الفصل السادس

تكوين وجهة نظرٍ والتعبير عنها بوضوح

قد تبدو السمة الأخيرة في القسم المعرفي أقل في الأولوية من السمات الأخرى، لكنها في الحقيقة على القدر نفسه من الأهمية. في بادئ الأمر، قد يبدو تكوينُ وجهة نظرٍ رفاهيةً أكثر منه ضرورةً. وعلى أي حال، فبالمقارنة مع قدراتٍ معرفيةٍ مثل إنجاز المهام وإعادة ترسيم الحدود، لا يبدو تكوين وجهة النظر مناسبًا من حيث التوقيت أو مفيدًا مثل تلك القدرات. وعلى الرغم من ذلك، فإن وجهة النظر تمثِّل المرساة والحافز؛ ففي وقتٍ يشعر فيه الكثير من القادة بالتشكُّك وعدم الالتزام، تُقدِّم وجهة النظر إحساسًا داخليًّا بالأمان؛ إذ تصبح أساسًا يمكن اتخاذ القرارات استنادًا إليه في بيئةٍ مؤسسيةٍ سياسيةٍ معقدةٍ وغير واضحةٍ في بعض الأحيان. تساعد أيضًا وجهةُ النظرِ القادةَ في الحفاظ على شخصيةٍ ثابتةٍ تتسم بالمصداقية، ويمكن أن تولِّد الالتزامَ والشغفَ الضروريَّيْن لتحقيق الأهداف الطموحة، وقد تساعدهم في الحفاظ على حماسهم واهتمامهم، وتمنحهم إحساسًا بالإصرار على تحقيق الهدف أثناء المُضي قدمًا في حياتهم المهنية.

ومع الأسف، لقد لاحظنا أن كثيرًا من القادة يتبعون ببساطةٍ وجهةَ النظر الأكثر إرضاءً للمناخ العام، أو وجهة النظر الأكثر خدمةً لمصالحهم، بدلًا من تكوين وجهة نظرٍ خاصةٍ بهم. إننا في عصرٍ يتبنَّى فيه القادةُ مواقفَ لا يؤمنون بها وهم متشكِّكون أو متشائمون تحت ذريعة التقدم في العمل. ولا شك أنك تعرف قادةً تنفيذيين كانوا مستعدين لتغيير مواقفهم اعتمادًا على توقُّعات رئيسهم في العمل أو مجلس الإدارة، أو تبنَّوْا مواقفَ كانت لديهم تحفظاتٌ بخصوصها. وعلى الرغم من أن بعض القادة أذكياء وموهوبون، فإنهم معرَّضون لتبنِّي «وجهات نظرٍ عبثية»، خاصةً عندما تبدو وجهات النظر تلك متعقِّلة من الناحية المهنية.

ما لا يدركه هؤلاء القادة هو أنهم من دون وجهة نظرٍ، نادرًا ما يلهمون الآخرين ويحفزونهم على بذل الجهد لأجلهم. وقد يخدعون أنفسهم باعتقاد أن «المواءمة» سوف تساعدهم في حياتهم المهنية، لكنها على المدى الطويل سوف تَحُول دون رؤيتهم باعتبارهم قادةً أكْفاءً.

(١) لماذا يفشل الناس في تكوين معتقداتٍ واتخاذ مواقفَ خاصةٍ بهم

إليكم توضيحًا لما نقصده:

كانت كارول من كبار المسئولين التنفيذيين في إحدى المؤسسات الكبرى. ونظرًا لذكائها ومهارتها ونجاحها الكبير في سنٍّ صغيرةٍ نسبيًّا، كان مقررًا لها أن تُقدِّم عرضًا تقديميًّا كبيرًا أمام اللجنة التنفيذية لشركتها. عملت كارول جاهدة على إعداد العرض التقديمي الذي كان يدور حول استراتيجية وظيفتها، ويبيِّن مدى توافُقها مع الأهداف الأكبر للمؤسسة. سار العرض على ما يرام، أو هكذا ظنت كارول. لقد كانت تتحدَّث بسلاسةٍ وبوضوح، وكانت شرائح العرض التقديمي محدَّدةً، فلم تلجأ إلى الإسهاب ولم تحذف أيًّا من النقاط الرئيسية، وعلمت أن ما قالته كان متفقًا مع فلسفة ومنهج الرئيس التنفيذي. كانت كارول تُكِنُّ احترامًا كبيرًا للرئيس التنفيذي الذي كان يعتبره الكثيرون واحدًا من أهم القادة في الدولة، والذي كان يركِّز على أولوياتٍ قليلةٍ واضحةٍ ساعدَتْه في إيصال الشركة إلى النجاح؛ وأرادت أن تضمن أنه يراها «ضمن الفريق»، وأن عرضها التقديمي يتوافق مع أفكاره فيما يتعلَّق باتجاه المؤسسة.

