة لأول وهْلة، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إنَّ المصنع الآلي البحت، وزوال كل عمل قذر شاقٍّ ليس الهدف الذي يتجه نحوه تطوُّرنا الصناعي؟ غير أنَّ هناك اعتبارات عديدة تمنعنا من أن نجعل آلية العمل أملنا الرئيسي في إنشاء مجتمع سليم.

فنحن أولًا نشك في أنَّ آلية العمل تُؤدِّي إلى النتائج التي يزعمها المنادون بها. وهناك دلائل كثيرة تؤيد شكوكنا. فقد أثبت البحث أنَّ العُمَّال يزداد مَقتُهم للعمل كلما زاد اعتماده على طريقة الإنتاج الكبير الذي تُستخدم فيه الآلات، لِمَا يتصف به هذا الإنتاج من التكرار والخطوات الآلية. كما لوحظ أنَّ العُمَّال يتغيَّبون في مصانع الإنتاج الكبير بنسبة أكبر من تغيُّبِهم في المصانع الصغيرة. وهم يتخلَّون عن العمل في المصانع الكبيرة بنسبة أعلى من تخلِّيهم عنه في المصانع الصغيرة. ويزعم علماء علم النفس الصناعي أنَّ إطلاق أحلام اليقظة على سجيتها وإرسال الخيال، الذي يتهيأ للعامل في العمل الآلي، يُعاون على توفير صحة العامل معاونة إيجابية. ونحن نشك في هذا الزعم؛ لأنَّ أحلام اليقظة هي في حقيقتها دليل على ضعف ارتباط الحالم بالحقيقة. وهذه الأحلام لا تُنْعِش النفس وتُريح الأعصاب كما يزعمون، ولكنَّها هروب من الواقع بكل ما يتميَّز به الهروب من نتائج سلبية. وكذلك يزعم علماء علم النفس الصناعي أنَّ انعدام تركيز الذهن في عمل بعينه أمر مُستحَب وهو مِمَّا يُميِّز إنسان العصر الحديث عامة، هذا الإنسان الذي يستطيع أن يُؤدِّي ثلاثة أشياء في وقتٍ واحد؛ لأنَّه لا يُركِّز ذهنه في شيء واحد من هذه الأشياء. وهم يزعمون أنَّ في ذلك تخفيفًا على عملية التفكير، يُفيد العقل ويُريح الذهن. ولكن الحقيقة على نقيض ذلك؛ لأنَّ كل نشاط مُركَّز، سواء كان عملًا أو لعبًا أو راحة (والراحة كذلك نوع من أنواع النشاط) يبعث على القوة، وكل نشاط لا يتوفَّر فيه التركيز ينتهي بالشعور بالتعب. ويستطيع كلٌّ منَّا أن يتحقَّق من صحة هذا الرأي إذا وضع نفسه موضع الملاحظة.

وحتَّى لو صحَّ ما يزعم المعارضون، فإنَّ الآلية وتخفيض ساعات العمل وبخاصةً إذا تجاوزنا أوروبا وأمريكا إلى آسيا وأفريقيا — اللتين لم تبدأ فيهما بعد الثورة الصناعية — لا بُدَّ أن تستغرق أجيالًا عدة حتَّى تصل إلى درجة ملحوظة.

فلنغض الطرف إذن عن هذا الاعتراض ونعود إلى التساؤل: هل يستمر الإنسان خلال بضع مئات من السنين المُقبِلة في إنفاق أكثر نشاطه في عمل لا يشترك فيه اشتراكًا فعليًّا، عمل ليس له لذلك عنده معنى؛ يترقَّب الوقت الذي لا يتطلَّب فيه العمل جهدًا كبيرًا؟ وماذا عسى أن يحدث له خلال ذلك؟ أفلا يزداد انفصاله عن طبيعته في ساعات عمله، بل وفي ساعات فراغه كذلك؟ أوليس الأمل في عمل بغير جهد حلمًا من أحلام اليقظة يقوم على توهُّم حب الإنسان للكسل، وشغفه باستخدام الآلات ذات الأزرار، وهو وهْم باطل؟ أوليس العمل جزءًا أساسيًّا من وجود الإنسان لا يُمكن ولا ينبغي، أن يكون تافهًا غاية التفاهة؟ أوليست طريقة العمل في حد ذاتها عنصرًا أساسيًّا في تكوين شخصية الفرد؟ وهل لا يُؤدِّي العمل الآلي المطلق إلى حياة آلية مطلقة؟

ألا يُشير مجرد هذا التساؤل إلى ضرورة مساهمة العامل في العمل مساهمة إيجابية فعَّالة فيها مسئولية وفيها إدراك لسير العمل كله والهدف منه، وإلى ضرورة إشراك العامل في إدارة العمل، وتحسين علاقته بالعمل ذاته وبأصحاب العمل، وزملائه فيه؟ وهو ما أُسمِّيه بالاشتراكية الاجتماعية؟

إن هذه الأسئلة كلها شكوك تتعلَّق بتمجيد العمل الآلي. والآن نعالج ذلك الرأي الذي يُنْكِر أن يكون للعمل جاذبية أو يكون له معنًى، ويُنكر تبعًا لذلك أن يقوم العمل على أساس إنساني صحيح. إنَّ أصحاب هذا الرأي يقولون: إنَّ العمل بالمصنع الحديث لا يُؤدِّي بطبيعته إلى اللَّذَّة أو إلى رضا النفس، كما أنَّ هناك أعمالًا مُنفِّرة بطبيعتها لا بُدَّ من أدائها. ولا يُمكن إشراك العامل إشراكًا إيجابيًّا في الإدارة؛ لأنَّ ذلك لا يتفق وما تتطلَّبه الصناعة الحديثة، ويُؤدِّي إلى الفوضى. وفي ظل هذا النظام لا بُدَّ من الطاعة. ولا بُدَّ من أن يُلائِم المرء بين نفسه وبين روتينية العمل، حتَّى يقوم بواجبه على الوجه الصحيح. والإنسان كسول بطبعه. ولا يميل إلى تحمُّل المسئولية. ولا مندوحةَ لنا إذن عن تهيئته للقيام بعمله بأيسر السُّبل ودون أن يتصرَّف تصرُّفًا فيه شيء من التلقائية والابتكار.

ولكي نُعالج هذه المزاعم على أساس صحيح لا بُدَّ لنا من البحث في مشكلة «الكسل» و«الدوافع المتنوعة التي تدفع الإنسان إلى العمل».

من العجيب أن يعتقد — حتَّى اليوم — جماعة من علماء النفس ومن غير علماء النفس كذلك في «كسل» الإنسان الطبيعي، في حين أنَّ الوقائع التي نُلاحظها لا تُؤيِّد هذا الرأي. إنَّ الكسل ظاهرة لمرض عقلي، وليس البتة من طبيعة الإنسان. والواقع أنَّ الملل وحيرة الإنسان فيما يصنع بنفسه وبحياته من أسوأ أسباب الألم النفسي. والمرء يهمه أن ينفق جهده بطريقة لها عنده معنًى حتَّى إنْ لم ينل لهذا الجهد جزاءً ماليًّا أو أي نوع آخر من أنواع الجزاء؛ وذلك لأنَّ الإنسان لا يستطيع أن يُطيق الملل الذي ينشأ عن انعدام الحركة والنشاط.

انظر إلى الأطفال إنَّهم لا يكسلون قط. إذا لاقوا شيئًا من التشجيع، بل وبغير تشجيع، تراهم مشتغلين باللعب، وبتوجيه الأسئلة، وابتكار القصص، لا يدفعهم إلى ذلك سوى المتعة من مجرد النشاط. كما أنَّ الشخص الذي لا يجد لذة في أداء أي عمل يُعْتَبر من الناحية النفسية مريضًا مرضًا خطيرًا، ينحرف في مسلكه عن الحالة العادية للطبيعة البشرية. ولدينا أمثلة كثيرة عن العُمَّال أثناء التعطُّل الذين يُعانون من «الراحة» مثلما يُعانون من الحرمان المادي، أو أشد، ولدينا كذلك ما يدلُّ على أنَّ كثيرًا من الأشخاص بعد الخامسة والستين مِمَّن يضطرون إلى التقاعد عن العمل اضطرارًا يشعرون بمنتهى التعاسة، وتتدهور صحتهم ويقعون فريسة للمرض.

وهناك — برغم ذلك — أسباب قوية تُبرِّر العقيدة الشائعة في حب الكسل الكامن في طبيعة الإنسان، وأهم هذه الأسباب هو أنَّ العمل — بالصورة التي يسير عليها، والتي تجعل العامل منفصلًا في نشاطه الخارجي عن رغباته الباطنية — مُمل لا يُرضي. وأنَّ قدرًا كبيرًا من توتُّر الأعصاب والعداوة يتولَّد في النفوس، ويُؤدِّي ذلك إلى الانصراف عن العمل الذي يقوم به المرء وعن كل ما يتعلَّق به. ونجد نتيجة لذلك أنَّ الميل إلى الكسل وإلى «عدم العمل» مثلٌ أعلى عند كثير من الناس. ومن ثمَّ تراهم يعتقدون أنَّ الكسل هو الحالة الطبيعية، ولا يَنمُّ عن حالة مَرَضية في طريقة الحياة تنشأ عن انفصال العمل عن طبيعة الإنسان، مِمَّا يجعله نشاطًا ليس له معنًى، وبفحص الآراء السائدة عن دوافع العمل يتبيَّن أنَّها كلها تقوم على أساس انفصال العمل عن رغبات العامل، ومن ثمَّ فإن نتائج الفحص لا تنطبق على العمل الجذَّاب الذي يتفق ورغبات العامل.

إنَّ النظرية التقليدية الشائعة هي أنَّ «المال» هو الدافع الأساسي للعمل، ولهذا الرأي معنيان مختلفان؛ أولهما: أنَّ الخوف من الجوع هو الدافع الأساسي للعمل، وفي هذه الحالة يكون الرأي صحيحًا. وإنَّ كثيرًا من الأعمال لا يُمكن البتة قبوله بالأجور التي تُدْفَع فيه أو بالشروط التي يفرضها صاحب العمل إلَّا إذا كان العامل مُهدَّدًا بالجوع إذا هو رفض هذه الشروط. ولا يُمكن أن يُؤدَّى العمل البغيض المنحط في مجتمعنا تطوُّعًا، وإنَّما يُؤدَّى؛ لأنَّ الحاجة إلى كسب العيش تُرغم كثيرًا من الناس على أدائه.

بَيْد أنَّ ما يُقْصَد بدافع المال ليس هو في الحقيقة هذا. إنَّما يُقْصَد به الرغبة في اكتساب «المزيد» من المال كحافز لمضاعفة الجهد في العمل. ويقول أصحاب هذا الرأي: إنَّ الإنسان لا يشتغل البتة إذا كان يفقد الأمل في زيادة التعويض المالي، أو — على الأقل — لا يهتم بالعمل إنْ هو أُرغم على أدائه.

ولا تزال هذه العقيدة مُسيطرة على عقول أكثر رجال الصناعة، وعلى كثير من رؤساء النقابات. وباستفتاء هؤلاء عن العامل الهام في زيادة إنتاج العامل كانت الإجابة كالآتي:

٤٤٪ المال وحده
٢٨٪ المال أهم العوامل، ولكن هناك إلى جانبه عوامل أخرى غير ملحوظة لها هي الأخرى كذلك أهميتها
٢٨٪ المال له أهميته. ولكنَّه يفقده الأهمية بعد حد مُعيَّن
١٠٠٪

والواقع أنَّ أصحاب الأعمال في جميع أرجاء العالم يعتقدون أنَّ ما يتناوله العامل من أجور هو أقوى البواعث على زيادة إنتاج العامل، فيؤدِّي بالتالي إلى زيادة كسب العُمَّال وأصحاب العمل، ويُؤدِّي إذن بطريق غير مباشر إلى قِلَّة الغياب، وسهولة الإشراف، وما إلى ذلك.

ومِمَّا لا شك فيه أنَّ الدافع المالي لا بُدَّ أن يلعب دورًا هامًّا ما دام هو الباعث الوحيد على العمل؛ لأنَّ العمل في حد ذاته مملٌّ لا يُرضي النفوس. وهناك أمثلة كثيرة نرى الناس فيها يختارون العمل الذي يُجزي مالًا أقل إذا كان العمل نفسه أكثر تشويقًا.

