الفصل الثالث عشر

التصرف بنزاهةٍ صارمة

لقد زادت صعوبة وضرورة التصرُّف بنزاهةٍ صارمةٍ في بيئة المؤسسات المعاصرة أكثر من أي وقتٍ مضى. إننا نعيش في زمنٍ أصبحت فيه الثقة في قادة المؤسسات، لا سيما قادة الشركات، في أدنى مستوياتها على الإطلاق، بسبب فضائحَ متعلقةٍ بالمؤسسات وبالمحاسبة هزت شركاتٍ مثل إنرون وأدلفيا وَورلد كوم وتايكو وفيفاندي. إن الرواتبَ الطائلة، والمضاربة اعتمادًا على معلوماتٍ سرية، وتعيين الأصحاب والأصدقاء في المناصب المهمة أو في مجالس الإدارات؛ كلها أمور أدت إلى زيادة مستويات الشك وعدم الثقة في قادة الشركات. يشك الناس تلقائيًّا في الرؤساء التنفيذيين وغيرهم من المسئولين التنفيذيين، فيفترضون أنهم يعملون واضعين نُصب أعينهم صورتَهم العامة وحياتهم المهنية بدلًا من العمل وفق مجموعةٍ من القيم الأسمى. وما يزيد الأمور تعقيدًا أن الضغط من أجل الأداء يدفع القادة غالبًا إلى التصرُّف ببراجماتية، لكن ليس بالضرورة بطرقٍ متفقةٍ مع القِيَم الإنسانية الشخصية؛ فقد يجد القادةُ أنفسَهم في مواقف «تجبرهم» على إعطاء الموظفين أملًا زائفًا عن مستقبل الشركة كي يظلوا منتجين، على الرغم من أنهم يعلمون أن بعضًا من هؤلاء الموظفين قد لا تكون لديهم وظيفة في غضون اثني عشر شهرًا.

على الرغم من صعوبة التصرُّف بنزاهة، فمن الضروري تمامًا أن يلتزم القائد به. تلعب هذه الصفة المنبثقة عن الشجاعة دورًا في غاية الأهمية؛ لأنها تخلق طاقة إيجابية هائلة داخل المؤسسة. وفي الشركات التي يُظهِر قادتُها النزاهةَ، يوجد مستوًى عالٍ من الالتزام والثقة؛ فالقائد الذي تتجلَّى نزاهته يُحمِّس الموظفين، وعندما يُظهِر التزامًا بالمبادئ العليا يصبح مصدرًا للإلهام. وفي ظل عالمٍ معقدٍ ومربكٍ تصبح النزاهة التي لا تتزحزح أمرًا يفهمه الناس، ويتفهمونه، ويحترمونه.

إن حالة الشد والجذب بين الحاجةِ إلى التصرُّف بنزاهةٍ وصعوبةِ فعْل ذلك، تفاقمت على نحوٍ غير مسبوق، وربما أفضل طريقةٍ لبدء التعامل مع حالة الشد والجذب هي فهم المعنى الحقيقي «للنزاهة الصارمة».

(١) معنى النزاهة على صعيد القيادة

النزاهة ليست مفهومًا مطلقًا، على الرغم من صفة «الصارمة» التي أضفناها إليها. وندرك أن النزاهة، مثل كل الصفات التي ناقشناها، تعتمد على المواقف. وعلى الرغم من أن بعض «المؤيدين للتعريفات المطلقة» قد يختلفون معنا، فإن ما يمثل النزاهة من منظور أحد الرؤساء التنفيذيين في أحد السياقات أو إحدى الثقافات، قد يكون مثالية ساذجة من وجهة نظر رئيسٍ تنفيذيٍّ آخر؛ ولذلك، فإننا نُعرف «النزاهة» — من زاوية القيادة — على أنها مجموعة معتقداتٍ تتطوَّر تدريجيًّا وتقود تصرفات الأشخاص في الأوقات الصعبة التي تنطوي على تحديات. تدعم المعتقدات إحساسًا باتباع الصواب، وتُقدِّم للقادة طريقةً للتصرُّف على نحوٍ متسق. وفي أغلب الأحيان تنشأ هذه المعتقدات نتيجةً للتعلم من التجارب، لا لتصريحات المؤسسة التي تعلن عن قيمها أو من منطلق الجشع المهني الفظ. وهذه المعتقدات راسخة على نحوٍ صادقٍ وعميقٍ، لكنها تتسم ببعض «المرونة». وعلى هذا النحو، فإننا ننصح القادة قائلين: «تصرَّفوا بنزاهةٍ صارمة، لكن دون حماقة.»

دعونا نستعرض بعض سمات النزاهة الصارمة، كما تظهر في المواقف القيادية:
• «تعارُض المعتقد الداخلي مع القواعد الخارجية أو مع المثل العليا»: في أغلب الأحيان يواجه القادة مواقف يدركون فيها الصواب، لكن معتقدهم يكون معارضًا لمعتقد رئيسهم، أو لقيم المؤسسة، أو لمتطلبات العملاء، أو علم الاقتصاد، أو الهيئات التنظيمية. ومن الممكن أيضًا أن تتعارض إحدى قِيَمهم الشخصية مع مبدأٍ أكبر، كما يوضح المثال التالي:

كولن باول — رجل ممدوح على نطاقٍ عالميٍّ تقريبًا بسبب مبادئه — لم يكن متفقًا دائمًا مع كل ما طَلب منه الرئيس جورج دبليو بوش فعلَه، أو على الأقل هذا ما بدا فيما يتعلق بقرار الولايات المتحدة بالمشاركة في الحرب على العراق. وبدلًا من تقديم استقالته من منصبه كوزيرٍ للخارجية — كما كان سيفعل شخص ذو حس نزاهةٍ صارم، وكما أراد منه الكثيرون من المعارضين للحرب — فقد وجد طريقًا بديلًا سمح له أن يظل في إدارة بوش دون تأنيب ضمير. لا شك أن ذلك لم يكن طريقًا مثاليًّا، وشعر باول على الأرجح في بعض الأوقات بعدم الارتياح عند قول وفعل بعض الأمور المعينة؛ لكن النزاهة ليست متعلقة بالمبادئ الشخصية للمرء فحسب، بل يمكن أن تتضمَّن مجموعة مبادئ أكبر. لقد آمَن باول على نحوٍ واضحٍ ببلده وبخدمة قائده ورئيسه، ويمكن أن نفترض أنه اعتقد أن الواجب والالتزام تجاه سلامة البلد يتفوقان في الأولوية على معتقداته السياسية الشخصية، وقرَّرَ أن أفضل إجراء هو البقاء في الوظيفة. وفي بعض الأحيان، من المحتمل أنه تجاهل كبرياءه من أجل الاضطلاع بالوظيفة على نحوٍ ناجح؛ ومن ثَمَّ يمكن القول إنه أظهر قدرًا كبيرًا من النزاهة من خلال القيام بهذه التضحية.

