الفصل الثالث

المرحلة الثالثة: التدين المستنير بنور العقل

إننا نريد لأمتنا أن تسير مع العلم بقوة الإيمان …

زكي نجيب محمود، «رؤية إسلامية»

(١) الشرق الفنان

لم يكن «الشرق الفنان» الذي صدر عام ١٩٦٠م، بحثًا علميًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما هو رسالة صغيرةٌ أراد بها صاحبها أن يسمر مع القارئ، غير أن هذه الرسالة الصغيرة تتضمن الإرهاصات الأولى لمشروعه الفكري القادم، ففيها يطرح فكرةً مفادها أن في العالم نظرتين إلى الوجود: نظرة الشرق الأقصى: الهند، والصين، واليابان … إلخ التي تنظر إلى الوجود الخارجي ببصيرةٍ تنفذ إلى الجوهر الباطن، وهذه نظرة الفنان الخالص، بالمعنى الواسع لكلمة «فن» بحيث تشمل المتصوف والمتدين، وهي نظرةٌ يُدرك بها صاحبها الوجود الكوني بروحه لا بعقله. ثم هناك، من ناحية أخرى، نظرة الغرب التي تنظر إلى العالم الخارجي بعقل المنطقي التحليلي الذي يُقارن ويستدلُّ، وهذه نظرة العالم الخالص، وبين الطرفين وسطٌ يجمع بين الطابعين، ويتمثَّل في ثقافة الشرق الأوسط التي تجمع بين إيمان البصيرة ومشاهدة البصر، بين خفقة القلب، وتحليل العقل، بين الدين والعلم، بين الفن والعمل.١

على أن ذلك لا ينفي، بالطبع، أن يكون في الشرق علماء، ولا أن يكون في الغرب رجال فنٍّ ودين، لكن مفكرنا يبرز الخصائص العامة التي تطبع بطابعها ثقافة العالمين، فضلًا عن ثقافتنا نحن. وربما كان يستهدف تفسير الأقوال التي شاعت أحيانًا عن «روحانية الشرق»، «ومادية الغرب»، ثم أراد أن يمزج الطرفين القصيين في بوتقة الشرق الأوسط.

على أن ما يهمنا الآن، على الأقل، أن نبرز أهمية الكتاب في تطوره الروحي؛ فهو نفسه يصفه بأنه «جاء بمثابة حجر الزاوية في بناءٍ فكريٍّ جديدٍ، ظهرت معالمه الكبرى خلال السبعينيات في سلسلة كتب كان أهمها «تجديد الفكر العربي»، و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، و«ثقافتنا في مواجهة العصر».٢ وهي المؤلفات التي بلورت مشروعه الثقافي الذي نضج في الكويت كما يقول.٣ ويكشف لنا ذلك عن خطأ بعض التفسيرات التي حاولت أن تبحث عن مبررات «لتحول» زكي نجيب محمود في المرحلة الثالثة؛ فالدكتور فؤاد زكريا يردُّ هذا التحول إلى الأزمة التي استشعرها العقل العربي بعد هزيمة ١٩٦٧م، فراح يبحث عن طريق يسلكه بين تراث الأجداد العريق وحضارة الغرب الفتيَّة، فقد انكبَّ مفكرنا على الفكر الغربي حتى ظنَّ ألَّا فكر سواه. وظل على هذه الحال طوال الجزء الأكبر من حياته، إلى أن أُتيح له آخر الأمر من الفراغ النسبي، ومن الإمكانات، أثناء علمه في جامعة الكويت، ما حفَّزه إلى أن يُكرِّس من حياته خمسة أعوام عكف فيها على هذا التراث الذي ظل مجهولًا لديه. واستطاع من خلال دراساته وقراءاته أن يخرج برأيٍ أعلنه علينا في كتابه «تجديد الفكر العربي».٤ وذلك يعني أن الأزمة التي كانت تُعاني منها الأمة العربية، بعد الهزيمة، كانت عاملًا أساسيًّا من عوامل تلك الوقفة، التي وضع فيها مفكرنا تراثنا العربي في موضع الاختبار «ولو أمعنا الفكر قليلًا لما وجدنا أدنى تعارض بين الوجه الشخصي والوجه العام لتلك الأزمة، التي تشغل عقل كل مثقفٍ عربيٍّ واعٍ في هذه الأيام …»٥ وقل مثل ذلك في التفسيرات التي يُقدمها الدكتور حسن حنفي، الذي يقول إن هناك ثلاثة افتراضات تفسِّر هذا التحول في أوائل السبعينيات:
  • الأول: الانتقال من جامعة القاهرة إلى جامعة الكويت في سبتمبر ١٩٦٨م، وبعده عن مكتبته العلمية الخاصة، ووجود مكتبة جامعة الكويت التي تزخر بعيون التراث؛ مما جعله يعيش وسط تراثٍ جديدٍ بالنسبة له، لم يتعود التعامل معه من قبل فقرأه بشغفٍ.
  • الثاني: أن هذا الانتقال إلى المرحلة الثالثة قد حدث، مثلما حدث لكثيرٍ من المفكرين بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧م.
  • الثالث: هو أن زكي نجيب محمود بعد أن تشبَّع بالفكر الغربي عامة، والفكر العلمي خاصة، شعر وكأنه مُعلَّقٌ في الهواء، معزولٌ عن الثقافة الشعبية والتراث الوطني، خاصةً وأنه لم يكن مُطَّلعًا عليه.٦
والواقع أن هذه التفسيرات تسقط تمامًا تطوره الروحي من حسابها، ويدل على ذلك تسميتها المرحلة الثالثة باسم «التحول في فكر زكي نجيب»، بدلًا من أن يكون نموًّا لبذورٍ ظلَّت تعمل سنواتٍ طويلة ببطءٍ شديد، فلم تكن هزيمة ١٩٦٧م هي العالم الحاسم.٧ بدليل أنه في «الشرق الفنان» عام ١٩٦٠م؛ أي قبل النكسة بسبع سنوات، يعرض لفكرة التقاء الشرق والغرب، القلب والعقل، وهي الفكرة التي اعتبرها «حجر الزاوية في بنائه الفكري الجديد» … ولم تكن المسألة بعده عن مكتبته العلمية، وعثوره على مكتبةٍ عامرةٍ في الكويت، فليس كل من وصل الكويت، وعثر على مكتبةٍ زاخرةٍ بعيون التراث، أقام بناءً فكريًّا كالذي أقامه زكي نجيب محمود، لكن الصحيح أن فترة الكويت ساعدت على نضج الأفكار التي كان يحملها في رأسه، وتُلحُّ عليه في وطأةٍ ضاغطةٍ. أما القول بأنه تشبَّع «بالفكر الغربي»؛ فهو يُسقط المرحلة الأولى «مرحلة التدين الخالص» من ناحية، ثم هو يفترض أنه تخلَّى عن هذا الفكر الغربي في المرحلة الثالثة، وهو أمرٌ لم يحدث قط! فلا شك أنه كان على علمٍ بالتراث العربي والغربي معًا، وهو يقول عن نفسه في هذه الفترة: تستطيع أن تقول إنني كنتُ إلى ذلك الحين (أواخر الستينيات) قد خزنتُ لنفسي أكداسًا من الحقائق عن الثقافة العربية إبان تلك القرون الخمسة التي أردت دراستها. لكن تلك الحقائق كانت عندي بغير «تاريخ» يربطها في سيرةٍ متصلةٍ المراحل لتصبح «حياة» لها دوافعها وأهدافها، فاستبدت بي الرغبة في أن أنصرف بمعظم جهدي، بضع سنوات، نحو الدراسة المنشودة …»٨
فالفكرة الرئيسية التي سيعرضها فيما بعد فكرة الجمع بين العقل والقلب، بين التدين والعلم … إلخ، كانت تعتمل في نفسه قبل سفره إلى الكويت، لكنها كانت معروضةً بطريقةٍ مختلفةٍ، ففي «الشرق الفنان» كانت مدينة الإسكندرية، في قرونها الأولى، هي المدينة التي اتَّخذها مفكرنا نموذجًا لثقافة الشرق، التي تجمع بين الطرفين القصيَّين «خفقة القلب، وتحليل العقل»؛ فهي بعد أن توارت أثينا أصبحت الإسكندرية عاصمة الثقافة في العالم القديم، ولم تكن النقلة تغييرًا في المكان وكفى، بل كانت تغييرًا في منهج التفكير كذلك، ففيها بدأ اللاهوت المسيحي، لأول مرة، ينسق بين العقيدة من جهة والعقل الفلسفي من جهةٍ أخرى؛ مما رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية طوال العصور الوسطى، ذلك دليلٌ على اجتماع أمرين لأهل هذه البلاد: القلب والعقل معًا، الإيمان والعلم، اللمسة المباشرة ومعها عملية التحليل العقلي، وهو يسوق من أوريجين Origen (١٨٥–٢٥٤) اللاهوتي السكندري الشهير، قوله: «إن الفلسفة اليونانية القائمة على العقل المنطقي الصرف، والأناجيل القائمة على الإلهام، والوحي الصرف، إنما يتطابقان ولا يتعارضان …»٩
كانت الفكرة البسيطة التي عرضها في «الشرق الفنان» تُمثِّل البذور الأولى لمشروعه الفكري الذي كان يتحيَّن الفرصة للظهور، وشيئًا فشيئًا مع مرِّ الأيام انتقلت هذه الازدواجية المتآلفة إلى الثقافة العربية التي كانت تبدو أمام عيني، وكأنها قابليةٌ فريدةٌ، وسمةٌ بارزة، يمكن أن تكون أساسًا متينًا لإقامة ثقافةٍ عربيةٍ جديدة، صون أصالتها وتساير عصرها في آنٍ واحد.»١٠ وقد واتته هذه الفرصة خلال السنوات الخمس التي قضاها في جامعة الكويت، فكانت سنوات خصبةً ومباركة. أما أنها خصبةٌ فهذا ما تكشف عنه ثلاثيته الشهيرة «تجديد الفكر العربي»، و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، و«ثقافتنا في مواجهة العصر …»١١ أما أنها مباركةٌ فهذا ما عبَّر عنه مفكرنا بقوله «عندما تلاقت رأس السنة الهجرية مع رأس السنة الميلادية في يومٍ واحد، كان اجتماعهما مصدر نشوةٍ متفائلة عند صاحبنا دون أن يقع على سببٍ واحد يُبرر نشوته وتفاؤله …»١٢ لكنه مع ذلك «استبشر خيرًا، وإذا بذلك اليوم نفسه يحمل إليه برقية من جامعة الكويت تطلب استعارته لفترة … وهداه الله سبحانه إلى المسارعة بالقبول، وهناك في جامعة الكويت وجد الفرصة سانحةً لأداء ما كان شديد الرغبة في أدائه؛ وهو أن يتعقَّب طريق «العقل» في تراث العرب الأوائل؛ وذلك لأنه كان على يقينٍ من رجحان العقل في كثيرٍ جدًّا مما يشغل به السلف من مشكلاتٍ تتصل بالحياة الثقافية. وإذا كان كذلك، فلا ينبغي علينا إلا أن ندعو المعاصرين من أبناء الأمة العربية إلى مواصلة السير في طريق الآباء …»١٣

