الفصل الثاني

المرحلة الثانية: العقل الخالص

العبقري هو من يعرف متطلبات العصر ويُلبِّيها!

هيجل

تمهيد

قلنا إن بذور المرحلة الثانية التي سنعرض لها الآن كانت كامنةً في فترةٍ مبكرةٍ من حياته؛ ومن ثم فهذه المرحلة التي بدأت في أواسط الأربعينيات لم تظهر بغتة، عندما كان يدرس في إنجلترا، فعلى الرغم من أن «التدين الخالص» تحديدًا يتوارى ليحلَّ محله «العقل الخالص»، العقل الجاف الذي يحلل الواقع الاجتماعي الذي نعيشه، مستبعدًا العواطف والمشاعر أيًّا كان نوعها، رافضًا «التملق» أو المجاملات، مستهديًا بنور العقل وحده، حتى بدا قاسيًا في نقده وتحليله … «لكنها قسوة المواطن يُحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكَّب جادة الطريق …»١ أقول على الرغم من أن هذه المرحلة الثانية بدت وكأنها تحمل «عناصر جديدة» تمامًا، تكاد تناقض مضمون المرحلة الأولى، فإن علينا أن لا ننسى باستمرارٍ أنها خرجت من جوفها، وهو نفسه يصفها بأنها «مرحلة استيقظ فيها الوعي عندي حادًّا قويًّا في عدة اتجاهات … وهي لم تنشأ عن عدم، بل هي اتجاهاتٍ أحسست بها قبل ذلك بأعوام، ولكنها كانت على شيءٍ من الفتور والتردد …»٢ ويمكن أن نقول إن هذه الاتجاهات تنحصر في مجالين أساسيين أعمل فيهما مبضع التشريح العقلي بقدرٍ غير قليلٍ من الحدَّة والصرامة، وهو مجال «الحياة الاجتماعية»، ومجال «النظرة العلمية»، وسوف نعرض لهما فيما يلي:

المجال الأول: نقد الحياة الاجتماعية

انشغل مفكرنا في المرحلة الأولى من تطوره الفكري، من بين الموضوعات التي انشغل بها، بتخلف مجتمعه، وكانت فكرة «التقدم» من بين الأفكار التي مال إليها بكل عقله وقلبه، على حدِّ تعبيره.٣ وراح يُفسرها على أنها تعني: «… أن الحاضر قد هضم الماضي ثم أضاف جديدًا تلو جديدٍ مما أنتجته السنون، ومعنى ذلك ألا يكون «العصر الذهبي» وراء ظهورنا، بل أن يكون موضعه الصحيح هو المستقبل الذي يعمل الناس على بلوغه …»٤ فالتقدم الحضاري يقتضي حتمًا ألَّا نجعل الماضي مقياسًا للحضارة، وكيف نجعله المقياس، إذا كان هذا الحاضر أفضل منه بحكم فكرة التقدم نفسها؟! النظر إلى الماضي هو نظرٌ إلى الوراء، على حين أن التقدم يقتضي أن نوجه النظر إلى الأمام، والانحصار في الماضي هو انحصارٌ في نمطٍ واحد من أنماط الحضارة؛ مع أن التقدم يُحتِّم علينا الخروج من نمطٍ أضيق نطاقًا إلى نمطٍ أوضح أفقًا وأرحب إطارًا.٥ وسافر في بعثةٍ دراسيةٍ إلى إنجلترا والأفكار تتزاحم في ذهنه وتلحُّ عليه في وطأةٍ ضاغطةٍ، وانثيال مُتدارك عنيد، فقد كان يشعر أن هناك قيمًا كبرى بغيرها لا تتقدم حياة الإنسان خطوةً واحدة: كالحرية، والعدالة، والمساواة والمسئولية الخلقية للفرد … إلخ إلخ؛ ولهذا فقد كان أول ما انتبه إليه في «يقظةٍ واعية» هو طريقة التعامل بين الناس؛ ففي إنجلترا تُصان لكل فرد كرامته، دون أن يكون لاختلاف أنواع العمل أي أثرٍ في أن يتعالى أحدٌ على أحدٍ، أمام مجتمعنا، فمهما أطلقنا اللسان بكلمات الحرية والمساواة وما إليها، فنحن إنما ندسُّ في طوايا نفوسنا أخلاق النظم، التي تُقسِّم الناس إلى سادةٍ وعبيد؛ ولهذا «فلم يكن أعنف من ثورتي على «القيم» كما هي قائمةٌ في حياتنا، بحيث تسمح للمستبد أن يستبدَّ، وتُجيز لذليل النفس أن يذل …»٦ وهكذا أدرك بوضوحٍ ناصعٍ، أننا نكتفي بالكلام عن حرية الإنسان وحقوقه وكرامته … «… أما أن ننتقل من دنيا الكلام إلى التنفيذ، فذلك من أصعب الصعاب على من لم يتشرب روح الحضارة، التي تُعلي من قيمة الإنسان، فلما رأيت القيمة مجسَّدة (في إنجلترا)، في كل موقفٍ بشريٍّ مما صادفته في تعامل الناس بعضهم مع بعض، تنبَّهت بقوةٍ إلى ركنٍ ناقصٍ في بنائنا الاجتماعي في مصر …»٧ فهو بناءٌ مليءٌ بالثقوب المتمثلة في الظلم، والقهر، والاستبداد، والتسلط، والتنافر، والكراهية؛ مما أدى في نهاية الأمر إلى فقدان الفرد لكرامته، وحريته، واستقلاله. ولما كان العبقري، كما يقول هيجل بحق، هو الذي يُدرك «هذه النواقص والثقوب»، ويعمل على إصلاحها عندما يُلبِّي حاجة مجتمعه، فقد أخذ مفكرنا على عاتقه تشريح الحياة الاجتماعية تشريحًا عقليًّا، بحيث يكشف عمَّا انطوت عليه هذه الحياة من «قيمٍ» فاسدةٍ، وأوضاعٍ «لا معقولة»، علينا أن نعمل على إزالتها بكل ما نملك من قوة النقد البنَّاء، فكتب سلسلًة من المقالات بعث بها من لندن لتُنشر في «مجلة الثقافة» في مصر، وهي مقالاتٌ من نوعٍ فريدٍ: فيها الكثير من الرمز والسخرية اللاذعة، صاغها في ثوبٍ أدبيٍّ لم يألفه كثيرون من كُتَّابنا فضلًا عن القراء، وهي المقالات التي جمعها بعد ذلك وأصدرها عام ١٩٤٧م في كتابٍ بعنوان «جنة العبيط»، وهذا العنوان هو المقالة الأولى في الكتاب، وهو يسخر فيها من سذاجة المواطن الذي يعتقد، أحيانًا، أنه يعيش في «جنة»؛ مع أن حياته في حقيقتها لا تكون جنة إلا في رأي «العبيط»، لا سيما إذا ما قُورنت بالحياة التي رآها في إنجلترا … «ولم أكن أريد بتلك المقارنة درجات الفقر والغنى، أو حتى درجات المعرفة والجهل، بقدر ما أردت القيم الخلقية، وحقوق الإنسان في التعامل مع سائر مواطنيه …»٨ ومن بين هذه المقالات أيضًا «تجويع النمر» يصوِّر فيها كلًّا منا وكأن في جوفه نمرًا رابضًا ينتظر فرصة الظهور.٩ فإذا ما صعد إلى مقاعد الرئاسة لم يلبث ذلك النمر أن يظهر بكل أنيابه ومخالبه، وما طعامه الذي يتغذى به إلا ذلة الآخرين! كما كتب أيضًا عن «الكبش الجريح» يصوِّر فيه الإنسان الذليل بطبعه، الذي يستمتع بإذلال الآخرين له؛ فهو «الكبش» تحزُّ في رقبته سكين الجزار، فترتسم على شفتيه ما يشبه ابتسامة الرضا والقبول!