في واقع الأمر، إن العرض التقديمي الذي قدَّمتْه كارول جعل جميع مَن في القاعة يشعر بالنفور؛ فلقد رأَوْا أن حديثها ببساطةٍ عبارة عن دعايةٍ ترويجيةٍ لمواقف الرئيس التنفيذي؛ فلو كانوا قد أغمضوا عيونهم وغيَّروا الصوت الذي يسمعونه من صوت امرأةٍ إلى صوت رجل، لَسمعوا صوت الرئيس التنفيذي. وسرعان ما أصبح واضحًا أن كارول لم تُكوِّن وجهةَ نظرٍ خاصةً بها، بل اقترضتْ واحدة. ولو كانت كارول قد قدَّمتْ أفكارها وحججها، «ثم» أوضحت كيف ترتبط بأولويات الشركة الأخرى، بما فيها أولويات الرئيس التنفيذي، لَأصبحت أكثر تأثيرًا. إلا أن عرضها التقديمي بدا أنه تُحرِّكه سياسة الإرضاء ويخدم مصالحها الشخصية، وفي هذا الموقف المهم فقدت كارول مصداقيتها في عين اللجنة التنفيذية.

قد تعتقد أن شخصًا بذكاء كارول كان يمكن أن يدرك أن الولاء لا يعني دائمًا القيادة، وقد تفترض أن ذكاءها وخبراتها سوف تنتج تلقائيًّا وجهةَ نظرٍ مميزةً؛ وعلى الرغم من ذلك، فقد وقعت كارول ضحيةً لمؤثراتٍ أكبر منها.

دعونا نُلقِ نظرة على المؤثرات التي تجعل الناس يتجنَّبون تكوينَ وجهة نظرٍ خاصةٍ بهم، أو العملَ وفقًا لوجهة النظر تلك:
• «الفكرة الخاطئة القائلة بضرورة أن يمثل القادة سياسات المؤسسة»: يخلط الناس بين الولاء للمؤسسة وبين خدمة أهدافها؛ فالأخيرة يمكن تحقيقها من خلال التحدِّي النقدي والتساؤل، لا بمجرد التبنِّي الأعمى لكل ما تمثِّله المؤسسة واعتناق كل الاستراتيجيات والتكتيكات الحالية. بالتأكيد ينبغي أن يعمل كل قائدٍ لدى مؤسسةٍ يؤمن بها، وإذا كان أحد القادة يختلف مع المؤسسة في كل شيء، فمن الأفضل على الأرجح أن يترك تلك المؤسسة. وعلى الرغم من ذلك، فكثير من القادة يتبنَّوْن بالكامل وبلا تعقُّلٍ وجهةَ نظرِ المؤسسة لدرجة أنهم لا يتركون لأنفسهم مجالًا لتكوين وجهة نظرٍ خاصةٍ بهم؛ وربما أقنعوا أنفسهم في هذه الأثناء أن وجهة النظر تلك هي الأفضل للشركة، وتُمثِّل ولاءهم لها. ومن الممكن أن ينتابهم القلق حيال تقييم المدير أو المشرفين لهم، لدرجة أنهم خائفون بالمعنى الحرفي للكلمة من مخالفتهم بأي طريقةٍ معبرة. وعلى الرغم من ذلك، فهم على الأرجح لم يأخذوا وقتهم في التفكير في المؤسسة بعيدًا عن مقصورتهم أو مكتبهم، وتركوا التفكير لغيرهم لأن أمامهم الكثير من المهام الأخرى الواجب إنجازها.
• «البيئات المؤسسية التي تشجِّع الالتزام الصارم بسياساتها»: على الرغم من أن هذه الأنواع من الشركات لا تعلن عن ذلك بشكلٍ واضح، فإن الثقافاتِ السريعةَ التقدُّمِ في البيئات التنافسية تتطلَّب من الناس «السير مع الرَّكْب»، وغالبًا ما نطلب من القادة تحديد القواعد غير المكتوبة للمؤسسة. في كثيرٍ من الأحيان تكون أولى القواعد غير المكتوبة هي: «لا تُعرِب عن اختلافك مع المدير.» وأحيانًا يزداد تأثيرُ هذه القاعدة كلما ارتقيتَ في المستوى الإداري في الشركات ذات الثقافة القوية التي تَنْهى عن حدوث الخلاف بين مسئولي الإدارة العليا. وفي بعض الأحيان يصبح «الانحياز» أهم من اتخاذ القرارات الجيدة، ويُنظَر إلى القادة أصحاب وجهة النظر القوية على أنهم مثيرون للجدل وللتشتت. بعض المؤسسات لا ترغب ضمنيًّا في أن يُعبِّر موظفوها عن اختلافهم مع استراتيجياتها وسياساتها، بل تُفضِّل الإجماع العام على جميع الموضوعات. تطلب تلك المؤسساتُ الالتزامَ بالقِيَم الثقافية إلى أن تحدث إحدى الأزمات، وعندها تصبح وجهة النظر السائدة هي: «لماذا لم يُعبِّر مزيد من الناس عن آرائهم؟» وفي تلك الشركات، قد يُكوِّن الأفراد وجهة نظرٍ خاصةً بهم بالفعل، لكنهم لا يجرءون على التعبير عنها؛ أو ربما يدخرونها لمنتدى المناقشة على الإنترنت الذي يزخر عادةً بالرؤى، والمعلومات، والأفكار.
• «الفشل في قراءة ما يحدث في العالم «الخارجي» واستجلائه والتفكير فيه»: كي تُكوِّن وجهة نظر، ينبغي لك الاحتكاك بمجموعةٍ متنوعةٍ من المصادر الخارجية. وهذا يتضمَّن القراءة عن أفضل الممارسات، والشركات العالية الأداء، والقادة الممتازين، وغير ذلك. وهذا يتضمَّن أيضًا الاشتراك في مؤتمرات، ومقابلة قادةٍ آخرين، وفهم المؤثرات المحيطة بالعالم الذي تعيش فيه، مثل الاقتصاد الكلي والسياسة والمشكلات البيئية والمؤثرات الجغرافية والخصائص السكانية. وأخيرًا، يتطلَّب هذا التأمُّلَ؛ أيِ التوقُّف والتفكير في كل شيءٍ قرأتَه واختبرتَه كي تُكوِّن وجهةَ نظرٍ خاصةً بك. ومن الصعب تكوين وجهة نظرٍ وأنت بمعزلٍ عن التجارب والمعرفة؛ فأنت في حاجةٍ إلى دمج المعلومات والأفكار من مصادرَ متعددة.
عندما نبدأ بتوجيه أحد قادة الإدارة العليا، فإن أول ما نطرحه عليه من أسئلةٍ هو: «ماذا تقرأ؟» ومن خلال هذا السؤال يمكننا أخذ فكرةٍ عن طريقة تكوين القائد لوجهة نظره من مصادرَ متنوعةٍ ومختلفة. إنك في حاجةٍ إلى جعْل أفكارك تَحتَكُّ بأفكار غيرك كي تولد الطاقة والضوء. ومن خلال هذه الطاقة العقلية سوف تُطوِّر نظريةً عن الأمور المهمة بالنسبة إليك باعتبارك قائدًا، وعن الطريقة المناسبة لإدارة الشركة.
• «شك المرء في قدرته على تكوين وجهة نظر»: قد يكون القادة واثقين من أنفسهم في جوانبَ أخرى — مثل خبرتهم في مجالهم الوظيفي — لكنهم لا يرَوْن أنفسهم مفكرين عظماء أصحاب آراءٍ قويةٍ عن الموضوعات القيادية. إن تكوين وجهة نظرٍ ليس مهمةً تقتصر على الأكاديميين أو مسئولي الإدارة العليا، وللأسف فإن في حالة الكثير من القادة يتوقَّف التفكير والتحليل النقدي عند انتهاء الدراسة في كليات الأعمال. كل شخصٍ بطبيعة الحال لديه تصوُّره الخاص عن كيفية إنجاز المهام في الشركة، وعن نوع القيادة الذي يلهم الآخرين، وعن الأسباب التي تجعل استراتيجيةً معينةً في غاية الفعالية. وعلى الرغم من ذلك، ففي كثيرٍ من الأحيان تظل تلك النظريات حبيسةَ العقل الباطن، ولا يمتلك الأشخاص إيمانًا كافيًا بخبراتهم وعملياتهم الفكرية لإظهار تلك النظريات؛ وبدلًا من ذلك، يتركون للآخرين مهمة تكوين وجهة النظر، ويقومون فحسب بإنجاز الأعمال.
كثير من القادة يستمتعون بالبرامج القيادية التي تُطوِّر القادة بدلًا من تدريبهم، ويتعلَّمون منها. وفي البرامج التنموية، يشجِّع المعلمون الرائعون القادةَ على التفكير والتحدي والتأمل والمناقشة والجدل. قد تثير تلك البرامج اهتمامَ القادة، وتمثِّل للكثير منهم المرة الأولى التي يشتركون فيها في تفكيرٍ نقديٍّ حقيقيٍّ منذ زمنٍ بعيد، ويستمتعون به.