وبالإضافة إلى باعث الكسب المالي، نجد أنَّ «الكرامة» و«المكانة» «والنفوذ» الذي يُصاحب المال من الدوافع الأساسية كذلك إلى العمل. وليست بنا حاجة إلى البرهان على أنَّ شهرة النفوذ واحتلال المكانة الممتازة هي أقوى دافع للعمل اليوم بين أفراد الطبقة الوسطى والطبقة العُليا. إنَّ أهمية المال في الحقيقة ترجع — إلى حدٍّ كبير — إلى أنَّه يُمثِّل الكرامة كما يُمثِّل الضمان والراحة على الأقل. ولكن الدور الذي تلعبه الحاجة إلى الكرامة كذلك بين العُمَّال والكَتَبة والصفوف الخلفية في البيروقراطية الصناعية والتجارية، كثيرًا ما يهمل. فكما أنَّ التليفون الشخصي، والمكتب الضخم، للموظف الكبير، من الدوافع السيكولوجية للإحساس بالأهمية. فكذلك تكون العلاقة النحاسية التي يحملها الساعي في المصرف أو الخادم في الفندق الفخم.

إنَّ المال والكرامة والنفوذ هي الدوافع الأساسية في الوقت الحاضر للجانب الأكبر من السُّكَّان، وأقصد بهم المستخدمين. بَيْد أنَّ هناك دوافع أخرى، منها الشعور بالفخر لبناء «عمل اقتصادي مستقلٍّ» وأداء «عمل ينم عن المهارة». وكلا هذين الدَّافِعَين يجعل للعمل معنًى أكبر وجاذبية أعظم مِمَّا يضفيه عليه دافع المال والنفوذ. ولكن إذا كانت للاستقلال الاقتصادي والمهارة أهمية يفخر بها رجل الأعمال المستقل، والصانع، والعامل الماهر، كما كانت الحال في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، فقد قلَّت أهمية هذين الدافعين في الوقت الحاضر إلى حدٍّ كبير.

وقد أخذ عدد المستخدمين يتزايد عن عدد أصحاب الأعمال المستقلة، فقد كان زهاء أربعة أخماس السُّكَّان المشتَغِلِين في بداية القرن التاسع عشر أصحاب مشروعات خاصة. وفي حوالي عام ١٨٧٠م أصبح ثلث السُّكَّان فقط من هذه الفئة. وفي عام ١٩٤٠م أمست هذه الطبقة المتوسطة القديمة تشتمل على خُمس السُّكَّان المشتغلين فقط.

وهذا الانتقال من العمل المُستقل إلى الخدمة يُؤدِّي إلى السخط على العمل للأسباب التي سبق ذكرها. فإنَّ المُستخدم — على خلاف المستقل في عمله — لا يعمل وفقًا لرغباته الشخصية، فعمله ينفصل عن نفسه. وسواء تقاضى راتبًا كبيرًا أو صغيرًا فهو تابع لنظامٍ معينٍ، لا يعمل شيئًا لنفسه.

وهناك عامل واحد يُمكن أن يُضيِّق الهُوة التي تفصل بين العمل والقائم به، وذلك هو المهارة المطلوبة في أدائه. غير أنَّ التطوُّرات الحديثة تُخفِّف أيضًا من الحاجة إلى المهارة، وبالتالي تدعو إلى زيادة الفصل بين العمل ونفسية العامل.

وليس من شكٍّ في أنَّ عُمَّال المكاتب بحاجة إلى قَدْر مُعيَّن من نوع من أنواع المهارة في الخدمة. غير أنَّ هذه المهارة الحقيقية تفقد أهميتها بالنسبة إلى المهارة المُصطَنعة التي تستند إلى «التظَرُّف» الذي يتظاهر به العامل لكي يُحسن عرض نفسه أو بيعها. وكذلك كانت للعامل الصناعي قديمًا مهارة عامَّة يستخدمها في كل ناحية من نواحي العمل. وقد فقدت هذه المهارة أهميتها لتحل محلها المهارة الجزئية التي لا تحسن إلَّا جانبًا يسيرًا من العمل دون الجوانب الأخرى.

وأكثر الناس مستخدمين لا يُطْلَب منهم إلَّا قليل من المهارة. وتكاد لا تُتاح لهم الفرصة لتنمية أيَّة موهبة خاصة، أو لإظهار أي عمل ممتاز، وقد يكون لدى رجال الإدارة وأصحاب المهن الرفيعة على الأقل قَدْر من الاهتمام لا بأس به لعمل شيء شخصي إلى حدٍّ ما، ولكن الغالبية العظمى تبيع جهدها البدني وشيئًا يسيرًا من قُدرتها الذهنية لصاحب عمل من الأعمال، ويستخدمون هذا الجهد في تلك القدرة في اجتلاب ربحٍ لا نصيب لهم فيه، وفي أمور ليس لهم بها اهتمام، ولغرض واحد هو كسب العيش، وانتهاز فرصة يسيرة لإشباع ما عندهم من نَهَم للاستهلاك.

ولا يُمكن أن يترتَّب على هذه الحياة التي يُرْغَمون عليها إرغامًا إلَّا السخط، وتبلُّد الحس، والملل، والتعاسة، والإحساس بالتفاهة، وشعور غامض بأنَّ الحياة لا معنى لها. وقد لا يعي الناس هذه الأمراض الاجتماعية، وقد يُقابلونها بفرار جنوني إلى نشاط آخر يجدون فيه مهربًا من هذه الحال السيئة، أو باحتدام الشهوة للاستزادة من المال أو النفوذ أو الكرامة. وليست لهذه الدوافع الأخيرة أهمية إلَّا لأنَّ الشخص الذي يقوم بعمل لا يتصل بحاجاته النفسية لا يسعه إلَّا أن يبحث عن مثل هذا التعويض يسد به فراغ النفس، وليست بالدوافع «الطبيعية» أو أهم البواعث على العمل.

وهل هناك دليل محسوس على أنَّ أكثر الناس اليوم ساخطون على أعمالهم؟

عندما نُحاول أن نُجيب عن هذا السؤال نُحبُّ أن نُفرِّق بين السخط أو الرضا يحسهما المرء شعوريًّا، أو يكبتهما في اللاشعور. يتضح من تجارب التحليل النفسي أنَّ الإحساس بالتعاسة والسخط يُمكن أن يُكبت في أعماق النفس. وقد يحس المرء شعوريًّا برضا النفس، ولكن أحلامه وأمراضه النفسية وما يُصيبه من أرق وما شابه ذلك من أعراض يُعبِّر عن السخط المكبوت. ويُقوِّي الميل إلى كبت السخط والتعاسة. إنَّ الرأي السائد هو أنَّ السخط معناه «الفشل» والشذوذ وعدم النجاح، إلى آخر ذلك مِمَّا يهم المرء أن يُخفيه ولا يُبديه. ونضرب لذلك مثلًا الرجل الذي يحسب شعوريًّا أنَّه سعيد في زواجه، ويُعبِّر عن هذا الرأي مُخلصًا حينما يُسأل، وهو في الواقع وحقيقة الأمر شقي تَعِس في زواجه، ولكنَّه يكبت هذا الإحساس في أعماق نفسه حتَّى لا يظهر للناس فيَصِمُونه بالفشل في الحياة، وهي وصمة يُحاول ألَّا تلصق به بأيَّة حال من الأحوال.

ويُؤيِّد هذا الرأي الذي نزعمه الحقائق التي تجمَّعت لدينا عن نسبة الرَّاضِين شعوريًّا بوظائفهم. فقد تبيَّن بالإحصاء أنَّ ٨٥٪ من أصحاب المهن الرفيعة ورجال الإدارة راضون عن عملهم مستمتعون به، و٦٤٪ من المُوظَّفِين الكِتابِيِّين، و٤١٪ من عُمَّال المصانع قانعون بأعمالهم. وتدل هذه الأرقام على أنَّ نسبة الرضا بين أرباب المهن الرفيعة ورجال الإدارة أعلى منها بين الموظفين الكتابيين والعُمَّال. ولمَّا كان أكثر الناس من هاتين الطبقتين فمعنى ذلك أنَّ أكثر الناس غير راضٍ عن عمله أو قانع به. وإذا أدخلنا في اعتبارنا السخط اللاشعوري وجدنا أنَّ نسبة السخط أعلى من ذلك بكثير. فإذا نحن أخذنا أصحاب المهن الرفيعة ورجال الإدارة الذين يحسبون أنفسهم راضين عن عملهم قَانِعِين به، وفحصنا كَمْ منهم يُعاني من ارتفاع ضغط الدم ومن القروح المعوية والأرق والتوتُّر العصبي والملل الذي ينجم عن المتاعب النفسية، وغير ذلك من الأمراض التي تنشأ عن السخط المكبوت، وَجَدْنا منهم عددًا كبيرًا من المُصابين، وهي جميعًا أمراض تنشأ عن السخط المكبوت. ونستطيع إذن أن نقول ونحن واثقون: إنَّ عدد الأشخاص الراضين بعملهم فعلًا والذين يستمتعون بما يعملون، أقل بكثير من النسبة التي ذكرناها آنفًا.

أمَّا العُمَّال وموظفو المكاتب فإنَّ نسبة الساخِطِين شعوريًّا بينهم عالية جدًّا. وليس من شكٍّ في أنَّ عدد الساخِطِين عن غير وعي أعلى أيضًا من ذلك. ويدل البحث على أنَّ الأسباب الأساسية للتغيُّب عن العمل هي الأمراض العصبية والنفسية (حوالي ٥٠٪ من عُمَّال المصانع يُعانون أمراضًا عصبية). كما أنَّ الملل والتنقُّل من عمل إلى آخر من الظواهر الأخرى التي تدل على السخط والاستياء.

ومن أهم الدلائل على السخط — من الناحية الاقتصادية — ما نجده عند عُمَّال المصانع من ميلٍ شديد إلى الامتناع عن بذل قُصارى الجهد في العمل، فلا يقوم الواحد منهم في أكثر الأحيان إلَّا بإنفاق الحد الأدنى من المجهود.

ومن هذا نرى أنَّ هناك قدرًا كبيرًا من السخط الشعوري، واللاشعوري، من نوع العمل الذي يُتيحه مجتمعنا الصناعي لأكثر أعضائه. فنُحاول أن نُعالج هذا السخط بدوافع المادة والكرامة. ولا نُنكر أنَّ هذه الدوافع تبعث على شدة الاهتمام بالعمل. وبخاصة في الصفوف الوسطى والعليا من العامِلِين، ولكن إقبال الناس على العمل بهذه الدوافع شيء، وأداء طريقة هذا العمل إلى الصحة العقلية والسعادة شيء آخر. ونحن حين نناقش الدوافع إلى العمل لا ننظر إلَّا إلى مقدار الإقبال عليه، أي نبحث إن كان هذا الدافع أو ذاك مِمَّا يزيد من إنتاج العمل «الاقتصادي»، ولكنَّا لا نأبه إن كان العمل يُؤدِّي إلى الصحة العقلية وإلى السعادة أو لا يُؤدِّي؛ أي لا نبحث إن كان العمل يزيد الإنتاج من ناحيته «الإنسانية». إنَّنا نتجاهل أنَّ هناك دوافع كثيرة قد تحمل الشخص على أن يقوم بعمل ما، ولكنَّها في الوقت نفسه تعوق نمو شخصيته. فالشخص قد يَجِدُّ في عمله خوفًا، أو بدافع من إحساسه بالذنب إن أهمل. والأمراض النفسية تمدنا بكثير من أمثلة الدوافع العصبية التي تُؤدِّي إلى مُضاعَفة النشاط من ناحية، وإلى الفتور من ناحية أخرى.

ويحسب أكثر الناس أنَّ نوع العمل الذي يسود المجتمعات في العصر الحاضر، وأقصد به العمل الذي لا يتفق واحتياجات العامل الطبيعية، هو النوع الوحيد الممكن؛ ومن ثمَّ فإنَّ النفور من العمل طبيعي، ومن ثمَّ فإنَّ المال والكرامة والنفوذ هي وحدها ما يُحفِّزنا إلى أداء العمل، ولكنَّا لو أرسلنا الخيال بعيدًا لألفينا في حياتنا وفي حياة أطفالنا ما يدل على أنَّنا نميل إلى إنفاق ما لدينا من نشاط في عمل ذي معنًى، وأنَّنا نشعر بالنشوة الشديدة إذا وُفِّقنا إلى إشباع هذا الميل، وأنَّنا نقبل السُّلطة المعقولة طواعية وبنفس رَضِيَّة إذا كان ما نعمل له في نفوسنا ما يُبرِّره.

ويعترض علينا في ذلك أكثر الناس قائلين بأنَّ هذا الرأي ليست له أيَّة قيمة عملية؛ لأنَّ العمل الصناعي الآلي لا يُمكن بطبيعته أن يكون ذا معنًى ولا يُمكن أن يُرضي الفؤاد أو يُمتِّع النفس. وليس من هذا العمل الآلي مَفر إلَّا إنْ تخلَّينا عن إنتاجنا العملي. ولهؤلاء أقول: إنَّ للعمل وجهين: أحدهما عملي فني لا يُمكن تعديله، والآخر اجتماعي، يتعلَّق بعلاقة العامل بالعمل وبصاحب العمل وبزملائه فيه، وهذا الوجه يقبل التعديل بحيث يُحبِّب العامل في عمله ويجذبه إليه.