ومن أمتع المقالات الأدبية التي كتبها أستاذنا الكبير، في هذه الفترة، مقالة بعنوان «بيضة الفيل»، يسخر فيها من المناقشات ««البيزنطية» التي تحتدُّ بين بعض الناس في موضوعاتٍ في غاية التفاهة من ناحيةٍ، ثم هي تخلق مشكلات «هوائية» تخلقها من عدم من ناحيةٍ أخرى، يبدأ المقال على النحو التالي: «قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلُّها هي هذه: لو كانت الفيلة تبيض، فماذا يكون لون بيضها؟»١٠ لاحظ أن أول سطر في المقال يُقرر حقيقةً علميةً بسيطة هي «أن الفيلة تلد ولا تبيض»، لكنَّا اعتدنا أن نخلق مشكلات من عدم: فافرض أنها تبيض فماذا يكون لون بيضتها؟» في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء: يقول عمارة بن الحارث بن عمارة تكون بيضاء، واستدلَّ على صحة قوله بدليلٍ من القياس ودليل من اللغة …»١١ وتصدَّى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قاله عمارة بن الحارث في بيضة الفيل، … لكن نهض تلميذٌ نجيب من تلامذة ابن الحارث وتصدَّى للرد على نقد معسرة! … وهكذا تدور المناقشات وتبذل الجهود في حل مشكلاتٍ لا أساس لها! فكيف يمكن، في حكم العقل، أن ينهض مجتمع ويتقدم تضيع جهوده هباء على هذا النحو؟!
واستمر مفكرنا في هذا التشريع العقلي لحياتنا الاجتماعية، حتى بعد عودته إلى مصر في خريف عام ١٩٤٧م، فأخذ يدعو قومه إلى الأخذ بثقافة العصر، التي تقضي بتعديل سُلَّم القيم من ناحية، والأخذ بالمنهج العلمي من ناحيةٍ أخرى؛ ومن هنا فقد واصل مقالاته الأدبية «لعلها تنسف جزءًا من ألف جزءٍ من الإطار الثقافي العتيق الذي كنَّا وما نزال نعيش فيه «فكتب مجموعة جديدةً من المقالات على مدى ثلاث سنوات، جُمعت، بعد ذلك، في كتابين الأول هو «شروق من الغرب» (صدر عام ١٩٥١م)، والثاني هو: «… والثورة على الأبواب» الذي صدر عام ١٩٥٥م (وقد أطلق عليه في الطبعة الثانية عام ١٩٨٣، اسم «الكوميديا الأرضية») في الكتاب الأول دعوة إلى الأخذ بثقافة الغرب؛ فالغرب هو «العصر» لأنه صنع حضارة عصرنا، وقد وصف هذه الدعوة، فيا بعد، بأنها كانت «أُحادية الجانب»؛ لأنها أثبتت جانبًا وأهملت جانبًا آخر، اهتمت «بالمعاصرة» وأغفلت «الأصالة»، وهو نقص سوف يُصحِّحه في أوائل السبعينيات، ومع ذلك فإن علينا أن نحذر المغالاة في تصوير هذا النقص كما يفعل بعض الباحثين أحيانًا، وعلينا أن نتذكر دائمًا ما يقوله مفكرنا نفسه: «لم تكن دعوتي إلى ثقافة الغرب صيحةً مجنونةً مفتونة بمظاهر كاذبة، بل هي دعوة دفعني إليها ما رأيته من مكانةٍ رفيعةٍ للإنسان، كل إنسان، وأي إنسان، من حيث هو إنسان وكفى، فعندئذٍ قارنت، رغم أنفي، بين ما رأيته هناك، وما كنت أعلمه عن قيمة الإنسان في ثقافتنا المصرية كيف تعلو وتهبط مع درجات السلطة، والنفوذ، والثراء، ونوع العمل … فهل كان يمكن أن أرى ذلك الفارق الشاسع بين الثقافتين … دون أن أدعو إلى الأخذ بكل ما من شأنه أن يُكسب الإنسان كرامته …؟!»١٢ لا سيما بعد أن ديست حقوق الإنسان تحت أقدام الأقوياء.١٣
أما الكتاب الثاني فهو استمرارٌ للحملة العنيفة التي شنَّها مفكرنا على القيم الاجتماعية في بلادنا؛ إذ تدور أولى مقالاته على قسمة المجتمع إلى «سادة» يعيشون فوق قمة الجبل «الذي يعلو بقمته على مستوى السحاب، وبقية الشعب الذي يعيش عند سفح الجبل …» ويصوِّر بسخريةٍ لاذعةٍ كيف يدخل «السادة» في مناقشاتٍ لا تنقطع حول مشكلات «الشعب» ورفع مستواه … ويُقدِّم في نهاية المقال نموذجًا من أبناء هذا الشعب بائعة الحلوى المسكينة التي تبيع القطعة بمليم، فيشتري ما عندها ثم يطلب منها في تهكُّمٍ واضحٍ «… لا تنسَي يا أمي أن تطلبي من رب السماء الرحمة بأولئك الذين يرعون مصالحك فوق الجبل.»١٤
كما كتب مفكرنا أيضًا مقالاتٍ ممتعةً، غاص فيها في أعماق النفس البشرية ببصيرةٍ نافذةٍ، فصوَّرها عارية تارة (قارن مقالة «نفس عارية»).١٥ ورد الطغيان تارةً أخرى إلى النفس الفقيرة التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتستبد بالآخرين حتى تسد ذلك الخواء! … (قارن مقالة «نفوس فقيرة»).١٦ كما كتب أيضًا عن نظام الحكم بعنوان «إلى سادتي الحكام».١٧ وهي رسالة موجهةٌ إلى أصحاب السلطان، يسخر فيها من الحكَّام وما يعيشون فيه من ترفٍ ونعيمٍ، واستمتاع «بالجمال»، ويقول لهم إن أفلاطون ذهب إلى أن «الخير هو نفسه الجمال»، ثم يُرتِّب مفكرنا على فكرة أفلاطون هذه نتيجةً هامة هي: «العدل خير؛ ولذلك فهو جميل، وأنتم من عشَّاق الجمال … فكيف ترضون أن يملأ الظلم حولكم أركان البلاد؟»١٨ ذلك تناقضٌ لا يقبله عاقلٌ: أن تعشق الجمال في بيتك ومن حولك وفي جميلات النساء، وفي الطعام الجيد، ومناظر الطبيعة الخلابة … إلخ، ثم تترك «الظلم» يطحن الناس في مجتمعك؛ ولهذا «فهو كثيرٌ جدًّا ما أخذه العجب مما يسمُّونه «سياسة»، لكثرة ما نراه فيها من مجافاةٍ لمنطق العقل …»١٩

