مقدمة

بقلم  محمد زكي عبد السلام مبارك

أيها القارئ١

هل تذكر ما يحدِّثك به مِراض القلوب؛ إذ يقولون إني أُثني على نفسي في فواتح مؤلفاتي؟

أنت تذكر ذلك، ولا ريب؛ لأنهم يُعيدون هذه التهمةَ في كل وقت بغير حساب.

فهل ترى من حقي أن أدفع هذه التهمة في فاتحة كتابي هذا، لعلهم ينتهون؟!

إن الحاسدين والحاقدين لم يتركوا طريقًا إلا سلكوه لينفروك مني، أيها القارئ، ثم عادوا جميعًا خاسئين مدحورين، وتلك عاقبةُ البغي والعدوان.

لقد عابوا عليَّ أن أُفْتَنَ أشدَّ الفُتُون بما وصلتُ إليه من الظَّفَر بودادك، أيها القارئ، فهل كانوا ينتظرون أن يَغْزُوا قلبك بعدْوَى الحِقد والضِّغن فأعيش في دنيايَ بلا صديق؟

إن ودادك، أيها القارئ، هو الذي أرهف قلمي، وصَقَل بياني، وهو العزاء عما أُعاني في دهري وزماني من ظُلم وعُقوق، وما تذكرتُ حبك، أيها القارئ، إلا غفرت ذنوب الدهر، وصفحتُ عن مكايد الزمان.

والآن — وقد رُفِع بيني وبينك الحجاب — أُحِبُّ أن تعرف أني لم أسرِق مودتك ولم أنهب ثقتك، وإنما غنمتُ من مودتك وثقتك ما غنمتُ بفضل الكفاح الموصول، وبفضل ما أنفقتُ من نور البصر تحت أضواء المصابيح، في زمن تؤخذ فيه بعض المراكز الأدبية بالخداع والتضليل، وبيْع الضمائر والقلوب.

إليك، أيها القارئ، أَنفض أحزاني وأشجاني، ولو شئتَ لدللتُك على فيالق من المؤلفين في المشرق والمغرب شكَوْا دهرهم كما شكوتُ، وتوجَّعوا من زمانهم كما توجعتُ، وعانَوْا من غدر الأصدقاء والزملاء بعض الذي أعاني.

فأنا لم أبتكر شكوى الزمان، وإن كنتُ أشقى المُكتَوِين بغدر الزمان.

أنا ما سرقتُ ثقتك، أيها القارئ، حتى يُنفق ناسٌ من أعمارهم ما يُنفقون لينفِّروك مني، فأنت تعرف أني قضيت أكثر من عشرين سنة في خدمة اللغة العربية خدمةً صحيحةً صادقةً يعجِز عنها الرجال «الأفاضل» الذين يُحسنون حياكة الأقاويل والأراجيف، والذين تشهد سرائرهم بأنهم لو كُلِّفُوا نَسْخ مؤلفاتي ومقالاتي وقصائدي لانْقَضَتْ أعمارهم قبل أن ينسخوا تلك الألوف المؤلفة من الصفحات العامرة بالأفكار والمعاني.

المخلصون في زمانك قليل، أيها القارئ، وهم مع ذلك لا يخدمونك إلا في ميدان أو ميدانين، أما أنا فقد خدمتك في كثير من الميادين: نظرتُ فرأيت اللغة العربية تَتَشَوَّف إلى من يحدّد مقاصد النقد الأدبي، فألَّفتُ كتاب «الموازنة بين الشعراء» وقد طُبع مرتين، ورأيت لغة العرب تنتظر من يحقق بعض المؤلفات القديمة فنشرت كتاب «زهر الآداب»، وتداركت في الطبعة الثانية ما فاتني تحقيقه في الطبعة الأولى؛ فجاء صورةً من الأدب المخدوم بجدٍّ وعناية، ثم نشرتُ «الرسالة العذراء» مصحوبةً بدراسات وتحقيقات، ثم عاونتُ على إخراج كتاب «الكامل» في صورة تَسُرُّ الناظرين، وتلك جهود بذلناها لوجه الأدب ولم نر من منافعها المادّية غير أطياف!

ورأيت القرن الرابع هو الفَيْصَل بين عهدين من عهود الإنشاء، فألَّفتُ كتاب «النثر الفني» الذي يُعَدُّ بحق خير كتاب في بابه منذ العصر العباسي إلى اليوم، والذي أرغم الحاسدين والحاقدين على الاعتراف بأن الرجل الذي كَوَى قلوبهم وكُبُودَهم لم يكن في حياته من العابثين.

ورأيت المجتمع المصري في حاجة إلى من يدله على هفواته الذوقية والأدبية والخُلُقية؛ فألَّفتُ كتاب «البدائع» الذي أقبل عليه القُرَّاء فطُبع مرتين، وألفتُ رسالة «اللغة والدين والتقاليد» التي أجازتها لجنة المباراة الأدبية برياسة مدير الجامعة المصرية.

