تاريخ العرب الأولين

تعليق على ما جاء في السطر ١٨ من الصفحة ٢٣ من الجزء الأول من ابن خلدون

لا يزال المؤرخون عمومًا، والمتخصصون في تاريخ الأمم السامية، متفقين على كون تاريخ العرب القدماء غامضًا، وأنه لا يزال مفتقرًا إلى وثائق كثيرة تجلو حقيقته، ولقد عثروا على كتابات غير قليلة كشفت بعض نواح منه، إلا أن كثيرًا من هذه الكتابات لا يزال مجهولًا، وما دام هذا القسم من الكتابات لا يزال مغيبًا فلا يزال تاريخ العرب الأولين ناقصًا. والآن تجد معول المؤرخين في هذا التاريخ على بعض الكتابات التي تمكنوا من حلها في بلاد العرب، وعلى ما هو وارد في تواريخ الأمم الأخرى من بابليين وأشوريين ومصريين وعبرانيين ويونانيين ورومانيين، وكذلك على ما هو وارد عن علماء الإسلام بشأن عرب الجاهلية.

وقد جاء في الكتابات البابلية الخزفية التي عثروا عليها ما يدل على وجود ملك اسمه «مانيوم» كان ملكًا على «ماغان» أو بلاد العرب الشرقية. ويظنون أن «ماغان» هذه هي معان، كما أنه ورد في محل آخر ذكر «ملوخ» الذي يظن أن منه اشتق اسم العمالقة. وكان السومريون ذوي علاقات مع هؤلاء. ثبت إذن وجود العمالقة في التاريخ منذ ألفين وخمس مئة سنة قبل المسيح. فأما الكتابات التي عثروا عليها في جزيرة العرب فهي ترجع إلى ألف سنة فأكثر قبل المسيح، وأكثر من خدم العلم في كشف هذه الكتابات المنقوشة على الصخور هو بحسب ما ورد بالانسكلوبيدية الإسلامية «يوسف هاليفى Gosephe Halevy» و«أدوار غلازر Edoird Glaser» وهذه الكتابات تنقسم إلى قسمين بحسب اللغة؛ فالأول هي المعينية، والثاني هي السبئية نسبة إلى معين وسبأ، وهما قبيلان يقال إنهما من حضر موت. وفى سنة الخمس مئة قبل المسيح كان ملوك مأرب في اليمن يطلق عليهم لقب ملوك سبأ، ثم ظهر بعدهم الحميريون وتمكنوا في مأرب أيضًا. وفى نحو السنة الثلاث مئة قبل المسيح كان يقال للواحد من هؤلاء ملك سبأ وذي ريدان وحضر موت، ثم أضافوا إلى ذلك اللقب جملة «وعربهم في الجبل وتهامة» وبقي ملك الحميريين هؤلاء إلى ما بعد استيلاء الأحباش على اليمن أي في القرن الرابع بعد المسيح إلى القرن السادس.

وقد وجد العلماء كتابات منقوشة على الصخور من ذلك العهد. وكان غلازر الأنف الذكر هو الذي كشف الكتابة الطويلة المتعلقة بسيل العرم، أي انفكاك سد مأرب، وهو الحادث العظيم الذي وقع في سنة خمس مئة وثلاث وأربعين بعد المسيح وهذه الكتابة كتبها أبرهة ونصها:

بقوة الرحمان «رحمانان» ولطفه ورحمته وبمسيحه والروح القدس نقشت هذه الكتابة على الحجر بأمر أبرهة الوالي من قبل الملك اليكسومى «وامفيس ذى يبامان» ملك سبأ وذي ريدان وحضر موت ويمنات وعربهم في الوعر والسهل.

ثم وجد في هذه الكتابة إشارة إلى رسل ملك الروم وملك فارس والمنذر والحارث بن جبلة، مما يدل على أن دسائس كل من الدولتين الرومية والفارسية كانت بدأت في جزيرة العرب منذ ذلك العهد، ولم يطل الأمر حتى خلع أبرهة عامل الحبشة آخر الملوك الحميريين الملقب بذي نواس، وأزال مملكة حمير وأبرهة هذا هو الذي زحف إلى مكة ومعه الفيل واليه أشار صاحب البردة بقوله:

كأنهم هربا أبطال أبرهة
أو عسكر بالحصى من راحتيه رمى

وفى ذلك الوقت تغلب العجم على اليمن لعهد كسرى الأول، فاستناب عنه رجلًا يقال له وهريز. ولما ظهر الإسلام كان في اليمن عامل لكسرى أبرويز الثاني يقال له «باذان» فأسلم ودخل بعد ذلك اليمن في الحوزة المحمدية، ولم يقدر العلماء أن يكشفوا شيئًا عن المملكة السبئية يرجع إلى أقدم من سنة سبع مئة قبل المسيح.

فأما المعينيون فالظنون أن الكتابات المتعلقة بهم تملأ تواريخها خمسة قرون ويظهر أن المعينيين كانوا معاصرين للسبئيين، وغاية ما هناك أنهم رجحوا أن أقدم الكتابات السبئية يرجع تاريخها إلى أحدث الكتابات المعينية، وقد جاء في الكتابات المعينية ما يثبت وجود دولة السبئيين في اليمن. وكان ملوك المعينيين مثل «خالى كاريبا صادوق» و«بحتيل ريام أبوتبع كرب» في الزمن الذي كان فيه ملوك سبأ، والمظنون أن هذا كان بين سبع مئة وست مئة سنة قبل المسيح، وقد جاء في كتابة معينية ما يفيد أن السبئيين وقبيلة أخرى اسمها «خولان» كانوا يشنون الغارات على الطريق المؤدي من نجران إلى معان في بلاد الشراة جنوبي سورية، وقد أشار كتاب أيوب من التوراة إلى هذه الغارات.