المجال الثاني: النظرة العلمية:

كان جوهر «اليقظة الواعية» التي حدَّثنا عنها مفكرنا، والتي بدأت في أواسط الأربعينيات، «الإيمان بالعقل» والدعوة إلى استخدامه في شتَّى مجالات الحياة: «مجال الحياة الاجتماعية»، كما سبق أن رأينا لنزيح عن كاهلنا تلك الأفكار المبتسرة، والقيم «الفاسدة» التي تُفرِّق بين البشر، وتُقسِّم الناس إلى سادةٍ وعبيدٍ، وتنشر الظلم، والقهر والاستبداد …إلخ، وهي كلها «قيم» يلفظها «العقل السليم»، والمجال الثاني هو «النظرة العلمية» التي يفتقر إليها مجتمعنا.٢٠ وهو يقول عن هذه المرحلة التي استقرَّ عليها فكره عشرين عامًا (١٩٥٠–١٩٧٠م) «… لقد سِرْت في خلالها على خطين متوازيين: أحدهما الدعوة إلى ثقافة العصر، والآخر الدعوة إلى منهج التجريبية العلمية في صياغة الأفكار …»٢١
ومن هنا كانت المشكلة الرئيسية التي شغلت فكره خلال الخمسينيات هي إشاعة «نور العقل»، والدعوة إلى التمسك به؛ فهو الجانب الغائب في ثقافتنا التي أظلمت سماؤها، بعد أن شالت كفة الوجدان ورجحت بل وطغت، فنحن أمة تُفضِّل القلب على الرأس، وترفع من شأن المشاعر والوجدان، وهل هي مصادفةٌ أن تجد منَّا ألف شاعر كلما وجدت عالمًا واحدًا؟!٢٢
ومن هنا فقد توارت عنده، في هذه المرحلة، مشاعر الوجدان ومنها المشاعر الدينية الفيَّاضة (وإن ظهر الوجدان في المقالات الأدبية)؛ ذلك لأنه وجد أن القاسم المشترك في جميع الحضارات هو الاحتكام إلى العقل، في قبول ما يقبله الناس، وفي رفض ما يرفضونه. وهذا الاحتكام إلى مقاييس العقل وحده، قد يتبدَّى في صورٍ تختلف باختلاف العصور، فربما ظهر في مجال السياسة، أو الحياة الاجتماعية، أو مجال الحرب، أو في مجال التشريع، أو في مجال العلوم الطبيعية.٢٣ وهذه العقلانية في وجهة النظر التي نراها ماثلةً في كل حضارةٍ مهما اختلف لونها، ولا نراها في أي جماعةٍ بدائيةٍ مهما تعددت بعد ذلك صفاتها، وليس ما نسميه «علمًا» سوى العقلانية، التي اتخذت لها منحًى معينًا من مناحيها الكثيرة.
فقد تتجه العقلانية نحو الأفكار المجردة تنظمها وتنسقها في ترتيبٍ هرميٍّ ليضع الأعمَّ منها فوق الأخص، كما حدث عند اليونان الأقدمين، أو ربما اتجهت نحو ظواهر الطبيعة تستخرج قوانينها النظرية، كما حدث لأوروبا في عصورها الحديثة، أو اتجهت نحو تجسيد تلك القوانين العلمية النظرية في أجهزة يديرها الإنسان، أو تدير نفسها كما يحدث في عصرنا الحاضر.٢٤
وقد تجلَّى هذا المنحى العقلي الخالص، عند مفكرنا، في جانبين مرتبطين أتمَّ الارتباط: المنهج العلمي من ناحية، والتجريبية العلمية من ناحيةٍ أخرى، وتكشَّف عنهما معًا أول عبارة ذكرها في كتابه «المنطق الوضعي» في مارس ١٩٥١م، وهي عبارةٌ عنيفةٌ وإن كانت معبِّرةً ودقيقة: «أنا مؤمنٌ بالعلم كافرٌ بهذا اللغو الذي لا يُجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئًا، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيبٍ من المدنية يكثر أو يقل، بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه …»٢٥ وهو يواصل عرض الفكرة ذاتها بقوله: «لما كان المذهب الوضعي بصفةٍ عامةٍ، والوضعي المنطقي بصفةٍ خاصة، هو أقرب المذاهب الفكرية مسايرةً للروح العلمي، كما يفهمه العلماء الذين يخلقون لنا أسباب الحضارة في معاملهم، فقد أخذتُ به، أخذ الواثق بصدق دعواه …»٢٦ ودخل في معارك فكريةٍ هامة دفاعًا عن العقل في دوره الحضاري.
«كانت الخمسينيات في حياتي الثقافية، معركةً متصلةً حامية اللهب، أُدافع فيها عن ضرورة التزام الإنسان في حياته العلمية بمنطق العقل، في صرامةٍ لا تجد العاطفة ثغرة لها، تتسلل منها، فتضعف ذلك المنطق العقلي بميولها وأهوائها …»٢٧

