الديمقراطية والذُّرَة

حاول كثيرون من المؤرخين والاقتصاديين، مثل ماركس وبتري ومالثوس، أنْ يردُّوا تطورات الأمم وارتفاعها وانخفاضها إلى عوامل اقتصادية، كل منهم على حسب عقيدته الاجتماعية، وربما كان أنزههم غرضًا وأوضحهم طريقة، وأعمقهم درسًا «توماس بكل» المؤرخ الإنجليزي، فقد عقد فصلًا يحتوي على نحو مائة وخمسين صفحة، استقرى فيها علاقة الطعام بالأمة من حيث تقسيم طبقاتها الاجتماعية وحالة عمالها والحقوق السياسية التي يحصل عليها كل فرد منهم.

ولما كنا جميعًا تلوك ألسنتنا ألفاظ الديمقراطية والاشتراكية، وبدأت تتكون عندنا مسألة عمال، رأيت أنْ أقدم للقراء بعض آراء «بكل» عن تأثير الذرة — وهو نبات معروف مزروع في مصر وسوريا والعراق — في أحوالنا الاجتماعية.

يرى «بكل» ويؤيده التاريخ أنَّ الحضارات الأولى كانت زراعية على ضفاف الأنهار في البلاد الدافئة، مثل حضارات النيل ودجلة والكنج وحضارات الصين، وإنما الحضارة ممكنة في هذه الأصقاع؛ لأن الحرَّ ليس من الشدة بحيث يمنع العمل المتوالي، كما هو الحال في وسط إفريقيا، ثم إنَّ شدة الحرِّ والرطوبة — كما هو الحال في أودية البرازيل — تدعو النبات إلى النمو السريع، فتكثر الغابات، فلا يستطيع الإنسان أنْ يتغلب على الطبيعة الطاغية بأدواته الزراعية البسيطة، فالزراعة لا تمكن في هذه الحال، وينتج عن ذلك استحالة نشوء الحضارة.

ثم إنَّ الحضارة تحتاج إلى طبقة من الناس في راحة نسبية غير مكدحة أو مجهودة في طلب المعاش، فإذا كان الإنسان يعيش في غابة يلتمس قوته يومًا بيوم، فإنه لن يجد من الوقت ما يساعده على الصناعة أو الاختراع والاكتشاف، وكلها ضروري للحضارة.

لهذا السبب لم تنشأ حضارة في بلاد شديدة الحر والرطوبة؛ لأن زكاوة النبات منعت الزراعة المنتظمة، وإنما نشأت الحضارات في أودية الأنهار التي ذكرناها، فنشأ هناك نظام اجتماعي متآلف على الدوام من طبقتين، وهما طبقة السادة وطبقة الفعلة المستعبدين، فمن السادة كان يخرج الحكام والكهنة والولاة والأغنياء، أما الصناع والفالحون فكانوا عبيدًا يستذلهم أفراد تلك الطبقة، فلم يكن عند المصريين القدماء مثلًا طبقة متوسطين.

وأهم ما يلفت إليه «بكل» نظر القارئ أنَّ الفَعَلة أو العمال في تلك المدنيات الزراعية القديمة كانوا مستعبدين، وقد توصَّل إلى هذه النتيجة باستقراء التواريخ القديمة والحديثة، ثم بالنظر في علاقة الطعام بكثرة السكان.

فقد كان المصريون يزرعون الذرة عقب الفيضان وانسياح مياه النيل في الأودية، فلم تكن تمضي أشهر معدودات حتى يثمر الذرة، وتعم غلته البلاد، وإذا كثر الغذاء كثر السكان، فكان الناس يتناسلون بنسبة ما في البلاد من هذا الغذاء الوافر. وأجور العمال مثل أثمان سائر السلع التي تباع وتشترى، فإذا كثر العمال قلَّت أجورهم، وإذا قلُّوا زادت، وقد كان العمال في مصر كثيرين بسبب كثرة الذرة، وكانت لذلك أجورهم منحطة، بل كانوا أحيانًا يشتغلون بقوتهم.

والحقوق الاجتماعية والسياسية تتبع القوة المالية، فذوو المال هم أيضًا ذوو السلطان، وقلَّ ألَّا يستبد ذو سلطان ويسيء استعمال سلطته؛ لذلك جارت الطبقات السائدة على الطبقات المسودة في الحضارات الزراعية القديمة.