ووجدت كتابات أشورية سابقة لسنة السبع مئة قبل المسيح فيها إشارة إلى وجود أمير من سبأ اسمه «أيطع آماده» يظن أنه كان في بلاد العرب الوسطى، وفي المظنون أيضًا أن ملكة سبأ كانت مالكة لشمالي بلاد العرب، هذا ولم تنفرد سبأ ومعين بملك اليمن، بل كان هناك دولتان قحطان وحضرموت، فالجملة دول أربع أعظمها سبأ.

وكان للمعينيين مستعمرة في مدين نظرًا لتجارتهم بالطيب، وقد ثبت ذلك في كتابات كشفها العالم «أوتنغ Eutung» في «العلي» شمالي المدينة المنورة، وسقطت دولة المعينيين في نحو الست مئة والخمسين قبل المسيح، وقد ورث السبئيون مستعمرتهم في مدين، وفي ذلك الوقت تقدم نحو بلاد العرب دول أخرى مثل حكومة «نبوخذ نصر» فقد كشف أوتنغ و «هوبر Huber» في تيماء كتابات تدل على كون حكم الآراميين البابليين وصل إلى هناك، وربما كان الملك العربي الذي أشار إليه هيروتوس بأنه عاش في نحو السنة الخمس مئة والعشرين قبل المسيح هو ملك اللحيانيين الذي قال يلينوس الروماني المؤرخ “Pline” إن عاصمته كانت هجر.

فاللحيانييون هؤلاء يجوز أن يكونوا ورثوا المعينيين والسبئيين ووجدوا قبل النبطيين أي كانت دولتهم بين الخمس مئة والثلاث مئة سنة قبل المسيح، ثم ظهرت آثار النبطيين في القرن الثاني قبل المسيح، وبقيت دولة هؤلاء النبطيين إلى سنة مئة وستة قبل المسيح إذ تغلب عليهم الرومان، وكانت مدينة النبطيين هي بتراء — أي وادي موسى اليوم — وكان يمتد ملكهم إلى مدين وبلاد بني سليم الوارد ذكرها في نشيد الإنشاد من التوراة، وقد عثروا في وعرة الصفاة من حوران على كتابات مشابهة لحروف الهجاء العربية اليمنية، أما الكتابة النبطية — موصولة الحروف — فهي مشتقة من الفرع الآرمي من الكتابة الكنعانية، أو يرجح أنها هي أصل الكتابة العربية التي اصطلحوا عليها في القرن الثالث بعد المسيح.

وأقدم كتابة عربية معروفة اليوم هي كتابة «نمارة» في شرق حوران، تاريخها سنة ثلاث مئة وثمان وعشرين بعد المسيح، وهذه الكتابة تتعلق بملك يقال له امرؤ القيس هذا كان يمتد إلى نجران اليمن.

جاء في الانسكلوبيديا الإسلامية أنه ربما كان امرؤ القيس هو أحد ملوك المناذرة اللخميين، قلنا: هذا محقق، إذ جاء فيهم بحسب ما في تاريخ أبي الفداء ذكر امرئ القيس بن عمر، ثم عمرو بن امرئ القيس، ثم امرئ القيس المحرق بن عمرو وهو والد النعمان الأعور، ثم جاء امرؤ القيس بن النعمان وقد تابع أبا الفداء في ذلك جرجي زيدان السوري، وعلي ظريف الأعظمي العراقي، وقابلنا بين هذه السلسلة التي ذكرها كل منهما وبين تاريخ صالح بن يحيى التنوخي فوجدنا أن في سلسلة صالح بن يحيى ذكر امرئ القيس بن النعمان الأعور بن امرئ القيس المحرق بن عمرو بن امرئ القيس الأول بن عمرو بن عدي اللخمي، وقابلناها مع سجل نسب العائلة الأرسلانية اللخمية فوجدنا أن المنذر الذي أمه ماء السماء، أي المنذر الأول هو ابن امرئ القيس الثالث بن النعمان الثاني ابن امرئ القيس الثاني بن النعمان الأول ابن عمور الثاني بن امرئ القيس الأول بن عمرو بن عدي اللخمي.

فمن هنا يعلم أنه يوجد عدة ملوك من اللخميين باسم امرئ القيس، ولكن المقصود بالذات هنا هو الملك الذي تولى منهم بين سنة مائتين وخمسين وثلاث مئة وثلاثين بعد المسيح.

فهذا امرئ القيس الأول الذي يقال لها لمحرق، ويقال له البدء فإنه ملك بين سنة مائتين وثمان وثمانين وثلاث مئة وثمانية وعشرين، وقد كان اللخميون عمالًا للأكاسرة كما كان الغسانيون عمالًا للقياصرة، وكان مقصد ملوك الفرس باستعمال ملوك الحيرة أن يكونوا فاصلًا بين الفرس والعرب، ويصدوا غارات القبائل العربية على العراق، ومثل ذلك كان مقصد ملوك الروم بواسطة الملوك أولاد جفنة الغسانيين ردع العرب عن شن الغارات في جنوبي سورية.

فهذا جل ما يعرف من تاريخ العرب قبل الإسلام، وكلما توغل هذا التاريخ في القدم ازداد غموضًا كما لا يخفى، غير أن هناك حقيقة اتفق عليها الباحثون من علماء الإفرنجة ولا سيما الذين نقبوا عن الكتابات الحجرية المبثوثة في جزيرة العرب، وهذه الحقيقة أنه في نحو الأف سنة قبل المسيح كانت للعرب — لا سيما في اليمن — مدنية في غاية الارتقاء والازدهار، وبعض العلماء يذهب

ومنهم صاحبنا الأستاذ المستشرق «موريتز Morits» الألماني إلى أن أصل إيجاد الكتابة بالحروف بعد الكتابة الهيروغليفية كان في اليمن، وهو يعتقد أن اليمانيين هم الذين اخترعوا الكتابة وليس الفينيقيون هم الذين اخترعوها كما هو الرأي المشهور.