النظرة العلمية، والوضعية المنطقية، أو التجريبية العلمية كما يُفضِّل مفكرنا تسميتها، يلتقيان مع «العقل» على صعيدٍ واحدٍ؛ ومن هنا كان دفاعه عن العقل.

أما النظرة العلمية فهي في أساسها وقفةٌ عقليةٌ تتميز بالخصائص الآتية:
  • (١)

    أولى هذه الخصائص نتيجة مترتبة على الوقفة العقلية، وهي أن تتحدد الأشياء بنسبها الصحيحة بعضها من بعض، بحيث يبدو الكبير كبيرًا كما هو، والتافه تافهًا كما هو، فقد تهتم الدولة المتحضرة بمسألةٍ علميةٍ تريد لها أن تستقرَّ في أذهان الناس، ولكنها تتغاضى عن توافه السلوك التي ربما اختارها هذا الرجل أو ذاك.

  • (٢)
    ومن أبرز جوانب النظرة العلمية، وأكثرها أهمية بالنسبة لنا، أن تردَّ الظواهر إلى أسبابها الطبيعية، فلا يُفسَّر المرض مثلًا إلا بالجراثيم التي أحدثته، ولا يُعلل سقوط المطر إلا بظروف المناخ … وهكذا، ويترتب على هذا الربط السببي الصحيح أن نلتمس للأشياء أسبابها الطبيعية كذلك، فإذا أردنا غلالًا زرعنا الأرض لنحصدها، وإذا أردنا قتالًا حملنا له السلاح بمرانٍ واقتدار.٢٨
    ومن هنا كان السحر، مثلًا، هو الضدُّ المباشر للنظرة العلمية، وللوقفة العلمية التي ندعو إليها؛ ذلك لأن السحر يعلل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية، فإذا كانت علَّة المطر، مثلًا، هي مقدار ما يتكثَّف من بخار الماء في الهواء، جعلها الساحر ورقةً يكتب عليها أحرفًا يختارها، أو عبارة يزعم لها القدرة على إنزال المطر. وإذا كانت علَّة الشفاء من مرضٍ معين هو أن تزال الجراثيم التي تحدِثه، كانت هذه العلة عند الساحر «عفريتًا» يسكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوالٍ تُقال، وبخورٍ يعطر جو المكان، ويُطهِّره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس … وهكذا.٢٩
  • (٣)

    والنظرة العلمية تنظر إلى الواقع كما هو لتحوره إلى واقعٍ جديدٍ إذا أرادت، دون أن تُقيم بينها وبين الواقع حائلًا تنسجه الأوهام، ثم سرعان ما ننسى أنها أوهام، فإذا كان البدائي يخلق لنفسه الخرافة، لينظر بمنظارها إلى واقع الدنيا، فإن صاحب النظرة العلمية هو الذي يواجه تلك الوقائع كما تبدو لبصره وسمعه.