ومما يزيد قوة الطبقة السائدة ما يلاحظ من أنَّ الربا وإيجار الأرض يزيدان إذا كانت أجرة العامل قليلة، ثم إنَّ حرمان طبقة العمال من الربح الكافي يجعلهم في فقر دائم، والفقر مجلبة للاحتقار وللحرمان من الحقوق السياسية والاجتماعية.

قال «بكل»: «ولنختصر ما قلناه في جملة، وهو أنَّ سكان مصر تكاثروا بسرعة؛ لأنه بينما كانت تربة النيل تزيد الطعام كان المناخ يقلل الحاجات، وكانت نتيجة ذلك أنَّ مصر لم تكن أكثر البلاد سكانًا في إفريقيا فقط، بل الأرجح أنها كانت أكثر أقطار العالم القديمة سكانًا.»

وقال أيضًا: «كان أحد طبقة الصناع إذا غير مهنته (في مصر)، أو عرف عنه الالتفات إلى المسائل السياسية جوزي جزاءً صارمًا، ولم يكن يؤذن بأية حال للأكار أو للصانع أن يمتلك أرضًا، فإن امتلاك الأرض كان خاصًّا بالملك والكهنة والجيش، وكانت حالة عامة الشعب لا تفضل حالة الماشية إلا يسيرًا، ولم يكن يطلب منهم سوى العمل المتواصل الذي لا يؤجر أجره، فإذا أهملوا جلدوا … ومثل هذه الأنظمة كانت مدبرة أحسن تدبير يوافق تلك الهيئة الاجتماعية التي كانت قائمة على الحكم المطلق، فكانت تحتاج إلى القسوة لدعمها والمحافظة عليها، ثم لما كان مجهود الأمة كله قيد إرادة جزء صغير منها، تمكن المصريون من تشييد تلك البنايات الضخمة التي يحسبها البعض بدون إنعام الرؤية أنها برهان الحضارة وهي في الواقع دليل الانحطاط …»

فكثرة الغذاء ورخصه وقلة الحاجات من لباس ومسكن ووقود — كما هو الحال في البلاد الحارة — تدعوان إلى كثرة السكان وازدياد عدد العمال، وإذا ازداد عدد العمال تزاحموا للحصول على أقل أجر ممكن، وهو ما يكفي لقوتهم، فينتج من ذلك أنهم يعيشون في فقر مدقع، والفقر مجلبة للاحتقار والحرمان من الحقوق السياسية والاجتماعية، فتنتهي حالهم إلى ما يشبه الرق، وهذا كان حال العمال — ولا يزال في بعض الجهات — في مصر والهند والصين وبعض حضارات أمريكا القديمة.

وقد بلغ من ازدراء الطبقة السائدة في الهند، وهم البراهمة بعامة الهندويين، أنْ نصُّوا في شرائعهم على عقوبات صارمة لهفوات صغيرة تشبه ما كان عند المصريين القدماء، بل قد تفوقها شدة وصرامة، فمن ذلك أنه إذا ازدرى باللفظ أحد العامة برهميًّا أحرق فمه، وإذا سبه شق لسانه، وإذا ضايقه قتل.

والعامل الاقتصادي، أو بعبارة أخرى الطعام الرخيص وقلة الحاجة للملبس والمسكن هما سبب هوان العامل الهندي وازدراء الخاصة للعامة، فإنهم قد تكاثروا فنزلت أجورهم، فعمهم الفقر، فحرموا من الحقوق السياسية والاجتماعية.

والعبرة التي نعتبرها مما ذكرناه أنَّ مناخ البلاد في الهند ومصر يقلل حاجات الإنسان، وطعام الذرة لوفرته ورخصه يزيد عدد السكان، وازدياد السكان يؤدي إلى رخص الأجور ثم إلى نشر الفقر، والفقر مدعاة للاحتقار، وإلى حرمان العامة من الحقوق السياسة والاجتماعية، والحال ليست كذلك في أوروبا؛ لأن المناخ البارد يكلف الإنسان عدة تكاليف من لباس ومسكن ووقود وغذاء، ثم إنَّ الغذاء غالي الثمن، فزيادة السكان بطيئة، وهذا يدعو إلى قلة عدد العمال، ثم زيادة أجورهم وحفظ كرامتهم، فإذا كانت الديمقراطية في حاجة إلى من يحافظ عليها في أوروبا من طمع المستبدين، فهي أحوج عندنا إلى هذه المحافظة، فإن الغذاء والمناخ كليهما يساعد على الاستبداد بالعامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