وقد أفضى موريتز إليّ بأدلته على هذا الرأي وقال: إن الفينيقيين إنما بنوا كتابتهم على الكتابة العربية اليمنية، ثم إن اليونانيين أخذوا الكتابة عن الفينيقيين وعنهم أخذ الرومانيون، فيكون العرب هم الذين أوجدوا الكتابة في العالم، وبهذا الاعتبار هم الذين أوجدوا المدنية.

وأما المستشرق «هومل Hommel» ففي الانسكلوبيدية الإسلامية يذكر أخذ اليونان عبادة أبو لون وأمه «ليتو Leto» عن العرب وقال «روبيرتسون سميث Roberison smith» إن ليتو هذه اللات، وإن اليونان بحسب رأي بريتوريوس أخذوا بعض أحرفهم عن كتابة عرب اليمن، والبعض الآخر عن كتابة الكنعانيين قال هومل: إن جنوبي بلاد العرب كانت فيه مدنية في أوائل الألف قبل المسيح بالغة الحد الأقصى من الازدهار بما تركته من معابد وحصون ومحافد وقصور، وكتابات.

فأما الكتابة الحميرية وهي التي يقال لها الخط المسند، فقد جاء في الجزء الثامن من كتاب «الإكليل» للفيلسوف العربي الحسن بن أحمد الهمداني صاحب كتاب «صفة جزيرة العرب» تصوير هذه الكتابة كما سيأتي، وقد اشتهر كتاب «الإكليل» كثيرًا، ولكن أكثره مفقود حتى في بلاد اليمن نفسها، فقد بحثنا عنه فلم نجدهم يذكرون إلا جزأين، والحال أنه عشرة أجزاء، الأول مختص بالمبتدأ وأصول الأنساب والثاني نسب ولد الهميسع بن حمير، والثالث في فضائل قحطان، والرابع في السيرة القديمة إلى عهد تبع أبي كرب، والخامس في السيرة الوسطى من أول أيام أسعد تبع إلى أيام ذي نواس، والسادس في السيرة الأخيرة إلى الإسلام، والسابع في التنبيه على الأخبار الباطلة والحكايات المستحيلة، والثامن في ذكر قصور حمير ومدنها وما حفظ من شعر علقمة والمرائي والمساند، والتاسع في أمثال حمير وحكمها باللسان الحميري وحروف المسند، والعاشر في معارف حاشد وبكيل.

وقد اطلعت على الجزأين الثامن والعاشر في المكتبة الملوكية في برلين وأخذت صورتهما بالفوتوغرافيا، وعلمت أن أحد هذين الجزأين لا يزال محفوظًا في استانبول كما أني علمت أن الجزء الثامن الذي يدور على القصور والمحافد والمساند قد طبعه الدكتور مولر وشرحه سنة ١٨٧٩، وأما سائر الأجزاء فما علمنا بوجودها.

وإليك الآن ما جاء في الجزء الثامن عن الخط المسند، قال الهمداني: باب حروف المسند، وهو كتاب حمير ومثلاته في حروف أ. ب. ت. ث وغيرها.

قال الهمداني: أكثر ما يقع بين الناس الخلف فيما تقولوه في لسان حمير من اختلاف صور الحروف، لأنه ربما كان للحرف أربع صور وخمس، ويكون الذي يقرأ لا يعرف إلا صورة واحدة، فلما وقع الخلل في هذا الموضع رأينا أن نثبت تحت كل حرف من حروف، ألف، باء، تاء، ثاء، صورة جميعها، وإنما كان اختلاف صور الحروف على سبيل اختلاف الكتاب العربي، وكانوا يطرحون الألف إذا كانت وسطًا مثل ألف همدان، وألف ريام، فيكتبون ريم وهمدن، كذلك تبع كتّاب المصاحف الحروف في مثل الرحمن، وألف إنسان ويثبتون ضمه آخر الحرف وواو عليهمو.

(إلى أن يقول): ويقرءون كل سطرين بخط، ويفصلون بين كل كلمتين في السطر بخط ومثل ذلك في أول مسند هذه صورته:

والذي عليه جمهور المؤرخين والمنقبين اليوم، وفي مقدمتهم سبرنجر وشرادر، هو أن جزيرة العرب هي مهد الأمم السامية وأن المهاجرة بدأت منها إلى الخارج.

وقد خالف في ذلك بعضهم وذهبوا إلى أنه يجوز أن يكون وقوع المهاجرة بالعكس أي بدلًا من أن يكون العرب ارتحلوا من الجزيرة إلى بابل، يجوز أن يكون بعض الأقوام الذين على شواطئ الفرات قد ارتحلوا منها إلى الجزيرة العربية، فأما كون البربر من العرب، وأنهم جاءوا من جزيرة العرب، وأن اللغة البربرية هي من اللغات السامية، فهذا سيكون البحث فيه بمكان آخر.

فبعض العلماء ومنهم «نولدكه» المستشرق الألماني المعروف يقول بهذا الرأي وبعضهم يرده، وقد ذهب «هومل Hommel» إلى أن السبئيين كانوا في الجوف في شمالي بلاد العرب (التابعة لابن سعود اليوم) وأنهم تقدموا منها إلى الجنوب، وقد جاء ذكر سبأ في التوراة مرارًا، ولكن بأقوال يناقض بعضها بعضًا، وإنما يمكن الاتفاق على أن السبئيين كانوا تجارًا في تلك الأعصر يبيعون عود الطيب في مصر والشام ويتجرون بالحجارة الكريمة والتوراة تشير إلى ثروة السبئيين، ويؤيد ذلك مؤرخو اليونان والرومان.