(٢) ماذا تعني «وجهة النظر»؟

إن تعريف مصطلح «وجهة النظر» قد يبدو بديهيًّا، لكننا قد نواجه صعوبةً في تعريفه من الناحية العملية. إنه يشمل ما هو أكثر من رؤيةٍ واحدةٍ لموضوعٍ واحد (مثل اعتقاد أن الخبرة الدولية ضرورية للقيادة)، وهو أيضًا أكثر تحديدًا من اعتقادٍ محدد (مثلما تُلخص الشخصية الأساسية في فيلم «وول ستريت» — جوردون جيكو — فلسفتها في العمل قائلةً: «الطمع جيد»). إن وجهة النظر مجموعةُ معتقداتٍ شاملة، راسخة تنطبق على كل شيءٍ من السلوك الفردي والقِيَم وحتى استراتيجية الشركة. ويمكن للقائد أن يستخدم وجهة نظره لتقييم خيارٍ معينٍ أو فرصةٍ معينة؛ مثل تحديد ما إذا كان يعتقد أن استراتيجية النمو ستكون فعَّالةً، وتقييم ما إذا كانت إحدى ممارسات المؤسسة أخلاقيةً، وتقييم من يستحق الترقية من مرءوسيه المباشرين. وهذا يعني أن وجهة النظر تُقدِّم إطارًا للتحليل واتخاذ القرار.