وعلى الرغم من ذلك، قد تقول وجهة نظرٍ أخرى إنه قلَّلَ من تأثيره كقائدٍ من خلال التنازل عن قِيَمه الشخصية. فقد انخفضت كفاءته، مع تجلِّي تعارُض آرائه إلى حدٍّ ما على أقل تقديرٍ مع الأشخاص المُطالَب باتباعهم. ونعتقد أن كولن باول أظهر نزاهة صارمة من خلال وضع مصالح البلد على قمة أولوياته، لكن بعض القادة الآخرين كانوا من الممكن أن يتخذوا خيارًا مختلفًا في الموقف نفسه، ويُعتبَروا على القدر نفسه من الصرامة.
إننا نستخدم هذا المثال لنوضح الصعوبة والتعقيد المرتبطَيْن بتحدِّي التصرُّف بنزاهة. وإليكم بعض التحديات الأخرى:
• «النزاهة ليست دائمًا خيارًا بين الأسود والأبيض»: كما يوضح مثال كولن باول، فإن النزاهة ليست بالضرورة مسألةَ اختيارٍ ما بين إجراءٍ صائبٍ على نحوٍ واضحٍ، وإجراءٍ خاطئٍ على نحوٍ واضح. وعلى الرغم من ذلك، فالناس في الغالب يتصورونها خطأً على هذا النحو. وأي قائدٍ ينظر إلى النزاهة على أنها مسألة اختيارٍ بين الأسود والأبيض، سيقع في خطر التعصُّب للرأي. والأشخاص الذين يعتمدون على قلوبهم إلى حدٍّ كبيرٍ قد يؤمنون دائمًا بتقديم مصلحة الأفراد، في حين أن التمسُّك الشديد بهذا المبدأ سوف يقلِّل من قدرتهم على النجاح أو حتى البقاء في ظل ثقافةٍ تهتمُّ بالأداء في المقام الأول.
بصفتنا مدرِّبين، فإننا في بعض الأحيان نجد أنفسنا نحوم في المنطقة الرمادية عند تناول قضايا النزاهة؛ فعلى سبيل المثال: لنفترض أننا كُلِّفنا بتوجيه أحد المسئولين التنفيذيين، وأثناء سير عملنا أجرينا كثيرًا من المحادثات التي استكشفنا من خلالها مشاعرَ ذلك المسئول حيال الشركة وثقافتها، وحيال مديره. وجمعنا أيضًا معلوماتٍ عن هذا الشخص من خلال مقابلاتٍ مع زملائه ومرءوسيه المباشِرين. وفي إحدى مراحل عملنا، قد يسألنا الرئيس التنفيذي: «ما رأيكم في هذ الشخص؟ ما رأي الآخرين فيه؟» من ناحيةٍ نحن لا نرغب في أن ننتهك العهد الضمني الذي قطعناه لذلك الشخص الذي نقوم بتوجيهه عبر كشف معلوماتٍ سرية؛ ومن ناحية أخرى، إنَّ مَن كلَّفنا هو الرئيس التنفيذي، وهو مَن يدفع أجرنا.
وعلى الرغم من ذلك، فإن إدراك أن هذا الموضوع ليس اختيارًا ما بين الأسود والأبيض يساعدنا إلى حدٍّ كبيرٍ في إدارة المسألة. وفي هذا المثال، نحتاج إلى إخبار الرئيس التنفيذي عن تطوُّر ذلك الشخص وقدرته المستقبلية على تحقيق النجاح، لكننا أيضًا كنا قد اتفقنا سابقًا مع كلٍّ من الرئيس التنفيذي والمسئول التنفيذي الذي نقوم بتوجيهه، على المعلومات التي سوف نصرِّح بها وتلك التي لن نصرِّح بها. إن فعل أفضل ما في وسعنا لإرضاء كلا المطلبين المتعارضين يتطلَّب نزاهةً.
• «معظم الأشخاص الذين ينتهكون ميثاق النزاهة الشخصي لا يدركون أنهم يفعلون ذلك»: على النقيض من توقعات العامة، يتمتع معظم الرؤساء التنفيذيين بنزاهةٍ استثنائية؛ ففي عصر التغطيات الإعلامية المكثفة والتدقيق الرقابي وتعريض مجالس الإدارة للمُساءَلة عن أي انتهاكاتٍ أخلاقية، أصبح لدى الرؤساء التنفيذيين محفز خارجي لإظهار قيمٍ قويةٍ ولائقة. وعندما يتصرَّفون هم أو غيرهم من القادة في الشركة بطرقٍ تبدو مفتقِرةً إلى النزاهة، فإنهم نادرًا ما يتصرَّفون من منطلق مصلحةٍ شخصيةٍ بحتة، بل هم على الأرجح واقعون في شَرَك الحاجة إلى التصرُّف الفوري وسط حالة ارتباكٍ سائدةٍ، وفي ظل رغبتهم في تحقيق أحد الأهداف. ولا يدركون أنهم ارتكبوا أمرًا خاطئًا إلا عندما يستعرضونه بعد وقوعه، فيسأل كلٌّ منهم نفسَه قائلًا: «لماذا فعلت ذلك؟ لماذا لم أكن أفكِّر في ذلك الأمر حينها؟» وأحد القادة الذين تحدثنا معهم ذكَّرنا بأنه لا توجد على أرض الواقع نوايا خبيثة إلا لدى قلةٍ قليلةٍ جدًّا من الأشخاص العاملين في الشركات. لكن يوجد الكثير من الأفراد الصالحين أصحاب النوايا الحسنة، الذين يقترفون الأخطاء في بعض الأحيان.
معظم القادة أشخاص صالحون يخطئون التصرُّف أحيانًا؛ فالضغط من أجل تحقيق النتائج، والمعارك السياسية الداخلية التي يخوضونها، وتعقيد المشكلات التي يتعاملون معها، وغيرها من العوامل؛ يمكن أن تؤثر سلبًا على حكمتهم. وكما أشرنا في فصلٍ سابق، فإن القادة يمكن أن يُظهِروا سلوكياتٍ مُعيقةً عند التعرُّض لضغط، وهذا يمكن أيضًا أن يَحُول دون تحقيق رغبتهم في التصرُّف بنزاهة. والقائد المغرور، الحريص على بناء سمعته وإنجازاته، لا يدرك أنه ينسب إنجازات الآخرين إلى نفسه، ويبرر تصرفاته بأنها ضرورية لتقوية سلطته ونفوذه. والشخص المبالِغ في الحرص يخترع سيناريوهاتٍ شديدةَ السوء باستمرارٍ، ويعتقد أنه يمكن أن يتسبب في حدوث هذه السيناريوهات حتى بأقل الأخطاء، ويعزف عن ترقية شخصٍ جديرٍ بالترقية لا لسببٍ سوى خوفه من أن ذلك القرار سوف يثير حفيظة المسئولين التنفيذيين الآخَرين ويؤدي إلى استقالاتهم.
ونظرًا لأن المعوقات من المحتمل إلى حدٍّ كبيرٍ أن تظهر تحت ضغط الظروف المسببة للتوتر، ففي بعض الأحيان يواجه القادة مشكلاتٍ متعلقةً بالنزاهة يسيئون التعامُل معها حتى دون أن يدركوا ذلك؛ فعند الوقوع في شَرَك الأزمات وغيرها من المواقف المسبِّبة للتوتر، ربما لا يدركون أنهم يفعلون شيئًا يتعارض مع معتقداتهم، أو أنهم يفعلون أمرًا لم يكونوا ليفعلوه مطلقًا لو كانوا تحت ضغطٍ أقل.
• «النزاهة تتطلَّب عمليةَ بناءٍ للشخصية وإبرازها»: يُفرِّق كيفن كاشمان — مؤلف كتاب «القيادة من الداخل إلى الخارج» — بين الدور والشخصية على النحو التالي: «الدور هو تمثيلٌ قائمٌ على ما يتوقَّعه منك الآخَرون، بينما الشخصية تمثيلٌ قائمٌ على ما تؤمن به وما تعتقد أنه صواب؛ ومن ثَمَّ فالنزاهة ترتبط تمامًا بالشخصية والشفافية؛ أيِ السماح للناس برؤية ذاتك الحقيقية.» ويجب أن نضيف أنه في معظم بيئات العمل توجد دوافع تحفِّز على إخفاء الشخصية الحقيقية بدلًا من إظهارها. والأشخاص الذين يعترفون بمخاوفهم بصدقٍ، أو يتحدَّثون بصراحةٍ عندما يختلفون مع الرئيس التنفيذي، يُنظَر إليهم في الغالب على أنهم جبناء أو مثيرون للمشكلات، وتصبح نزاهتهم نقطةً سوداء يمكن أن تُستخدَم ضدهم. وكثير من الأشخاص مدرِكون لهذه الحقيقة ولا يُعرِبون عن آرائهم إلا على مضض، أو يخفون خططَهم ووجهات نظرهم الحقيقية.
إننا لا نقول للقادة أن يعبروا دائمًا عما يجول في خاطرهم ويتجاهلوا الاعتبارات السياسية؛ فكما أشرنا في السابق، نحن نؤمن بضرورة التصرُّف بنزاهةٍ لكن دون حماقة. وعلى الرغم من ذلك، فإن أفضل القادة يختارون الأوقات والظروف التي تُظهِر أفضل ما فيهم، ويُكوِّنون سُمعةً قوامُها التصرُّفُ بطريقةٍ مبنيةٍ على مجموعةٍ من القِيَم الثابتة. ومن خلال سلسلةٍ من الاختيارات الصعبة كقادةٍ، يكشفون عن جوهرهم الحقيقي. في بعض الأحيان، لا بد لهم من اتخاذِ مواقفَ لا تحظى بالترحيب، أو المخاطرةِ بإزعاج العملاء أو غيرهم من كبار المسئولين التنفيذيين. وربما يختارون إصدار بيانٍ قد يُسفِر عن هجومٍ من المحللين ومن الإعلام، حتى عندما يكونون على درايةٍ تامةٍ بأن تلك الهجمات قادمة لا محالة. وهذا الأمر يتطلَّب الشجاعة، لكنها شجاعة قائمة على مبدأ. علاوةً على ذلك، فإن هذا الأمر يُظهِر أنهم قادة أصحاب شخصية، وهذا بدوره يمكن أن يُحمِّس الموظفين ويُكسِبهم الاحترام، حتى من أولئك الذين لا يوافِقون على تصرُّفاتهم.
• «النزاهة تظهر (أو لا تظهر) أثناء اللحظات الحاسمة»: أثناء اللحظات «العادية» في يوم العمل، قد يواجه القادة قراراتٍ يتصرفون فيها وفقًا لقِيَمهم، لكن اللحظات غير العادية هي ما تحدد نزاهة القائد. وفي العادة، ما يحفز تلك اللحظات هو أزمة أو قرار يبدو مستحيلًا.
وقد كتب جوزيف باداراكو — الأستاذ بكلية هارفرد للأعمال — كتابًا ممتازًا عن هذا الموضوع بعنوان «اللحظات الحاسمة». ووفقًا لباداراكو، فإن الاختبار المحدد للشخصية يحدث في لحظةٍ يكون لزامًا فيها على المرء اختيار النزاهة بدلًا من النفعية، والتفرُّد بدلًا من الاتباع، واختيار بديلٍ ليس صعبًا فحسب، بل قد يُعرِّضه أيضًا للعقوبة لأن قِيَمه الشخصية تتطلَّب ذلك الاختيار. وفي كثيرٍ من الأحيان تتضمَّن تلك المواقف بدائلَ تضع «الصواب مقابل الصواب» بدلًا من «الصواب مقابل الخطأ». ويزعم باداراكو أنه على الرغم من أن العقوبات قد تحدث على المدى القصير، فإن المهمةَ الطويلة المدى المتمثِّلة في تكوين الشخصية القيادية والنزاهة، يدعمها اختيارُ البديل «الأكثر صوابًا» الذي تحدِّده قِيَمُ الشخص. وإليكم هذا المثال:

تحاول إحدى الشركات أن تبدوَ شركةً تتقبَّل التعدُّدية بعد أن أُقِيمت في حقها دعوى قضائية — ذاع صيتها — تتهمها بالتمييز العنصري. ويواجه أحد كبار المسئولين التنفيذيين في هذه المؤسسة قرارًا بشأن ترقية أحد الأشخاص إلى منصبٍ رئيسي، ووقع الاختيار على مرشحَيْن، كلاهما يشعر المسئول التنفيذي بأنه مؤهل. وعلى الرغم من أن ذلك المسئول التنفيذي يعتقد أن المرشح «أ» قد يكون الشخص الأنسب لهذه الوظيفة، فإنه يتعرَّض لضغطٍ كبيرٍ من أجل اختيار المرشح «ب» الأقل خبرةً لكنه من الأقليات. وكِلا الخيارين تدعمه مجموعةٌ من الحجج المنطقية ترجح أنه هو الاختيار الصائب. هل هذا المسئول موضوعي حقًّا؟ هل يبالغ في أهمية معيار الخبرة؟ أليس من مصلحة الشركة ترقية المرشح المنتمي إلى الأقليات والاستثمار بكثافةٍ في تطويره؟ إذا اختار هذا المسئولُ التفكيرَ في الخيارين بعمقٍ، وتحديدَ معتقداته الخاصة بدلًا من الرضوخ لضغوط الآخرين، فسوف يحدِّد ذلك ما إذا كان سيتصرَّف بنزاهةٍ لا تتزحزح.

