الزَّار

إنني قبل الخوض في موضوع الزَّار أتكلم أولًا عمَّا ساعد على انتشاره بين النساء، مستدلة بذلك على أنَّ اللوم واقع على من حرمهن لذَّة العلم والفكر، وجعلهن في معزل عن معترك الحياة الحقيقية، فكانت حياتهن كلها خيالًا وأوهامًا، ولو عاش الرِّجال في مثل هذا الوسط، لرأينا من خزعبلاتهم ما هو فوق ذلك.

قلت فيما سبق إنَّ حب الذات كان قد ذهب بالرِّجال مذهبًا بعيدًا، فلم يعتبروا النساء من الجنس البشري، بل ظنوا أنهن من ضمن الأنعام التي خلقت ليتمتعوا بها، فحبسوهن في المنازل، وضيَّقوا عليهن كل التضييق، وكانوا يغارون عليهن من مس النسيم، وقد ضنوا عليهن بالعلم؛ خشية أنْ تنمو عقولهن فيطالبن بحقوقهن المهضومة.

رأى الرِّجال أنَّ ذلك في صالحهم، ونسوا أنَّ المرأة رئيسة المنزل، وعليها مسئولية سعادة الأسرة، فإذا كانت قاصرة الإدراك، كان ذلك وبالًا على الأسرة عمومًا، وعلى الرِّجال خصوصًا، فهي تضرُّه حيث تريد أنْ تنفعه، وعدوٌّ عاقل خيرٌ من صديق جاهل.

جهلت المرأة مركزها في الهيئة الاجتماعية، كما جهلت الحياة لانقطاعها عنها، وظنت أنَّ كل واجبها إنما هو استمالة الرَّجل بالدَّلال والجمال، فتعلَّقت بذلك، ووجدت الخزعبلات إلى نفسها سبيلًا واسعًا، وسمعت من بعض الفقهاء الذين أراد والدها أنْ يعلموها الدين أنَّ هناك شياطين وجنًّا، فغرَّها الجهل، وأرادت أنْ يكون جمالها داعيًا إلى استمالة هؤلاء الجن إليها، لا الرِّجال فقط، فسرَّها أنْ يقال عنها إنَّ سلطان الجن الأحمر أو الأخضر عشقها وتشبث بجسمها.

علمت زعيمات الزَّار ذلك الميل من النساء، فجعلن وجهتهن استمالة النساء إليهن من هذا الطريق، فإذا انحرف مزاج إحداهن واستدعت زعيمة الزَّار، قالت لها: إنَّ سلطان المغرب قد تعلق بك قلبه، وإنَّ الجن لا يعشقون إلَّا كل طاهرة جميلة، فتميل صاحبتنا إلى هذا الوهم؛ حبًّا في الظهور بالجمال الذي أسر السلاطين قبل العامة، ولهذا نرى أنَّ كل العفاريت التي تشبثت بأجسام النساء في مصر سلاطين، ليس من بينهم عامل ولا لص … وإني أعجب كل العجب؛ لكثرة الملوك، وقلَّة الرعايا في أمم الجن الذين يلبسون نساء مصر!

ولعلَّهم — على عكس نظامنا نحن بني الإنسان — فكلهم سلاطين وملوك، ورعاياهم معدودة لا تتجاوز الأربعة!

تتعلق تلك المسكينة بقول زعيمة الزَّار، ولا تريد بالطبع أنْ تُكذِّبها، ما دام فيه دعوى وصفها بالجمال والشرف، والنفس ميالة إلى الفخر، وإنما يفتخر الإنسان بما يراه حسنًا في عرفه وعلى حسب معلوماته، والمرأة الجاهلة البعيدة عن العالم لا ترى الفخر كل الفخر إلَّا بالجمال والرِّقة، ولو جرَّ عليها هذا الفخر الفقر والخراب، ولا مسئولية عليها في هذا، ما دامت جاهلة مغرورة، وإنما الذنب على من سهَّل لها هذا الطريق، وقضى على مواهبها العقلية بالخمول والجمود، وما أراد الرَّجل بذلك إلَّا أنْ تكون طوع بنانه، فليذق الآن حلاوة هذه الطاعة العمياء، وليتحمل كل تصرفاتها بالرضا والقبول، ما دام يقول بجهلها وانقطاعها عن معترك الحياة.