ونجد أن اثنين من القادة الذين أشرنا إليهم في هذا الكتاب — كين لويس من بنك أوف أمريكا، وأندريا يونج من إيفون — لديهما وجهات نظرٍ قوية. إن كين يحركه اعتقاده بأن بنك أوف أمريكا يمكن أن يصبح أفضل مؤسسةٍ مصرفيةٍ والشركة الأكثر إثارةً للإعجاب حول العالم، واختياراته الاستراتيجية تنبع من هذا المعتقد. وتؤمن أندريا يونج بالمبيعات المباشِرة، وبقوة العلامة التجارية، ولم ينتَبْها الشكُّ في هذا المعتقد، واستخدمَتْه في إقناعِ المتشكِّكين، وإنعاشِ شركةٍ فقَدَ الكثيرون الأملَ فيها، وتوظيفِ أفضل الناس لخدمة هدفها.

بيل جورج — المدير السابق لأحد مؤلفي الكتاب (ديفيد) في شركة هانيويل، والرئيس التنفيذي لاحقًا لشركة ميدترونك — طوَّر وجهةَ نظرٍ وعبَّر عنها. إن فكرته عن «القيادة الصادقة» (وقد كتب كتابًا عن هذا الموضوع أيضًا) تشتمل على تكوين علاقاتٍ جادةٍ مع الأفراد، والتحفيز عبر تحديد مهمةٍ ما وإظهار الاهتمام والتصرُّف وفقًا للقِيَم. وباعتباره قائدًا فقد شدَّد على أهمية أن يكون المرء «صادقًا»، وأن يُظهِر قِيَمه على الملأ؛ ونتيجةً لذلك، لم يخجل من قول الصدق، حتى إن لم يتفق مع منظومة المعرفة التقليدية. وفي إحدى المرات قال إن: «المساهمين يأتون في المرتبة الثالثة.» وقد انتشرت هذه المقولة في الإعلام على نطاقٍ واسع. ويعتقد بيل أن الشركات يجب أن تضع عملاءها في المرتبة الأولى، وتُمكِّن موظفيها من تلبية احتياجات العملاء، وعند حدوث ذلك، سوف تحقِّق إيراداتٍ للمساهمين أفضل ممَّا كانت ستحقِّقه إنْ ركَّزت على وول ستريت أكثر من أي جماعةٍ أخرى من المستفيدين. وفي ضوء نمو ميدترونك وأرباحها خلال عهد جورج الذي بلغ اثنتي عشرة سنة — حيث ارتفعت الرسملة السوقية للشركة من ١٫١ مليار دولار أمريكي إلى ٤٦٠ مليار دولار أمريكي — يتضح أن وجهة نظره المميزة حقَّقت نتائجَ مثمرةً.

لا نريد أن نبالغ في تبسيط المفهوم؛ فعلى سبيل المثال: لم تظهر وجهة نظر بيل جورج فجأةً في لحظة إلهام، بل استغرقت وقتًا طويلًا حتى تتكوَّن، وعدل بيل بعض سماتها اعتمادًا على التغيُّرات التي حدثت في الوسط. وعلى الرغم من أن القيادة الصادقة كانت نقطةَ تركيزه، فقد طبَّقها بطرقٍ مختلفةٍ في مواقفَ مختلفةٍ. وهذه النقطة الأخيرة في غاية الأهمية؛ فوجهاتُ النظر ليست ثابتةً كالجبال. إن الأشخاص يؤمنون بها بقوةٍ بالتأكيد، لكنها ليست عقيدةً وليست ثابتةً لا تتغير. تُقدِّم نظريةُ إدارة التناقض رؤيةً حول كيفية «تبنِّي» إحدى وجهات النظر تبنِّيًا فعَّالًا، وقد وصفها على نحوٍ ناجحٍ كتابُ «إدارة التناقض» للمؤلف باري جونسون.

ولكي تتمكَّن من إدارة التناقض، لا بد أن تُقدِّر الرأي المناقض تمامًا لرأيك، ولا بد أن تُعرب عن تقديرك؛ فعندما تعترف بوجهة النظر المعارضة سوف تجعل موقفك يَلقى مزيدًا من القَبول. وستبدو إدارة التناقض مهمةً مستحيلةً إذا اتخذتَ موقفًا لا يقبل إلا الأبيض أو الأسود. ويصبح التناقض أيسرَ في الإدارة عندما تتحلَّى بالمرونة العقلية اللازمة لتبنِّي مفهومين متناقضين ظاهريًّا في رأسك. إنك تجعل وجهةَ نظرك أكثر قبولًا لدى الآخَرين عندما تعترف بوجهة نظرهم المعارضة، وتُبدي تفهُّمك لها وتعاطُفك معها.

وعند إدارة التناقض، إياك والحلول الوسط. وبالمثل، لن تجد القائد صاحب وجهة النظر القوية يقول عبارةً على غرار: «حسنًا، والآن بما أنكم شرحتم أفكاركم، فإنني سوف أتبنى بعضها.» فمن شأن هذا أن يقلل من وجهة نظره فحسب. وبدلًا من ذلك، سيقول القائد: «أنا أتبنى وجهة النظر هذه الآن، لكن ربما في وقتٍ لاحقٍ في المستقبل، قد تكون وجهة نظركم مشروعة. أما في الوقت الراهن، فهذه هي طريقة رؤيتي للأمور.»