ندرك أن معظم القادة يرزحون تحت ضغطٍ هائلٍ من أجل الرضوخ إلى المطالب الخارجية، وقد يشعرون بأن لديهم التزامًا تجاه المدير أو العميل أو مجلس الإدارة. وهذا الضغط يُذكِّرنا بثلاثة أسئلة اقتبسها جو بيراردينو من اللاهوتيين اليسوعيين، ويستخدمها لتحدي كبار المسئولين التنفيذيين في موضوع الأخلاقيات والنزاهة، وهذه الأسئلة هي: (١) مَن أنت؟ (٢) لمَن أنت؟ (٣) ما الشخصية المطالَب أن تكون على شاكلتها؟ السؤال الأول والسؤال الثالث واضحان إلى حدٍّ كبيرٍ لمعظم القادة في وقتنا الحاضر؛ فالمطلوب منهم تكوين هويةٍ قوية، وتطوير نقاط قوتهم وإمكانياتهم الشخصية، وتحديد اتجاهٍ واضح. والسؤال الثاني يمثِّل تحديًا أكبر وهو أكثر تعقيدًا؛ ففي معظم بيئات العمل، يشعر الأشخاص بأنهم «مملوكون» بطريقةٍ ما، ومن المهم بالنسبة إلى القادة أن يفكروا في الأشخاص الذين يعملون لصالحهم ويخدمونهم في واقع الأمر؛ ومن ثَمَّ، فإن النزاهة هي قدرتهم على تحرير أنفسهم من تلك الملكية والتصرُّف باستقلاليةٍ عندما يكون الأمر مهمًّا وجادًّا بما يكفي.
• «للنزاهة صور متعددة»: يمكنك أن تُظهِر نزاهتك من خلال الإشارة إلى أن التعويض المدفوع لك عن إحدى نفقات الأعمال، كان أزيد بمقدار ١٠ دولارات أمريكية عن المبلغ المفترض. ومن الممكن أن تظهر النزاهة من خلال الاختلاف بأدبٍ مع مسئولٍ تنفيذيٍّ آخَر في أحد اجتماعات الفريق القيادي. ويمكنك التصرُّف بنزاهةٍ عندما تعارض الرئيس التنفيذي لأنك تعتقد أنه لا يتصرَّف على نحوٍ يتوافق مع هدف المؤسسة. وكما أن من الخطأ أن تفكِّر في هذه السمة كخيارٍ ترجيحيٍّ بين الأسود والأبيض — إما أن تمتلك النزاهة وإما أَلَّا تمتلكها — فلا نوصي أيضًا بأن تعتقد أن كل مظهرٍ من مظاهر النزاهة لا يختلف عن الآخر.
فَلْتتأمل ثلاثة تصنيفات على الأقل يمكن أن تصف تصرفاتٍ تتسم بالنزاهة، والأمثلة التالية مرتبة من الأقل إلى الأكثر خطورةً من الناحية الشخصية:
– «اتباع القواعد»: في هذه الحالة، يتبع القائد إجراءً معينًا أو يتخذ أحد القرارات بسبب القوانين المكتوبة أو الأعراف الثقافية أو سياسات المؤسسة. إنه يعرف أن تلك القوانين والأعراف والسياسات عادلة، ولا توجد لديه مشكلة في اتباعها. وأفعال القائد في هذا الصدد توجِّهها المعاييرُ الخارجية وليس المعايير الداخلية.
– «فعل الصواب دون وجود مخاطرةٍ شخصيةٍ محتملة»: وفي هذا الصدد يتخذ القائد قرارًا يؤمن به حقًّا، ومن الممكن ألا يكون من السهل اتخاذه، لكن في حالة وجود عواقبَ سلبيةٍ فإنها لن تؤثر عليه تأثيرًا كبيرًا. إنه ليس مُعرَّضًا لخطر الاستهجان أو إثارة الجدل أو خسارة وظيفته نتيجةً لتصرُّفه.
– «فعل الصواب على الرغم من وجود مخاطرةٍ كبيرةٍ متعلقةٍ بالحياة المهنية أو بالوظيفة»: وهنا يبرز القادة أصحاب النزاهة الحقيقية ويعاني بعضهم من انتكاساتٍ مؤقتة. إن رفض أمرٍ مباشرٍ من المدير، أو اتخاذ قرارٍ يتعارض مع أجندة الرئيس التنفيذي، يمكن أن يجعل القائد يتعرَّض للرفد أو يَحُول دون تقدُّمه في حياته المهنية.
إن هذه الأنواع الأخيرة من التصرفات يمكن أيضًا أن تُكسِب القائد احترامًا وإعجابًا كبيرين، بل قد تدعم أيضًا حياته المهنية في ظل ظروفٍ مناسبة. إن المخاطرة اعتمادًا على المعتقدات الشخصية هي قوام النزاهة الصارمة.