وراعني أن يجهل الناس بعض مصادر التشريع الإسلامي؛ فنشرتُ رسالة في تحقيق نَسَب كتاب «الأم»، وهي رسالة عَدَّها السنيور ناللينو من الآيات، وسينتفع بها رجال الأزهر الشريف.

وعز عليَّ أن يقال: إن شعراء أوربا قد تفرَّدُوا بإجادة القول في الوجدانيات؛ فألفتُ كتاب «مدامع العشاق»؛ ليكون شاهدًا على سَبْق العبقرية العربية إلى شرح مآسي الأرواح والقلوب، ومن قبله ألفتُ كتاب «حب ابن أبي ربيعة» الذي صوَّر ملاعب الأفئدة في أيام الحجيج.

وساءني أن يقال: إن راسين هو أعظم من شرح عاطفة الحب؛ فألفتُ كتاب «ليلى المريضة في العراق»؛ لأقيم الدليل على أن في كُتَّاب اللغة العربية من يتفوق أظهرَ التفوقِ على راسين.

ونظرتُ فرأيتُ أن الجمهور شغلته الشواغل عن الدراسات الفلسفية؛ فألفت كتاب «الأخلاق عند الغزالي»، وكتاب «التصوف الإسلامي»، وهما كتابان لن يجود بمثلهما الزمان، ولو قلت إن كتاب «التصوف الإسلامي» هو خير ما كان وما سيكون في التعبير عن العبقرية العربية لكنت أصدق الصادقين.

ورأيت الأدب العربي يحتاج إلى من يَعْرِض محاسنَه على العقول الأوربية؛ فألَّفت كتاب: La Prose Arabe au IVe sjècle de l’Hégire، ورسالة: L’Art d’écrire chez les Arabes au lile siècle de l’Hégire.

وقد كان لهذين الكتابين صدًى في البيئات الأوربية والأمريكية عند من يهمهم الوقوف على ذخائر اللغة العربية. ورأيت جمهور أهل الأدب يظنون أن إمارة الشِّعر في السنين الخوالي لم يظفر بها غير أبي تمام والبحتريّ وابن الروميّ والمتنبي؛ فألفت كتاب «عبقرية الشريف الرضِيّ»، وهو كتاب رَضِيَ عنه قوم وسَخِطَ عليه أقوام، ولكنه سيبقى من غُرر المؤلفات الأدبية ولو كره الحاسدون والحاقدون.

ورأيت الناس في الشرق يكادون يجهلون أسرار الحياة الأوربية؛ فألفت كتاب «ذكريات باريس»، وهو كتاب يشرح ما هنالك من صراع بين الرُّشد والغيِّ، والهُدَى والضلال.

ورأيت الأمم العربية في شوق إلى من يحدد ما بينها من مختلف الصلات، ومن يُعبِّر عما في ضمائرها من آلام وآمال؛ فألفت كتاب «وحي بغداد».

•••

أترك ما شغلتُ به نفسي من الدراسات الأدبية في الأعوام الماضية، فالقُرَّاءُ يعرفون من ذلك أكثر مما أعرف، وإن كان يخفى عليهم أن لي مؤلفات جيدة تصدقتُ بها على بعض الأدعياء. وأنتقل إلى الحديث عن كتاب اليوم، وهو كتاب «الأسمار والأحاديث» فأقول: هذا الكتاب جديد من جميع نواحيه، ولن يحتاج إلى تزكية أحد من الأصدقاء، فهو حركة فكرية متوثِّبة تُواجه القارئ في كل صفحة، بل في كل سطر، بل في كل جملة، إن لم أقل في كل حرف، وهو مجالٌ للتأمل والتفكر والتندُّر والاعتراض والاحتجاج.

في هذا الكتاب صُوَرٌ غريبة لعقول المصريين، وعقولِ من عَرَفْتُ من الفَرَنسيين، وسيشقى به ناس ويسعد ناس؛ لأنه سجَّل طوائف من أوهام العصر الحاضر أدق تسجيل.

أنا أعرف أن مَوْتي يوم يحين سيكون فرصة لقوم كدَّرَتْ صَفْوَهم حياتي، ولكني مع ذلك راضٍ عما صنعتُ حين تصدقتُ فخلَّدتُ أسماءً لا تستحق الخلود من أمثال السادة فلان وعِلان وتِرْتان! وهل في التصدُّق على الجاحدين من بأس؟ أولئك قومٌ مَنَّ الله عليهم بالوجود، وأَمْكَنَهُم من النعيم بالأنوار والظلمات، وسمح لهم باستنشاق الهواء، فليس من الكثير أن أدعي أنهم يقرأون ويفكرون!!