وكما هي الحال مع السمات المعرفية الأخرى، فإن هذه السمة أيضًا تتطلَّب مهارات القلب والشجاعة. إن تكوين وجهة نظرٍ يبدأ عادةً بعمليةٍ فكرية؛ أيْ بدمجٍ لخبراتٍ ومفاهيمَ متعددةٍ لتكوين وجهة نظرٍ أكبر. وعلى الرغم من ذلك، فالأشخاص أصحاب وجهات النظر لا يُعبِّرون عنها دائمًا. يؤكد نويل تيشي على أهمية امتلاك وجهة نظرٍ «قابلة للتعليم»، وهذا الأمر يتَّحِد مع جانب القلب. فما هي قدرتك على إقناع الآخرين بطريقة رؤيتك للعالم؟ هل أنت قادر على التواصُل مع الآخرين من خلال وجهة نظرك؟ هل طريقتك في رؤية الأمور تُحمِّس مَن حولك وتجعلهم يوفون بالتزاماتهم تجاه تحقيق الهدف المنشود؟

وبعد ذلك يأتي موضوع ماذا «تفعل» بوجهة نظرك؟ إن التصرُّف وفقًا لوجهة النظر يتطلب الشجاعة؛ فربما تُضطر إلى خوض مخاطراتٍ ماليةٍ لا يُستهان بها كي تلتزم بوجهة نظرك؛ وربما تُضطر إلى المخاطرة بمضايقة أصحاب النفوذ في الشركة أو إبعاد العملاء بسبب قراراتٍ تشعر أنها ضرورية.

بلغت رون — نائب رئيسٍ تنفيذيٍّ أول في إحدى الشركات الكبرى — أخبارٌ عن خطةٍ قيد الدارسة تعتزم التخلُّصَ من ١٠ بالمائة من القوى العاملة في شركته. ولم يكن خفضُ عدد العمالة نفسه متناقضًا مع وجهة نظره، بل ما كان كذلك هو إصرارُ الخطة على إجراء خفض العمالة بأفضل طريقةٍ اقتصاديةٍ ممكنة؛ أيْ عبر التخلص من الأشخاص الأعلى تكلفةً (من حيث المرتب والمزايا) لا الأشخاص الأقل تكلفة.

كان رون يؤمن إيمانًا شديدًا بفكرة أن يكون المرء إنسانًا أولًا وقائدًا ثانيًا، وطوال حياته العملية وجد أن الإنتاجية دائمًا ما تعلو على المدى الطويل، عندما يقود المجموعاتِ قادةٌ ذوو نزعةٍ إنسانيةٍ مقارَنةً بالقادة البيروقراطيين أو القادة المستعرضين الذين يبالغون في تعظيم أهميتهم. وكان رون متأكدًا من أن خفض العمالة الاقتصادي ليس خطأً فحسب من الناحية الأخلاقية، بل سيؤذي العلاقات مع اﻟ ٩٠ بالمائة المتبقين من الموظفين. وفي اجتماعٍ لإنهاء خطة خفض العمالة عارَض رون هذا الجانب من الخطة واقترح حلًّا بديلًا. وعلى الرغم من أن رون اكتسب بعض الأعداء من جرَّاء تدخُّله، فقد بقي في الشركة وأصبح الآن من ضمن ثلاثة مرشحين لخلافة الرئيس التنفيذي الذي قاربت ولايته على الانتهاء.

مع وضع هذه القصة في الاعتبار، يجب أن نؤكِّد على أن المؤسسات لن تدار بكفاءةٍ كبيرةٍ إذا كان لكل قائدٍ من القادة العشرة للإدارة العليا وجهةُ نظرٍ مختلفةٌ جذريًّا عن غيره. ولحسن الحظ أن الوضع لا يكون هكذا عادةً؛ فمعظم القادة في أي مؤسسةٍ يكون لديهم على الأقل أساس مشترك. وفي الفِرَق التنفيذية الناجحة ربما يرَوْن الأمورَ بطريقةٍ مختلفةٍ في بعض الأحيان، لكنهم تعلموا كيفية استخدام تلك الاختلافات على نحوٍ مفيد، فيتحدَّوْن بعضهم بعضًا دون شحناء أو أجنداتٍ خفية. ومن أصعب التحديات التي تواجه مسئول الإدارة العليا في الوقت الحاضر كيفيةُ تحقيق التوازن بين الآراء القوية والقيادة المطلوبة منه بصفته القائد، وبين الحاجة إلى الاستماع إلى آراء الآخرين وضمِّها وتوحيدها بصفته أحدَ أعضاء فريق الإدارة العليا.

تعترف الفِرَق التنفيذية الناجحة بوجهة نظر الرئيس التنفيذي وتتجاوب معها، وتمنحها الاحترام المناسب في النهاية، لكنها تحافظ على وجهةِ نظرٍ مستقلةٍ أثناء عملية تكوين القرار. وفي ميرسر دلتا، يستخدم المستشارون «نظريةَ التواصل الموجية» لتفسير كيف تتدفَّق الأفكار والاستراتيجيات خلال المؤسسة؛ فالرئيس التنفيذي يُقدِّم أفكارَه عن مستقبل الشركة، ويأخذ المستوى الإداريُّ التالي وجهةَ نظر الرئيس التنفيذي ويُعِيد تفسيرَها للمستوى الذي يليه؛ وذلك المستوى بدوره يُعيد تفسيرها للأشخاص في المستوى الذي يليه. من الناحية النظرية، فإن الرسالة التي تتدفَّق إلى المستويات الأدنى ليست بالضبط الرسالةَ نفسها التي قدَّمها الرئيس التنفيذي؛ بل إن إعادة التفسير تسمح لأحد الأشخاص في كل مستوًى من المستويات الإدارية بالإسهام بوجهة نظره الخاصة وتفسير علاقة الرسالة، ليس فقط بالشركة، بل بالمستوى الذي يليه كذلك. إن الرسالة الأصلية تظل ثابتةً، لكن إعادة التفسير تجعلها مناسِبةً لمجموعاتٍ مختلفة.