(٢) زكي نجيب محمود في الكويت١٤

وصل مفكرنا إلى الكويت في سبتمبر ١٩٦٨م، ولم ينفك منذ اللحظة التي هبط فيها أرض الكويت، ليعمل أستاذًا بكلية الآداب، عن العمل الدائب، والنشاط المتصل، فقد كان شُعلةً متوقدةً، رغم أنه تجاوز الستين من عمره، قراءة وكتابة، فقد راح يلتهم تراث آبائه ويعب صحائفه عبًّا سريعًا: «والسؤال ملء سمعه وبصره: كيف السبيل إلى ثقافةٍ موحدةٍ متسقة يعيشها مثقفٌ عربيٌّ يحيا في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيه المنقول والأصيل في نظرةٍ واحدة؟١٥ فقد وجد آخر الأمر، في جامعة الكويت من الفراغ والإمكانات، ما جعله يُكرِّس حياته خمسة أعوام، يعكف فيها على هذا التراث ليخرج بمشروعه الثقافي، الذي عرضه في الثلاثية، فماذا كانت الإمكانات، المتاحة إلى جانب الفراغ النسبي؟ مكتبة كلية الآداب عامرةٌ بكتب التراث بكل فروعه يعبُّ منها كما يشاء، فإذا فرغ اصطحب زوجته إلى «كيفان» لإلقاء محاضراتها هناك.١٦ وينتظرها في مكتبةٍ زاخرةٍ هي الأخرى بعيون التراث، وهو يصف هاتين المكتبتين بقوله:١٧ «وجدتُ حولي مكتبةً جامعيَّة على درجةٍ كبيرة من الغنى، بما احتوت عليه من أصولٍ ومراجع، حتى رأيتني كمن وقف على شاطئ محيطٍ متسع الآفاق عميق الأغوار، قائلًا لنفسي دونك المحيط فاسبح إلى حيث شئت من شُطآنه النائية!» …١٨ ومن هنا كانت المشكلة التي وقف أمامها مُتحيرًا بين أرفف هاتين المكتبتين العامرتين بعيون التراث هي: «ماذا أختار من هذه المراجع التي تُعدُّ بالآلاف، وماذا أدع مطمئنًّا لما اخترت وما تركت؟»١٩
كانت خطته أن يستغل الفراغ النسبي الذي أتاحته له جامعة الكويت، في مراجعةٍ متأنيةٍ لعيون التراث العربي، لما يمكن أن يندرج تحت عنوان «الثقافة»، وهناك أخذ يجمع النصوص التي يراها دالةً على روح الثقافة العربية إبان ازدهار العقل العربي، وأصالة مبدعاته بعد نزول الإسلام، وبهذا النشاط الذي لم يفتر حقق مفكرنا ما أراد أن يحققه لنفسه؛ وهو أن ترتسم له لوحة متماسكة لمسيرة الثقافة العربية.٢٠ وكان في الطبيعي أن يكون نشاطه في الكتابة موازيًا لهذه القراءة النهمة لعيون التراث، فألقى عدة محاضرات في المواسم الثقافية لجامعة الكويت، كما شارك في المواسم الثقافية لرابطة الاجتماعيين، وغيرها من الروابط والمؤسسات الاجتماعية.
كذلك كانت إسهاماته بارزةً على صعيد الإعلام سواء في ميدان الصحافة أو الإذاعة أو ندوات التليفزيون في بداية السبعينيات، أما برنامج الإذاعة الكويتية الذي كانت تُقدمه تحت عنوان «حول الفكر العربي المعاصر» فقد شهد لقاءاتٍ فكريةً كثيرة مع مفكرنا، لا سيما عام ١٩٧٣م على وجه التحديد.٢١
ويمكن أن نسوق فيما يلي بعض النماذج من هذا النشاط:٢٢
  • (١)