وقد ذكر «سترابون» المؤرخ الجغرافي اليوناني أن الرومانيين في زمن أغسطس غزو سبأ وذلك سنة ٢٤ — أملًا بالاستيلاء على أموال هذه الأمة — ففشلت هذه الغزوة الرومانية فشلًا تامًّا، ولكنها عرفت الرومانيين ببلاد العرب، فقد جاء في كتب مؤرخي الرومان واليونان مثل «ديودور» و«هيرودوت» وغيرهما، كلام كثير عن حضرموت واليمن، ووجد مطابقًا للكتابات التي عثروا عليها في جنوبي الجزيرة العربية، ومن ذلك كله يظهر أن أهالي اليمن كانوا أشداء في الحروب، أصحاب إقدام ونشاط في الأعمال، وكانت لهم زرعة راقية جدًّا وتجارة ممتدة إلى سائر الأقطار وعلاقات اقتصادية مع مصر وفينيقية، وكان لهم قيام على الملاحة، وركوب البحر يعجب به المؤرخون.

وكان السبئيون سباقين في هذه المزايا كلها، وكانوا أصحاب يسار وترف، ولكن يظهر أنه لما غزا الرومان تلك البلاد بقيادة «جالوس Gallus» كان قد بدأ ظهور دولة الحميريين وكان قد تقهقر السبئيون فالقائد جالوس يذكر أنهم — أي الحميريين — أصحاب الكلمة العليا في اليمن.

وقد كان هذا في القرنين الأول والثاني قبل المسيح، ولكن السبئيين بحسب ما جاء في تاريخ «بلين الروماني» كانوا لا يزالون ذوي سيادة ومكانة، وكانت بقيت لهم بعض المدن، وهذا مؤيد بالكتابات المنقوشة على الصخور، وبآثار العمران، من أقنية وسدود وصهاريج، وبأقوال الهمداني صاحب كتاب «الإكليل» و«صفة جزيرة العرب».

وقد ذكر بلين الروماني معادن جزيرة العرب، واستخراج هذه الأمة للذهب الذي زاد في ثروتها، وسهل طرق مدنيتها، وأما محصول الطيب فقد كان خاصًّا بالسبئيين والمعينيين.

وفي أوائل القرن الثاني قبل المسيح تقدم الأحباش إلى بلاد سبأ، وصار إيزاناس يلقب بملك حمير وسبأ، ويستدل من الكتابات المنقورة في الصخور أنه من نهاية القرن الثالث إلى الربع الأخير من القرن الرابع للمسيح لم يكن في اليمن ملوك من أهل اليمن أنفسهم، وأن الحكم كان قد صار للحبشة، ولذلك منذ أواخر القرن الرابع لا تكاد تجد ذكرًا لسبأ في كتابات اليونان والرومان.

وقد كان «سبرنجر» منذ نصف قرن لا غير يقول: «إن مؤرخي اليونان وبلين الروماني هم الذين نستقي منهم جميع المعلومات عن السبئيين، وكذلك قبل هذا التاريخ كانت جميع المعلومات التي لدينا عن جنوبي بلاد العرب هي ما جاء في العهد العتيق، وما يتناقله العرب من القصص التي فيها من النخيل أكثر مما فيها من الحقيقة، فلما عثر المنقبون على ما عثروا عليه من الكتابات هناك انكشف لديهم ما يجدر بأن يسمى تاريخًا والفضل أكثر في كشف هذه الكتابات راجع إلى غلازر.

وقبل غلارز كان «كارستن نيبور Caresten Nie buhr» ذهب إلى جزيرة العرب في بعثة علمية أنفذتها الحكومة الدانماركية سنة ١٧٦٣ وكان فيها «راتكن الألماني» حدثني بذلك حفيده الأستاذ رانكن في هامبورغ.
فهذه البعثة التي هي أول بعثة علمية إلى جزيرة العرب تنبهت لقضية الكتابات المنقوشة على الصخور، فجابت البلاد من لحية إلى مخا إلى تعز فصنعاء، وكان غرضها معرفة الجغرافية وأحوال السكان، وأصولهم وأنسابهم، مع درس طبقات الأرض ونباتاتها، لكنها علمت بوجود كتابات في ظفار لم تصل هي إليها، غير أن هولنديًّا كان قد أرسل إلى هذه البعثة نسخة عن كتابات عثر عليها، وعلى كل حال فأول من نبه إلى هذه الكتابات ووجوب حلها خدمة للعلم هو «نيبور الدانماركي» ثم تلاه «ستزن Seetzen» من أولدنبورغ فإنه نسخ الكتابات المنقوشة على صخور ظفار وأرسل نسخة عن بعض جمل سبتية إلى أوروبا، وذلك سنة ١٧١١، ولم يفهموا مآلها في أول الأمر، ثم توصلوا إلى حلها فاشتدت رغبتهم في معرفة غيرها.
وفي سنة ١٨٣٤ كشف الإنجليزي «ولستيد Wellsled» كتابة في حصن غراب على ساحل حضرموت، وكتابة في محل يقال له «نقاب الحجر» وفي سنة ١٨٣٦ كشف «كروتندن Crullenden» خمس قطع سبئية في صنعاء، ثم نشر الرحالة «فريده wrede» في سنة ١٨٧٠ كتابات وجدها في حضرموت، ثم إنه جاء «أرنود Arnand» وهو أول أوروبي توصل إلى سد مأرب فنسخ عما وجده في مأرب وفي صنعاء ٥٦ كتابة أكثرها كان جملًا قصيرة، ثم كثر الاطلاع على هذه الكتابات في بلاد اليمن، وكان الفضل في حل هذه الكتابات ومعرفة معانيها إلى «جيسنيوس Gesenius» و«روديجر Rodiger» سنة ١٨٤١ وإلى «أوزياندر Oseander» (سنة ١٨٥٦–١٨٦٣) واطلعوا على كتاب ليعقوب بن صافر اليهودي كتبه بالعبري في سنة ١٨٦٦، فإنه ذهب من الحديدة إلى عمان على طريق صنعاء، وجاء في كتابه بمعلومات ذات قيمة، وبها استدل «هاليفي Halevy» على الأماكن التي يجب ارتيادها لأجل الاطلاع على الكتابات الحجرية.