ولذلك، فإن إعادة تفسير رسائل المؤسسة هي الطريقة التي من خلالها يُقدِّم القادةُ وجهةَ نظرهم إلى مجموعةِ وجهات النظر الأخرى.

(٣) عملية الخطوات الخمس

يمكن للمؤسسات فعلُ الكثير من أجل مساعدة الأشخاص على تكوين وجهة نظرهم الخاصة، ولكي تُسهل تكوين وجهة النظر ينبغي لها أن تدرك العمليةَ التقليدية التي من خلالها يُكوِّن الأشخاصُ وجهةَ النظر ويستخدمونها على نحوٍ مثمر.

(٣-١) الخطوة الأولى: تحديد التحدي

يبدأ الأشخاص في تكوين وجهة نظرهم أو مراجعتها عندما يحفِّزهم شيء ما في محيطهم على توضيح طريقة رؤيتهم للأمور؛ فربما تُستدعى للإتيان بأفكارٍ جديدةٍ تهدف إلى زيادة الإيرادات، وتجد أن إمكانيةَ تحدِّي نموذج الأعمال الحالي أو تكوينِ منهجٍ جديدٍ للبيع أو التسويق أو البحث عن العملاء؛ تحفِّز حاجتك إلى تقييم وجهة نظرك. إن التحديَ المعرفيَّ والتحديَ الذي ينطوي على مخاطرةٍ أيضًا من الممكن أن يدفعاك إلى التراجع وطرح أسئلةٍ صعبةٍ على نفسك حول مدى ملاءمة حدثٍ معينٍ لتصوُّرك عن الوضع. وأيًّا كانت نوعية التحدي، فإنه يصدمك ويخرجك عن عقليتك المعتادة، ويتطلَّب منك استيعابه ضمن وجهة نظرٍ شخصيةٍ أكبر نطاقًا.

(٣-٢) الخطوة الثانية: استكشاف المعلومات الخارجية

الخطوة الثانية هي استكشاف مصادر المعلومات الخارجية المرتبطة بالتحدي؛ وهذا يعني قراءة المعلومات واستيعابها؛ فعندما تبدأ في تكوين وجهة نظرك، لا بد من تَنْقِيَتها من خلال مصادرَ خارجيةٍ (أي خارج نفسك) للمعلومات والأفكار. تساعد الكتب والمقالات ومواقع الإنترنت في تكوين وجهة نظر مستنيرة، وكثيرٌ من المسئولين التنفيذيين يكتسبون عادةً سيئةً تتمثَّل في الاقتصار على قراءة المصادر، لا سيما الدوريات والصحف، التي يتفقون معها دائمًا. عليك أن تُجبِر نفسك على استكشاف فيض المعلومات المتاح اليوم كي تتحدَّى تحيزاتك وافتراضاتك.

(٣-٣) الخطوة الثالثة: تجميع الأفكار في وجهة نظرٍ واحدة

بعد استيعاب مجموعةٍ متنوعةٍ من الأفكار فإن الخطوة التالية هي أن تسأل نفسك: «ما الذي أعتقده؟» و«لماذا أعتقد أنه حقيقي؟» وهذه الخطوة تجعلك تدمج ما هو مفيد، وتساعدك على تركيز وجهة نظرك وتمنحك طريقةً واضحةً ودقيقةً لرؤية الموضوع من خلال قِيَمك ومنظورك الخاص.

(٣-٤) الخطوة الرابعة: تجربة الفكرة مع الآخرين

ادخلْ في حوارٍ ونقاشاتٍ مع الآخرين حول رؤيتك للعمل، واسمح للأشخاص الذين تحترمهم — ومن ضمنهم بصفةٍ خاصةٍ مرءوسوك المباشِرون — بسماع فلسفتك عن الشركة والاتجاه والمنافسة والقِيَم والاستراتيجية وتحدِّي هذه الفلسفة. كيف سيستجيبون؟ هل سيتأثَّرون ويتفقون تمامًا مع ما تقول؟ هل سيناقشونك في نقاطٍ معينة؟ ما يهم هو إجراء حوارٍ حقيقيٍّ والتدرُّب على التعبير عمَّا تؤمن به. وفي كثيرٍ من برامج تطوير القيادة التي نعقدها نخصِّص جلسة كاملة «للوقوف وإلقاء الخُطب»، وفيها يتدرب التنفيذيون على تكوين وجهة نظرهم حول الشركة وتوحيدها وتقديمها، ثم يحصلون على التعقيب من أقرانهم.