(د) دوافع الاهتمام والمشارَكة

إذا نظرنا إلى ظروف العمل من وجهتيها العملية والاجتماعية، مُنفصلَتَين، وَجدْنا أنَّ أنواعًا كثيرة من العمل يُمكن أن تكون جذَّابة من الوجهة الفنية العملية إذا كانت لها قيمة اجتماعية، وهناك من ناحية أخرى أنواع من العمل لا يُمكن بطبيعتها أن تكون من الوجهة الفنية العملية شائقة، ولكن قيمتها الاجتماعية تُضفي عليها جاذبية ومعنًى.

ومن الأعمال المُمتِعة من الناحية العملية، التي ليست لها من الناحية الاجتماعية قيمة تُذْكَر، عمل البستاني. فكم من رجل يَودُّ لو كان عمله في البستان. ولكن مَهما ارتفع أجر العمل في فلاحة البساتين فهو عمل لا يُحقِّق مطامع أولئك الذين يتطلَّعون إلى المكانة الاجتماعية. فكم مدير من مديري الأعمال التِّجارية الكبرى يجد في فلاحة البساتين مُتعة لا يجدها في عمله إذا كان للفلاحة قدر اجتماعي. ولنأخذ مثالًا آخر: عمل المُناوِل في المطعم؛ إنَّ هذه المهنة يمكن أن تكون مهنة جذَّابة جدًّا لكثير من الناس بشرط أن ترتفع مكانتها في المجتمع، فهي تسمح بتبادل الاتصال الشخصي في أكثر الأحيان، وهي مصدر للسرور حينما يَنصَح المُناوِل مخدومه عمَّا عنده من أطعمة شهية، وحينما يُقدِّم هذه الأطعمة بشكل مستساغٍ، إلى غير ذلك من عمل المُناوِل. وكم من رجل يكون بعمل المُناوِل أسعد منه بالانكباب على مكتب يجمع ويطرح أرقامًا ليس لها عنده معنًى، لولا حِطَّة عمل المُناوِل من الناحية الاجتماعية وانخفاض راتبه. وكم من رجل يود لو كان من سائقي السيارات، لولا أنَّ عمل السائق عديم القيمة من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية.

وكثيرًا ما يُقال: إنَّ هناك أنواعًا مُعيَّنة من العمل لا يُحب أحد أن يُؤدِّيها ما لم ترغمه الضرورة الاقتصادية، كالعمل في منجم من المناجم مثلًا. ولكنَّا لو وضعنا في اعتبارنا تنوُّع الشخصيات، ونزوات الناس الشعورية واللاشعورية، علمنا أنَّ هناك عددًا كبيرًا من الناس، العمل في باطن الأرض واستخراج ثرواتها له عندهم جاذبية كبرى لولا المثالب الاجتماعية والمالية لهذا النوع من العمل. ومن القليل النادر أن تجد عملًا من الأعمال لا يجتذب إليه نوعًا مُعيَّنًا من الشخصيات، بشرط أن تكون للعمل قيمة اجتماعية واقتصادية.

ولو فرضنا أنَّ كل هذه الاعتبارات صحيحة مطابقة للواقع، فمِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ كثيرًا من العمل الروتيني البحت الذي تتطلَّبه الصناعة الآلية لا يُمكن أن يكون في حد ذاته مصدرًا للمتعة ورضا النفس. وهنا كذلك يتبيَّن أنَّ الفرق بين الوجهة الفنية العملية والوجهة الاجتماعية للعمل ذو أهمية قصوى. فقد تكون الوجهة العملية غير شائقة حقًّا، ولكن ظروف العمل في مجموعها تُوفِّر للعامل درجة كبيرة من الاطمئنان النفسي.

وإلى القارئ بعض الأمثلة التي تُوضِّح له ما أقول. إذا قارنَّا مثلًا بين الزوجة التي تُعْنَى بالبيت وتقوم بالطهو، والخادمة التي تُؤجر على أداء العمل ذاته، وجدنا أنَّ العمل من وجهته العملية للزوجة والخادمة سواء، ليس في صميمه مِمَّا يُمتع النفس. ولكنَّه يختلف في معناه ويختلف في تقديره عند الزوجة وعند الخادمة، بشرط أن تكون الزوجة على صلة طيبة بزوجها وأطفالها وبشرط أن تكون الخادمة عادية في صِلَاتها لا تربطها بمخدومها رابطة عاطفية. فالزوجة لا ترى العمل سخرة كما تراه الخادمة التي لا تُؤدِّيه إلَّا لحاجتها إلى الأجر الذي تتقاضاه نظير خدمتها. والسبب في هذا الفارق بين موقف الزوجة وموقف الخادمة واضح جدًّا. فإن كان العمل من الوجهة العملية هو بعينه في كلتا الحالتين، فهو ليس كذلك من الوجهة الاجتماعية. فهو بالنسبة للزوجة جزء من مجموع علاقاتها بزوجها وأطفالها، وهو بهذه الصفة يكتسب عندها معنًى وقيمة. أمَّا الخادمة فهي لا تُحس هذا الرضا النفساني الذي تحسه الزوجة بالنسبة لوضعها في المجتمع فيما يتعلَّق بأداء هذا النوع من أنواع العمل. ومن ثمَّ فإنَّ العمل يفقد عند الخادمة معناه، وتراها مُتبرِّمة به ساخطةً عليه.

ولنضرب مثالًا آخر: ذلك البائع المُتجوِّل الذي يعرض بضائعه الشخصية التي يمتلكها في السوق. إنَّ العمل في طبيعته العملية — انتظار المُشتَرين طيلة النهار، والإجابة بين الحين والحين عمَّا يُوجَّه إليه من سؤال عن الثمن والصِّنف وما إلى ذلك، العمل من هذه الناحية مُمل بغيض للبائع كما هو لزميله في المحل التجاري الكبير. ولكنَّ هناك فارقًا أساسيًّا — برغم ذلك — بينهما. فظروف السوق بالنسبة للبائع المتجول تُهيِّئ له اتصالًا إنسانيًّا مُثيرًا شديدًا بغيره من الناس. وهو يتجاوب مع عملائه في بِشر وسرور، يستمتع بالتحدُّث إليهم، ولا يضيره أن يُباشر عمله طيلة اليوم؛ لأنَّه يجد في الصلة بالناس متعة وسلوى. أمَّا زميله البائع في المتجر الكبير فظروفه تختلف عن ذلك كل الاختلاف. إنَّ صلته بالمشترين على غير أساس إنساني؛ لأنَّها لا ترتبط بالعمل الذي يملكه بشخصه. فهو يعمل وكأنَّه جزء من آلة البيع. يخشى أن يُفصَل من عمله، شغوف بكثرة البيع حتَّى يرضى عنه أصحاب العمل. ومن ثمَّ فإنَّ ظروف عمله من الناحية الاجتماعية لا تقوم على أساس إنساني، فارغة، تخلو من كل نوع من أنواع الرضا النفساني، مِمَّا يُحسه البائع المُتجوِّل الذي يبيع ما يُنتج، ويتحوَّل ما يحصله إلى مكسب خاص له لا يحاسبه عليه أحد.

ولنعد الآن إلى الدراسات الحديثة في ميدان علم النفس الصناعي. هناك أدلة كثيرة على أهمية الفارق بين ظروف العمل الفنية العملية وظروفه الاجتماعية. وهناك أدلة كثيرة على الأثر القوي الحيوي الذي تُحدثه المشاركة الفعَّالة التي يتحمَّل العامل فيها تبعات عمله.

وقد دلَّت التجارب العملية على أنَّ اشتراك العامل في توجيه العمل تزيد من حبه له وتُضاعف من إنتاجه. إنَّ الترفيه عن العامل والإقلال من ساعات العمل لا يُحبِّب العامل في عمله بمقدار ما يُحبِّبه فيه اشتراكه في إدارته. إنَّ المرض النفسي والملل وقلة الإنتاج لا تنشأ عن رتابة الناحية الفنية في العمل، وإنَّما تنشأ عن انفصال العامل نفسانيًّا عن مجموع ظروف العمل من الناحية الاجتماعية. وبمجرد ما تقل حِدة الانفصال بإشراك العامل في شيء له عنده معنى، وله فيه صوت مسموع، تتغيَّر طريقة استجابته للعمل كلية، بالرغم من أنَّه يُؤدِّي نفس العمل من ناحيته الفنية.

(ﻫ) اقتراحات عملية

هل يُمكن تطبيق هذه الآراء تطبيقًا عمليًّا في الهيئات الصناعية والعملية المختلفة؟ إذا أمكن ذلك وجب أن تخلق للعمل ظروفًا يكرس فيها العامل حياته وجهده لشيء له عنده معنى، ويكون له فيه أثر محسوس، ويشعر فيه بالاتحاد مع زملائه أكثر مِمَّا يشعر بالانفصال عنهم، ويدرك فيه ما يعمله إدراكًا سليمًا، ويقتضي ذلك أن تكون ظروف العمل محسوسة ماسَّة به، وأن يُنظِّم العُمَّال في مجموعات صغيرة تكفي لتمكين الفرد من اتصاله ببقية الأفراد باعتبارهم كائنات بشرية حقيقية محسوسة، وإن يكن بالمصنع في جملته آلاف عديدة من العُمَّال. ومعنى ذلك إدخال نظام اللامركزية في العمل حتَّى يتمكَّن كل فرد من المساهَمة الفعَّالة فيه وتحمُّل المسئولية، مع الإبقاء في الوقت ذاته على القيادة المُوحَّدة بالقدر الذي لا بُدَّ منه؛ لأنَّ الإدارة السليمة لأي عمل ضخم لا بُدَّ فيها من عنصر المركزية وعنصر اللامركزية في آنٍ واحد، بحيث لا تطغى ناحية على أخرى.

فكيف يُمكن أن يتم ذلك؟

إنَّ الشرط الأول للمُساهَمة الفعَّالة من جانب العامل أن يكون على علم تام لا بعمله الخاص به فحسب، ولكن بالمشروع من جميع نواحيه. ويجب أن يكون علمه بالعمل مُحيطًا بنواحيه الفنية المختلفة، وبالوظيفة الاقتصادية للمشروع الذي ينتمي إليه، وعلاقته بالاحتياجات الاقتصادية ومشكلات المجتمع بوجه عام. ويُمكن لإدارة المصنع أن تُنظِّم دراسات علمية وعملية لعُمَّاله لتبصيرهم بهذه الأمور.

ومَهما تكن أهمية العلم بسير العمل ووظيفة المشروع من الناحيتين الفنية والاقتصادية، فإنَّ ذلك وحده لا يكفي؛ لأنَّ المعرفة النظرية والاهتمام تتجمَّد وتموت إذا لم تتهيأ الفرصة لترجمتها إلى عمل. ولا يُمكن أن يكون العامل مُساهمًا فعَّالًا مهتمًّا مسئولًا إلَّا إذا كان له أثر في القرارات التي لها علاقة بظروف ما يخصُّه من عمل في المشروع، وظروف المشروع بأسره. إنَّ شعور العامل بانفصاله نفسيًّا عن العمل لا يُمكن التغلُّب عليه إلَّا إذا لم يكن مستخدمًا لرأس المال، وإذا لم يكن خاضعًا للأوامر تصدر له من أعلى، ولا يكون ذلك إلَّا إن أمسى شخصًا مسئولًا يستخدم رأس المال. وليس المهم في هذا الصدد مِلكية أدوات الإنتاج وإنَّما المهم هو المساهَمة في الإدارة وإصدار القرارات. والمشكلة هنا — كما هي الحال في الميدان السياسي — هي تجنُّب خطر الفوضى التي ينعدم فيها التخطيط المركزي والقيادة. ولا يتحتَّم أن يكون الخيار بين الإدارة المُركَّزة المُتسلِّطة وإدارة العُمَّال المُفكَّكة التي لا تسير على خطة مرسومة. إنَّما الحل المُوفَّق هو اندماج المركزية باللامركزية في الإدارة بدرجات معقولة. فتصدر القرارات من أعلى إلى أسفل، كما تُوجَّه من أسفل إلى أعلى.

إنَّ مبدأ الإدارة المشتَرَكة ومُساهَمة العُمَّال يُمكن تطبيقه بطريقة تجعل مسئولية الإدارة مُقسَّمة بين الإدارة المركزية من ناحية وصفوف العُمَّال من ناحية أخرى. تناقش المجموعات الصغيرة المستنيرة الأمور المُتعلِّقة بظروف عملهم الخاص وظروف المشروع كله؛ وتتسرَّب قراراتهم إلى الإدارة، وتُكوِّن أساس الإدارة المشترَكة الحقيقية. والمستهلك كذلك يجب أن يُشارك في إصدار القرارات وفي التخطيط بصورة ما؛ باعتباره مُساهمًا ثالثًا. إنَّ الغرض الأول لأي عمل هو خدمة الناس وليس كسب المال. فإنْ أخذنا بهذا المبدأ تحتَّم أن يكون للمخدومين كلمة في عمل أولئك الذين يقومون على خدمتهم. وليس من السهل تحديد اختصاص صاحب المشروع والعامل والمستهلك في الإدارة — كما هي الحال في اللامركزية السياسية — ولكن المشكلة — بلا ريب — يُمكن التغلُّب عليها، إذا نحن آمنا بمبدأ الإدارة المشترَكة.