  • (٤)
    على أن النظرة العلمية لا تعني أن نجمع في خزائننا مجموعة من حقائق العلم، وإنما هي في أساسها أن نكتسب المنهج العلمي في طريقة النظر. والمشكلة عندنا حتى بالنسبة لدارسي العلوم في جامعاتنا، أن الدارس يحفظ عن ظهر قلب مجموعة من الحقائق العلمية، دون أن يصبح المنهج العلمي طريقًا ينتهجه في حياته العلمية؛ ولهذا جاز للرجل أن يكون نابغًا في العلم ثم تراه في الوقت نفسه، خارج حدود علمه، مؤمنًا بالخرافة كأي إنسانٍ آخر ممن لم يهبهم الله حظًّا من العلم.٣٠
أنه إذا كانت مجموعة الحقائق العلمية التي يحفظها أبناؤنا في المدارس والجامعات، بمثابة قطع من نفائس المعادن، فإن «المنهج» الذي أوصلنا إلى تلك النفائس هو بمثابة المنجم الذي نظل نستخرج منه النفائس بعد النفائس، وبغيره نجمد عند ما حصَّلناه، لا نزيد عليه كبيرةً ولا صغيرة.٣١
ولهذا فقد كان مفكرنا يُركِّز تركيزًا أساسيًّا على «منهج التفكير»، وهو يروي في سياق اهتمامه بهذا المنهج، تلك الحكمة الصينية التي تروي أن فقيرًا جائعًا، مرَّ بصائد سمك راح يستجديه، فأعطاه سمكةً يسدُّ بها رمقه، غير أن الحكيم الصيني الذي شاهد الموقف قال له: خيرٌ لك أن تُعلِّمه صيد السمك، من أن تتصدق إليه بسمكة؛ فالسمكة المُعطاة هي وجبةٌ واحدة، تأتي بعد زوالها حاجةٌ متكررةٌ إلى وجبات، أما إذا تعلَّم الصيد فسوف يجد ما يُشبعه كلما جاع! «… وعلى منوال هذه الحكمة النافذة أدرك صاحبنا منذ كان في غربته الدراسية، أن تدريب المتعلم على منهج التفكير المنتج، خيرٌ الف مرةٍ من مضاعفة المادة العلمية المحصَّلة؛ لأن مقدار ما يُحصِّله الدارس من مادته العلمية مهما كثر فهو قليلٌ، وأما مَن زوَّد عقله بمنهج التفكير العلمي؛ فهو قادرٌ أبدًا أن يلتمس الطريق الصحيح …»٣٢
أما الشق الثاني من «النظرة العلمية» التي اهتمَّ بها مفكرنا في هذه الفترة اهتمامًا شديدًا توارت معه، إلى حين، المشاعر الدينية التي كانت تعتصره في المرحلة الأولى؛ فيتمثَّل في اتجاهه إلى الانتماء إلى «المذهب الوضعي المنطقي»، وهو انتماء أساء إليه كثيرًا عندما لم يُفهم فهمًا صحيحًا أو يُوضع في إطاره ودوره الحقيقي، فقد ظن بعض الباحثين أن زكي نجيب محمود «اعتنق» المذهب الوضعي «وتعصَّب له بوصفه مذهبًا فلسفيًّا»، وأنه أخذ على عاتقه الدعوة إليه في حياتنا الثقافية، بكل ما يملك من قوةٍ ذهنيةٍ وبلاغة لغوية، في كتبه أو محاضراته، ومقالاته، وندواته … إلخ، حتى استطاع أن يُنمِّي حوله تيارًا فكريًّا مستمدًّا من أصول هذه الفلسفة.٣٣
وباختصارٍ أصبح زكي نجيب محمود «موظفًا» في مدرسة الوضعية المنطقية، تنحصر مهمته في نشر فكر المدرسة والدفاع عنها؛ مع أن العكس هو الصحيح تمامًا؛ أعني أنه «وظَّف» هذا المذهب لصالح الفكر التنويري.٣٤ فلم تكن الوضعية المنطقية عنده «مذهبًا» يُعتنق ويتجمَّد في إطاره، بقدر ما كانت «منهجًا» يأخذ بالنظرة العلمية ويدعو إليها؛ ومن ثم فهو يرسم للباحث خطواته التي تضمن له السير على أرضٍ صلبةٍ لا تميد تحت قدميه.٣٥

ولم تدرك سوى قلة ضئيلة من الباحثين الفارق الهام بين الدور الذي لعبته الوضعية المنطقية في إنجلترا وأمريكا، والدور التنويري الخطير الذي قامت به هذه الفلسفة في بلادنا عندما هاجمت الخرافة، والتفكير اللامسئول، ودعت إلى التمييز بين العبارات اللغوية، ومجالات النشاط الذهني للإنسان … إلخ إلخ، وهو دور لم يكن من الممكن أن تقوم به هذه المدرسة في الدول المتقدمة التي نشأت فيها.

كان هذا الهدف التنويري هو الذي جذب زكي نجيب محمود إلى الوضعية المنطقية، أو التجريبية العلمية، كما يحلو له أن يُسمِّيها، فقد رأى فيها الفلسفة التي «وصلت إلى أعظم كشفٍ فلسفيٍّ في هذا العصر»، والذي تمثَّل في التمييز بين مجالات التفكير عندما ميَّزت بين أنواع العبارات اللغوية، وهو كشفٌ اعتبره ملبيًا لحاجةٍ ماسةٍ عندنا، بعد أن ساد حياتنا الثقافية استهتارٌ عجيبٌ لا سيما في مجال الفكر «… فقد اعتادت الألسنة والأقلام أن ترسل القول إرسالًا غير مسئولٍ دون أن يطوف ببال المتكلم أو الكاتب أيُّ شعور بأنه مطالبٌ أمام نفسه، وأمام الناس، أن يجعل لقوله سندًا من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسُّه الأيدي!»٣٦ فلم يكن توجهه إلى الوضعية المنطقية يهدف إلى «اعتناق» مذهبٍ فلسفيٍّ يعارض به المذاهب الفلسفية الأخرى بقدر ما كان عثورًا على «طريقة التفكير»، و«منهجًا» للنظر، رأى أنه يفيد في إصلاح التسيب والاعوجاج الذي شاهده في حياتنا الثقافية؛ ذلك لأن الوضعية المنطقية إذا كانت قد صبَّت كل اهتمامها في مجال التفكير العلمي، فقد اعترفت في الوقت نفسه، أن هذا التفكير ليس هو كل النشاط الذهني للإنسان، وإنما هو جزءٌ واحدٌ من النشاط، فهناك إلى جانب التفكير العلمي ضروب الوجدان بشتى صنوفها، ومن أهمها الجانب الديني من الإنسان، والفن، والشعر، وسائر ألوان الإبداع الأدبي، ومنها الحياة العاطفية الانفعالية التي يحياها الإنسان كل يوم، ويعبِّر عنها قولًا وسلوكًا؛ ومن هنا جاءت أهمية فصل الوضعية المنطقية بين هذين المجالين والتميز بين العبارات اللغوية التي تعبِّر عن «تفكيرٍ علمي» من ناحية، والعبارات التي تعبر عن الوجدان والمشاعر من ناحيةٍ أخرى.
غير أن الوضعية المنطقية عادت إلى التمييز، داخل مجال التفكير العلمي نفسه، بين العبارات العلمية ذاتها، ففرقت بين العبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الرياضية، والعبارات التي تندرج تحت مجموعة العلوم الطبيعية، فلكلٍّ من المجموعتين أسسٌ خاصة بتكوينها، وبالطريقة التي يحكم بها على صدقها وكذبها. وكانت الفلسفات السابقة تحسب أن الوقفة العلمية واحدةٌ في جوهرها، فلا فرق بين أن يكون الموضوع المطروح للتفكير ذا خصائص تجعله رياضيَّ الطابع، أو ذا خصائص تجعله من قبيل العلوم الطبيعية. لدرجة أن بعض الفلاسفة بذلوا جهودًا مُضنيةً، للوصول إلى نظريةٍ عن الكون تبلغ مبلغ «اليقين» الرياضي الذي لا يحتمل أدنى ظل من الشك. ومنهم، على العكس، مَن كان ينشد، مثل جون ستيوارت مل (١٨٠٦–١٨٧٣م) إخضاع الفكر الرياضي لمنهج التجربة في العلوم الطبيعية. فجاءت الوضعية المنطقية لتكشف عن الفرق الشاسع في بنية التكوين ذاتها بين العلوم الطبيعية والعلوم الرياضية، وتُحذرنا من الخلط بينهما؛ فالفكر الرياضي تحليلي ومنهجه استنباطي، والفكر الطبيعي تركيبي ومنهج استقرائي. الأول تحصيل حاصل لا يضيف جديدًا ولهذا هو «يقيني»، أما عبارات العلم الطبيعي المستمدة من التجربة فهي تحمل إضافةً جديدةً إلى الموضوع الذي نتحدث عنه؛ ومن هنا يجيء احتمال الخطأ.٣٧
وقد ترتَّب على هذه التفرقة البسيطة بين عبارات اللغة، والتي أشارت إليها الوضعية المنطقية، ثلاث نتائج هامة على النحو التالي:
  • الأولى: أن مجال التعبير الوجداني بكل أشكاله يخرج من دائرة العلوم بنوعيها، فلا هو من قبيل الفكر الرياضي موضوعًا ومنهجًا، ولا هو كذلك من قبيل الفكر الطبيعي موضوعًا ومنهجًا؛ ولذلك نُخطئ كثيرًا إذا نحن عاملناه بمقياس أيٍّ من المجموعتين، فلو قال قائل «ما أجمل أشعة القمر!» وقال آخر «إن أشعة القمر تشبه خيوط العنكبوت»، أو قال ثالثٌ: «ما أروع الغروب!» وردَّ رابعٌ «إنني أنقبض لرؤية الغرب»، فهل في استطاعتك أن تحسم الأمر بينهم فتقول: أصاب الأول وأخطأ الثاني، أو أصاب الرابع وأخطأ الثالث؟! كلا!