(٣-٥) الخطوة الخامسة: تعديل وجهة النظر

عدِّلْ وجهة نظرك، «ثم خُضْ بعض المخاطرات على ضوئها». وبناءً على التقييم والحوار، قد تحتاج إلى تعديل وجهة نظرك، وبمجرد تعديلها ستكون مستعِدًّا لوضعها في حيِّز التنفيذ. استرشِدْ بوجهة نظرك في المواقف التي تتخذها حول بعض موضوعات العمل الرئيسية. وبالتأكيد، يجب أن تتحلَّى بالحكمة في تحديد وقت المخاطرة والأمور التي ستخضع لتلك المخاطرة، لكنك ستحقِّق أنت ومؤسستك أقصى استفادةٍ عبر هذه الخطوة؛ فكلُّ شركةٍ تحتاج قادةً قادرين على التصرُّف من منطلق معتقداتهم التي يؤمنون بها بقوة، وهذه فرصتك لتكون ذلك القائد. وأخيرًا، احرصْ على تحدِّي نفسك لتُكوِّن وجهةَ نظرٍ حديثةً، ولا تسمحْ لها بأن تتحوَّل إلى عقيدةٍ جامدة. كنْ منفتحًا على التعديلات في ضوء الظروف المتغيرة، ووفقًا لنظرتك للعالَم من حولك التي تتطوَّر مع الوقت.

يجب على الشركات أن تفعل كلَّ شيءٍ ممكنٍ كي تسمح لقادتها بالقيام بتلك الخطوات الخمس. وقد يتطلَّب ذلك العديدَ من الخطوات، بدءًا من خلق بيئةٍ تساعد على تكوين وجهة النظر (لا سيما الخطوة الخامسة)، وحتى توفير التوجيه ووِرَش العمل لتسهيل القيام بتلك الخطوات الخمس.

فعلى سبيل المثال: عند توجيه كبار المسئولين التنفيذيين، واضعين في اعتبارنا ذلك الهدفَ، فإننا نطرح عليهم الأسئلة التالية:
• ما الذي يحدث في العالم فيما يخصُّ الاتجاهات المتعلِّقة بالاقتصاد أو التكنولوجيا أو عالَم الأعمال؟
• ما الأمور التي تُولِيها اهتمامًا خاصًّا؟ ولماذا؟
• ماذا تعني هذه الأمور بالنسبة إليك، وإلى جماعتك، وشركتك؟
كما نطلب منهم أيضًا وضْعَ أنفسهم في المواقف التالية:

تخيَّلْ أنني جمعتُ عشرةَ أفرادٍ من الشركة يعرفونك أكثر من أي شخصٍ آخَر في هذا المكان، وسألتهم عمَّا تُمثِّله باعتبارك قائدًا، فماذا قد يقولون؟ هل سيستطيعون التعبير عن ذلك؟ هل سيكون لكلٍّ منهم رأي مختلف؟ ما الذي ستقنعهم به وجهةُ نظرك؟ هل ألهمَتْهم وجهةُ نظرك وحماسك لها والتزامك بها؟

علاوةً على ذلك، نُوجِّه الأشخاص إلى إدراج أسلوب سَرْد القصص ضمن طريقة تعبيرهم عن وجهة نظرهم؛ ففي أغلب الأحيان يُعبِّر القادة عن وجهات نظرهم من خلال الحقائق والأرقام، أو من خلال سردٍ جافٍّ للأفكار. ولكي تَكون وجهة النظر فعَّالةً، لا بد من التعبير عنها بطريقةٍ مثيرةٍ للاهتمام؛ إذ يتجاوب الأشخاص بقوةٍ مع وجهات النظر المقدَّمة بشغفٍ، والتي تتضمَّن هدفًا، والقصص هي أدواتُ إثارةِ هذه الاستجابة. ويعتقد روجر شانك — مؤلف كتاب «التعليم الافتراضي»، وواحد من أهم المرجعيات في العالَم في كيفية تعلُّم الأشخاص — أن القصص أدوات تعليمية تُحقِّق تأثيرًا أكبر بكثيرٍ ممَّا تُحقِّقه المحاضرات؛ فمحتواها العاطفي، بالإضافة إلى الدراما المتأصلة فيها، يزيدان من إمكانية تذكُّر الدرس.

يعبِّر دان فاسيلا، رئيس مجلس إدارة شركة نوفارتس، عن وجهة نظره بقوةٍ من خلال سرد القصص. إن صناعةَ عقاقيرَ فعَّالةٍ لعلاج السرطان هدفٌ محوري في استراتيجية نوفارتس، وبينما يُقدِّم فاسيلا تصوُّرَ عملٍ مثيرًا للانتباه من أجل هذه الغاية، فإنه ماهر أيضًا في مشاركة وجهة نظره باعتباره طبيبًا وأيضًا بصفته شخصًا فقَدَ أخته بسبب السرطان. إن القصص التي يرويها مؤثِّرة وقوية، وتُظهِر اقتناعه بأن هذا هو الاتجاه السليم لنوفارتس، فضلًا عن كونه يُقدِّم دورًا مهمًّا وفعَّالًا لكل شخصٍ في الشركة. ولا أحد يشكُّ للحظةٍ في أنه رئيس تنفيذي يؤمن بما يفعله، وبعد الاستماع إليه يرغب الجميع في التعاون.