في هذا الكتاب تنويهٌ بأشخاص يودُّون لو عَمِيتْ عيونهم وصَمّت آذانهم؛ فلا يرون وجهي ولا يسمعون أخباري، ولكنهم سيعرفون أني أكرم منهم وأشرف؛ لأني سجلت أسماءهم في كتاب سيغلَّف من جلود أحفادهم وأسباطهم بعد حين.

بقيت كلمة عن أسلوب هذا الكتاب:

وأنا أعتقد بلا زهو ولا كبرياء أني وصلتُ باللغة العربية إلى ما كانت تطمح إليه من «البيان».

أنا أعتقد بلا استطالة ولا تَزَيُّد أني خلقت عُذوبة الأسلوب في اللغة العربية، وقد صار البيان عندي طبيعة أصيلة لا يعتريها تكلُّف أو افتعال، وما أذكر أني عرفت التسويد والتبييض فيما ألَّفت من الكتب أو نشرت من المقالات بعد زمن التمرين الذي سبق سنة ١٩١٦.

وما أعرف بالضبط ما هي خصائص أسلوبي؛ لأني أَصدُر فيه عن السَّجِيَّة والطبع، ولكني أعرف بالتأكيد أن الذي يقرأ مؤلفاتي ومقالاتي يشعر بأنه يرى الحياة وجهًا لوجه، ويشهد صراع الأحلام والأوهام، والآراء والأهواء، والحقائق والأباطيل.

أيها القارئ

تلك صفحات من أعمالي الأدبية، فيها القديم والحديث، فهل تراني تَزَيَّدتُ أو أسرفتُ؟

وأنت مع ذلك تعرف أني وقفتُ لأعداء العروبة والإسلام بالمرصاد: فمزقت أوهام الخوارج على العروبة والإسلام شَرَّ مُمَزَّق، ودَحَرْتُ من سوَّلتْ لهم أنفسهم أن يتطاولوا على ماضي الأمة العربية، وكنتُ دليلَك في التعرف إلى مآثر العرب في المشرقين والمغربين، وعاديت من أجل الحق رجالًا يضرُّون وينفعون، ويقدمون ويؤخرون، فكان اعتصامي بحبل الحق هو أقوى ما تدرعت به لاتقاء مكايد الناس ومكاره الزمان.

ولم أخدعك، أيها القارئ، فيما تعرضتُ لشرحه من الحقائق الأدبية والفلسفية: فلم أتهيَّبْ مساقط غضبك، ولم أَتَلَمَّس مواقع هواك، وإنما صدقتُ كل الصدق فرآني فريقٌ من الملحدين، ورآني فريق من المؤمنين، ونسبني قوم إلى المُجَّان، وعَدَّنِي قوم من الصوفية، وما كنت من أولئك ولا هؤلاء، وإنما أنا سارٍ يبحث عن عَلَم الهداية في بَيْدَاء الوجود، وما بيني وبين الله لا يعرفه عدوٌّ ولا صديق، وإنما عِلْمُهُ عند علَّام الغُيُوب الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفِي الصدور، وأنا أتقرب إليه بالصدق في درس شرائع الهُدَى وذرائع الضلال.

أيها القارئ

أتراني أحسنتُ الدفاع عن نفسي؟

أترى أن الذين يضيِّعون أعمارهم في مناوشتي ومحاربتي لم يستطيعوا حرماني من ودادك؟ كم تألمتُ وتوجعتُ من مكايدة مَن أُعاصر من الرجال، وكنت في أحرج أوقات الضجر والغيظ لا أملك غير التعزِّي بهذه الكلمات: «لي قُرَّاءٌ أوفياءُ في أكثر الأقطار العربية والإسلامية، وهم عوني على مصاولة الدهر، ومكايدة الزمان».

أما بعد: فأنت الصديقُ الحقُّ، أيها القارئ، ولو شئتُ لقلتُ: إنك أعزُّ عليَّ من سائر أصدقائي وأصفيائي؛ لأنك تفهم عني أكثر مما يفهمون، وقد تَفُوقُهُم في رعاية العهد وحفظ الجميل.

أيها القارئ

لم يبق لي بعد الله غير ودادِك وعَطفك، ودُنيا الأدب بدون حبك سرابٌ في سراب.

ولولا الثقةُ بك، أيها القارئ، لكسَّرْتُ قلمي ورجعتُ إلى صحبة الفأس والمحراث في سنتريس، إن كان سهر الليالي من أجلك أبقَى لي من القوة ما أستطيع به الرجوع إلى صحبة الفأس والمحراث.

ويرحم الله الشباب الذي بَدَّدْتُه في صحبة الكتاب والدواة والقلم والقرطاس!

مصر الجديدة في أول نوفمبر ١٩٣٩
١  من عادة المؤلف أن يبدأ مقدمات كتبه بالبسملة والحمدلة، وقد خلف عادته هذه المرة؛ لأنه كتب مقدمة هذا الكتاب وهو غضبان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