    محاضرةٌ بعنوان: «طريقنا إلى فلسفةٍ عربيةٍ» ألقاها في الموسم الثقافي لجامعة الكويت في العام الجامعي ٦٨ / ١٩٦٩م.

  • (٢)

    محاضرةٌ بعنوان: «التحول العلمي وأثره في حركات الشباب وحياة القلق»، ألقاها في رابطة الاجتماعيين عام ١٩٦٩م.

  • (٣)

    محاضرةٌ بعنوان: «التكنولوجيا والحريات الأساسية»، ألقاها في الموسم الثقافي لرابطة الاجتماعيين عام ١٩٧٠م.

  • (٤)

    «التكنولوجيا كإحدى تحديات العصر»، محاضرةٌ ألقاها في الموسم الثقافي الثالث لرابطة الاجتماعيين عام ١٩٧٠م.

  • (٥)

    «دور بعض الشخصيات العربية في زيادة الفكر الإسلامي»، ألقاها في الموسم الثقافي لعام ١٩٧١م.

  • (٦)

    «الخصائص الحضارية للمجتمع المصري»، ألقاها في الموسم الثقافي الخامس لعام ١٩٧٢م.

  • (٧)

    «دور المفكر المعاصر في التنمية والتطور الحضاري»، ألقاها في الموسم الثقافي لعام ١٩٧٣م.

  • (٨)
    مجموعة لقاءات فكرية مع الأستاذ «رمضان لاوند» في برنامجه الإذاعي «حول الفكر العربي المعاصر» عام ١٩٧٣م.٢٣

وإذا نظرنا نظرةً فاحصةً إلى هذه المحاضرات لوجدنا أنها عرضت الكثير من أفكاره، التي ظهرت بعد ذلك في مشروعه الثقافي الذي عرضه في الثلاثية؛ فالمحاضرة الأولى «طريقنا إلى فلسفةٍ عربيةٍ» موجودة بنصِّها في ثلاثين صفحة (٢٥٧–٢٨٧)، في كتابه «تجديد الفكر العربي» تحت عنوان «ثنائية الأرض والسماء».

وقد بدأ في هذه المحاضرات بالحديث عن شيوع كلمة «الفلسفة» على ألسنة المثقفين، وطالب بتحديدها لكي نفهم بوضوحٍ ما الذي نعنيه بقولنا «فلسفة عربية»، وأوضح وسيلةٍ، في رأيه، لتحديد معنى الفلسفة أن نُفرِّق بين مستوياتٍ ثلاثة للإدراك؛ ففي المستوى الأول نعيش مع الأشياء من حولنا على نحوٍ مباشر، بحيث ندركها بحواسنا: نراها ونلمسها … إلخ، أما في المستوى الثاني فنحن نحاول الوصول إلى قوانين عامة، تضبط تلك الجزئيات التي خبرناها خبرةً مباشرةً في المستوى الأول، وتلك مرحلة العلوم المختلفة، أما في المستوى الثالث فنحن نبحث عن مبادئ مشتركةٍ بين هذه القوانين، وربما وجدنا أنها ترتدُّ كلها في آخر الأمر إلى مبدأ واحدٍ عام وشامل، وهذه العملية الفكرية هي «الفلسفة»، لكن الفلسفة لا تقتصر في عملها على استخلاص المبادئ المتضمنة في الفكر العلمي، بل يمتد هذا النشاط إلى الثقافة السائدة، فتكون مهمة الفلسفة في هذه الحالة «استخراج ما هو مضمرٌ في أحكامنا وأفكارنا واعتقاداتنا، لتنقلها من حالة الكمون إلى حالة الإيضاح والإفصاح والعلانية، لتسهِّل رؤيتها ومناقشتها»، ثم راح مفكرنا يضرب بأدواته التحليلية في ثقافتنا؛ ليستخرج لنا الأسس الكامنة في أفكارنا وسلوكنا، ثم صاغ هذه الأسس في «فلسفةٍ عربية مقترحة» سوف نعرض لها بعد قليل.

وفي المحاضرة الثانية عن «التحول العلمي وأثره في حركات الشباب»، يبدأ كعادته، بتحليل مصطلح «الشباب»، فيعرِّفه بأنه يعني «الجماعة الذين بلغوا وعيهم في الخمسينيات والستينيات، وهؤلاء هم الذين نتحدث عنهم».٢٤
لكنه يعود فيطرح مشكلةً جديدةً وهي أن الذين نشئوا في هذه الفترة فئاتٌ كثيرة جدًّا، منهم العمال، ومنهم الموظفون، ومنهم الطلاب … إلخ؛ ومن ثم فلا بد من تحديد أكثر لهذا المصطلح، وفي النهاية يختار فئةً واحدةً هم الطلبة. أما الحِكمة في هذا الاختيار؛ فهي أن الطلبة يمثلون نقطة تقاطع لجميع فئات المجتمع: فهناك الطالب ابن العامل، وهناك الطالب ابن الوزير، وهناك الطالب ابن التاجر، وابن الطبيب … إلخ، وهم يجلسون جميعًا جنبًا إلى جنبٍ، يجمع بينهم عنصرٌ مشتركٌ هو أنهم «طلبة»، وفضلًا عن ذلك فالطلبة فئة تستهلك ولا تنتج، وهي تقريبًا، الفئة الوحيدة في المجتمع التي تستهلك فقط، ومِن ثَمَّ فالطالب يعيش حياته بغير مشكلات، كما يتعرَّض له رجل العمل من ضغوط؛ ولهذا فهو يستطيع أن يُعطيك الفكرة الواضحة.٢٥
ثم يقوم بعد ذلك بتحليل مصطلح «التحول العلمي»، ويرى أن حياة الإنسان تحولت في خمسين عامًا بالعلم، بما لم تتحوله منذ إنشاء الهرم الأكبر منذ ستة آلاف سنة، فأثار هذا التحول السريع قلق الشباب في العالم كله، فظهرت: «حركات الشباب» المتمردة في العالم، كما ظهر ما يُسمَّى «بالشباب الغاضب» في بريطانيا، وفرنسا، وأمريكا … إلخ، وكان سبب ثورتهم أن تقدم الأجهزة والأدوات وتزايدها أدى إلى ازدياد التشابه بين الناس، وجعل التمايز بينهم يضيق لدرجة أنه كاد ينعدم: «وهذا هو لبُّ ثورة الشباب الآن لا يريد أن يتجانس كل المجانسة، يريد أن ينتشل ذاته بمفرده من هذا التجانس، وهذه هي الدعوة في صميمها …»٢٦ أما شبابنا نحن فالأمل ألا يقع في كثيرٍ مما وقع فيه الشباب الغربي؛ لأننا من حسن الحظ متحررون حديثًا، ونأمل في المستقبل، هم في السفح المنحدر ونحن ربما يريد لنا الله أن نكون في السفح الصاعد، لأجل ذلك نحن عندنا حياة تُشجِّعنا على أن نتفاءل أكثر مما نتشاءم، لكن ينبغي ألا ننسى أن واجب شبابنا وواجبنا جميعًا هو أن ندخل في حياة العصر، لا أن نكتب عنه في الصحف، ونتكلم عنه في الندوات فحسب، يجب أن نعيش هذا العصر: نعيشه بالعلم لا بالكلام؛ أعني أن نتخلص من ثقافة اللفظ لننتقل إلى ثقافة الأداء.٢٧ وهو موضوعٌ سوف يقف عنده في كتابه تجديد الفكر العربي، لا سيما في القسم الذي جعل عنوانه «من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء» (ص٢٢٤–٢٤٢).