لست أتكلم اليوم عن الزَّار كلام ناصحة تأمر السيدات بالابتعاد عنه، وأنا أعلم أنَّ العلم قد ذهب بهذه العادة السيئة في أغلب الطبقات الرَّاقية من الأمة المصرية، ولم يبق مُصرًّا عليها إلَّا نساء الطبقة السفلى، فليُتركن على هذا الجهل والخمول ما دام ذلك يطرب رجالهن، ولنا أمل أنْ تزول تلك العادة من نفسها ما دامت العناية موجهة إلى تعليم البنات كما نراه الآن، فينمحي عنا عار تلك العادة العتيقة، التي هي من بقايا الجهل القديم، والجهل جوٌّ لا تعيش فيه إلا الخزعبلات والأوهام، ويسرني أنْ أقول إنَّ المرأة المصرية سائرة إلى الأمام بخطًى واسعة.

ولا أظن أنني في حاجة إلى وصف حفلات الزَّار وانتقاد النساء فيها، فكل إنسان يعرف ذلك، ولكني إنما أقول إنَّ هناك بعض أسباب غامضة حملت النساء على الاعتقاد بوجود الزَّار؛ وذلك لجهلهن وبعدهن عن العمل، حتى يعلم الرَّجل أنَّ هذه الأدواء في النساء لا يزيلها الإرشاد والنصح، ولكنها تذهب من نفسها متى التفتت النساء للعلم والعمل.

نرى أنَّ بعض النساء تمرض زمنًا ولا تشفى، حتى تقوم بحفلة الزَّار، فكيف يتفق هذا مع علمنا بأن الزَّار خرافة؟! وكيف شُفيت المريضة بتلك الخرافة؟! أليس هذا مما يحمل الساذجات منا على الاعتقاد فيه؟

فهن إذن معذورات، خصوصًا إذا أضفنا إلى ذلك جهلهن وعدم تجربتهن … فهل يؤثر في قلوب هؤلاء السيدات القول بترك الزَّار، ما دمن على جهل بهذه الأسباب التي ساعدت على شفاء تلك المريضة؟ وهل ينفع في استئصال تلك الخرافات من نفوسهن إلَّا العلم؟

إنَّ هناك أمراضًا عصبية نشأت عن اضطراب الأعصاب من متاعب هذه الحياة الدنيا، وقد يتعثر على الطبيب شفاء هذا المرض؛ إذ هو يزداد أو ينقص بتأثير بعض المؤثرات النفسية، كالكدر والسرور والوهم، فقد تشفى الفتاة العصبية بمجرد سرورها من شيء، كما يزيد مرضها إذا حدث ما يكدرها، وقد تشفى أيضًا بمجرد الوهم بأنها ستشفى إنْ فعلت كذا وكذا.

أضيف إلى ما تقدَّم مهارة زعيمات الزَّار في التغرير بالسيدات، فإنهن إذا انتُدِبن إلى مريضة تفرَّسن فيها، فإن كانت مريضة بالأمراض العصبية، أو فقر الدم، أو الضعف العام، قلن إنها «منزارة»، ويأخذن برد الضعف الناشئ عن ضعف الدم علامة على وجود العفاريت في الجسم، فيؤكدن للمصابة بهذا أنها تشفى إذا قامت بحفلة الزَّار، وقد يكون ذلك الشفاء المزعوم؛ لتأثير الوهم في نفس المريضة، خصوصًا إذا كانت عصبية المزاج، ومن دهائهن أنهن يأمرن المريضة بالابتعاد عما يكدِّر، والأخذ بما يجلب السرور والتفريج، زاعمات أنَّ سلاطين الجن يُغضبهم الكدر، فيؤثر هذا السرور والخلو من الأفكار والأعمال في نفس المريضة بتلك الأمراض المذكورة، فتتحسن صحتها — ولو نسبيًّا — حتى إذا حدث ما يُكدِّرها، وانحرف مزاجها، لامتها زعيمة الزَّار على ذلك، وقالت إنَّ السلطان غضب عليها وسبَّب مرضها، والحقيقة أنَّ الكدر كان نفسه سبب المرض.