المجال الآخر الذي نركِّز عليه عند مساعدة الأشخاص على تكوين وجهة نظرٍ خاصةٍ بهم هو التفكير. يجد التنفيذيون الناجحون في أغلب الأحيان صعوبةً كبرى في استقطاع وقتٍ للتفكير في معتقداتهم؛ فهم مشغولون وواقعون في أَسْر الفعاليات أو جداول المواعيد، لدرجة أنهم لا يستطيعون التوقُّف وإمعان الفكر في هذه الأسئلة الصعبة:
• هل أعتقد أن الطريقةَ التي نعمل بها صحيحةٌ من وجهة النظر المعنية بتحقيق النتائج، لكنها خاطئة من وجهة النظر الأخلاقية أو من وجهة نظر الأفراد؟
• هل طريقتنا التقليدية في إنجاز المهام غير متوافِقة مع التطورات الموجودة في سوق العمل، بما فيها التكنولوجيات ونماذج الأعمال الجديدة الأكثر فعاليةً على نحوٍ واضح؟
• هل أشعر بالارتياح حيال العمل في ظل هذه الثقافة بالنظر إلى أعرافها وقِيَمها؟
• هل أوافق مديري في الاجتماعات لأنني مؤمن فعلًا بأفكاره، أم لأنه مديري؟
• هل أمتنع عن تقديم الاقتراحات وأتَّخِذُ قراراتٍ لأنني أعرف الأمورَ التي ستحظى بالموافقة، أم لأنني أعتقد أنها الأمور الصائبة التي يلزم فعلها؟
• هل حقًّا أقضي وقتي وجهدي في أنشطةٍ أعتقد أنها ستؤدِّي إلى نمو المؤسسة وستحقِّق نتائج، أم أُلبِّي فحسب توقُّعات الآخرين حول المهام المفترض قيامي بها في هذا المنصب؟
• ماذا سأفعل لو كانت هذه الشركة ملكي؟

في كثيرٍ من الأوقات لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة خلال الثواني المتاحة بين المكالمات الهاتفية؛ فهي تتطلَّب فترةً مستمرة من التفكير المتواصِل. وفي الحقيقة، ربما تتطلَّب سلسلةً من فتراتِ التأمُّل على مدار أيامٍ أو أسابيعَ أو شهورٍ. والقادة الذين يمنحون أنفسَهم هذا الوقت المستقطع هم على الأرجح مَن يُكوِّنون وجهةَ نظرٍ قويةً ويُعبِّرون عنها.

وأخيرًا، لا بد أن تدرك المؤسساتُ أن الأشخاص في الغالب يُكوِّنون وجهات النظر بطريقتين. معظم القادة اليومَ يعرفون مؤشرَ مايرز بريجز لأنماط الشخصية، وهو من أكثر اختبارات تحديد الشخصية استخدامًا حول العالم. في تصنيف مؤشر مايرز بريجز لأنماط الشخصية توجد طريقتان شائعتان يستخدمهما الأفراد في معالجة المعلومات واتخاذ القرارات؛ إذ يميل الأشخاص إلى أن يكونوا إما منطقيين (أيْ يميلون إلى التحليل والعقلانية)، وإما عاطفيين (أيْ يستخدمون قِيَمهم ومعتقداتهم). ذوو النوع المنطقي يُكوِّنون وجهةَ النظر من خلال التحليل والمناقشة؛ ويميل هؤلاء إلى دراسة أفكارهم، ومناقشتها والدفاع عنها، ومن خلال هذه الأفعال يتوصَّلون إلى استنتاجٍ عن الأمور المهمة لهم. أما ذوو النوع العاطفي، فإنهم يطبِّقون معتقداتهم على مواقفَ معينةٍ، ويلاحظون تأثيرها على الآخرين من الزملاء والمرءوسين والعملاء وغيرهم، وعندما يرَوْن أن المقترح أو البرنامج يخلق حالةً من الدعم والحماس بين الناس، يصبحون عندئذٍ أكثرَ ميلًا إلى الجانب المعرفي، ويحدِّدون الأمورَ التي حقَّقت هذا التأييد القوي.

تَكْمن المشكلة في أن النوع المنطقي تأثيرُه محدودٌ؛ لأن النوع العاطفي يرى أن وجهةَ نظره جافةٌ وخالية من العواطف وتفتقر إلى الاهتمام بشئون الآخرين. والنوع العاطفي تأثيرُه محدودٌ أيضًا؛ لأنه لا يستطيع التزام الوضوح والمنطقية عند شرح جدوى وجهة نظره للنوع المنطقي.

ولذلك، يجب أن تشجِّع المؤسسات تكوينَ قادةٍ كاملين يمكنهم شرح وجهات نظرهم على نحوٍ منطقيٍّ، وبطريقةٍ مقنعةٍ وإنسانية. أو بعبارةٍ أخرى تحتاج الشركات إلى قادةٍ يستطيعون أن يُقدِّموا عن وجهة نظرهم مرافَعةً غاية في المنطقية، تصلح للإلقاء في قاعةِ محكمةٍ والتعبير عنها أيضًا بالشغف الفصيح لمحامٍ يثق في براءة موكله.

•••

يفتتح الفصلُ السابع «الجزءَ الثالث: قيادة القلب»؛ أيْ كيفية استخدام العواطف والمشاعر للتأثير على قرارات الشركة على نحوٍ مُربِح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