    فليس ثمة مجال للصواب أو الخطأ؛ لأن كلًّا منهم يعبِّر عن شعوره الباطني الخاص، والشعور الباطني الخاص لا يخضع لمقاييس الصواب أو الخطأ التي هي مقاييس العلوم بمجموعتيها.

  • والنتيجة الثانية: أننا سنجد شرائح عريضةً من البناء الثقافي تنصبُّ في قالب الفكر الرياضي، وإن لم تكن فكرًا رياضيًّا بالمعنى المحدود لهذه العبارة، بمعنى أنها تبدأ من «فروق» تجعلها مسلَّمةً بغير حاجةٍ إلى برهان، لتكون هي نفسها السند الذي يعتمد عليه في البرهنة على صحة النتائج التي تتولَّد عنها، ومن أهم هذه الشرائح الثقافية «علوم الدين»، في أي دين، لأن لكل دينٍ كتابه الخاص الذي يبدأ منه، ويجعله أمرًا مُسلمًا به لا يُقام عليه برهان، إذ يكفيه عند المؤمنين بهذا الكتاب أنه يقع من قلوبهم موقع «الإيمان». ومن هذا الكتاب يستخرج أنصاره، أو الفقهاء منهم، أحكام ذلك الدين المُعيَّن، فإذا سُئل أحدهم عن حكم من تلك الأحكام: ما برهانك على صوابه؟ كان جوابه أن يردَّ الحكم إلى الأصل الكتابي الذي استخرجه منه، وفي هذا ما يحسم الرأي، لكنه يحسمه عند أصحاب ذلك الدين، أما غير أصحابه، فهم غير ملزمين بقبول السند نفسه الذي يرجع إليه عند الأحكام.٣٨
  • والنتيجة الثالثة: أن مَن يسوق حديثًا عن الواقع الخارجي، عليه أن يقبل إخضاع حديثه لمقاييس التجربة الحسية عند الآخرين. أما أن يزعم لأقوال أنها تصف الواقع الفعلي، ويعجز عن بيان المطابقة الحسية بين ما يقوله وبين ما هو محسوس لنا، بل يثور ويغضب من إخضاع حديثه للتجربة الحسية، فذلك ما ينبغي أن نرفضه رفضًا قاطعًا، فما دام يتحدث عن أمورٍ «محسوسة» أعني وقائع حسية، فلا بد أن تكون ثمة طريقة «حسية» أيضًا نتأكد بها من صدق حديثٍ أو كذبه، ولا مندوحة له عن ذلك.
تلك كانت الأفكار الرئيسية التي أخذ بها مفكرنا في المرحلة الثانية، التي كان فيها «العقل» هاديه ومرشده، لكنه لم يغيرها قط، بل وظَّفها في المرحلة الثالثة في خدمة نظرته إلى التراث، يقول ملخصًا الخيط الذي سرى في تفكيره طوال تطوره الروحي: «الخط الفكري الذي تنطوي عليه كتاباتي على اختلاف موضوعاتها، هو أن الفرد الإنساني مسئولٌ عمَّا يفعل، وأن هذه المسئولية لا تعني شيئًا إذا لم يكن العقل وحده هو مدار الحكم في كل المسائل التي نطلب فيها التفرقة بين الصواب والخطأ …»٣٩
ولما رأى الناس في بلاده على عداوةٍ مع العقل، فقد أدرك أنهم بالتالي على عداوةٍ مع التقدم، ومع الحضارة: «ومع كل ما يترتب على العقل من علومٍ ومنهجية النظر، ودقة التخطيط والتدبير …»٤٠ ومن هنا كانت صرخته ليستيقظ النُّوَّم من سباتهم، ويلحقوا بالركب … ولعل هذا هو السبب في أن هذه المرحلة هي التي التصقت بأذهان المثقفين الذين هزَّتهم الدعوة من الأعماق، فانتبهوا إلى هذا الفكر الجديد، وانهالوا عليه لومًا وتقريعًا، وعمدوا إلى تقليص دوره ليصبح «من المؤكد أن زكي نجيب محمود هو أبرز ممثل لتيار الوضعية المنطقية في الوطن العربي».٤١ على الرغم من أنه لم يعتنق الوضعية المنطقية مذهبًا، وإنما وظَّفها لصالح الفكر التنويري كما سبق أن رأينا. فالأفكار الرئيسية التي عرضناها في هذه المرحلة كانت خيوطًا تلاقت في نسيج المرحلة الثالثة. وما وصفه بأنه «أعظم كشفٍ فلسفيٍّ في هذا العصر» هو الذي كان هاديه ومرشده في تحليله للتراث العربي. ولو أمعنا النظر قليلًا في تقسيمه لمجال النشاط الذهني للإنسان إلى مجالَي «التفكير العلمي» و«الوجدان»، لوجدنا أنها هي نفسها القسمة التي وجهت تفكيره في «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»؛ فالمعقول هو «وقفة العلم»؛ لأن العلم بكل ضروبه نشاطٌ عقليٌّ خالص، وخصائص التفكير العلمي هي طائفةٌ هامة من خصائص العقل.٤٢ لكن ذلك لا يعني أن الإنسان عقل كله، بل هناك حالات يُكابدها ويعانيها، منها الانفعالات والعواطف والرغبات وما إليها: «فإذا ضممنا جميع الأقوال التي قالها قائلوها من «حالات» اعتملت بها أنفسهم. كان لنا مجموعة مجال «اللامعقول» في الثقافة التي تقصَّيناها بالنظر والدرس …»٤٣
ولو أمعنا النظر، من ناحيةٍ أخرى، في «تجديد الفكر العربي» لوجدنا أن القسم الذي كتبه تحت عنوان «المبادئ: حقائق هي أم فروض؟» (ص١٩٠–٢٠٤) يعتمد اعتمادًا تامًّا على القسمة الثانية التي أدخلتها الوضعية المنطقية في قلب التفكير العلمي نفسه، حين ميَّزت بين الفكر الرياضي والاستبناطي، والفكر التجريبي الاستقرائي، وجعلت النوع الأول يبدأ من فروض يُسلَّم بها بغير حاجةٍ إلى برهان. ونحن نراه في هذا القسم من «تجديد الفكر العربي» يمد فكرة «الفروض»، التي يبدأ منها الفكر الرياضي، ليجعل من «المبادئ» فروضًا أيضًا. وإذا كان قد ضرب المثل بالفكر الديني، أو علوم الدين، الذي يبدأ من كتابه المقدس، ويجعله أمرًا مسلمًا به لا يُقام عليه برهان؛ فهو أيضًا يجعل «المبادئ، أيًّا كان نوعها، فروضًا، ويقول إن الديانات المختلفة تُبنى على «مبادئ» كل منها يضع كتابه أمامه «مبدأ» يسير منه، ويستنبط، وأن تكون الأحكام الفقهية في كل دينٍ صوابًا بالنسبة إلى نص كتابها.٤٤ ولكن الفكر التجريبي لا يُبنى على مثل هذه «المبادئ»: فاللغة لا تسيغ للعالم أن يقول إن «مبدئي» هو أن سرعة الضوء هي كذا؛ فتلك حقيقةٌ من حقائق الطبيعة، وليست مبدأ مفترضًا.٤٥ ثم نراه في هذا القسم يمد الفروض الرياضية إلى مجالٍ آخر هو «الفكر السياسي»، فها هنا كذلك تبدأ النظرية السياسية من مبدأ معين يُقيم عليه بناءها كله، كما هي الحال في الفلسفة السياسية عند كل من «توماس هوبز» ١٥٨٦–١٦٧٩م، وجون لوك ١٦٣٢–١٧٠٤م، الأول يجعل أساس بناءه السياسي «حق الحكم للأقوى»، في حين أن الثاني يُقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم لمن يختاره الشعب.٤٦ ثم يوسع الفكرة نفسها لتشمل المذاهب الفلسفية: «فلكل فيلسوف شيء يُسمِّيه في فلسفته «بالمبدأ الأول»، قاصدًا بذلك الفكرة الأم في نسقه الذي يبنيه، وهي الفكرة التي يعتصر منها كل أجزاء بنائه الفلسفي، فيها يقيم البرهان على كل ما يزعمه بعدها، وأما هي فلا برهان عليها؛ إذ لو كان عليها برهان لكانت فكرة البرهان هي الأسبق في أولويات العقل، ولم يعد «المبدأ الأول» لا «مبدأ» ولا «أول» …»٤٧ وينتهي من ذلك إلى أن المبادئ في شتى البناءات الفكرية، ليست «حقائق» تفرض نفسها على الإنسان، بل هي بحكم طبيعتها «فروضٌ يفرضها الإنسان لنفسه حرًّا مختارًا لتخدم غرضه، فإن أفلحت في خدمة تلك الأغراض، كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها حتى يقع على أنفع المبادئ لحيادته العملية.٤٨