وفي محاضرته عن «التكنولوجيا والحريات الأساسية» نراه يبدأ كعادته، بتعريف هذين المصطلحين، وهو يُعرِّف التكنولوجيا بأنها امتدادٌ للجسم البشري وما فيه من أجهزة: فيه بصر، لكن البصر الإنساني محدودٌ، فأمده بأي أداةٍ أستطيع أن أصل إليها بالعلم من ميكروسكوب إلى تلسكوب … إلخ، فيه سمع، لكن السمع محدودٌ، فأمط هذا الجانب من جسم الإنسان بحيث أستطيع أن أسمع من بعد آلاف الكيلومترات عن طريق الراديو، والتليفون، والتليفزيون … إلخ، وهي كلها ضروبٌ من التطبيقات الفنية للعلم، وهي تطبيقات لم تبدأ بشكلٍ موسَّع، تقريبًا، إلا بعد الثورة الصناعية في أواخر القرن الثامن عشر، ومن ذلك الوقت أخذت صورة العلم تتغير من حيث أنه لم يعد علمًا نظريًّا، وإنما أصبح العلم تطبيقًا.

أما الحريات الأساسية فإنه يقول لنا أن تصبح الحرية أساسية عندما تتصل بطبيعة الإنسان اتصالًا مباشرًا. وطبيعة الإنسان في التراث الغربي منذ اليونان هي «العقل» أو «الفكر النظري» أي الفكر التأملي، ولو صحَّ ذلك لكانت الحرية الأساسية هي حرية التفكير ثم يتفرع عنها بقية الحريات. لكن مفكرنا يرفض أن تقتصر طبيعة الإنسان على «العقل» وحده: بل مدَّها لتشمل «العقل، والوجدان، والإرادة»، وبذلك تكون الحريات الأساسية هي حرية التفكير، وحرية التعبير، وحرية الفعل، ثم يضيف إليها حرية العقيدة لتصبح هناك أربع حريات أساسية. أما تأثير التكنولوجيا تقوِّي القوي وتضعف الضعيف؛ فالإذاعة والتليفزيون … إلخ ليست دائمًا حدًّا من الحريات، وإنما هي تزيد من حرية من يمتلكها، ومن يملك التصرف فيها، وتحدُّ من حرية من يتقبَّل تأثيرها، وقل مثل ذلك في أدوات الحرب، وأدوات الصناعة، وأدوات السفر، وأدوات السرعة وفي أي أداةٍ تكنولوجيةٍ أخرى.

وفي محاضرته عن «الخصائص الحضارية للمجتمع العصري» يبدأ بتحديد معنى «المجتمع العصري»، ويرى أن الأساس الأول المشترك في المجتمع العصري هو الحياة العلمية التكنولوجية؛ فالحياة العلمية بهذا المعنى الجديد لا فرق بين بلادٍ اشتراكيةٍ، وبلادٍ رأسمالية أو كائنة ما كانت، ولا بد لنا أن نكون نحن أبناء الأمة العربية على وعيٍ بأنفسنا، وأين نحن من عصرنا، فالعلم أصبح لغته هي الأجهزة لا الكلمات والألفاظ، وهذا يعني أن علينا أن ننتقل من حضارة اللفظ إلى حضارة الأجهزة (وهي فكرة يؤكدها مرارًا كما سبق أن رأينا، وسوف يعرض لها في «تجديد الفكر الروحي»، ص٢٢٤ وما بعدها). وينبغي علينا ألا نظن أننا دخلنا عصرنا مهما وضعنا في منازلنا أو معاملنا من أجهزةٍ؛ لأن الأجهزة ليست أجهزتنا، كل ما في الأمر أننا دفعنا فاتورة الحساب عندما اشتريناها، وهذه الفكرة ينبغي ألا تزول من أذهاننا حتى لا ننخدع في أنفسنا، فلكي نعيش الحياة المصرية لا بد أن نُشارك في صنع العلم، وأن نشارك في صنع الأجهزة التي تعمل على تقدم العلم، ولكن لا تعب ولا عناء في أن نذهب إلى مصانع أوروبا وأمريكا ونشتري، في جيوبنا المال وعندهم الأجهزة فنشتري. ومن سمات المجتمع العصري أيضًا أن تسير أموره على التخطيط المبني على العلم، ومن سماته أيضًا الحرية الإيجابية القادرة على الخلق والإبداع.

لا نريد أن نتتبع بالتحليل جميع محاضراته وندواته وأنشطته الثقافية في الكويت، بل يكفي أن نقدم النماذج التي أسلفناها، وإن كنا نريد أن نختتم هذا القسم بتلخيص الأفكار الأساسية في أحاديثه في إذاعة الكويت، لا سيما في برنامج «مع الفكر العربي المعاصر»، الذي شارك مفكرنا في حلقاتٍ عديدةٍ منه، حتى أطلق عليه المذيع لقب «الضيف الدائم للبرنامج»، ويكفي أن نعرض لمجموعةٍ من الأفكار الهامة على النحو التالي:
  • أولًا: راح مفكرنا في هذه الحلقات يُشدِّد على تخلُّف المجتمع العربي، وربما كان حديثه قاسيًا بعض الشيء، لكنها «قسوة المواطن بحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكَّب عن جادة الطريق»، كما سبق أن رأينا،٢٨ فهو في هذه الأحاديث يذهب إلى أننا نفاخر، كذبًا، بأننا في الطليعة؛ مع أننا ينبغي ألا تخدعنا المظاهر، فلو أنني رأيت «دون كشوت» يلبس الدروع لا أقول عنه أنه شجاعٌ لمجرد أنه قد كسا جلده بهذه الدروع، أو أمسك بالسيف في يده، لأنني أعلم أن وراء هذه الدروع شخصًا هزيلًا جبانًا مترددًا، ينبغي عليَّ أن أحكم بما هو داخل هذه الدروع، ولا أنخدع بالمظاهر.