إنَّ مبدأ الإدارة المشترَكة معناه الحد الشديد من حقوق الملْكية. إنَّ مالك المشروع — أو مالكيه — يجب أن يكون لهم الحق في نسبة معقولة من الربح لِمَا لديهم من أسهم في رأس المال، ولكن يجب ألَّا يكون لهم الحق في زيادة التأمُّر على الناس الذين يُمكن لرأس المال هذا أن يستأجرهم. وينبغي لهم — على الأقل — أن يُشرِكوا معهم في هذا الحق أولئك الذين يعملون في المشروع. وفيما يتعلَّق بالشركات الكبرى نجد في الواقع أنَّ حَمَلة الأسهم لا يُباشرون فعلًا حقوق ملكيتهم بإصدار القرارات. وإذا ما شارك العُمَّال حق إصدار القرارات مع الإدارة، فإنَّ الدور الفعلي الذي يلعبه حَمَلة الأسهم لا يتغيَّر تغيُّرًا يُذكر؛ لأنَّهم — على أيَّة حال — لا يهتمون بالاشتراك مع الإدارة في التوجيه. إنَّ إصدار قانون يُحتِّم إدخال نظام الإدارة المشتركة معناه الحد من حقوق الملكية، ولكنَّه لا يعني البتة أي انقلاب ثوري في هذه الحقوق. ومن رجال الاقتصاد مَن يقترح تحديد الربح الذي يتناوله المُساهمون على أن يُوزَّع باقي الأرباح على العُمَّال، ومنهم من يقترح أن يشتري العُمَّال نصيبًا من الأسهم يكفل لهم أغلبية الأصوات في الإدارة. وهناك اقتراح آخر مُؤدَّاه أن تشتري النقابات أسهمًا كافية في المشروعات التي تُمثِّل هذه النقابات عُمَّالها، وذلك للسيطرة على إدارة هذه المشروعات. ومَهما تكن الطريقة التي تُتبع فَهي طريقة تطوُّرية، تُتابِع الاتجاهات في علاقات المِلكية القائمة فعلًا، وهي وسيلة فقط لغاية مُعيَّنة، وتلك الغاية هي تمكين الناس من العمل من أجل هدف له معنًى بطريقة لها هي أيضًا معناها، فلا يكونون مجرد حملة لسلعة — هي جهدهم البدني ومهارتهم — سلعة تُشترى وتُباع كأيَّة سلعة أخرى.

ويجب عند اشتراك العُمَّال في إدارة العمل ألَّا تتكوَّن لديهم عصبية تفسد الغرض من هذا الاشتراك، ويجب ألَّا يتكوَّن لديهم إحساس «الفريق» الذي يرى من واجبه أن يهزم خصمه. فهذا شعور أناني غير اجتماعي، وهو لب الشعور الذي يدفع المرء إلى أن يحيا الحياة الانفصالية التي شرحناها فيما تقدَّم من هذا الكتاب. في حين أنَّ الحياة المثالية تهدف إلى التماسك مع الجنس البشري كله. والتماسك الاجتماعي بين أعضاء «فريق» واحد مع خصومة كل من يخرج عن هذا الفريق ليس بالشعور الاجتماعي الصحيح. إنَّما هو امتداد للأنانية.

وأُحبُّ أن أختتم هذه الملاحظات على مشاركة العُمَّال في الإدارة بأن أُؤكِّد مرة أخرى — حتَّى إن كان في ذلك شيء من التكرار — أنَّ كل الاقتراحات التي ترمي إلى إدخال العنصر الإنساني في العمل لا تهدف إلى زيادة الإنتاج الاقتصادي، ولا تهدف إلى الاقتناع بالعمل في حدِّ ذاته، أن تهدف إلى بناء اجتماعي يختلف عن البناء الحالي كل الاختلاف، بناء اجتماعي النشاط الاقتصادي فيه جزء من الحياة الاجتماعية فقط، بل وجزء ثانوي منه. فالإنسان لا يستطيع أن يفصل نشاط العمل عن النشاط السياسي، وعن استخدام أوقات الفراغ، وعن الحياة الخاصة. وإذا أصبح العمل شائقًا دون أن تكون ميادين العمل الأخرى إنسانية كذلك، فإنَّ موقف الإنسان من الحياة لا يتغيَّر كثيرًا، بل إنَّ العمل نفسه لا يُمكن بغير ذلك أن يكون شائقًا. إنَّ أسوأ ما في ثقافتنا في العصر الحاضر أنَّها تفصل ميادين الحياة المختلفة وتركن كُلًّا منها في زاوية مستقلة، والطريق إلى سلامة العقل يتوقَّف على التغلُّب على هذه التفرقة وعلى تحقيق الوحدة والتكامل داخل المجتمع وفي دخيلة كل فرد من أفراد البشر.

وقد تحدَّثت من قبل عن تشاؤم كثير من الاشتراكيين من النتائج التي انتهى إليها تطبيق الاشتراكية. غير أنَّ الوعي قد اشتدَّ أخيرًا بأنَّ الخطأ ليس مصدره هدف الاشتراكية الأساسي، أو إنشاء مجتمع لا يحيا فيه الفرد حياة منفصلة، بل يُشارك كل عامل فيه مشارَكة فعَّالة يتحمَّل فيها التبعات في ميدان الصناعة والسياسة، وإنَّما مصدر الخطأ المُبالَغة في الاهتمام بالملكية الفردية وما يُقابلها من ملكية اشتراكية، وإهمال العوامل الإنسانية والاجتماعية الصحيحة. وقد أخذ الوعي يشتد بضرورة فهم الاشتراكية على أساس مساهمة العُمَّال ومشاركتهم في الإدارة، وعلى أساس اللامركزية، وإدراك العامل إدراكًا محسوسًا لسير العمل، بدلًا من حصر الاهتمام في الفكرة المُجرَّدة عن المِلكية. وفي الإدراك الجديد للاشتراكية تنصهر آراء أوين وفوربيه وكروبتكن، وغيرهم من الاجتماعيين الدينيين والدنيويين، بآراء ماركس وإنجلز، ويرتاب المرء في «الأهداف البعيدة» المُجرَّدة، ويشتد اهتمامه بالشخص الملموس، وبالوقت الحاضر، والمكان الحالي. كما تأمل الاشتراكية الجديدة أن يشتد إدراك الاشتراكيين الديمقراطيين والإنسانيين لضرورة بدء الاشتراكية بنفسها، بمعنى أن تبدأ باشتراكية الأحزاب الاشتراكية، ولا نقصد بالاشتراكية هنا — بطبيعة الحال — حقوق الملكية، وإنَّما نقصد اشتراك كل عضو في أمور الحزب وتحميله المسئولية، وما دامت الأحزاب الاشتراكية لا تُطبِّق مبدأ الاشتراكية في داخل صفوفها، فليس لها أن تتوقَّع إقناع غيرها بهذا النظام. إنَّ مُمثلي هذه الاشتراكية المنحرفة ليودُّون — لو كانت في أيديهم سلطة سياسية — أن ينفذوا اشتراكيتهم بروح الرأسمالية، بغض النظر عن شعارهم الاشتراكي الذي يُنادون به. والأمر كذلك في نقابات العُمَّال. يجب عليها فيما يتعلَّق بأهدافها الديمقراطية الصناعية أن تُدْخِل مبدأ الديمقراطية في نظمها الخاصة أولًا، بدلًا من أن تُدير مؤسساتها كما يُدار أي عمل ضخم آخر في النظام الرأسمالي، بل أسوأ من ذلك أحيانًا.

وإنَّا حينما نؤكِّد ضرورة الإدارة المشتركة بدلًا من العمل على تعديل حقوق الملكية، وتركيز اهتمامنا فيه، لا نقصد أنَّ قدرًا مُعيَّنًا من التدخُّل المباشر للدولة وإخضاعها لنظام الاشتراكية ليس ضروريًّا.

إنَّ أهم مشكلة — بخلاف الإدارة المشتركة — هي أنَّ جميع الصناعات تقوم الآن على أساس توسُّع السوق الداخلية. وكل صناعة تسعى إلى كثرة ما تبيعه من إنتاجها حتَّى تحتل أعلى مكانة في السوق. ويترتَّب على هذا الموقف الاقتصادي أن تستخدم الصناعة كل ما في وسعها من وسائل لتُثير عند الناس الرغبة في الشراء، فتُعزِّز عندهم الميل إلى الأخذ دون العطاء، وهو ما يعوق تقدُّم الصحة العقلية. ومعنى ذلك — كما سبق أن بيَّنا — أنَّ هناك تلهُّفًا نحو الحصول على الأشياء الجديدة وإن تكن مِمَّا لا ضرورة له، وهناك رغبة ملحة في الاستزادة من الشراء حتَّى إن لم تكن هناك حاجة إلى الإنتاج الجديد من وجهة الانتفاع الإنساني الذي يتصل بالحاجات النفسية للمنتفع ولا ينفصل فيه المرء عن رغباته الحقيقية الصادقة. فترى السيارات مثلًا تدخل على مختلف أنواعها تحسينات جديدة لا يقصد المنفعة بمقدار ما يقصد منها استثارة شهوة شراء الجديد. ووجه آخر من هذه الظاهرة عينها ما نلمسه عند الناس من ميل إلى التبذير الذي تُعزِّزه كثرة الإنتاج، وبغض النظر عن الخسارة الاقتصادية التي تنجم عن هذا التبذير، فإنَّ له أثرًا نفسيًّا هامًّا، فهو يحمل المستهلك على فقدان احترامه للعمل والمجهود البشري، كما يُنْسِيه حاجات غيره من الناس سواء كانوا في وطنه أو في وطن آخر أشد من بلده فقرًا، يُمكن أن يكون الإنتاج الذي يستهلكه بغير حساب ملكًا عظيم القيمة لهم. وموجز القول أنَّ إعادة التبذير تنم عن إهمال صبياني لحقائق الحياة الإنسانية وللنضال الاقتصادي في سبيل البقاء، الذي لا يُمكن تحاشيه.

ومن الواضح أنَّ الوعظ الديني والإرشاد الروحي لا ينجح في حلِّ هذه المشكلة، ما دام نظامنا الاقتصادي يُهددنا بالأزمة إذا لم يُقْبِل الناس على المزيد من شراء كل ما أحدث وما هو أفضل مِمَّا لديهم. ومن ثَمَّ فإن كنَّا نهدف إلى تحويل الاستهلاك من عملية ليست لها بحاجاتنا صلة إلى عملية لها صلة إنسانية بما نحتاج فعلًا، فلا بُدَّ لنا من تعديل العمليات الاقتصادية ذاتها، وأن نبتدع لذلك مختلف الوسائل، ومعنى ذلك بوجه عام توجيه الإنتاج إلى الميادين التي لم تُسدَّ فيها حتَّى الآن حاجات الإنسان الحقيقية، ولا يتجه الإنتاج إلى ميادين تُخلق فيها الحاجة خلقًا مصطنعًا. ويمكن أن تعين الدولة في تنفيذ هذه السياسة بدفع القروض للمنتجين، وبتأميم بعض المشروعات الاقتصادية، وبِسَن القوانين الصارمة التي تُحرِّم الإعلان الكاذب.

وترتبط بهذه المشكلة ارتباطًا وثيقًا المعونة الاقتصادية التي تدفعها المجتمعات الصناعية لأقطار العالم المتخلِّفة اقتصاديًّا. ومن الواضح أنَّ عهد الاستغلال الاستعماري قد ولَّى، وأنَّ أجزاء العالم المختلفة قد تلاصقت كما كانت تتلاصق أجزاء القارة الواحدة منذ مائة عام، وأنَّ سلام الأمم الغنية يتوقَّف على التقدُّم الاقتصادي في الأمم الفقيرة. وأنَّ السلام والأمن والحرية لا يُمكن أن يتوفَّر للعالم الغربي مع انتشار الجوع والمرض في أفريقيا وفي الصين، ولا بُدَّ من الحد من الاستهلاك الذي لا ضرورة له في البلدان الصناعية إن أرادت هذه البلدان أن تُعين البلدان التي لم تدخلها الصناعة بعد، كما لا بُدَّ للبلدان المُتقدِّمة من عون البلدان المتخلفة إن أرادت لنفسها السلام.