(٢) الأشخاص الذين يُظهرون شجاعة التصرُّف وفقًا لمعتقداتهم

نود أن نُطلعكم على أربع قصصٍ تعبر عن المعنى المقصود من تصرُّف القادة بنزاهةٍ صارمة. في أغلب الأحيان، نفكر في النزاهة بطريقةٍ مبسطة؛ فنرى أنها متمثلة في استقالة أحد التنفيذيين اعتراضًا على السياسة البيئية لشركته، أو إبلاغه الحكومةَ عن مخالفات الشركة لأنه لا يستطيع قَبول الممارسات التمييزية التي تنتهجها في تعيين الموظفين. وعلى الرغم من أن تلك التصرُّفات قد تكون مبنية على مجموعةٍ من المبادئ والقِيَم القوية، فإنها لا تعكس المواقف المعقدة والغامضة التي يواجِهها القادة يوميًّا. وإذا كانت الشركة لا تفعل شيئًا خاطئًا على نحوٍ واضح، مثل انتهاك القوانين أو التصرُّف بطريقةٍ تستحق اللوم من وجهة نظر الجمهور، فإن معظم القادة يعرفون ما ينبغي القيام به. وعلى الرغم من أن تلك المواقف تمثِّل خطرًا كبيرًا، فإن خيارات التعامل معها تكون في العادة واضحة جدًّا، وليس من ضمنها الاستمرار في تقبُّل الموقف. وفي أغلب الأحيان، يجد القادة أنفسهم في مواقفَ أكثر غموضًا بمراحلَ حيث لا تبدو الخيارات المطروحة شديدةَ الوضوح.

كل قصةٍ من القصص الأربع التالية توضح كلًّا من صعوبة فعل الصواب وتعقيده. القصة الأولى تكملة لقصةٍ من فصل سابق تناولنا فيها المسئول التنفيذي المحبوب، الذي استقال من شركته ليرفع عن الإدارة عبْءَ الاضطرار إلى نقله رغمًا عن إرادته.

قائد يستقيل لمعرفته أنه ليس الشخص المناسب للوظيفة

لم يحقِّق هذا القائد أهدافَ الأداء الضرورية لبعض الوقت، وكانت شركته في محنة؛ وعلاوةً على ذلك، كان واضحًا للجميع أنه ليس الشخص القادر على حل المشكلات. وبصفته شخصًا أكسَبَه نجاحُه على مدار خمسٍ وعشرين سنة في الشركة قدرًا هائلًا من الاحترام والولاء، فقد كان من الممكن أن يُصعِّب على الشركة عمليةَ التخلُّص منه. وربما كان سينجح في تقديم حججٍ تَثْنِي المدير عن إبعاده عن الشركة.

بدلًا من ذلك، من منطلق علمه أن الشركة ستكون في حالةٍ أفضل مع وجود قائدٍ آخَر في منصبه، فعَلَ الصواب واستقال. ولا شك أنه لم يتخذ هذا القرار بسهولة؛ فهو لم يتخلَّ فحسب عن وظيفةٍ مربحة، لكنه نحَّى كبرياءَه جانبًا أيضًا. وفي النهاية، قاده حسُّ النزاهة القوي لديه إلى فِعْل الأمر الصائب.

مستشار يرفض عملًا مربحًا

أحد المستشارين الكبار لإحدى الشركات الكبرى، طلب منه أحد العملاء أن يساعد مؤسسته في إجراء تغييرٍ صعبٍ لثقافة المؤسسة. كان العميل متلهفًا للبدء، وأراد تنفيذ مجموعةٍ كبيرةٍ من البرامج على الفور؛ وهي برامج كانت ستدرُّ دَخْلًا هائلًا على شركة المستشار، التي كانت متلهفةً لترسيخ مكانتها في السوق. وعلى الرغم من ذلك، كلما فكر المستشار في الأمر، زاد إدراكه أن تطبيق تلك البرامج أمر سابق لأوانه؛ واستنتج أن العميل يحتاج إلى إجراء المزيد من التحليلات، ووضع استراتيجيةٍ أكثر تعقيدًا لتغيير الثقافة أولًا لكي يتمكَّن من استخدام إمكانياته كمستشارٍ على نحوٍ ناجح.

وعلى الرغم من صعوبةِ التخلِّي عن الدخل والمخاطرةِ بإثارة غضب العميل المتحمِّس، فقد تمسَّك المستشار بما اعتقد أنه الأمر الصائب، ورفض العمل. وعلى الرغم من أن العميل لم يكن مسرورًا بهذا التصرُّف في البداية، فإنه فهم أن المستشار قدَّمَ له خدمة كبيرة؛ فلو أنه مضى قُدمًا قبل الأوان، كان سيخسر قدرًا هائلًا من الوقت والمال.