    نحن متخلفون ويكفيك أن تنبش أي ظاهرٍ في أي قطاعٍ من قطاعات الحياة عندنا لترى ما وراءه من تخلف، خُذ مثلًا الجامعات العربية من أولها إلى آخرها تجد أنه لا شيء ينقصها من الظاهر؛ فهناك الطلاب، وقاعات الدرس، ومكتبًا وأساتذة … هناك ما تريد العين أن تراه، ومع ذلك انظر إلى الطالب بعد تخريجه، وقبل تخريجه، تجده يختلف عن الطالب في أوروبا وأمريكا؛ لأن المادة العلمية عندنا «تُحفظ» فقط، حتى ولو كانت من الفزياء أو الكيمياء … إلخ، فأنا أكسو الظاهر بلغوٍ كيميائيٍّ، وأظن أنني أصبحت من الكيميائيين، على حين أنني من الداخل لا أستطيع أن أُحرِّك ساكنًا بكل الكيمياء التي أعرفها، وعندما يجدُّ الجد نستحضر الخبراء من الخارج لوضع المشروعات الكبرى، أو للتخطيط العلمي وما إلى ذلك، ومعنى ذلك أنني تعلمت في الظاهر ولم أتعلم في الباطن.

  • ثانيًا: لكل عصرٍ مشكلاته التي تختلف قليلًا أو كثيرًا عن العصور الأخرى، وبهذا المنظور أستطيع أن أقول إن مشكلاتنا اليوم تختلف عن مشكلات السلف. قد يكون هناك خيوطٌ مشتركة بيننا وبينهم، لا سيما فيما يتعلق بموضوعات التعقيد، لكن المشكلات الثقافية التي شغلتهم ليست هي نفسها مشكلاتنا الآن، خُذ مثلًا مشكلة «خلق القرآن» التي أتى بها علماء الكلام في القرن الثاني أو الثالث، نجد أنها نشأت لظروفٍ سياسيةٍ أو اجتماعية لا علاقة لنا بها الآن؛ ومن ثم فليس للمسلم الآن أن يفكر في هذا الموضوع، وإنما عليه أن يُسقطه من حسابه، أضف أن هناك مشكلاتٍ كثيرة جدَّت في ميدان الاقتصاد، وفي ميدان العلم الطبيعي وغير الطبيعي، وفي ميدان السياسة وفي ميدان الحروب … إلخ، بل حتى في ميدان الأدب نفسه، هناك أسئلةٌ جديدة مطروحة، فليس في استطاعتك أن تسأل المتنبي، مثلًا، كيف تكون المسرحة؛ أتكون تصويرًا للواقع، أو من أدب اللامعقول؟ وهل تكون المسرحية رمزيةً أم تكون واقعيةً؟! هل تكون المسرحية شعرًا أم نثرًا؟ … إلخ.
  • ثالثًا: في حلقةٍ أُذيعت يوم الاثنين ٥ / ٣ / ١٩٧٣ دار الحوار حول «مشكلة الحرية»، وذهب مفكرنا إلى أن فكرة الحرية في العالم العربي، لا سيما الحرية الاجتماعية، هي فكرةٌ حديثةٌ، ظهرت وتبلورت من خلال اتصال العالم العربي بالثقافات الغربية، ثم جاء المستعمر فتحولت فكرة الحرية إلى التحرر من الاستعمار؛ إذ كان من الطبيعي أن توجه طاقتنا أولًا نحو هؤلاء المستعمرين لنتخلص من قيودهم، ثم ننصرف بعد ذلك إلى تنظيم مجتمعنا؛ ولهذا كانت المشكلة الرئيسية بعد ذلك هي مشكلة الحرية السياسية. ولن أجد في تراث الآباء والأجداد حلولًا لها؛ لأن فكرة «الحرية» عندهم كانت مختلفة تمامًا، إذ كانت تُقال في مقابل «الرق»؛ فالفرد من الناس إما أن يكون «حرًّا» أو عبدًا مملوكًا لغيره، وقد تنصبُّ على حرية الإرادة أو العلاقة بين الفعل الإلهي والفعل البشري. أما في ثقافتنا الآن فقد اكتسبت الحرية أبعادًا جديدة لم تكن لها من قبل.
  • رابعًا: ويتفرع عن مشكلة الحرية الاجتماعية مشكلة أخرى مدنية هي «حرية المرأة»، فحرية المرأة في المفهوم الحديث تختلف عن مفهوم حرية المرأة في القديم الذي كان يضعها وضعًا لم يعد يصلح لها، فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امرأة الأمس؛ فهي اليوم طبيبة ومهندسة، ومدرسة، ومحاسبة … إلخ.

وهذه الأفكار التي نثرها مفكرنا في محاضراته وندواته وأحاديثه الإذاعية، تُمثل خيوطًا سوف تتجمع؛ لتنسج لنا مشروعه الثقافي في «تجديد الفكر العربي».

(٣) البحث عن صيغةٍ جديدةٍ

بدأت البذور التي تضمنتها المرحلة الأولى، وكانت في حالة كمون في المرحلة الثانية، تظهر، وتنمو، وتنضج عندما وجدت التربة الصالحة، والمناخ المناسب خلال السنوات الخمس التي قضاها في جامعة الكويت، فراح مفكرنا يبحث عن صيغةٍ جديدةٍ تجمع «التدين الخالص» مع «العقل الخالص»، في إطار مشروعٍ ثقافيٍّ يستهدف «تجديد الفكر العربي».