وليست هذه المشكلة التي أثرناها إلَّا جانبًا من المشكلة الأعم التي تتعلَّق بمدى ما يُمكننا أن نسمح به لرأس المال لكي يتدخَّل في حاجات الجمهور بطريقة يتضخم معها رأس المال وتضر بصحة الجمهور وتعوق تقدُّمها. وأوضح مثال لذلك صناعة السينما، ونشر الكتب الفكاهية، وتخصيص صفحات بأسرها في الصحف اليومية لأنباء الإجرام. فلكي يُحقِّق صاحب رأس المال لنفسه أقصى ما يستطيع من ربح تراه يُثير أحط الغرائز إثارة مصطنعة ولا يخشى أن يُسمِّم عقل الجمهور. لقد صدرت قوانين تُنظِّم إنتاج الأطعمة والأدوية وتُحرِّم الإعلان عن المأكولات الفاسدة والأدوية الضارة. ويُمكن إصدار مثل هذه القوانين فيما يتعلَّق بكل الحاجات الحيوية الأخرى. فإن برهنت هذه القوانين على أنَّها غير رادعة وجب إخضاع بعض الصناعات — مثل صناعة الأشرطة السينمائية — للنظام الاشتراكي، أو وجب — على الأقل — إنشاء صناعة منافسة تُموِّلها الحكومة، وتُنْتِج أشرطة سينمائية مُلائمة. وإذا كان هدفنا الأوحد في المجتمع تقدُّم الإنسان، وإخضاع حاجاته المادية لاحتياجاته الروحية، تيسَّر لنا إيجاد الوسائل القانونية والاقتصادية التي نحدث بها ما نشاء من تعديل في حياة الناس.

وأنتقل الآن إلى مناقشة اقتراح آخر يهدف إلى إرساء الاشتراكية على قواعد إنسانية سليمة. ويرمي هذا الاقتراح إلى إيجاد نوع من المساواة في الدخل بين جميع الأفراد المواطنين. إنَّ المساواة المُطلَقة بين الناس من الناحية الاقتصادية لم تكن قط هدفًا من أهداف الاشتراكية، وهي — لأسباب عدة — فكرة غير عملية، بل ولا يُرغب فيها. إنَّ ما يجب أن نُحقِّقه هو توفير مقدار من الدخل لكل فرد يُمكن أن يكون أساسًا لحياة إنسانية كريمة. ولا ينبغي أن يتجاوز الفارق بين دخل ودخلٍ الحدَّ الذي يُؤدِّي إلى اختلاف في أسلوب الحياة نفسها. إنَّ الرجل الذي يبلغ دخله الملايين من الجنيهات، الذي يستطيع أن يُشبع كل نزوة من نزواته، يعيش على أسلوب يختلف عن الأسلوب الذي يعيش عليه الرجل الذي لا يستطيع أن يُشبع إحدى رغباته إلَّا على حساب رغبة أخرى. إنَّ الرجل الذي لا يستطيع أن يُغادر البلد الذي يعيش فيه، والذي لا يستطيع الإنفاق على أي لون من ألوان التَّرف يختلف عن جاره الذي لا يجد مشقة في الارتحال أو في التمتُّع بمختلف ضروب الترف. ولكن أسلوب الحياة لا يختلف من حالة إلى أخرى إذا كان الفارق بين الدخل في الحالتين محدودًا. وليس المهم أن يرتفع الدخل أو يهبط، وإنَّما المهم الوقوف عند الحد الذي تتحوَّل عنده الفوارق الكمية في الدخل إلى فوارق نوعية في طريقة الحياة.

وليست بي حاجة إلى أن أذكر أنَّ نظام الضمان الاجتماعي كما هو قائم اليوم في بريطانيا — مثلًا — يجب أن يظل نافذًا، ولكن ذلك وحده لا يكفي، بل يجب أن يمتد نظام الضمان الاجتماعي الحالي حتَّى يُصبح «ضمانًا عامًّا للبقاء» في جميع الظروف.

إنَّ الفرد لا يستطيع أن يعمل في حرية تامة مع تحمُّل مسئولية ما يعمل إلَّا إذا تخلَّص من أحد الأسباب الرئيسية التي تحد من الحريات في الوقت الحاضر، وأقصد بذلك التهديد بالجوع الذي يُرغم الناس على قبول ظروف للعمل ما كانوا ليقبلوها لولا هذا التهديد. ولن تكون هناك حرية ما دام صاحب رأس المال يستطيع أن يفرض إرادته على الرجل الذي لا يملك سوى «حياته»؛ لأنَّ هذا الرجل ليس له عمل إلَّا ما يتصدَّق به عليه صاحب المال؛ لأنَّه لا يملك المال.

وقد كانت العقيدة السائدة منذ مائة عام أنَّ الإنسان غير مسئول عن جاره. وكان المفروض — بل وما أثبته الاقتصاد علميًّا — أنَّ قوانين المجتمع حتَّمت وجود جيش كبير من الناس الفقراء الذين لا عمل لهم لكي تستمر عجلة الاقتصاد في دورانها. أمَّا اليوم فلا يكاد يجرؤ أحد على الجهر بهذا المبدأ. فالكل يؤمن أنَّه لا ينبغي أن يُحرم من ثروة الأمة أحد، سواء بقوانين الطبيعة أو قوانين المجتمع. وكان الناس منذ مائة عام يعتقدون أنَّ الفقراء إنَّما يُعانون مِمَّا آلوا إليه بسبب جهلهم وابتعادهم عن المسئولية، فالخطأ خطؤُهم والذنب ذنبهم. ولكن هذا الرأي قد تضاءل اليوم ولم يعد يعتنقه أحد من الناس. وقد أُدْخِل نظام للتأمين في جميع البلاد الغربية الصناعية يكفل لكل فرد حدًّا أدنى للحياة في حالة التعطُّل أو المرض أو الشيخوخة. وإذا خطونا خطوة أخرى إلى الأمام فرضنا — حتَّى حينما تنعدم هذه الظروف — أنَّ لكل فرد حقًّا في أن تُكْفَل له وسائل العيش. ومعنى ذلك من الناحية العملية أنَّ كل مواطن يستطيع أن يُطالب بمبلغ يكفي أن يكون حدًّا أدنى للعيش حتَّى إن لم يكن متعطلًا أو مريضًا أو طاعنًا في السن. يستطيع أن يطلب هذا المبلغ إذا تخلَّى عن وظيفته طواعية، أو إذا أراد أن يُعدَّ نفسه لنوع آخر من العمل، أو لأي سبب شخصي يمنعه من كسب المال، دون أن يكون مِمَّن تُطبَّق عليهم قواعد الانتفاع الحالية بالتأمين الاجتماعي. ويستطيع — بإيجاز — أن يُطالب بهذا الحد الأدنى من نفقات العيش دون أن يتحتَّم عليه إبداء «المُبرِّر». ويجب أن تُحدَّد مدة الانتفاع بفترة معينة، نحو عامين مثلًا، لكي يتجنَّب الطالب الإصابة بحالة من توتر الأعصاب تمنعه من قبول أي نوع من أنواع التفضُّل الاجتماعي عليه.

وقد يبدو هذا الاقتراح خياليًّا، ولكن كذلك كان يبدو نظام التأمين الاجتماعي للناس منذ مائة عام. والاعتراض الأساسي على هذا المشروع هو أنَّه إذا كان لكل فرد من أفراد المجتمع الحق في الحصول على حد أدنى من المال يُعينه على العيش، فإنَّ الناس يتكاسلون ولا يعملون. وهذا الزعم يستند إلى رأي خاطئ، وهو أنَّ الكسل طبيعة في الإنسان، والواقع أنَّنا إذا استثنينا المرضى بداء الكسل، قلَّ من الناس من لا يريد أن يكسب أكثر من الحد الأدنى، ومن يؤثر الخمول على العمل.

ومَهما يكن من أمر، فإنَّ الشك في النظام الذي يكفل حدًّا أدنى من نفقات العيش لا يخلو مِمَّا يُبرره عند أولئك الذين يُريدون أن يستخدموا ملكية رأس المال لإرغام الآخرين على قبول شروط العمل التي يفرضونها. وإذا أردنا ألَّا نُرغم أحدًا بعد اليوم على قبول العمل حتَّى لا يموت جوعًا، وجب أن يكون العمل مُمْتِعًا إلى حدٍّ كبير وجذَّابًا يستهوي الناس بقبوله. كما أنَّ حرية التعاقد لا تتوفَّر إلَّا إذا كان الطرفان أحرارًا في قبول العقد أو رفضه. وليس الأمر كذلك في ظل النظام الرأسمالي القائم.

وإذا نحن أخذنا بهذا النظام، فإنَّنا لا نكفل حرية التعاقد بين أصحاب العمل والمستخدمين فحسب، بل نُعزِّز كذلك — إلى حدٍّ كبير — الحرية في تبادل العلاقات الشخصية بين الأفراد في الحياة العادية اليومية.

ولنضرب لذلك مثلًا؛ الرجل الذي يُستخدم اليوم في عمل لا يُحبه، كثيرًا ما يُرغم على الاستمرار فيه؛ لأنَّه لا يملك الوسيلة للمخاطرة بالبطالة ولو لشهر واحد أو شهرين. وهو إذا تخلَّى عن عمله بطبيعة الحال فلن يكون له حق في الانتفاع بمزايا البطالة في نظام التأمين الاجتماعي. فهو إذن مُرغم على مواصلة عمل لا يميل بطبعه إليه. ولا يقتصر ضيقه النفسي على ذلك. فهو لا يستطيع أن يُعرِّض نفسه لخطر الفصل من الوظيفة، ومن ثمَّ تراه يخشى رئيسه كما يخشى كل فرد آخر يعتمد عليه في أسباب عيشه، إنَّه يخشى أن يرد على إهانة، ويُحاول أن يتملَّق وأن يُطيع، بسبب خوفه الدائم من أن يفصله الرئيس من عمله إذا هو حاول أن يفرض شخصيته. أو خُذ مثلًا آخر: الرجلُ الذي يُقرِّر في سن الأربعين أنَّه يُريد عملًا آخر يُخالف عمله كل المخالفة، ويحتاج فيه لعام أو عامين من الإعداد. إنَّ كفالة العيش بالحد الأدنى التي نقترحها هنا تقتضيه حين يقر هذا القرار أن يكون على أهبة لشظف العيش. ولذلك كان مثل هذا القرار يتطلَّب حماسة عظمى لميدان العمل الجديد الذي يختاره لنفسه ويهتم به اهتمامًا شديدًا. ومن ثمَّ فالأرجح ألَّا يُقْبِل على هذه المغامرة إلَّا الموهوبون فقط والمهتمون حقًّا بالعمل الجديد الذي يختارونه لأنفسهم. أو خذ مثلًا المرأة التي تحيا حياة زوجية تعسة ولا يُبرِّر بقاءها مع زوجها إلَّا عجزها عن الإنفاق على نفسها ولو لفترة وجيزة من الزمن تتدرَّب خلالها على أداء عمل من الأعمال تكسب منه قوت يومها. أو خذ مثلًا المراهق الذي يعيش في صراع شديد مع أب عصبي هدَّام، والذي يستطيع أن ينقذ صحته العقلية من الوقوع في براثن العلة إذا كان حُرًّا في هجر أسرته. ونستطيع أن نقول — في إيجاز — إنَّ كفالة الحد الأدنى من العيش في كل ظرف من الظروف تخفف من الضغط الذي يقع على النفوس لأسباب اقتصادية — في العمل أو في ميدان العلاقات الشخصية — ويرد للناس حريتهم المسلوبة.

وقد يعترض القارئ على هذا الاقتراح بأنَّ الدولة لا تملك المال الذي يُعينها على تنفيذ هذا المشروع. ولكنَّا قد أخذنا بالفعل بمبدأ التأمين الاجتماعي للمُتعطِّلين، وللمرضى، والمسنين. ولن يشمل تنفيذ المشروع — غير هؤلاء — إلَّا القليل من الناس، وهم الموهوبون حقًّا، ومن يجدون أنفسهم في صراع شديد لا يُطاق، والعصبيون الذين لا يشعرون بالمسئولية، ولا يهتمون بالعمل. وإذا وضعنا في اعتبارنا جميع العوامل التي تلابس الموضوع، تبيَّن لنا أنَّ عدد الأفراد الذين يفيدون من هذا الامتياز — بعد تعميمه — لن يزيد كثيرًا عمَّا هو عليه اليوم. ونستطيع بالبحث الدقيق أن نُحدِّد هذا العدد.

وأودُّ أن أؤكِّد في هذا الصدد أنَّ هذا الاقتراح ينبغي أن ينفذ مع الإصلاحات الاجتماعية الأخرى التي أتقدَّم باقتراحها في هذا الفصل. ويجب أن نُدرك أنَّ المجتمع، الذي يُساهم فيه المواطن مساهمة فعَّالة في عمله، لا تجد فيه إلَّا عددًا قليلًا جدًّا من الأفراد الذين لا يأبهون بعملهم ولا يُقدِّرون مسئولياتهم. ومهما يبلغ هذا العدد، فتكاليف المشروع لا تبلغ مقدار ما تُنْفِقه الدول الكبرى على سلاحها وجيشها.

