الكمان

٢٣

دلف الكاهن بعد الإفطار إلى غرفةٍ صغيرةٍ مجاورة لمكتبه لإحضار كتاب عن الاقتصاد السياسي ليقرأه الملاك؛ إذ كان الملاك جاهلًا بالشئون الاجتماعية لدرجة لا تكفي معها التفسيرات الشفهية، وظل الباب مواربًا.

تبعه الملاك، ولفت نظره شيء فأخذه وسأل: «ما هذا؟ إنه كمان!»

رد الكاهن: «هل تجيد العزف؟»

رد الملاك على سؤال الكاهن بتمرير قوس الكمان الذي كان في يده على الأوتار، فصدرت نغمة جعلت الكاهن يلتفت فجأة.

أحكم الملاك قبضته على الكمان وقوسه، وأخذ القوس يتأرجح على الأوتار، فسمع الكاهن لحنًا لم يسمعه قبل ذلك قط، وعدَّل الملاك وضع الكمان تحت ذقنه الرقيق وواصل العزف، فالْتمعت عيناه وارتسمت على شفتَيه بسمة أثناء عزفه، ثم خلا وجهه من أي تعبير، وبدا أنه لم يعد ينظر إلى الكاهن بل إلى شيءٍ ما وراءه، شيءٍ لا وجود له إلا في ذاكرته أو خياله، شيءٍ بعيد جدًّا، لم يحلم به أحد قط.

حاول الكاهن أن يندمج مع الموسيقى، ذكَّره اللحن بلهبٍ يرتفع ويتوهَّج ويتأرجح ويتراقص ويخبو ثم يظهر مجدَّدًا، أم أن الذي ظهر بعد الاختفاء كان لهبًا آخر؟ يشبه الأول ولا يشبهه، لهبًا انطلق في أعقاب الأول واهتزَّ ثم اختفى، ثم ظهر ثالث، يشبه سابقَيه ولا يشبههما، تعاقبت الألحان كألسنة لهب أُوقد للتوِّ. كان هناك لحنان أو صوتان، لكن أي لحنين؟ كان يعرف القليل عن الموسيقى. يتصاعد اللحنان أحدهما تلو الآخر كلسانَي لهب يرتفعان من نفس النار، يتسابقان ويتقلَّبان حتى يمتدا إلى عنان السماء، يتحرر لسانا اللهب من النار التي أنجبتهما، وتظل وحدها متقدة في الأسفل، في حين يطوف اللسانان في الفضاء وقد انفصلا حتى عن وقودهما، فيطاردان فراشتَين متراقصتَين تهربان منهما وترقصان على أنغامهما في الوقت ذاته، في حركة تجمع بين النعومة والحيرة.

فراشتان متراقصتان؟! فيمَ كان الكاهن يفكر؟ أين كان؟ نعم كان في الغرفة الصغيرة المجاورة لمكتبه، وكان الملاك الواقف أمامه يبتسم في وجهه وهو يعزف الكمان، ويرسل نظراته إلى ما وراءه، كما لو كان نافذةً مشرعة. هذا اللحن مجددًا، لهبٌ أصفر، تبعثره دفقة من رياح، ثم يلتئم مجدَّدًا، ثم يرتفع الآخر وراءه في حركةٍ دائريةٍ ناعمة، يتسابقان في مزيج من النار والنور في الفضاء الفسيح.

غاب المكتب ومعه وقائع الحياة برمَّتها عن عين الكاهن تدريجيًّا، تضاءلا شيئًا فشيئًا كضباب ينقشع ويتبدَّد في جوِّ السماء، لم يبقَ إلا هو والملاك، يقفان على قمة جبل من موسيقى، تحوم حولهما ألحانٌ متناثرة، وتختفي، ثم تظهر مجددًا. كان في أرض الجمال، ورأى بهاء السماء مصوَّرًا على وجه الملاك، ونبض جناحاه بالألوان المتوهِّجة مجددًا. غاب نظر الكاهن، ولا يمكنني أنا أن أصف هذه الأرض الفسيحة الرائعة السامقة البهية، حيث الفضاء ليس كفضائنا، والزمن ليس كزمننا، يتعذَّر على المرء وصفها إلا بالتشبيهات، وحتى التشبيهات تبخسها حقها، لو كان ذلك كله صورة من نسج الخيال، فكيف يكون الواقع؟ لم ترهما الكائنات العجيبة التي كانت تطوف في السماء، بل مرت خلالهما كما يمر المرء بين الضباب، فقد الكاهن إحساسه بالوقت وبضرورات الحياة.

ثم تنهَّد الملاك قائلًا: «آهٍ!» وترك الكمان.

كان الكاهن قد نسي كتاب الاقتصاد السياسي، ونسي كل ما كان قبل أن يبدأ الملاك عزفه. جلس ساكنًا لدقيقة تقريبًا، ثم أفاق فوجد نفسه جالسًا على صندوقٍ محكم الغلق بأجزاءٍ حديدية.

قال الكاهن ببطء: «أنت ماهر حقًّا.»

نظر حوله متحيرًا ثم قال: «تخيَّلت أشياء وأنت تعزف، تخيَّلت أني أرى … ماذا رأيتُ؟ نسيت.»

هبَّ واقفًا ولم يزل على وجهه الذهول، وقال: «لن أعزف الكمان مجددًا، أريدك أن تأخذه أنت إلى غرفتك وتحتفظ به، وتعزف لي مرةً أخرى، لم أعرف شيئًا عن الموسيقى حتى سمعتُ عزفك، أشعر كأني لم أكن قد سمعتُ الموسيقى من قبلُ.»

حدَّق في الملاك، ثم أجال نظره في الغرفة من حوله، وهزَّ رأسه وهو يقول: «لم تبعث الموسيقى في نفسي شعورًا كهذا من قبلُ، لن أعزف مرةً أخرى أبدًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