على أننا ينبغي أن نحذر المبالغات التي يقع فيها بعض الباحثين وهم يبحثون عن تفسيرٍ، يبرزون به اتجاه مفكرنا إلى هذه الصيغة الجديدة في المرحلة الثالثة من تطوره الروحي، فعلى سبيل المثال لم يحدث قط أن «تحوَّل» زكي نجيب محمود: من العقل إلى الإيمان، ومن العلم إلى الدين، ومن الغرب إلى الإسلام، ومن الآخر إلى الأنا …»٢٩ وإنما كان بحثه عن هذه الصيغة الجديدة محاولة للجمع بين أفكار المرحلتين السابقتين، اللتين تمثل فيهما «التدين الخالص» الذي مال به نحو التصوف من ناحية، و«العقل الخالص» الذي سيطر على ذهنه في المرحلة الثانية. وهي محاولةٌ ظهرت من قبل، على استحياء، في كتابه «الشرق الفنان»، الذي ظهر عام ١٩٦٠م، قبل النكسة بسبعة أعوام، عندما جمع بين طرفين قصيين «خفقة القلب» و«تحليل العقل». وعلينا أن نتذكَّر دائمًا، أن بذور هذه المرحلة كانت موجودةً في بداية تطوره الروحي، حيث يقول عن نفسه أنه كان «عقلًا» يبحث لنفسه عن طريق، ويلحُّ في صدره سؤالٌ هو: هل من سبيلٍ يجمع عدة أطراف في رقعةٍ واحدةٍ: يجمع العلم والدين، والتصوف والحرية؟ أليس من سبيلٍ يجمع مادةً روحيةً ويجمع عقلًا إلى غريزة؟!»٣٠ ولم تكن تلك أسئلة عابرة خطرت له في مرحلة الشباب ثم اختفت، وإنما هي تعبِّر عن مشكلاتٍ حادة ظلت تلحُّ عليه في وطأةٍ ضاغطةٍ وانثيالٍ متدارك عنيد؛ فهو يروي عن نفسه في بداية تجديد «الفكر العربي» نفس المشكلة التي أحسَّها بإلحاح: السؤال الذي أحسست بضغطه وإصراره خلال أعوامي الخمسة الأخيرة، فهو الذي يسأل عن طريقٍ للفكر العربي المعاصر يضمن له أن يكون عربيًّا حقًّا ومعاصرًا حقًّا … فقد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية والمعاصرة تناقضًا أو ما يُشبه التناقض؛ ولذلك يجيء السؤال الذي يلتمس طريقًا يجمع الطرفين في مركبٍ واحد …»٣١ إذ المسافة الزمنية بين السؤالين تكاد تقترب من نصف قرن، جاز لنا أن نقول، في اطمئنان، إن هذه الأسئلة تضرب بجذورٍ عميقةٍ في شخصية زكي نجيب محمود نفسها، التي تجمع في آنٍ واحد بين «العقل والوجدان» بين «عالم المنطق والأديب» بين «جفاف التحليل العقلي وشفافية الفنان»، وهي شخصيةٌ تتضح معالمها في كل ما كُتب، ابتداء من المقالات الدينية المبكرة، مرورًا «بالمنطق الوضعي» و«خرافة الميتافيزيقا»، حتى ثلاثيته الشهيرة التي تشكَّلت فيها الصيغة الجديدة التي كان يبحث عنها، وإني لأزعم أنه استشعر المشكلة في أعماقه قبل أن يدركها في مجتمعه، ولعل ما كان يُحيِّره ويقلقه هو كيف استطاع أن يجمع بين هذين الطرفين القصيَّين في شخصٍ واحد بغير تناقضٍ؟!
ومن المبالغات التي ينبغي علينا أن نحذرها أيضًا، وهو يسعى سعيه الدءوب بحثًا عن صيغةٍ جديدةٍ؛ التأويل المسرف للعبارات التي يقولها أحيانًا عن نفسه من أنه كان يجهل التراث العربي، فنقول مثلًا: «إنه اتجه، في المرحلة الثانية من حياته الفكرية إلى الغرب، جهلًا منه بالتراث، والناس أعداء ما جهلوا، ثم اكتشف الثقافة العربية مع تطور الحركة القومية، فوجد أن العدو هو نفسه، صاحب الحضارة، وتعاطف مع أنصار هذه الثقافة العربية التي لم يعرفها إلا لمامًا، ثم جاءت مرحلة الكويت للاطلاع على المكتبة العربية».٣٢ فأمثال هذه العبارات تُبالغ كثيرًا في تأويل ما ذكره مفكرنا في مقدمة «تجديد الفكر العربي»، من أنه «لم تتح له الفرصة التي تُمكِّنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل …»٣٣ فهو أولًا: لم يتجه إلى الغرب جهلًا منه بالتراث، بل إدراكًا منه لما في نسيج مجتمعه من ثقوبٍ وثغراتٍ، أشعر معها أننا بحاجةٍ إلى عقلانية الغرب، وقيمه الاجتماعية: كالعدالة، والمساواة، والحرية، وغيرها مما يصون كرامة الفرد وإنسانيته. وهو ثانيًا: كان على علمٍ جيد بالتراث، قبل هذه المرحلة، ونحن كثيرًا ما نتغاضى عن عباراتٍ هامةٍ تكشف عن إلمامه الجيد بالتراث؛ فهو يقول مثلًا: «كانت حصيلته الغزيرة عن الثقافة العربية مفرقةً أشتاتًا، لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط مكان وزمان وعلاقات تضم جانبًا منه أي جانب، وأنه ليتعذَّر على حامل الأشتات المفرقة، مهما كثرت تفصيلاتها، أن يكون لنفسه «وجهة نظر» يتوحَّد فيها المشهد، ويصبح في مقدور المشاهد أن يكون له رأيٌ فيما يرى …»٣٤ فالمسألة، إذن، ليست جهلًا بالتراث بقدر ما هي محاولة لسلك هذه «الحصيلة الغزيرة» في عقدٍ واحد يعبر عن «وجهة نظر».
وفضلًا عن ذلك كله فإن الباحث المنصف لا يمكن أن يُسقط من حسابه دراساته السابقة للتراث: تحليله الرائع لعينية ابن سينا (وقد سبق أن عرضنا لها)، ودراسته لديوان ابن عربي «ترجمان الأشواق».٣٥ قبل أن يكتب عن «ابن رشد في تيار الفكر العربي»، كما أنه أصدر كتابًا ممتعًا عن «جابر بن حيان» عام ١٩٦١م قبل رحلته إلى الكويت، أضف إلى ذلك أنه أُعير إلى الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليعمل أستاذًا للفلسفة الإسلامية في العام الجامعي ٥٣ / ١٩٥٤م في جامعتَي «كارولينا» و«بولمان» (بولاية واشنطن)، حيث قضى فصلًا دراسيًّا في كلٍّ منهما. فمن الضلال إذن أن نتصيَّد عبارات قالها الرجل، بتواضع العلماء، يُعبِّر بها عن نهمه للمزيد من قراءة التراث: فنقول إنه لم يكن يعرف شيئًا عن هذا التراث قبل وصوله إلى الكويت.
عبَّرت المرحلة الأولى عن سيطرة المشاعر الدينية، في حين كانت المرحلة الثانية يسودها «العقل الخالص» الجاف، غير أن مفكرنا لم يتخلَّ قط عن أيٍ منهما: لم يتخلَّ عن «إيمانه» وتمسكه بالعقل والعلم؛ ومن ثم راح يبحث عن صيغةٍ جديدةٍ على هيئة مشروعٍ ثقافيٍّ؛ يجمع فيها بين هذين الجانبين؛ فهو يردد في كثيرٍ من كتبه، بصورةٍ قاطعةٍ وحاسمةٍ، أن العالم الإسلامي، لن تقوم له قائمةٌ ما لم يُسهم في الكشف العلمي عن أسرار الكون على نحوٍ لا يقتصر على مجرد العلم في ذاته بتلك الأسرار، بل يجاوز ذلك إلى تحويل العلم إلى عملٍ في مجالات التطبيق، «وإلا فماذا تكون الدلالة الحقيقية لكون الأمر بكلمة «اقرأ»، أول ما نزل به الوحي من القرآن الكريم؟»٣٦ فهو يريد من «المسلم» ألا يكتفي بتأدية أركان الإسلام الخمسة، بل أن يعلم أن هناك إلى جانب الأركان غرفًا وجدرانًا، ومن تلك الغرف أن يكون المسلم عابدًا بعلمه، واستخدامه لذلك العلم في السلم والحرب معًا.٣٧ وبذلك ينفتح الطريق أمامنا نحو الوسيلة التي تنهي بها مأساتنا.٣٨ فالصيغة المقترحة «أن تكون مع العلم بقوة الإيمان»؛ فالتدين الذي أراده فكرنا لم يعد نزعةً إلى العزلة والتصوف، بل هو التدين الذي يجمع معه العقل في صعيدٍ واحد، أو هو التدين المستنير بنور العقل؛ فهو لم يتخلَّ في أي مرحلةٍ من مراحل حياته عن محاربة النظرة اللاعقلية، أو اللاعلمية، إذا تجاوزت مجالها إلى ظواهر الطبيعة وسلوك الإنسان، وهي النظرة التي ظلت تتحكم في حياتنا العامة حتى أمسكت برقابنا.
وعلى ضوء هذه الصيغة الجديدة التي كوَّنها مفكرنا خلال خمس سنوات، قضاها مجتهدًا في تهيئة الأسباب التي تمكِّنه من أن يكون له الحق في إبداء رأيٍ في التراث العربي الذي يعرضه على الناس؛ أقول على ضوء هذه الصيغة التي بلغت تمام نضجها في الأعوام الأولى من السبعينيات، أخذ يكتب فيما تصوره من وجوب ملء هذه الصيغة بمشروعٍ ثقافيٍّ للمواطن العربي بصفةٍ عامة، والمواطن المثقف بصفةٍ خاصة، وهو مشروع لا بد أن يدمج جانبين في كيانٍ واحد، فمن التراث ما لا بد أن يبقى ليضمن للعربي استمرارية تاريخية في حياته الثقافية، وهي استمرارية ضرورية لتظل للعربي هويته في جوهرها.٣٩
ومنذ عامه السبعين أخذ مفكرنا يصدر كتابًا إثر كتابٍ، ومقالًا بعد مقال ليشرح ما يراه من الصيغة الثقافية المطلوبة، التي تضفر فيها خيطين معًا، أولهما الجانب الذي استقاه من ثقافةٍ أصيلةٍ زُرعت في أرضٍ عربية وأثمرت، وثانيهما جانبٌ متصل بالعلوم في صورتها الجديدة، والمنهج التقني المميز لهذا العصر. فهذا كله يجب استزراعه في أرضنا من شتلاتٍ نستوردها من مراكز الحضارة الجديدة في الغرب.٤٠