رئيس تنفيذي يُطهِّر المؤسسة من الفساد

إدوارد برين، الذي تولى مسئولية مؤسسة تايكو الدولية التي مُنيت بفضيحة فساد، حقَّق معجزاتٍ فيما يتعلَّق بتعافي المؤسسة؛ إذ قلَّل دَيْنها إلى حدٍّ هائلٍ، وضاعَفَ صافي الأرباح ثلاث مرات. لكن ما لا يعرفه الجميع هو أنه حقَّق ذلك عبر نزاهةٍ صارمة؛ فعندما تولى مسئولية الشركة بعد الرئيس التنفيذي السابق الموصوم بالعار دينيس كوزلاوسكي، بدأ برين في تطهير الشركة من الفساد. إلا أنه لم يفعل ذلك على نحوٍ متساهلٍ ومتحفظ؛ فهو لم يتحدَّث إلى الموظفين عن الأخلاقيات وكفى، بل اتخذ أيضًا إجراءاتٍ أظهرت التزامه بالعمل وفقًا لقِيَمٍ قويةٍ ثابتةٍ لا يتنازل عنها من أجل أي شخصٍ أو أي شيء. على سبيل المثال: كان قراره بتبديل مجلس الإدارة بالكامل مثالًا على نزاهته الصارمة. كان من اللائق ذوقيًّا أن يستبدل فقط بعضًا من رؤساء مجلس الإدارة، ويضم الجزء الآخَر إلى فريقه لمساعدته في التحوُّل، لكن برين أراد أن يقدِّموا جميعًا استقالاتهم. وقد قاوَموا بطبيعة الحال، خوفًا من أن تجعلهم الاستقالة الجماعية يَبدون مُدانين بارتكاب أحد الأخطاء وتُفاقم مسئولياتهم القانونية.

توصَّل برين ببراعةٍ إلى ترتيبٍ سمح له باستبدال أعضاء مجلس الإدارة كافةً. وعلى القدر نفسه من الأهمية، شغل المناصب الخالية بمجموعةٍ متنوعةٍ من الرؤساء ذوي التفكير المستقل. طرد برين أيضًا ٢٩٠ من أصل ٣٠٠ من قادة الإدارة العليا خلال الشهور الأولى من ولايته، ليس لأنه شعر أنهم مُدانين بسلوكياتٍ غير أخلاقية، بل لأن أسلوبهم في الإدارة كان غير متفقٍ مع رؤيته لمؤسسة تايكو. لقد كانوا جزءًا من ثقافةٍ تركز على عقد الصفقات، وكان برين مهتمًّا أكثر بدعم ثقافةٍ تقوم على الحرص المالي والمبادئ والممارسات الإدارية القوية.

من الواضح أن التخلص من هذا العدد الكبير من كبار المسئولين التنفيذيين كان كابوسًا من وجهة نظر الموارد البشرية، ومن منطلق خسارة المعرفة المؤسسية. وعلى الرغم من ذلك، فقد علم برين أنه مهما سبَّبت نزاهته من ألمٍ على المدى القصير، فإنها سوف تفيد الشركة على المدى الطويل.

موظف يتحدَّى الرئيس التنفيذي

انضم جيل إلى شركةٍ مشهورةٍ سريعة النمو في منصب رئيس الموارد البشرية. لقد جاء من مؤسسةٍ تقليديةٍ أكثر محافظةً حيث كان يشغل منصبًا مشابهًا، وعلى الرغم من أن جيل استمتع بالسنوات الثماني التي قضاها في شركته السابقة، فإنه شعر بالحاجة إلى تحدٍّ جديدٍ وفرصةٍ للنمو مع شركةٍ تُحقق نموًّا.

وعقب بضعة أشهرٍ فحسب في الوظيفة الجديدة، شعر جيل بعدم الارتياح حيال بعض سياسات وممارسات المؤسسة الجديدة. وعلى الرغم من إعجابه بالرئيس التنفيذي وفريقه بسبب استراتيجياتهم الماهرة والطموحة، فإنه أصبح منزعجًا من بعض الطرق المختصرة التي طلبوا منه دعمها؛ فعلى سبيل المثال: أراد الرئيس التنفيذي إحضار مسئولٍ ماليٍّ كبيرٍ من مؤسسةٍ أخرى، وكان هدفه النهائي من ذلك هو استبدالَ المدير المالي الحالي، وطلَبَ الرئيسُ التنفيذي من جيل أن يُقنع المدير المالي الحالي بأن يأخذ الموظف المالي الجديد تحت جناحه ويدربه؛ وشدَّد عليه بألا يلمح للمدير المالي بأنه يدرِّب خليفته، زاعمًا أن معلومةً كهذه قد تُفسَّر بطريقةٍ خاطئة، وأن الشركة تحتاج إلى بقاء المدير المالي الحالي في وظيفته لمدة سنتين على الأقل.

لم يعتقد جيل أن هذا التصرُّف (أو غيره من السياسات المريبة التي طالبوه بتنفيذها) كان غير أخلاقي حقًّا، لكنه كان يخرق بالفعل مفهومه عن الطريقة الصحيحة لإنجاز الأمور، تلك الطريقة التي تَعلَّم التصرُّف وفقًا لها؛ إذ لم يكن يحب الطرقَ المختصرة الهادفة لخدمة المصلحة الشخصية، أو الأسلوبَ القيادي الذي يفضِّل الاستغلال على الشفافية. وفي الوقت نفسه، كانت الوظيفة تُمثِّل تحديًا ومجزية كما توقع جيل، ولم يرغب في الاستقالة، لكنه كان متضايقًا من مجاراته لسياسات شركةٍ لم يكن مؤمنًا بها حقًّا، دون تذمُّر.

وأخيرًا قرر اتخاذ موقف معين، ولم يُعرِب فحسب عن مخاوفه للرئيس التنفيذي، بل كتب أيضًا تقريرًا رسميًّا يحلل كيف أن هذه السياسات تؤثر سلبًا في نهاية المطاف على صافي دخل الشركة. بطبيعة الحال لم يتفق الرئيس التنفيذي مع جيل، لكنه قال إنه مستعدٌّ للتحدُّث أكثر عن هذا الموضوع، وإنه لو وجد جيل نفسه يرفض تنفيذ طلبٍ يثير ضيقه، يجب أن يناقش سبب مقاومته مع الرئيس التنفيذي، وسيكون التعامل مع الأمر على حسب كل حالة. وعلى الرغم من أن جيل لم يكن ليغيِّر سياسات الشركة، فقد اتخذ موقفًا كان متأكدًا من أنه سيَلفت انتباه الرئيس التنفيذي وغيره في المؤسسة، وسوف يُسفِر عن منحه قدرًا أكبر من حرية التصرف بطرقٍ يشعر تجاهها بالارتياح.