وينبغي أن نذكر كذلك أنَّ نظام المجتمع الذي يرد لكل فرد اهتمامه بالحياة وبالعمل، يزيد من قدرة العامل على الإنتاج بإصلاح يسير في ظروف العمل كما يقل كثيرًا ما تنفقه الدولة على علاج أسباب الإجرام، والأمراض العصبية والنفسية.

الإصلاح السياسي

حاولت في فصل سابق أن أُبيِّن أنَّ الديمقراطية لا يمكن أن تُثْمِر في مجتمع يفصل بين صالح الفرد وصالح المجموع، وأنَّ الطريقة التي تسير عليها الديمقراطية عندنا تُعزِّز هذا الفصل وتُؤكِّده. وإذا كان معنى الديمقراطية أن يُعبِّر الفرد عن عقائده وعن إرادته، فالمفروض أولًا أن تكون له عقائد، وأن تكون له إرادة. غير أنَّ الفرد في المجتمع الحديث قد تكون له ميول وقد تكون له أهواء ولكنَّه يعيش بغير عقيدة خاصة؛ لأنَّ عقيدته تذوب في عقائد المجتمع. والفرد في المجتمع الحديث يُحب هذا ويكره ذاك من الأمور، ولكنَّه يخلو من الإرادة. والميول الفردية والأهواء، وما يُحبه المرء وما لا يُحبه، تخضع — كما يخضع ذوقه — لأثر الدعاية القوية، التي ما كانت لتترك آثارها فيه لولا تهيئته لهذه الآثار عن طريق أسلوب الحياة التي يحياها، والتي تفرض عليه تجانسه مع المجموع، وتَنازُلَه عن كل رأي له خاص به.

ثمَّ ماذا يعرف الناخب العادي عن الشئون العامة؟ إنَّه يقرأ الصحيفة كل صباح، ولكن محتوى الصحيفة بأسْره لا يتصل بنفسه اتصالًا مباشرًا، وليس له عنده معنًى خاص. إنَّه يقرأ عن ملايين الجنيهات تُنْفَق، وملايين الأشخاص يُقْتَلون في الحروب، وكلها أرقام، ومعانٍ مُجرَّدة، لا تتحوَّل بأيَّة طريقة من الطرق إلى صورة محسوسة عن الدنيا لها عنده معنًى أو لها مغزًى، وما يصله من أنباء العلم قليل غير مفهوم. كل شأن من الشئون العامة بالنسبة إليه غير محدود، وغير واقعي ولا يمس شخصه مسًّا مباشرًا. والوقائع عنده عبارة عن قوائم من الذكريات، كأنَّها الألغاز، وليست عناصر تتوقَّف عليها حياته وحياة أطفاله. ومن العلامات الأساسية للاتزان والصحة العقلية للشخص العادي ألَّا تبعد الانتخابات السياسية عن العقل كل البُعد برغم هذه الظروف، وأن يجد الناخب في عملية التصويت فرصة للحكم الصحيح.

وبالإضافة إلى كل ما تقدَّم يجب ألَّا ننسى أنَّ فكرة الاحتكام إلى أغلبية الأصوات في حدِّ ذاتها فيها تجريد من الواقع وانفصال عن الرأي الفردي. وقد كان حُكم الأغلبية في الأصل مهربًا من تحكُّم الأقلية التي كانت تتألَّف في أكثر الأحيان من الملك وأُمراء الإقطاع. ولم يُقْصَد به البتة في أول الأمر أنَّ «الحق» في جانب الأغلبية. وإنَّما كان يُقْصَد به أنَّه خير للغالبية أن تكون على خطأ من أن تفرض الأقلية إرادتها على الأغلبية. ولكن الديمقراطية، أو حكم الأغلبية، اتخذت في عصرنا هذا، عصر التجانس، معنى صواب الحكم، والخضوع له إذا تعارض مع رأي الأقلية. كأنَّنا نُعلن عن بضاعة وطنية ونقول: «إنَّ عشرين مليونًا من المصريين يستهلكونها. ولا يُمكن لمثل هذا العدد من الناس كله أن يُخطئ.» فكذلك قرار الأغلبية يُتَّخذ حجة على صحته. وما أبعد هذا عن الصواب. والواقع أنَّ كل الآراء «الصائبة» في التاريخ — سواء في السياسة أو في الفلسفة أو في الدين أو العلم — كانت للأفراد أو الأقليات. ولو أنَّ الإنسان حكم في تاريخه الماضي على قيمة الآراء بنسبة عدد مُعْتَنِقيها لظلَّ حتى اليوم في أعماق الكهوف.

والناخب — كما يقول شمبيتر — إنَّما يُعبِّر عن اختياره بين مرشحين يتنافسان على صوته. وهو يُواجه بأجهزة سياسية مُتعدِّدة. كما يُواجه ببيروقراطية سياسية يتنازعها حسن النية لخير البلاد من ناحية وحب البقاء في الحكم «أو العودة إليه» بأي ثمن من ناحية أخرى. وهذه البيروقراطية السياسية، لحاجتها إلى الأصوات، تضطر — بطبيعة الحال — إلى الإصغاء إلى إرادة الناخب إلى حدٍّ ما. والأحزاب السياسية — بغية الحصول على أصوات الناخبين — تتحاشى كل ما يجلب سخطهم، وتُنادي بكل ما يبعث في نفوسهم الاطمئنان والرضا، ولا يهمهم في هذا أن يكونوا على حق أو على باطل. ولا تتصف الديمقراطية وحدها بهذه الصفة، فالحاكم المُستبد — كذلك — يتملَّق الإرادة الشعبية. والفارق بين حكم الاستبداد والحكم الديمقراطي، أنَّ النوع الأول من الحكم يستطيع أن يبقى فيه — رغم إرادة الشعب إن اقتضى الأمر ذلك — لفترة أطول.

وإذا غضضنا الطرف عمَّا للناخبين من أثر في قرارات البيروقراطية السياسية من تثبيط أو تشجيع — وهو أثر غير مباشر — فإنَّ المواطن العادي قلَّما يُشارك في إصدار القرارات العامة. فالمواطن بعدما يُدلي بصوته في الانتخابات يتنازل عن إرادته السياسية لمُمثِّله، الذي يُنفِّذ هذه الإرادة في شيء من المسئولية وشيء من العمل على الاحتفاظ بالحكم، وهو شعور مختلط غير خالص يُمازج رجال الحكم في عصر الديمقراطية الحديث. ولا يبقى بوسع المواطن العادي إلَّا أن يُدلي بصوته في الانتخابات المقبلة، ليُؤيِّد مُمثِّله ويُبْقِيه في الحكم دورة أخرى، أو يُبْعِده عن كرسي النيابة عنه. إنَّ عملية التصويت في الديمقراطيات الكبرى تأخذ صفة الاستفتاء الشعبي، الذي لا يستطيع الناخب فيه أن يفعل أكثر من أن يُسجِّل قبوله أو رفضه للأجهزة السياسية القوية التي يُسلِّم لإحداها إرادته السياسية.

إنَّ تقدُّم الديمقراطية من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين تنحصر في التوسُّع في حق الانتخاب، حتَّى أمسى التصويت حقًّا للجميع بغير قيدٍ أو شرط. ولكنَّا مَهما بالغنا في مُمارسة هذا الحق فلا بُدَّ لاطراد التقدُّم في النظام الديمقراطي من خطوة جديدة. يجب أن نُدرك أنَّ القرارات التي تُعبِّر عن إرادة الناس حقًّا لا يُمكن أن تصدر في هذا الجو من التصويت العام. وإنَّما تكون القرارات أقرب إلى الصواب إذا صدرت عن مجموعات صغيرة نسبيًّا، لا تزيد المجموعة الواحدة على خمسمائة فرد. ففي مثل هذه المجموعات محدودة العدد تُمْكِن مناقشة الأمور المعروضة من جميع وجوهها، ويستطيع كل فرد أن يجد الفرصة للتعبير عن رأيه، ويستطيع أن يُصغي وأن يُناقش مناقشة معقولة ما يُدلي به غيره من حجج. في هذه المجموعات الصغيرة يتصل كل فرد بالآخر اتصالًا شخصيًّا، فلا تجد الديماجوجية ولا يجد المُهرِّجون مجالًا للتأثير على عقول الناس، ثمَّ إنَّ المواطن — فوق هذا — يجب أن يُزوَّد بالحقائق الحيوية التي تُمكِّنه من صدق الحكم وصحة القرار. ومَهما يكن ما يُقرِّره باعتباره عضوًا في هذه المجموعة الصغيرة التي يواجه كل فرد فيها الآخر، فلا بُدَّ أن يكون له تأثير مباشر في القرارات التي يُصدرها مجلس نيابي منتخب انتخابًا مركزيًّا، وبغير ذلك يبقى المواطن في غبائه السياسي الذي يتصف اليوم به.

ويصح أن نتساءل هنا إن كان بالإمكان أن نُوحِّد بين شكل الديمقراطية المركزية — كما هي اليوم — ودرجة كبيرة من اللامركزية، وهل نستطيع أن نجعل لمجالس المدن والقرى كلمة مسموعة في المجتمع الصناعي الحديث.

لست أرى في ذلك مشكلة يتعسَّر حلها، فمن الممكن تقسيم سُكَّان كل إقليم إلى مجموعات صغيرة، تتألَّف كل مجموعة منها من نحو خمسمائة شخص، طبقًا للإقامة المحلية، أو محل العمل. ويتنوَّع أفراد المجموعة الواحدة من حيث تكوينها الاجتماعي. وتجتمع هذه المجموعات دوريًّا — مرة كل شهر مثلًا — وتختار موظفيها ولجانها، الذين ينبغي أن يُستبدل بهم غيرهم مرة كل عام. ويكون برنامجها مناقشة المشكلات السياسية الأساسية ذات الصبغة المحلية والصبغة القومية على السواء. ولكي تكون هذه المناقشات معقولة، ينبغي أن يكون أساسها المعلومات الصحيحة. فكيف يُمكن إمداد أفرادها بهذه المعلومات؟ يبدو أنَّه لا مناصَ من إنشاء هيئة ثقافية مستقلة سياسيًّا، تكون وظيفتها إعداد ونشر الحقائق التي تلزم لهذه المناقشات. ولا يختلف ذلك كثيرًا عمَّا نقوم به في المدارس، ففي المدارس نُقدِّم لأطفالنا المعارف في صيغة موضوعية إلى حدٍّ كبير خالية من تأثير الحكومات المُتقلِّبة. ونستطيع أن نتصوَّر أنَّه بالإمكان أن نُنشئ هذه الهيئة الثقافية التي أدعو إليها من الشخصيات البارزة في ميادين الفن والعلم والدين والأعمال التجارية والسياسية، الذين ترقى نزاهتهم عن مستوى الشك، ولا يقعون تحت تأثير الهيئة الحاكمة. وقد يختلف أفراد هذه الهيئة في آرائهم السياسية، ولكنَّهم يتفقون إلى درجة كبيرة على ما يمكن أن يُعدُّ حقائق موضوعية عن الوقائع المتنوعة. وفي حالة اختلاف أعضاء هذه الهيئة في وجهة النظر، يُمكن عرض آرائهم جميعهم مشفوعة بمُبرِّراتها. وبعدما تتلقَّى المجموعات التي اقترحنا إنشاءها، والتي يُقابل أفرادها بعضهم بعضًا وجهًا لوجه، بعدما تتلقَّى هذه المجموعات ما يرد إليها من الهيئة الثقافية من معلومات، يناقشونها، ثمَّ يُصدِّقون عليها، وتُسجَّل الأصوات بالطرق الفنية في وقت وجيز، ثمَّ تُنْقل القرارات بعد ذلك إلى الحكومة المركزية للتنفيذ. ويُمكن أن تُعدَّ قرارات هذه الهيئات شبيهة بالنهائية، لا ينقصها إلَّا العرض على مجلس النواب المركزي الذي يُنْتَخب أعضاؤه انتخابًا عامًّا، ولا يختلفون — في أكثر الأحيان — في الرأي عن أعضاء المجموعات. وبهذه الطريقة تصدر القرارات من الأسفل إلى الأعلى أولًا، ثمَّ تعود ثانية من الأعلى إلى الأسفل، وتقوم على أساس تفكير المواطنين أنفسهم تفكيرًا إيجابيًّا يتضمَّن الشعور بالمسئولية. وبمناقشة مختلف الموضوعات والتصويت عليها في المجموعات الصغيرة، لا تكون القرارات بالنسبة لمجموع الأمة — كما هي اليوم — مُجرَّدة عنهم، وليس لها سند من تفكيرهم الشخصي. كما تُصبح المشكلات السياسية مِمَّا يهم المواطن العادي أن يجد لها حلًّا معقولًا.