ويظن أن هاليفي كان أول أوروبي تمكن من الإيغال إلى وادي نجران، وإلى الجوف اليماني مركز بلاد معين، وبذلك تمكن من الاطلاع على كتابات كثيرة من أقدم عهود البشرية، ولم يطلع عليها بعده غيره من الأوروبيين، فنسخ هاليفي ٦٨٦ كتابًا منها خمسون من الكتابات الطويلة، ومن هذه الخمسين ثلاثون معينية.

وقد كان ما اطلع عليه هاليفي هذا هو الأساس الذي اتخذه العلماء للتاريخ العربي المتعلق بجنوبي جزيرة العرب.

ثم ذهب إلى هناك الكابتن «ميلز Miles» ثم «هينرك ملتسان Heinrich Von Maltzan» الذي ارتاد سواحل حضرموت سنة ١٨٧٠ ثم «ميلنجن Millingen» الذي ذهب من الحديدة إلى صنعاء سنة ١٨٧٣، ثم «مانزوني Manzoni» الذي جاب البلاد بين عدن وصنعاء والحديدة سنة ١٨٨٠، ثم «شاييرا» الذي جول في تلك البلاد سنة ١٨٧٩ ثم «هاريس Harris» الذي ساح في اليمن سنة ١٨٩٣، ولم يأت هذا الأخير بكتابات جديدة ولكنه أتى بمعلومات عن تلك البلاد مهمة، ثم جاء «لانجر Langer» النمساوي فتوصل إلى ٢٢ كتابة لم تكن معروفة من قبل، ومات ضحية بحثه وتنقيبه، كما مات ستزن من قبله، وهوبر من بعده، وإن القارئ الذي يهمه هذا البحث جدير بأن يطالع كتاب «فبر Weber» الذي أسماه «العرب قبل الإسلام»  “Arabien Vor dem Islam” وكتاب هومل المسمى برحلة هلبرخت.

وأما «غلازر» الألماني البوهيمي فقد برع على الجميع لأنه تمكن من نقل ألفي كتابة حجرية، وبدأ سياحته سنة ١٨٨٢ فذهب من الحديدة إلى صنعاء، وجاب البلاد ثلاث مرات في الشمال والغرب والجنوب الشرقي والشرق ثم ذهب إلى بلاد ظفار، كما أنه ذهب إلى مأرب ونقل أربع مئة كتابة منها، وحقق معلومات جغرافية أطلسية كثيرة، ووقف على فوائد عظيمة من جهة اللغة، واقتنى أكثر من ست مئة مخطوط عربي، فنشرت أكاديمية باريس جانبًا من هذه الكتابات، والآن يوجد حجارة عليها كتابات معينية في لوندرة وأخرى في برلين، فأما المخطوطات فأكثرها في برلين، ومنها جانب في المتحف البريطاني، وأهم هذه الكتابات هي كتابة «حدقان» وكتابة «صراوح» التي منها يؤخذ أهم الوثائق التاريخية على جنوبي بلاد العرب.

ولما سافر غلازر المرة الرابعة إلى اليمن حصل أيضًا على مئة كتابة لم نعرفها من قبل، وعلى ٢٥١ مخطوطًا عربيًّا وجمع معلومات كثيرة.

وأنه يعود أكثر الفضل في تفسير الكتابات واستخراج معانيها إلى هاليفي المار ذكره، وبريتوريوس، وموردتمان، ومولر، وهومل، وغلازر، ثم قام بعض العلماء بسياحات أخرى في اليمن منهم «دفلر Deflers» سنة ١٨٨٧ لكن غرض سياحته كان علم النبات، ثم «هِرْش» ساح إلى حضرموت سنة ١٨٩٣، وهو أول أوروبي دخل «شبام» و«تريم» ولم يكن باحثًا إلا عن الأمور الطبيعية، ثم في سنة ١٨٩٣ جاء «بانت Beant» إلى حضرموت فدخل شبام وظفار ثم جاء «كارلو لاندبرج Carrlo» في سنة ١٨٩٦ وكتب رحلة مهمة، ثم أرسلت أكاديمية فينا سنة ١٨٩٨ بعثة أنفق عليها ملك السويد فلم تفز بكبير طائل، فتحولت إلى جزيرة سقطرة وقامت هناك بمباحث طبيعية ولغوية ثم إن «بوري Bury» جاء من قبل هذه البعثة إلى «بيجان وخولان» وصور عدة كتابات، وفي سنة ١٩٠٢ أرسلت أكاديمية فيينا رجلا اسمه «هاين Hein» إلى حضرموت رجع بمعلومات كثيرة لم يكونوا عرفوها.

هذا ويقال إن جميع ما اطلع عليه غلازر الذي هو إمام هذا الفن لم ينشر بأجمعه لأنه لم يتسع له الوقت، ومات قبل أن يتمكن من نشر جميع معلوماته، وبعد موته نشروا في فيينا جانبًا منها لا كلها، وقد ذهب غلارز إلى أن الكتابات المعينية ترجع إلى ما قبل المسيح بألف سنة، فلذلك اعترض العلماء على غلارز في هذا الزعم بحجة أن الكتابة المعينية مستقيمة وأشكالها هندسية، ولا يظن أن مثل هذا الشكل يكون متوغلًا في القدم إلى تلك الدرجة.

جاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية أنه لم يوجد بين كتاب العرب من جاء بتاريخ حقيقي عن اليمن، وبمعلومات مؤسسة على قواعد متينة مثل الهمداني، فقد كان هذا الرجل يمانيًّا مولودًا في صنعاء فحمله حب وطنه والإعجاب بقومه على تأليف كتاب «الإكليل» الذي ذكر فيه تاريخ اليمن ووصف العاديات التي هي فيها. والجزء الثامن من الإكليل كان نشره مع ترجمة ألمانية الدكتور «مولر H.Muller» كما تقدم وقد أخذ من الجزء العاشر معلومات تكمل ما ورد في كتاب الهمداني الآخر المسمى «صفة جزيرة العرب» وقد كان في كتاب الهمداني قصص أشبه بالأساطير نقلها الهمداني على علاتها إلا أنه برغم ذلك هو الكتاب العربي الوحيد الذي يفهم منه القارئ ما اليمن، وفيه تفاصيل عن أنساب اليمن وطبائع أهلها وعن مواقع مدنها وعن قصورها وحصونها لا توجد في كتب الإفرنج برغم جميع تدقيقاتهم.

وكذلك في إكليل الهمداني عن سبأ وعن سيل العرم ما لا يتم تاريخ اليمن إلا به، وقد ذهب مولر إلى أن الكتابات الحجرية لا تكفي لجلاء تاريخ سبأ ومعين وبلاد اليمن، فأما قول الهمداني إن باني سد مأرب هو لقمان بن عاد، فهو قول تابع فيه العوام والحقيقة التي ظهرت من الكتابات أن باني السد هو إثيممر، فأما وصف آثار السد بعد خرابه فإن أرنود وهاليفي لم يصفا تلك الآثار بغير ما صورها به الهمداني.

وقد قسم مؤرخو العرب أدوار اليمن قبل الإسلام إلى ثلاثة؛ الأول: من البدء إلى عهد تبع أبي كرب، والثاني: من عهد أبي كرب إلى ذي نواس، والثالث: من عهد ذي نواس إلى الإسلام. ولكن علماء الإفرنج قسموا هذه الأدوار إلى ثلاثة بشكل آخر فقالوا الدور الأول هو: السبئي المعيني، والدور الثاني هو: الحميري، والدور الثالث هو: الحبشي فالفارسي، ولعل الوقت يأتي بمعلومات أوضح ما تيسر حتى الآن، فإن تاريخ الأعصر الغابرة كان ظلمات بعضها فوق بعض فانكشف جزء منها بالحفر والتنقيب وحل الكتابات القديمة، ولا يزال تحت التراب — وربما فوق التراب — كتابات كثيرة لم يصل المنقبون إليها.

ولما كنت في الحجاز منذ ست سنوات، وصعدت إلى جبال الطائف، وجدت كتابات كثيرة على الصخور، وقيل لي إنها مستفيضة في كل مكان تقريبًا من جزيرة العرب، وقيل لي أيضا إن بين المدينة ونجد كتابات لا تحصى، وكيف ضرب الإنسان في أرض جزيرة العرب يجد كتابات على الصخور، فإن من عادتهم أن ينقشوا أخبار الحوادث التي تقع عندهم على الجنادل، وقد شاهدنا من هذه الأخبار المحفورة على الصخر بالخط الكوفي شيئًا كثيرًا، وأوردت أمثلة عليه في رحلتي الحجازية.

ومرة قرأت في طريق وادي ليَّة على صخر خبر قحط أصاب الناس وأجدبوا ثم بعث الله الغيث وسقوا، على أن مؤرخي الإفرنج يعترفون بأن في كتب مؤرخي الإسلام روايات عن مدنية سبأ القديمة والأدوار التي تلتها تنطبق أشد الانطباق على الكتابات المنقوشة في الحجر، وعلى المنابع اليونانية والرومانية، وكلها تفيد أن مدنية سبأ كانت راقية وأرقى من المدنيات العربية الأخرى، فالمباني القديمة الدائرة من آثار سبأ والنقوش والتماثيل وبقايا الأعمدة والهياكل، والقصور والأسوار والأبراج وسدود المياه، مما شاهده سيّاح الإفرنج بأعينهم يطابق أشد المطابقة الأوصاف التي وصف بها اليونان والرومان تلك الآثار المدهشة، ولا يجدون فيها مبالغة، كما أنه عندما ينظر السائح إلى تلك الآثار الباهرة لا يعود متعجبًا مما جاء عنها في كتب الإسلام مما كان يظنه من أساطير الأولين، وحسبك بما ذكره الهمداني من قصر غمدان وغيره من قصور سبأ مثل قصر سالحين ويبنون، وما ذكره عن عظمة سد مأرب وما كتبه مؤرخو اليونان والرومان عن فخامة تلك القصور وهاتيك الأسداد والقلاع فهو مطابق للمحسوس للشهود بالعيان.

فقد كن العرب في جنوبي الجزيرة في حاجة إلى خزن مياه الأمطار لأجل زراعتهم، فبلغوا من الاعتناء ببناء السدود والحياض أقصى درجة يتصورها العقل، وترقت الزراعة في اليمن لذلك في العهد القديم إلى حد لا يخطر ببال أحد.

وروى الهمداني أنه كان يقال لليمن: اليمن الخضراء لكثرة أشجارها وفواكهها ومحصولاتها، ولم تكن الزراعة وحدها هي التي بلغت الأمد الأقصى من الرقي، بل ضارعتها التجارة من جهة والصناعة من جهة أخرى، فأما خصب أراضي اليمن الذي روى عنه هذه الروايات مؤرخو اليونان والرومان متفقين في ذلك مع مؤرخي العرب، فقد اعترف به سيّاح الإفرنج الذين جولوا في بلاد اليمن، إلا أن هؤلاء أشاروا إلى تناقص الأشجار والغابات بالقياس إلى الماضي.

وقد ذكر الهمداني اعتدال الإقليم في جهات صنعاء بخاصة وهذا يطابق ما قاله غلازر وغيره من السياح الأوروبيين، وهو أن أعالي اليمن معتدلة الهواء وأن هذا الاعتدال هو السبب في كثرة محصولاتها.