(٣) كيف تكتسب النزاهة الصارمة؟

بعض القادة لا يهتمون مطلقًا بأي نوعٍ من أنواع النزاهة، فضلًا عن النزاهة الصارمة؛ إنهم طموحون وانتهازيون حتى النخاع وعلى نحوٍ سافر. والبعض الآخر لا يفكرون في النزاهة، ويعتقدون أنهم يعرفون الصواب من الخطأ، وأنهم لا يخشَوْن قول الحقيقة. من المستحيل اكتساب النزاهة بهاتين الطريقتين، لكن لحسن الحظ أن هؤلاء القادة نادرون. ومعظم القادة الذين يَبدون مفتقرين إلى النزاهة هم في أغلب الأحيان مفتقرون فحسب إلى الوعي بأنهم يتصرفون دونها، وبمجرد أن يدركوا — بمجرد الانتباه إلى الطرق والأوقات التي تكون فيها تصرفاتهم غير متسقةٍ مع معتقداتهم — فمن المحتمل أن يتصرَّفوا بنزاهةٍ صارمة. وإليكم بعض الأساليب التي تساعد في تعزيز هذا الوعي:
• «تسهيل التفكير في موضوعات النزاهة ومناقشتها»: يجب أن يجعل الرئيس التنفيذي وغيره من كبار القادة هذا الموضوع جزءًا من حوارٍ مؤسسيٍّ مستمر؛ فعند حدوث إحدى الأزمات يكون الأوان قد فات على بدء عملية مناقشة القِيَم والنزاهة. إن تناول موضوعات النزاهة يُشبه التأمين على المؤسسة؛ إذ يجب دفع الإيداعات مقدمًا تحسُّبًا للحاجة إليها في أحد المواقف في المستقبل. ومواجهة هذه الموضوعات تشمل خطواتٍ متعددةً، بدايةً من تطوير مواقع على شبكة الإنترانت الداخلية للشركة تناقش المشكلات التي يواجهها القادة عند التصرُّف وفقًا لمعتقداتهم، ووصولًا إلى التوجيه الذي يُمكِّن الأفراد من تسوية صراعاتهم الداخلية. وتعني أن يعبر القادة عن معضلاتهم الشخصية ووجهات نظرهم حول طريقة التعامل مع المعضلات المتناقضة أو الأخلاقية أو المريبة. وتعني أيضًا الاعتراف بأنه لا توجد وجهة نظر «صائبة» وحيدة، وأن الناس يحتاجون إلى مراعاة وجهات نظر الآخرين عند تأمُّل مفهومهم عن الصواب والخطأ.
في إحدى الشركات التي نعرفها جيدًا، يكدُّ العاملون من أجل تحفيز التفكير والنقاش في موضوع الأخلاقيات. ومؤخرًا، وافقت تلك الشركة على شراء شركةٍ أخرى تُنتج أجهزة طبية مصرَّحًا بها من قِبَل إدارة الغذاء والدواء الأمريكية. وخلال السنة الماضية خضعت بعض منتجات الشركة المستحوذ عليها للفحص من قِبَل بعض الهيئات الرقابية، بسبب بعض عيوب التصميم المحتملة التي أثَّرت على عددٍ صغيرٍ من المرضى. وعلى الرغم من أن العيب بَدَا طفيفًا لبعض الناس، مقارَنةً بالفائدة المحتملة التي يمكن أن يحقِّقها المنتج، فإن عملية الاستحواذ تمثِّل الآن معضلةً للجميع. هل فشلت الشركة المستحوِذة في وضع معاييرَ عاليةٍ بالقدر الكافي؟ هل ستُعرِّض الشركة المستحوِذة نفسَها لخطرٍ محتملٍ إذا استحوذت على هذه الشركة ومشكلاتها؟
أثناء مناقشة الموظفين لهذه الموضوعات، علم الرئيس التنفيذي للشركة المستحوِذة أن وول ستريت وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية والمستثمرين؛ سينتقدون المشكلات التي يعاني منها الجهاز. إلا أنه طرح سؤالًا مختلفًا وأكثر أهمية، أَلَا وهو: ماذا سيقول المريض عندما يواجه علاجًا محتملًا لمرضه الذي يهدِّد حياته، ويعرف أيضًا الخطر المحتمل لهذا العلاج مهما كان صغيرًا؟ ماذا سيقول أي قائدٍ لو كان المريض ابنه أو ابنته؟ لقد أرادهم أن يتخيَّلوا الأفكارَ التي تَرِدُ على خاطر المريض، وعمليةَ تقييم المخاطرة والمكافأة التي سيقوم بها، كي يتوصَّل القادة العاملون في شركته إلى وجهة نظرٍ من زاويةٍ إنسانيةٍ قائمةٍ على التعاطف مع المريض. لقد أراد منهم أن يفكروا في الأمر الصائب اللازم فعله في هذا النوع من المواقف حيث تبدو المشكلة صغيرةً، مقارَنةً بالنفع الكبير الذي ستحقِّقه، ويُستبعَد تسبُّبها في أي مشكلاتٍ خطيرةٍ للناس، وعلى العكس من ذلك عندما لا تبدو المشكلة صغيرة عند النظر إليها من وجهة نظر المريض. إن دمج وجهة النظر تلك إلى الحوار المؤسسي يقدِّم من ثَمَّ طريقةً أخرى لتحديد الأمر الصائب اللازم فعله في هذه الحالات. وفي هذه الحالة بالتحديد، كان القرارُ المضيَّ قدمًا في عملية الاستحواذ اعتمادًا على اعتقادٍ بأنها خطوة في مصلحة المريض على المدى الطويل.
• «تشجيع الموظفين على التعبير عمَّا يفكرون به قبل أن يفعلوه»: عندما يكتب أحد الموظفين رسالةَ بريدٍ إلكترونيٍّ غاضبةً تقول: «أنا مستقيل! لا يمكنني العمل في شركةٍ تُعامل الناس بمثل هذه الطريقة!» فإن هذه الاستقالة الدرامية قد تبدو نبيلة وذات مبدأ، لكنها قد تبدو أيضًا مندفعة وميلودرامية. ويمكن أن تفقد الشركات قادةً أصحاب مبادئَ رفيعةٍ يتصرَّفون قبل أن يفكِّروا، وقبل أن يتحدَّثوا عن خططهم. عندما يحصر القادة تفكيرَهم عن النزاهة داخل عقولهم، فإنهم يُكوِّنون محادثاتٍ أحادية الجانب. ويمكن بسهولةٍ أن يدفعوا أنفسهم إلى حالةٍ من رد الفعل العاطفي تجاه إحدى المشكلات، ويتصرفوا بطريقةٍ تفتقر إلى الحكمة. وعلى الرغم من ذلك، فمن خلال التعبير عن مخاوفهم وتحفظاتهم تجاه أحد الموضوعات، من الممكن أن يتلقَّوا استجابة من الآخرين، وربما يعدلون وجهة نظرهم. وفي بعض الأحيان بعد سماع ردود الآخرين، قد يدركون أنهم لم يكونوا يتصرفون بنزاهةٍ صارمةٍ بل بعنادٍ وغضب.
لدى قادة الإدارة العليا في المؤسسات معرفةٌ بالموضوعات المثيرة للأعصاب؛ أيْ تلك الموضوعات التي يُطالَب فيها الناس باتخاذ قراراتٍ أو تنفيذ خططٍ ومشروعاتٍ لا يوافقون عليها شخصيًّا. إن الامتثال للقواعد ووضع الميزانية وتقليل التكاليف والقرارات المتعلقة بالتنوع الثقافي وقرارات الحوافز والترقيات، غالبًا ما تُبرز مشكلاتِ النزاهة إلى السطح. ومن أعلى المسئولين التنفيذيين إلى أدنى المستويات الإدارية، لا بد أن يسأل القادةُ الآخرين عن شعورهم تجاه تلك القرارات والتصرفات، وبدلًا من التزام الصمت المهذب يجب أن يطرحوا أسئلةً مباشِرة مثل: «هل يضايقك ذلك بأي طريقة؟» فهذا سوف يُمكِّن ويُشجِّع الناس على التفكير قبل التصرُّف.
• «وضع مجموعة من الأسئلة التي تساعد الموظفين على التفكير في الأمر الصائب، وتساعدهم على إيجاد الشجاعة اللازمة لاختيار الإجراء الصائب»: إن الأمر يتطلب تفكيرًا جادًّا لتحديد ما تؤمن به، ولإيجاد شجاعة التصرُّف وفقًا لهذا المعتقد. والأسئلة التالية مصمَّمة لتحفيز هذا التفكير:
  • لماذا تتخذ موقفًا من هذا الموضوع بالتحديد؟ هل انتهك أحدٌ المُثُلَ التي تقدِّرها كثيرًا؟ هل يبدو الأمر كما لو كنتَ لن تستطيع احترامَ نفسك إنْ لم تتخذ ذلك الموقف؟