وبذلك يلعب كل فرد دوره كمُشارك فعلي في حياة الجماعة، ولا يقف بعيدًا عن مَعْمَعان الحياة العامة مُنفصلًا عنها، بعدما يتنازل عن إرادته السياسية لمن هم أعلى منه في عملية التصويت التقليدية المعروفة.

الإصلاح الثقافي

إنَّ أي نظام اجتماعي أو سياسي لا يعدو أثره أن يُعزِّز أو يعوق قيمًا ومُثلًا عليا مُعيَّنة قائمة فعلًا بين أفراد المجتمع. إنَّ المُثل العليا التي تُنادي بها الأديان السماوية لا يُمكن أن تتحوَّل إلى حقائق واقعية في مدنية مادية، بناؤها يدور حول الإنتاج والاستهلاك والنجاح في السوق. ولا يُمكن من ناحية أخرى للاشتراكية الصحيحة أن تُحقِّق أهداف الأُخوة والعدالة والفردية، ما لم تكن الفلسفة السائدة بين أفراد المجتمع قادرة على هضم هذه الأهداف وقبولها.

ولسنا — في الواقع — بحاجة إلى مُثل عليا جديدة أو أهداف عليا جديدة، فقد وضع كبار المُعلِّمين في الجنس البشري نماذج الحياة السليمة. وقد عبَّروا عن آرائهم بلغات مختلفة، واهتموا بمختلف الأوجه للحياة الصحيحة، واختلفوا أحيانًا في بعض الموضوعات. ولكن هذه الفروق في جملتها تافهة محدودة. ولم تتطاحن الديانات الكبرى والنظم الأخلاقية بعضها ضد بعض في كثير من الأحيان، ولم تؤكِّد ما بينها من فروق بدلًا من أن تدعم ما بينها من أوجه الشبه، لم تفعل ذلك إلَّا بدافع من أولئك الذين شيَّدوا الكنائس وأقاموا رجال الدين ووضعوا النظم السياسية. هؤلاء عقدوا الأُسس البسيطة للحق الذي نادى به الرجال الروحانيون. ومنذ أن انصرف الجنس البشري انصرافًا تامًّا عن اتصاله بالطبيعة وبالوجود الحيواني، لكي يلتمس له مَوئلًا جديدًا في الضمير الإنساني وفي التماسك الأخوي. ومنذ أن تصوَّر أولًا فكرة وحدة الجنس البشري ووحدة مصيره حتَّى يتم مولده ويكمل نموه — منذ ذلك الحين كانت النماذج والمُثل العليا هي بعينها. وكان الوحي واحدًا في كل مركز من مراكز الثقافة، دون أن يُؤثِّر أحد المراكز في المراكز الأخرى إلى حدٍّ كبير. وكانت المُثل التي يُبشِّر بها دعاة المدنية الإنسانية هي بعينها. ونحن اليوم — الذين نصل إلى هذه المُثل في يسر شديد الذين نرث التعاليم الإنسانية الكبرى بطريق مباشر — لسنا بحاجة ماسَّة إلى علم جديد بالأسلوب الذي نعيش على أساسه عيشة سليمة صحيحة، ولكنَّا في حاجة ماسَّة إلى أن نأخذ مأخذ الجدِّ ما نعتقد فيه، وما نعظ به وما نعلمه. إنَّ ثورة القلوب ليست بحاجة إلى حكمة جديدة، ولكنَّها بحاجة إلى الجدية وإلى الإخلاص.

ومن واجب التربية قبل غيرها أن تبث في الناس المُثل التي نسترشد بها، ونماذج المدنية التي ينبغي لنا أن نحذو حذوها. ولكن ما أعجز نظامنا التربوي عن القيام بهذا الواجب! إنَّ هدف التربية عندنا أولًا هو تزويد الفرد بالمعارف التي يحتاج إليها لكي يُؤدِّي وظيفته في مدنية صناعية، وأن تصب شخصيته في القالب المطلوب؛ فيكون طموحًا ومنافسًا، متعاونًا مع غيره إلى حدٍّ ضئيل، ويكون خاضعًا للسلطة، مع درجة من الاستقلال بالحد المطلوب، وأن يتقرَّب إلى غيره بشرط ألَّا يتصل اتصالًا وثيقًا بأي فرد أو أي شيء. إنَّ مدارسنا العليا وكُلياتنا تأخذ على عاتقها أن تمد طلابها بالمعارف التي لا مناص لهم من تحصيلها لكي يُؤدُّوا واجباتهم العملية في الحياة، وتمدهم بالصفات الشخصية المطلوبة في سوق الشخصيات. وقلَّما تنجح هذه المدارس والكُليات في تزويدهم بالقدرة على التفكير الناقد، أو بالصفات الشخصية التي تتفق والمُثل العليا لمدنيتنا، التي يُقرُّها الجميع. وليست بي حاجة بالتأكيد إلى الإسهاب في هذه النقطة، أو أن أُكرِّر نقدًا قام به غيري في كفاية تامة وجدارة كاملة. بيد أنَّ هناك نقطة هامة أودُّ أن أُسجِّلها في هذا الصدد، وهي ضرورة العدول عن الفصل بين المعرفة النظرية والمعرفة العملية، وهو فصل يضر ولا ينفع، وهو صدى للانفصال بين الفكر والعمل. إنَّنا نميل إلى عزل النظريات عن الأعمال، فنجعل بذلك مُشارَكة الفرد في العمل الذي يُوكل إليه مشاركة لها عنده معنى، أمرًا عسيرًا، بل مستحيلًا. وإذا كان لا بُدَّ من أن يكون العمل نشاطًا قائمًا على أساس المعرفة، وعلى أساس إدراك المرء لِمَا يعمل، إذن فلا مناصَ من إحداث انقلاب أساسي في طريقة التربية، فنُوحِّد منذ البداية بين التعليم النظري والعمل اليدوي. ويجب بالنسبة للصغار أن يكون العمل اليدوي ثانويًّا بالنسبة للتعليم النظري. والأمر على عكس ذلك بالنسبة لمن يتجاوزون سن التعليم المدرسي. ولا ينبغي — في كل مرحلة من مراحل النمو — أن ينفصل ميدان العلم عن ميدان العمل، ولا ينبغي أن يتخرَّج في المدرسة شاب ما لم يتعلَّم نوعًا من أنواع المهن اليدوية بطريقة تُرضيه عن نفسه ويكون لها عنده معنًى. ولا يجب أن تنتهي مرحلة التعليم الابتدائي قبل أن يكون للتلميذ إلمام بالعمليات الأساسية الفنية في صناعتنا. ومِمَّا لا جدال فيه أنَّ التعليم العالي يجب أن يجمع بين التدريب على مهنة يدوية وعلى الفنون الصناعية الحديثة وبين التعليم النظري.

إنَّنا نهدف أولًا إلى أن يكون المواطنون نافعين في أغراض الجهاز الاجتماعي، ولا نهدف إلى نموهم نموًّا إنسانيًّا كاملًا. ويدل على ذلك أنَّنا نحسب التعليم ضروريًّا حتَّى الرابعة عشرة أو الثامنة عشرة من العمر، أو حتَّى السنوات الأولى من العقد الثالث في أحسن الظروف والحالات. وإنِّي لأعجب لماذا يحس المجتمع بالمسئولية عن تربية الأطفال فقط، ولا يحس هذه المسئولية عن تربية جميع البالغِين مَهْما بلغت سنهم! وليست السن التي تقع بين السادسة والثامنة عشرة في الواقع خير فترات العمر للتعلُّم كما نحسب. إنَّها — بطبيعة الحال — أنسب سن لتعلم أوليات القراءة والكتابة والحساب واللغات. ولكن إدراك مغزى التاريخ والفلسفة والدين والأدب وعلم النفس، وما إلى ذلك، محدود جدًّا في هذه السن المبكرة، بل إنَّ سن العشرين، التي نُعلِّم فيها هذه المواد في الكليات الجامعية ليست السن المثالية لهذا الغرض. ولكي يُدرك المرء المشكلات المُعقَّدة في هذه الميادين إدراكًا حقيقيًّا — في كثير من الحالات — ينبغي أن يتوفَّر له قدر من الخبرة في الحياة أكبر مِمَّا يتوفَّر له وهو في سن التعليم الجامعي. وقد تكون سن الثلاثين أو الأربعين لكثير من الناس أنسب الأسنان لإدراك هذه المواد — بمعنى فهمها لا مجرد تلاوتها وحفظها. وليس من شكٍّ في أنَّ اهتمام المرء بالأمور العامة أشد — في كثير من الحالات — في سن متأخرة منه في سن الشباب الثائر العاصف. وينبغي في هذه السن المتأخرة نسبيًّا أن يُتاح للمرء أن ينتقل من عمل إلى آخر، ويقتضي ذلك أن تتهيَّأ له الفرصة لمُعاودة الدرس، وهي الفرصة التي لا نسمح بها اليوم إلَّا للشباب.

يجب أن يُهيِّئ المجتمع السليم جميع الإمكانيات لتعليم البالغِين، كما يُهيِّئها لإعداد المدارس للأطفال. وقد أخذت أكثر الدول في العصر الحاضر بهذا المبدأ فضاعفت فرص الدراسة للكبار ونوَّعتها، ولكن هذه الفرص لا تزال محدودة، وينبغي أن تتسع حتَّى تشمل كل راغب في الاستزادة من العلم مهما بلغت به السن.

إنَّ التعليم المدرسي، سواء منه ما يتعلَّق بتلقين المعارف، أو تكوين الشخصية، ليس إلَّا جانبًا واحدًا — وربما لا يكون أهم الجوانب — في عملية التربية، على اعتبار أنَّ التربية معناها إبراز ما عند الإنسان من صفات؛ لأنَّ الإنسان مَهْما جمع من ضروب المعرفة، ومَهْما أجاد في أداء عمله، ومَهْما بلغ من التهذيب والأمانة والنزاهة، ومَهْما حقَّق لنفسه من حاجاته المادية، لا يكون — ولا يُمكن أن يكون — راضيًّا عن نفسه كل الرضا. لأنَّ المرء — لكي يشعر بالاطمئنان في هذه الدنيا — ينبغي ألَّا يقتصر إدراكه للعالم على العقل فحسب، بل يجب أن يشترك في هذا الإدراك بكل حواسه، بعينيه وأذنيه، وكل جسمه. يجب أن يعمل بيديه ما يُفكِّر فيه بذهنه. ولا يُمكن الفصل بين الجسم والعقل في هذا الشأن أو في أي شأن آخر. إذا أدرك الإنسان دنياه، واتَّحد بها، عن طريق فكره فحسب، أبدع الفلسفة، وعلوم الدين، والأساطير، والعلوم. وإذا عبَّر الإنسان عن إدراكه للعالم بحواسه، أبدع الفن، والطقوس، كما أبدع الغناء والرقص والمسرحية والتصوير والنحت. ولست أقصد «بالفن» ما نقصده عند استعمال هذه اللفظة بالمعنى الحديث، أي عندما نُعدُّه مجالًا منفصلًا في الحياة. ولست أقصد بالفنان المُتخصِّص فيه الذي يخلقه، بمعزل عن أولئك الذين يُعْجَبون بالفن أو يستهلكونه. فهذا الفصل ظاهرة حديثة. وليس معنى ذلك أنَّه لم يكن هناك «فنانون» بالمعنى الانفصالي في جميع المدنيات العظمى، فقد كان من بين المصريين القدماء، واليونان، والرومان، فنانون موهوبون في النحت والتصوير وما إليهما، كما كان في المدنية الحديثة منذ القرن السابع عشر فنانون في مجال الأدب والموسيقى وما إليهما. ليس ما أعنيه أنَّ الفنان المستقل لم يظهر إلَّا في العصر الحديث، وإنَّما أعني أنَّ اشتراك الناس جميعًا في النشاط الفني ظاهرة قديمة، انتهى عهدها واختفت من الحياة الحديثة.