ولقد شاهدت بنفسي في سياحتي إلى اليمن السنة الماضية اعتدال بقعة صنعاء منذ صعدنا «عقبة آنس» حتى انتهينا إلى قرية يقال لها «القبة» ثم إلى قرية أخرى يقال لها «المعبر» ومن هناك سرنا عدة ساعات بالسيارة الكهربائية في بسيط من الأرض يعلو ألفين إلى ألفين وخمس مئة متر عن سطح البحر، إلى أن بلغنا صنعاء، فمررنا ببقعة من أحسن بقاع الأرض، وأكثرها قابلية زراعية، وأجودها هواء وماء، ولما وصلنا إلى صنعاء سألنا هل يوجد كثير من نمط هذه البقعة في اليمن؟ فأجابونا بأننا لم نشاهد إلا جزءًا يسيرًا من البسائط المريعة المحيطة بصنعاء من الجهات الأربع، وقد كاشفت بما في نفسي من هذا الأمر الأمير الخطير السيد عبد الله بن الوزير أمير الحديدة، وهو من العقل والفضل بالمقام الذي يندر مثله، فقال لي: إن اليمن في الحقيقة هي عبارة عن جبالها.

ولم تكن الزراعة وحدها سبب ثروة اليمن المدهشة في ذلك العصر كما تقدم الكلام عليه، فقد أفاض المؤرخون الأولون من اليونان والرومان مثل ديودور واسترابون وأغاترشيد، في ذكر تجارة سبأ، واستخراجها للذهب والحجارة الكريمة التي كانت تبيعها من البطالمة بمصر، وإلى الفينيقيين بالشام، هذا مع تجارة العنبر وعود الطيب وأيدت التوراة هذه الروايات كلها.

جاء في الانسيكلوبيديا الإسلامية أن لا مبالغة فيما نقلوه من أن أبواب منازل سبأ وجدرانها وسقوفها وأعمدتها كان منها الكثير مموهًا بالذهب والفضة مرصعًا بالحجارة الكريمة، وأن آنيتهم كان مصوغة من أنفس المعادن، وهذا ما ذكره الهمداني والمسعودي وغيرهما من مؤرخي العرب، وما أيدته الكتابات الصخرية نفسها فيما ترويه عن التقادم العظيمة من الذهب والفضة ونفائس الأحجار، وقد وجد كثير من المسكوكات السبئية ومن الحلي تؤيد أيضًا روايات الرواة من كل قبيل.

وقد عني بعض علماء الإفرنج بالتنقيب عن هذه الحياة الاقتصادية التي كانت في اليمن السعيدة من جميع نواحيها وكان السابق في هذه الحلبة «رودو كناكيس Rhodocanakis» الذي ألف كتابًا استخرج فيه من الكتابات الحجرية مما أمكنه أن يستخرجه من المسائل الاقتصادية التي كان يعول عليها أهل اليمن والمسائل الحقوقية المتعلقة بها.
وثبت من هذه التدقيقات أنه كان يوجد عند العرب الأولين قانون صارم يقتضي استثمار الأرض بدون إهمال شيء منها، وأنه كان يوجد إدارة خاصة لأجل تقسيم المياه وتوزيع الأعمال الزراعية، وهذه القوانين المتعلقة باستثمار الأرضين واستيفاء أسباب القيام عليها، كانت متشابهة في جميع بلاد العرب الجنوبية، وهذا البحث قد حمل «جرومان Groiumann» على تأليف كتاب خاص بهذا الموضوع وصف فيه طبقات الأرض والمناخ، وكيفية توزيع المياه، واستخراج المعادن، وتربية المواشي والصيد وغير ذلك، مما اعتمد فيه على الكتابات الحجرية من جهة وعلى شهادات المؤرخين والسياح من جهة أخرى، وقد استقى في هذا التأليف من بعض منابع مجهولة حتى الآن نظير الآثار التي جمعها غلارز ولم يتيسر له نشرها كلها، وبالجملة فرأي محققي الإفرنج عن بلاد العرب يتلخص فيما يلي:
  • الأول: أن المدنية العربية — لا سيما في جنوبي جزيرة العرب — هي من أقدم مدنيات العالم وأرقاها، وهم على خلاف فيما إذا كان الساميون هم الذين نزحوا من جزيرة العرب إلى بلاد بابل، أو كانوا نزحوا من بابل إلى الجزيرة، وكل فئة من المؤرخين تفترض افتراضات لا يمكن معها الجزم بشيء.
  • الثاني: أن أهم أمة في الجزيرة العربية في الثروة والعظمة والآثار في الأرض كانت أمة سبأ، وكان يعاصرها ويضارعها المعينيون وقحطان وحضرموت، وأن هاتي الأمتين «سبأ ومعين» بقيتا سائدتين إلى الزمن الذي ظهرت فيه الدولة الحيمرية، وأن هذه الدولة تغلبت على اليمن وبقيت فيه إلى أن جاء الأحبوش فاستولى على اليمن وأزال ملك الحميريين، وبقيت اليمن خاضعة للحبشة حتى جاء الفرس فأزالوهم عنها وبقيت اليمن تابعة للأكاسرة حتى ظهر الإسلام.
  • الثالث: أن تاريخ اليمن وبلاد العرب أجمع لم يكن له منابع سوى العهد القديم وكتابات هيرودوتس واسترابون، ودبودور، وأنختريد، وغيرهم من يونانيين ورومانيين مع بعض تواريخ للعرب أنفسهم بعد الإسلام، مما اختلط فيه التاريخ بالخرافة، فيجب على الناظر في التواريخ العربية أن يجرد الأقاصيص من الأخبار التاريخية، وأن أحسن ما كتب عن جزيرة العرب بأقلام العرب هو كتب الهمداني أي «الإكليل» و«صفة جزيرة العرب».
  • الرابع: أن تاريخ العرب الأولين لم يبدأ في الحقيقة إلا منذ بدأ سياج الأوروبيين بالاطلاع على الكتابات المنقوشة على الحجارة وأخذوا ينظرون فيها إلى أن تمكنوا من حلها وفهم معانيها، فمنها ما وافق كتابات المؤرخين ومنها ما اختلف عنها، إلا أن الكتابات قد جاءت بالجملة مؤيدة للتاريخ، ولم يبق شك في صحة المجموعة، وإن يكن وقع اختلاف في التفاصيل، والقضية الأصلية وهي ارتقاء مدنية العرب إلى تلك الدرجة العليا في تلك الأعصر المتوغلة في القدم قد ثبت بالكتابات الحجرية التي أيدت أقوال المؤرخين كما أن أقوال المؤرخين قد أيدتها.