أما إذا كانت المريضة مُصابة بمرض شديد يُخشى منه على حياتها، كالحمى وغيرها، فإن زعيمة الزَّار تقول إنها ليست من أهل الزَّار، ولا تقدم على معالجتها، وهذا من بعض الحيل التي تحتاط بها زعيمات الزَّار لأنفسهن، وقد يخطئن في معرفة بعض الأمراض، فيحسبنها من بين الأمراض العصبية … ومن أهم تلك الأمراض «السل الرئوي»، فكثيرًا ما تُشير زعيمة الزَّار على المسلولة بإقامة حفلة الزَّار، حتى إذا أُقيمت وتحرَّكت تلك المسكينة في هذا المرقص؛ أثرت تلك الحركة الشديدة في صدرها، فكانت سببًا في هلاكها، وقد حصل مرارًا أنْ سقطت المريضة ميتة في مثل هذه الحفلات، وفي ذلك يظهر جهل الزعيمات، وينكشف الغطاء عن دهائهن لمن يعقل.

تقام هذه الحفلة — التي لا غرض منها إلَّا التفريج — فتفرح بها المريضة العصبية أو الضعيفة، وتُسمَّى إذ ذاك بالعروس، وما أحلى هذه الكلمة في نفوس كثير من السيدات، فإن كانت السيدة مسنة ذكرتها كلمة العروس بأيام الشباب فيزداد سرورها، وإنْ كانت فتاة استبشرت بهذا الاسم المحبوب الذي تتمنَّاه ففرحت وطربت، فيؤثر هذا الفرح في نفسها، وتتحسن صحتها بشفائها، فيعتقدون في وجود الزَّار … هذه هي الحيل التي تأتيها زعيمات الزَّار للتغرير بالنساء، فهل استطاعت النجاح في ذلك إلَّا لجهل النساء وانقطاعهن عن العمل الجدي؟ ولو تعلَّمن وفكَّرن في أمور الحياة لعرفن أنَّ أجسامهن ليست هياكل مجوفة تدخل فيها العفاريت، فتهذي بما شاءت كما كان يتوهم ذلك القدماء في أصنام الوثنيين … ويُضحكني جدًّا أنْ أرى السيدة مصابة بعدد عظيم من العفاريت، فيأتي هذا ويتكلم بصوت مخصوص، ثم يذهب ويأتي غيره، فيُبدي حركات غير السابقة وصوتًا يخالف الآخر، وتحسب السيدة — لسذاجتها — أنْ تغيير صوتها وحركاتها مما يدل على وجود شيطان جديد في جسمها، ولا شك فهي مسكينة جاهلة تُصدق ما لا يكون، ولست أقصد بكلمة «جاهلة» من لم تذهب إلى المدارس فقط، بل أريد أنها تجهل كل شيء في أعمال هذه الحياة ببعدها عن العمل، ولو علمت ما تعلَمه الفلاحة من أعمال هذه الدنيا، لكانت أقلَّ جهلًا من ذلك، فإن كل عمل يعرفه الإنسان يُعد معرفة وعلمًا.

فالفلاحة تعرف أنْ تطبخ وتلاحظ منزلها، ثم تعرف أعمال زوجها أيضًا؛ ولذلك شغلها هذا العمل عن التعلُّق بتلك الخرافات الوهمية، فقلما نسمع عن الزَّار في القرى.

أمَّا المدنيَّة فهي تجهل كل شيء من أعمال الدنيا، ما عدا ملاحظة بيتها، وكثيرًا ما تجهله أيضًا، فهل لمثل هذه الخرافات من علاج يستأصلها من نفوس السيدات إلَّا العلم ثم العمل النافع؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