  • هل درستَ دافعك وراء اتخاذ هذا القرار أو القيام بهذا الإجراء؟ أهي مسألة نزاهةٍ حقًّا، أم أن الأمر ينطوي على بعض المصلحة الشخصية؟

  • هل يطلب منك رئيسك القيام بأمورٍ أو اتباع سياساتٍ متوافقةٍ مع قِيَم المؤسسة تجدها بغيضة من منظورك الشخصي؟ هل حاولتَ التعبير عن مشاعرك حول هذا الموضوع لقادة الإدارة العليا؟ هل بحثتَ عن بدائلَ قد تجعل مهمتَك تلقى قدرًا أكبر من القَبول من وجهة نظر قِيَمك الشخصية؟

  • هل تشعر أن معتقدك حول الطريقة الصحيحة والطريقة الخاطئة لتنفيذ المهام في العمل قد تطوَّرَ مع مرور الوقت؟ هل سمحتْ لك تجاربُ معينةٌ بتكييف وتعديل توجُّهك، أم أنك متمسك للغاية بوجهة نظرك لدرجة أن لا شيء سيجعلك تفكِّر في تعريفٍ آخَر لما هو صحيح؟

  • هل تفرق بين الأخلاقيات المؤسسية القانونية والنزاهة الشخصية؟ هل توجد مواقف تتصرَّف فيها بطرقٍ متوافقةٍ مع السلوك الأخلاقي، كما قد يفسره مجلس الإدارة، لكنك تظل تشعر بأنك تفعل شيئًا يتعارض مع مبادئك؟

  • ما مخاطر اتخاذ موقفٍ من هذا الموضوع؟ كيف تريد أن يفسر الآخَرون هذا التصرُّف؟ ما الذي تحاول «قوله»؟

ما نقصده هو أن الأسئلة المحفزة للتفكير والحوار هي غالبًا أفضل طريقةٍ لتناول الموضوعات المعقدة والصعبة عندما تكون نزاهة القائد في خطر.

•••

رأينا إلى الآن بعض تحديات القيادة عبر توظيف العقل والقلب والشجاعة. تتطلَّب هذه التحديات مجموعةً من المهارات ليس من السهل اكتسابها. وفي كثيرٍ من الأحيان، تتطلَّب أكثرَ من مجرد المهارة؛ إذ تتطلَّب منَّا التصرُّف بنزاهةٍ وأن نعكس جوهرنا الحقيقي كقادةٍ وكأشخاص. إنها تلمس ما نعتقده عن أنفسنا، وما نعتقده عن الآخرين، وما نعتقد أنه ممكن ومرغوب فيه للعالَم ولمستقبلنا.

في الجزء الأخير من هذا الكتاب سوف نقدِّم فكرة «القائد الناضج» — قائد كامل، وليس قائدًا جزئيًّا — الذي لم يمر بخبراتٍ كثيرةٍ في الحياة فحسب، بل أجال الفكر أيضًا في الحياة كثيرًا. إنه قائدٌ يدرك أهمية التصرف بذكاءٍ مستعينًا بحكمة القلب دون أن يُعميَه قلبه، قائدٌ يمتلك شجاعة المخاطرة في ظل غموض وتعقيد القيادة في العالم المعاصر، لكنه ليس طائشًا إلى حدٍّ يجعله يعتقد أن الإجابات الصحيحة خاليةٌ من المخاطرة وسهلةٌ. باختصار، القائد الناضج هو قائد قادر على استحضار كل عناصر الذكاء والتعاطف والشجاعة اللازمة لتلبية متطلبات القيادة في القرن الحادي والعشرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