    وهذه مسألة يجب أن تكون عبرة ودرسًا للذين يحملون جميع ما يتناقله الناس من الأخبار القديمة محمل الأساطير والأقاصيص الوهمية، وهو ظن باطل ورأي قائل، فإنه مهما كان التواتر قد تداخله أقوال عامية وآراء ساذجة فإنه يرجع إلى نصاب صدق في الأصل لا شبهة فيه في مجموعه، وهذه قضية تاريخ جزيرة العرب شاهدة على ذلك، بعد أن جاءت فيها المكتوبات الحجرية معززة للقراطيس والأوراق المخلفة عن اليونان والرومان والعرب، تعزيزًا لم يكن لينتظره أحد.

  • الخامس: أنه وجد أقوام دخلت إلى جزيرة العرب، كما وجد أقوام خرجت منها وأنه بسبب استيلاء الحبشة على اليمن ثم استيلاء الفرس، قد حصل اختلاط في الدماء في جنوبي الجزيرة، كما حصل اختلاط في شماليها بسبب تقدم الآراميين إلى مدائن صالح وتيماء، وأن النبطيين كانوا أيضًا تقدموا من بلاد الشراة إلى شمالي الحجاز.
  • السادس: أنه يوجد عرب بائدة وعرب عاربة، وعرب متعربة كما جاء في تواريخ الإسلام، وأن من العرب البائدة عادًا وثمود وطسمًا وجديس، وكلهم نزحوا من اليمن إلى الشمال، وبعضهم يذكر منهم العمالقة، وقد ورد ذكرهم في التوراة، وقد وجدت كتابات آرامية في شمالي الحجاز كمدائن صالح منتشرة على الصخور، ويذهب بعضهم إلى أن هذه الكتابات من بقايا النبط الذين اختلطوا بالعرب، ولذلك يجد فيها الإنسان ألفاظًا عربية مع الألفاظ النبطية.
    وقد روى «هوارت Huart» في «تاريخ العرب» أن الكتابات التي وجدت في تيماء هي أقدم جدًّا من الكتابات التي وجدت في مدائن صالح، والمظنون أنها ترجع إلى ست مئة سنة قبل المسيح، وهي خطوط بارزة كما هي خطوط العرب المحدثين بعكس سائر الخطوط السامية التي حروفها مجوفة.
  • السابع: على ظن محققي الإفرنج أن الكنعانيين في الأمم السامية نزحوا من الجنوب وأوطنوا فلسطين وأن الفينيقيين جاءوا من شواطئ خليج فارس الغربية وأقاموا على شواطئ الشام، واستدلوا على أن أصل الفينيقيين هو من شواطئ، خليج فارس بوجود النواويس — أي القبور المنحوتة في الصخور — في وطن الفينقيين الأصلي كما في سواحل سورية، وكذلك الرعاة في مصر كانوا عربًا فتحوا قسمًا من وادي النيل وخرجت منهم ملوك، وقد ثبت أن الأشوريين في حروبهم مع المصريين قد تكلموا عن العرب ووجدت لذلك آثار في كتاباتهم الخزفية.
وقد جاء في هذه الآثار وجود دولتين في شمالي جزيرة العرب يقال لإحداهما «موصري Mousri» وللأخرى «ملوحة Melouhha» ولم يعلم شيء عن ملوحة هذه، ولكن ظهر أن دورة موصري هي المستعمرة المعينية التي كانت في شمال الحجاز فإن تغلاط بيلسّر الثالث ملك الآشوريين الذي عاش بين سنة ٧٤٥ و٧٢٧ قبل المسيح كان قد غزا العرب في شمالي الحجاز.

فهذه لمحة دالة مما يتعلق بالعرب وتاريخهم القديم، يقدر أن ينشد منها القارئ مظان البحث.

ولكن الذي لم أجده حتى الآن في كتب الإفرنج هو أصل اشتقاق لفظة «عرب» ومن أين جاءت، فعلماء العرب قالوا: إن هذه اللفظة جاءت من قولهم أعرب من الشيء أي أبان عنه، سمي العرب بذلك لفصاحتهم وحسن إعرابهم عن مقاصدهم. وقيل: إنهم انتسبوا إلى ناحية بقرب المدينة المنورة اسمها عربة، وذلك أن أولاد إسماعيل نشئوا بهذه الناحية فسموا عربًا، ثم غلب الاسم على الجميع، ورُدّ على هذا القول بأن الغالب هو أن أسماء الأرضيين والبلاد تنقل من أسماء ساكنيها أو من صفة ثابتة لها، ولم يعهد أن الناس أخذت أسماءها من الأرض التي نزلت فيها إلا على وجه النسبة، والأكثرون على أن اشتقاق لغة «العرب» هو من مادة الإعراب أي الإبانة عن الضمير، وذلك لما اتصفت به هذه الأمة من حسن البيان، وبلاغة التعبير ومن كون لغتهم هي أشرف اللغات والله أعلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