ألم يكن بناء الكنائس الغوطية، والطقوس الكاثوليكية، والرقص الديني الهندي، وتنسيق الزهور في بلاد اليابان، والرقص الشعبي في كل مكان، والغناء الجماعي، ألم يكن ذلك عملًا فنيًّا مشتركًا يسهم فيه كل امرئ بنصيب؟ إنَّنا لا نطلق اليوم على هذا الضرب من ضروب النشاط الإنساني اسم الفن. وليست لدينا لفظة تُعبِّر عنه؛ لأنَّ الفن بهذا المعنى الواسع العام، باعتباره جزءًا من حياة كل فرد، فقَد مكانته في العالم الحديث، أيَّة لفظة نُعبِّر بها إذن عن هذا النشاط؟ عندما كنت أبحث في الحياة الانفصالية استعملت لفظة «الطقوس»، بيد أنَّ لهذه الكلمة معنى دينيًّا، فأخشى أن ينصرف الذهن إلى هذا المعنى الضيق المحدود. ولذا فإنِّي أستصوب استخدام تعبير آخر، وأوثر أن يكون «الفن الجماعي» فهو أكثر مُلاءمة لأغراضنا من كلمة الطقوس. وأقصد بهذا التعبير أن نستجيب للدنيا بحواسنا بطريقة لها معنى، وفيها مهارة، طريقة منتجة، إيجابية، فيها مشاركة. والمشاركة في هذا المعنى لها أهمية قصوى؛ لأنَّها هي التي تُفرِّق بين «الفن الجماعي» الذي أقصده و«الفن» بالمعنى الحديث. فالفن بهذا المعنى الأخير يتعلَّق بفرد واحد، في الإنتاج والاستهلاك، أمَّا «الفن الجماعي» ففيه اشتراك عام بين الناس، ويُتيح للإنسان أن يشعر باتحاده مع غيره بطريقة لها معنى، منتجة، غنية. وليس هذا الفن الجماعي كما أُسمِّيه عملًا فرديًّا «لشغل الفراغ» أو عملًا «مضافًا» إلى الحياة. إنَّما هو جزء من الحياة لا يتجزَّأ، ونوع من النشاط نُقابل به حاجة بشرية أساسية، إذا لم نشبعها ساورنا القلق وفقدنا طمأنينة النفس، وأحسسنا كأنَّنا لم نُحقِّق من الحياة غرضها. ولا يُمكن للإنسان أن يخرج من نطاق الحياة السلبية إلى نطاق الحياة الإيجابية المنتجة إلَّا إن وصل نفسه بالدنيا وصلًا فنيًّا، وليس فلسفيًّا وعلميًّا فحسب. وإذا كانت الثقافة السائدة لا تُحقِّق للمرء ذلك بقي كائنًا منفعلًا لا فعَّالًا، وإنسانيًّا سوقيًّا، يُقدِّر القيم تقديرًا ماديًّا، ولا يتطوَّر إلى أبعد من ذلك.

إنَّ الطقوس الدينية لم تعد لها إلَّا أهمية ضئيلة في أكثر المذاهب والأديان، ويكاد ألَّا يكون للطقوس الدنيوية وجود. فقلَّ ما نُمارس من طقوس وطنية أو رياضية، ولا يستهوي هذا القليل نفوسنا إلَّا بدرجة ضئيلة جدًّا. إنَّ ثقافتنا ثقافة المستهلكين، فنحن «نستوعب» الصور المتحركة، وأنباء الجرائم، والخمر، واللهو، وليست بيننا مشارَكة منتجة إيجابية، أو خبرة مشترَكة مُتَّحِدة، ولا نقوم بعمل له معنًى نستجيب به لمشكلة الحياة. فكيف إذن نحس «بجماعيتنا»؟ وماذا ننتظر من شبابنا؟ ماذا يفعلون إذا لم تتوفَّر لهم فرصة لنشاط فني مشترَك له معنى؟ وماذا عساهم فاعلين سوى أن يهربوا إلى الشراب، وإلى أحلام اليقظة تُثيرها الصور المتحركة، وإلى الإثم والجريمة، وإلى الحالات الشاذة واختلال الصحة العقلية؟ وما جدوى محو الأمية، وانتشار التعليم، إذا لم يكن لدينا تعبير جماعي عن شخصياتنا الكاملة، وإذا لم يكن لدينا فنٌّ مُشترَك أو طقوس؟ لا شك أنَّ قرية بدائية نسبيًّا لا تزال تحتفل حقيقة بأعيادها، ويُعبِّر أفرادها عن أنفسهم تعبيرًا فنيًّا عامًّا مشتركًا، دون أن يتمتَّعوا بأدنى قسط من التعليم، لا شك أنَّ هذه القرية أرقى ثقافيًّا وأصح عقليًّا من ثقافتنا التي ينتشر فيها التعليم وتشيع فيها قراءة الصحف والاستماع إلى الإذاعة.

ولا يُمكن أن يُبْنَى مجتمع سليم على خليط من معرفة عقلية بحت وانعدام بات لخبرة فنية مشتركة، من الدراسة الجامعية ولعب الكرة في نطاق محدود، من قصص الجريمة وقليل من الأعياد التي لا نكاد نحفل بها. يجب عندما نُفكِّر في كيفية بناء مجتمع سليم أن نُقرَّ بأنَّ الحاجة إلى خلق الفن الجماعي والطقوس غير الدينية لا تقل في أهميتها عن محو الأمية ونشر التعليم. إنَّ التحوُّل من مجتمع فيه مفارقة بين الأفراد إلى مجتمع فيه بينهم مشاركة يتوقَّف على إعادة الفرص للناس لكي يشتركوا في غناء، أو في رياضة، أو رقص، أو في الإعجاب بشيء ما، ويكون اشتراكهم بشعور الفرد في الجماعة لا بشعوره في الزحام الذي يستوحش فيه المرء برغم التجمُّع.

وقد بُذِلَت جهود لإحياء الفن المُشترَك والطقوس، ولكنَّها لا تزال عاجزة عن تحقيق الغرض منها. ولم تبلغ الأعياد القومية الحديثة في أهميتها مبلغ الطقوس الدينية القديمة. ومن المحاولات الحديثة إحياء عيد أول مايو للعُمَّال الاشتراكيين، وحركة الشباب الألمانية. بيد أنَّ هذه الحركة لم تتجاوز فئة معينة محدودة، وقد فقدت دلالتها في فيضان القومية والتعصُّب العنصري.

إنَّ طقوسنا الحديثة فقيرة في جُملتها، ولا تفي بحاجة الإنسان إلى الاشتراك في فن جماعي، لا من حيث نوعها أو مقدارها.

فماذا عسانا إزاء ذلك فاعلين؟ هل نستطيع أن نخترع الطقوس اختراعًا؟ وهل يستطيع المرء أن يخلق الفن الجماعي بطريقة مصطنعة؟ كلَّا ولا مراء. ولكنَّا إذا أدركنا الحاجة إليها، يبدأ الغرس، وتنمو البذور، ويظهر الموهوبون الذين يُبدعون صورًا جديدة من هذه الفنون إلى جانب الصور القديمة. كما تظهر قدرات جديدة في هذا الميدان لولا هذا التوجيه لظلَّت مهملة.

إنَّ الفن الجماعي يبدأ بألعاب الأطفال في رياض الأطفال، ويستمر في المدرسة، ثمَّ في الحياة العامة فيما بعد. لا بُدَّ أن تكون لنا رقصات عامة، وغناء مُشترَك، ومسرحيات، وفرق موسيقية، نُساهم فيها جميعًا. ولا أقول أن تحل هذه الفنون محل الألعاب الرياضية الحديثة، ولكنَّها تُخْضِع هذه الألعاب حتَّى تُصبح لونًا من ألوان النشاط الفني التي لا نرمي من ورائها إلى نفع أو غرض.

وينبغي في هذا الميدان أيضًا — كما ذكرت عند الكلام على النظام السياسي والصناعي — أن يسود النظام اللامركزي. فلا بُدَّ من قيام مجموعات من الناس يُواجه بعضهم بعضًا، ويشتركون جميعًا في نشاطهم اشتراكًا فعليًّا إيجابيًّا ينطوي على تحمُّل المسئولية. ويُمكننا أن نخلق في المصنع، وفي المدرسة، وفي الجمعيات السياسية الصغيرة التي تُناقش الموضوعات القومية الهامة، وفي القرية، صورًا مختلفة من النشاط الفني المُشترك. ويُمكن استثارة هذا النشاط بالقدر الضروري عن طريق المعاونة والإيحاء من جانب هيئات مركزية فنية، بشرط أن تقتصر المعونة على مجرد الإيحاء ولا تتعدَّاه إلى التغذية الفعلية. كما أنَّ الوسائل الفنية للإذاعة والتلفزيون يُمكن — في الوقت عينه — أن تُقدِّم إمكانيات رائعة لبث روائع الموسيقى والأدب بين جمهور كبير من المستمعين. وليست بي حاجة إلى القول إنَّه لا يجوز لنا أن نترك أمر هذه الفرص للتجارة، بل يجب أن يكون شأنها شأن الوسائل التربوية التي لا تهدف إلى الكسب المادي.

وقد يُقال إنَّ فكرة إحياء الطقوس والفن الجماعي على نطاق واسع فكرة خيالية، وإنَّها تُلائم عهد الحرف اليدوية، ولا تُلائم عهد الإنتاج الآلي، ولو صحَّ هذا الاعتراض لوجب أن نستسلم للقول بأنَّ الطريقة التي نحيا بها ستُحطِّم نفسها بنفسها في وقتٍ قريب، لِمَا فيها من اختلال في الصحة والتوازن. فالاعتراض إذن واهٍ ضعيف بإمكاننا أن نتغلَّب عليه بقوة العزيمة والإرادة. وليس في الاعتراض إلَّا ناحية واحدة وجيهة. وتلك هي أنَّ اجتماعنا لا يزال مفُكَّكًا، كل فرد ذرة فيه. يحيا حياة انفصالية، دون أي إحساس صادق بشعور الجماعة. ولن نتمكَّن بهذه الطريقة من خلق صور جديدة من الفن الجماعي ومن الطقوس.

بيد أنِّي أكَّدت المرة تلو المرة في كل ما قدَّمت أنَّنا لا نستطيع أن نفصل بين إصلاح النظام الصناعي والسياسي وإصلاح حياتنا التربوية والثقافية. ولن تنجح أيَّة محاولة جديدة للإصلاح وإعادة البناء إذا لم نتوجَّه بإصلاحنا إلى كل الميادين في وقتٍ واحد.

وهل نستطيع أن نتحدَّث عن الإصلاح الروحي في المجتمع دون أن نذكر «الدين»؟ ليس من شك في أنَّ تعاليم الديانات الوحدانية تؤكِّد الأهداف الإنسانية، وهي بعينها الأهداف التي يرمي إليها ما نادينا به من ضرورة توجيه الإنسان توجيهًا مُنْتِجًا. إنَّ أكثر الديانات السماوية تهدف إلى الاحتفاظ بكرامة الإنسان كغاية في حدٍّ ذاتها، كما تدعو إلى المحبة الأخوية، والتعقُّل، ورفع القيم الروحية فوق القيم المادية. وقد أخطأ المُلحدون حينما هاجموا الديانات السماوية في عقيدتها في الله. وكان الأجدر بهؤلاء المُلحدين أن يتحدُّوا المؤمنين بالله أن يأخذوا دينهم وتعاليمه السامية مأخذ الجدِّ. ولو فعلوا لشاعت بين الناس مبادئ المحبة والصدق والعدالة، فأصلحنا كثيرًا من عيوبنا الاجتماعية في العصر الحاضر.

إنَّنا في الوقت الحاضر نُقدِّس أوثانًا كثيرة ونعبدها، ولو آمنا بالله لحطَّمنا هذه الأصنام. فنحن نؤلِّه الدولة، ونؤلِّه في الدول الدكتاتورية القوة، ونؤلِّه الآلة، ونؤلِّه فكرة النجاح في الحياة. وفي سبيل ذلك ينفصل نشاطنا عن احتياجات نفوسنا، وتضعف في الإنسان صفاته الروحانية. ومهما يكن من أمر، فواجب الإنسان الحر أن يستنكر عبادة هذه الأوثان، سواء كان من المؤمنين بوحدانية الله أو من دعاة دين جديد، وواجبنا أن نهتم بالجوهر دون العَرَض، وباللُّباب دون القشور، وبالخبرة دون اللفظ، وبالإنسان دون النظم. وبهذا الإجماع على استنكار عبادة الأوثان الجديدة تتألَّف القلوب حول عقيدة مشتركة أساسها المحبة والتواضع، والإيمان بالعالمية، والتعاليم الإنسانية في الديانات العظمى في الشرق والغرب، والنظر إلى الأمور بعين العقل، والاهتمام بالحياة نفسها لا بالمعتقدات والمذاهب. وبهذا الاتجاه الجديد تنشأ طقوس جديدة وتعبيرات فنية جديدة، تُؤدِّي إلى احترام الحياة وتماسك الناس.

ولا يُمكننا بطبيعة الحال أن نضع دينًا جديدًا، ولكنَّا نتوقَّع ظهور مُعلِّم عظيم جديد، كما ظهر كبار المُعلِّمين في العصور السالفة، يدعو إلى هذا الاتجاه الجديد. ومن واجبنا — إلى أن يظهر هذا المُعلِّم الجديد — أن نُحاول ما استطعنا أن نعيش وفق معتقداتنا الدينية، ولا أقل من أن نؤمن بمبادئ المحبة والعدالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