غير أنه لا يعرض لهذه الأفكار بالشرح والتحليل، ويقف عند هذا الحد، وإما «يوطنها» في خدمة مشروعه الثقافي في تجديد الفكر العربي، وفي خدمة منظوره الذي ينظر منه إلى التراث العربي: «فقد كانت لأسلافنا مبادئ معينةٌ فيما يُعد شعرًا، وما لا يُعد شعرًا، وفيما يكون أدبًا من النثر وما لا يكون أدبًا، وقياسًا على هذه المبادئ يعمل النقَّاد.»٤٩ ومثلٌ آخر، لعله أفدح خطرًا، فقد كان المبدأ في نظام المجتمع أن يكون الحاكم هو صاحب السلطان، وهو في الوقت نفسه صاحب الرأي، ولم يكن ثمة من غضاضة على النفوس أن يُملي عليها ولي الأمر في حكومة الناس ما يتفق ومذهبه هو، ليكون هو المذهب الذي لا مذهب سواه عند المحكومين.٥٠
والأمثلة كثيرة على مدى استفادته من «منهج» الوضعية المنطقية في المرحلة الثالثة، التي حاول فيها إقامة مشروع فكريٍّ لتجديد الفكر العربي، وذلك يُعني، من ناحيةٍ أخرى، أنه لم ينسف جسوره تمامًا مع المرحلة الثانية، بل كان مشروعه الفكري مركَّبًا من المرحلتين السابقتين: التدين الخالص الذي توارى إلى حين، والعقل الخالص الذي ظهر واضحًا في المرحلة الثانية: «فهو بناءٌ فكريٌّ جاء ليكمل، لا لينقض، ما أنجزه خلال الخمسينيات من تجديدٍ لمنهج التفكير العلمي …»٥١
١  «قصة عقل»، ص٦٨.
٢  المرجع نفسه، ص٤٠.
٣  زكي نجيب محمود، حصاد السنين، ص٧.
٤  نفس المرجع في نفس الصفحة.
٥  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٢٠١.
٦  المرجع السابق.
٧  المرجع نفسه، ص٤٧.
٨  «قصة عقل»، ص٣٧.
٩  قارن أيضًا «هناك بين أفراد الناس فئة تشبه صنوف الحيوان في تركيبها النفسي، بحيث إذا بقر بطونهم مبضع التشريح، وجد في الجوف نمرٌ كامن، أو ثعلبة أو حمل، أو كلب. وهكذا ترى صاحب هذا المكنون الجوفي، يتصرف على طباع الحيوان الذي كمن فيه»، حصاد السنين، ص١٠٠، وهذه العبارة تفسِّر، في الواقع، مضمون المقالين معًا «تجويع النمر» و«الكبش الجريح»!
١٠  «جنة العبيط»، ص٦٧.
١١  المرجع نفسه، ص٧٣، وقارن أيضًا إمام عبد الفتاح إمام «الفلسفة الثنائية عند زكي نجيب محمود»، دراسة في مجلة «عالم الفكر»، المجلد العشرون، العدد الرابع يناير ١٩٩٠م.
١٢  «قصة عقل»، ص٨٤–٨٥.
١٣  «حصاد السنين»، ص١٢٩.
١٤  زكي نجيب محمود، «الكوميديا الأرضية»، ص١٣.
١٥  المرجع السابق، ص١٤.
١٦  المرجع نفسه، ص٧٩.
١٧  المرجع نفسه، ص٥٦.
١٨  «الكوميديا الأرضية»، ص٦٣.
١٩  «حصاد السنين»، ص٨٢.
٢٠  قارن مقالة «ينقصنا منهج العلم» في كتابه «أفكار ومواقف»، ص٢٠٨.
٢١  «قصة عقل»، ص٦٠.
٢٢  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٧٢.
٢٣  نفس المرجع، ص١٩٦، وأيضًا «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي» بحوث ندوة الكويت، أبريل ١٩٧٤م.
٢٤  نفس المرجع في نفس الصفحة، وأيضًا أزمة التطور الحضاري، مطابع دار السياسة بالكويت، ص٢١–٢٢.
٢٥  من مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «المنطق الوضعي».
٢٦  المرجع نفسه، وقارن أيضًا كتابه «أفكار ومواقف» ص٤٣، حيث عرض للفكرة ذاتها وجعل «المذهب الوضعي» أو «التجريبية»، صدى للعلم المعاصر.
٢٧  «أفكار ومواقف»، ص٤٢.
٢٨  «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، ص٤٣٧.
٢٩  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص١٩٨–١٩٩، و«أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي» بحوث ندوة الكويت في أبريل عام ١٩٧٤م، مطابع دار السياسة بالكويت، ص٢١–٢٢.
٣٠  راجع مقالة «ينقصنا منهج العلم» في كتابه أفكار ومواقف، ص٢٠٨.
٣١  قارن مقالة «ينقصنا منهج العلم» في كتابه أفكار ومواقف، ص٢٠٨.
٣٢  «حصاد السنين»، ص١٥٥.
٣٣  محمود أمين العالم، «معارك فكرية»، ص١٤.
٣٤  إمام عبد الفتاح إمام، «الفلسفة الثنائية عند زكي نجيب محمود»، عالم الفكر، المجلد العشرون، العدد الرابع، مارس ١٩٩٠م، ص٩٥ وما بعدها.
٣٥  «قصة عقل»، ص٩٤.
٣٦  من مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «خرافة الميتافيزيقيا» الذي أصدرته مكتبة النهضة المصرية، عام ١٩٥٣م.
٣٧  قارن «قصة عقل»، ص٩٥–٩٦.
٣٨  «قصة عقل»، ص٩٨–٩٩.
٣٩  مجتمع جديد أو الكارثة، ص٢٦.
٤٠  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٧٠.
٤١  د. أحمد ماضي «الوضعية المحدثة، والتحليل المنطقي في الفكر الفلسفي المعاصر»، ص١٧، بحثٌ في «الفلسفة في الوطن العربي المعاصر»، بحوث المؤتمر الفلسفي الأول، أصدرها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، عام ١٩٨٥م.
٤٢  «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، ص٣٦٢.
٤٣  المرجع نفسه، ص٣٦٦.
٤٤  «تجديد الفكر العربي»، ص١٩٣.
٤٥  نفس المرجع، ص١٩٤.
٤٦  «تجديد الفكر العربي»، ص١٩٥.
٤٧  المرجع نفسه، ص١٩٦.
٤٨  «تجديد الفكر العربي»، ص١٩٧.
٤٩  المرجع نفسه، ص١٩٩.
٥٠  المرجع نفسه، ص٢٠٠–٢٠١.
٥١  «قصة عقل»، ص١٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