(٤) تطهير الأرض قبل إقامة البناء

بدأ زكي نجيب محمود تطوره الروحي بمرحلةٍ يغلب عليها الوجدان والمشاعر الدينية، ويتوارى العقل، ثم انقلبت الصورة فسيطر العقل في المرحلة الثانية، وتوارت المشاعر الدينية إلى حين (وإن ظل الوجدان بارزًا في المقالة الأدبية)، ثم عانى في مرحلةٍ ثالثةٍ من صراعٍ اتخذ صورًا شتى؛ فهو أحيانًا صراع الجمع بين العقل والوجدان، وأحيانًا أخرى صراع بين ثقافتين: ثقافة وافدة لا يملك إلا أن يُعجب بما فيها من عمقٍ، ومن قدرةٍ على التطور والنمو، وثقافة تمتد جذورها في أعماق ماضينا، ولكن علاقتها بالحاضر تزداد ضعفًا مع الأيام. ويشعر القارئ أن كل كلمةٍ يصور بها هذا الصراع، في الثلاثية، إنما تُعبر بأمانةٍ عن معاناةٍ حقيقيةٍ وتجربةٍ شخصيةٍ صادقةٍ.٤١
كانت مشكلة التوفيق، إذن، بين «العقل والوجدان» بين «العلم والدين»، بين الثقافة الوافدة التي يلعب فيها العقل دورًا رئيسيًّا، وثقافتنا العربية التي يغلب فيها سيطرة الوجدان، هي شغله الشاغل طوال حياته، وهي ربما نبعت في الأصل من شخصية زكي نجيب محمود نفسه؛ فهو رجلٌ يحمل في صدره حسًّا فنيًّا مرهفًا من ناحية، ثم هو يحمل، من ناحيةٍ أخرى، رأسًا ينطوي على عقلٍ تحليليٍّ صارم. ومن هنا فقد كان في الأعم الأغلب يُعاني هذا الصراع في أعماقه، قبل أن يستشعره في ثقافة مجتمعه. ولقد أراد في الثلاثية (ابتداءً من «تجديد الفكر العربي») أن يحل هذا الصراع في مركبٍ يجمع الطرفين معًا، بحيث يدمج التراث العربي القديم في حياتنا المعاصرة، لتكون لنا حياة عربية ومعاصرة في آنٍ معًا.٤٢ فراح يبحث عن طرائق السلوك التي يمكن نقلها من الأسلاف العرب، بحيث لا تتعارض مع طرائق السلوك التي استلزمها العلم المعاصر والمشكلات المعاصرة.٤٣
ومفكرنا مثل كثير من الفلاسفة؛ ديكارت وبيكون والغزالي … إلخ، يعمد إلى تطهير الأرض مما فيها من ألغامٍ قد تنسف البناء من أساسه لو أقمناه عليها؛ ومن هنا انقسم مشروعه إلى جانبٍ سلبيٍّ، وجانبٍ إيجابي، ويتمثل الجانب السلبي في ثلاثة عوامل معوِّقة، تشدُّنا إلى الوراء وتمنعنا من الانطلاق، وهي «أغلال» تغلُّ أقدامنا وتعوقها عن السير «بل تعمل فينا كأبشع ما يستطيع فعله كل ما في الدنيا من أغلالٍ وأصفادٍ …»؛٤٤ ولهذا فمن العبث أن نرجو نهوضًا قبل أن نحرِّر أنفسنا من تلك القيود والأصفاد؛ لتنطلق عقولنا نشطةً حرة، وهو يكتفي بالإشارة إلى ثلاثة عوائق هي:

أولًا: احتكار الحاكم لحرية الرأي

يشير مفكرنا إلى قبةٍ أساسيةٍ ويسمِّيها «أس البلاء»، وهي أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يدٍ واحدة، ولقد كانت تلك هي الحال في جزءٍ من تراثنا هو الجزء الذي ندعو إلى طمسه ليموت … فتاريخنا الطويل يعبِّر، في الواقع عن مأساةٍ لحرية الفكر، وذلك بسبب اجتماع السيف والرأي في يد الحاكم، فنراه يقتل المفكر لرأيٍ أعلنه، أو يكتفي أحيانًا بأن تكون الفكرة قد دارت في سريرة الخصم دون أن يعلنها أو ينطق بها، على نحو ما كان موقف الخليفة المهدي من بشار الشاعر.٤٥ وهناك الكثير من الأمثلة على إعاقة حرية التفكير، وإعلان الرأي بسبب جبروت الحاكم وسطوته، فهناك المحاكمة التي أجراها إسحاق بن إبرايم ليمتحن القضاة والمفكرين في مسألة «خلق القرآن»، حيث جمع إسحاق الفقهاء والقضاة، ومنهم أحمد بن حنبل وقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، ثم توجَّه إليهم بالأسئلة واحدًا واحدًا: فمن تمسَّك برأيه قُتل، ومن استسلم وجعل شعاره «أننا نأخذ بما يأمرنا أمير المؤمنين» فقد نجا، والمعارضون ليسوا مجرد مخالفين للحاكم في الرأي فحسب، بل هم من حشو الرعية، وسفلة العامة …٤٦

ويسوق مفكرنا الكثير من الأمثلة: الحلاج المتصوِّف، بعد بشار الشاعر، ومن الفقهاء أحمد بن حنبل، وبشر بن الوليد، ومن المفكرين الجعد بن درهم، وابن المقفع وغيرهم وغيرهم.

وينتهي مفكرنا إلى أنه لم يكن في ساحة الفكر عند الأسلاف «حوار» حر إلا في القليل النادر، وفي مواقف لم تكن بذي خطرٍ كبيرٍ على سلطة الحاكم، فهذه الساحة «… لم تكن تعلو فيها نخلة واحدة، أو قلة من النخيل، ليحيط بها كلأ قصير، فإذا ما دفعت حرارة التربة ذلك الكلأ أن يرتفع برءوسه، جذَّت رءوسه لتظل قريبة من مواضع الأقدام …»٤٧

ثانيًا: سلطان الماضي على الحاضر

سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة سيطرة الأموات على الأحياء، ومهما كان إجماع السلف على صدق فكرة، فإن ذلك لا يجعلها صادقةً، أو كما قال ديكارت: «إن إجماع الكثرة الغالبة من الناس لا ينهض دليلًا يُعتدُّ به لإثبات الحقائق التي يكون اكتشافها عسيرًا»، فنحن لا نصل إلى الحقيقة بعدِّ الأصوات المؤيدة، فإن كانت كثيرة فهي حقيقةٌ وإلا فهي باطلٌ!

وفضلًا عن ذلك فإن سيطرة الماضي على الحاضر قريبة الشبه، مما أطلق عليه فرانسيس بيكون «أوهام المسرح»، وصوَّر فيها ما للموتى من تأثيرٍ قويٍّ في نفوس الأحياء، بما لهم من شهرةٍ واسعة تملأ النفوس بالرهبة؛ مما يحول دون تقدم الفكر أو تبديل أوضاع الحياة، لا سيما إذا توهَّمنا أن كل ما هو قديم «معصومٌ من الخطأ»، فعندئذٍ تنسدل الحجب الكثيفة بين الإنسان وبين ما قد جاءت به الأيام من تطورات العلم والمعرفة، وماذا يضيف الأحياء إلى كتب التراث التي علتها مسحةٌ من قداسة سوى شروح واجترار؟ … وهكذا نكسو هذه الكتب بالجلال والرهبة، بحكم أنها تراثٌ هبط على الناس من أسلافهم الميامين: «ولم يكن على المفكر، عندئذٍ، إلا أن ينكبَّ على تلك الصحف انكبابًا حتى يحللها لفظًا لفظًا …»٤٨ وهي في معظمها لا تضيف في النهاية حرفًا واحدًا جديدًا، بل تكتفي بالشرح، فهي، كما قلنا، شروحٌ ثم شروح على الشروح، وتعليق، وتعليق على التعليق: «ولقد عني القوم، وما نزال في أثرهم نعنى، بعمليتَي التلقن و«التلقين»؛ لأنها هي عندنا سلف وخلف على حدٍّ سواء، التعلم والتعليم …»٤٩ فالعلم كله عندنا «يُلقَّن» للمتعلم، فإذا نبغ هذا المتعلم ليصبح، مثلًا، أستاذًا بإحدى الجامعات «أذنوا له بالتلقين»، على نحو ما كانوا يفعلون مع مشايخ المساجد في العصور الوسطى؛ فالحفظ والتلقين الذي لا يزال يسيطر على مناهج التعليم عندنا حتى الآن، أثرٌ من سيطرة مناهج الماضي وطرقه على الحاضر.

ثالثًا: تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات

ثالث العوامل المُعطِّلة لتقدمنا، والمقيِّدة لعقولنا، والمكبِّلة لأرجلنا، هو الميل الشديد الذي نحسُّه نحو أن تكون قوانين الطبيعة في أيدي نفرٍ من «الصالحين»، الذين ينصرف «صلاحهم» إلى تعطيل أي قانونٍ من قوانين الطبيعة حسب مشيئتهم. والخطير في الأمر أن هذا الاعتقاد لا يقتصر على سواد العامة، بل ينصرف إلى العلماء أنفسهم، علماء الكيمياء، والفزياء، والنبات، وطبقات الأرض … إلخ في قلب جامعاتنا «فأسلافنا السذاج إبان عصور الضعف، وأقراننا المعاصرون في عصر العلوم، كلاهما سواء في قبول ما يُحكى لهم من أنَّ مِن ذوي النوايا الطيبة، والقلوب المؤمنة، من يطير في الهواء بلا أجنحةٍ، ومن يسير على الماء بلا حوامل. كلاهما سواء في قبول تصديق ما يُحكى لهم من قدرة أصحاب الكرامات، على أن يغرفوا من وعاءٍ صغيرةٍ على النار طعامًا، يكفي ألفًا من عباد الله الجائعين، وأن تخرج لهم الطيور الخضر من العدم؛ لتظلل رءوسهم إذا اشتدَّ بهم الهجير … كلاهما سواء في تصديق ما يُحكى لهم من القوة السحرية، لكلماتٍ تُكتب أو تُقال فإذا العليل صحيحًا مُعافى، وإذا المهزوم غالبًا منتصرًا … وإذا الرزق كثير والخير وفيرٌ بغير عناء العمل …»٥٠
ولا بأس هنا أن نورد اعتراضًا للزميل د. حسن حنفي، على النظر إلى هذا العمل على أنه معوقٌ للانطلاق، يقول: «إن تعطيل القوانين عن طريق الكرامات صحيحٌ عند فريق خاصة الأشاعرة، لكنه غير صحيحٍ عند فريق آخر وهم المعتزلة خاصة أصحاب الطبائع، وعند ابن رشد … إلخ، فلماذا الانتقاء حتى نبدو غير علميين، لصالح التراث الغربي العلمي الذي يربط بين الأسباب والمسببات …؟»٥١

غير أن الدكتور حسن حنفي هنا يخرج عن الموضوع تمامًا، فهو يصور «هذا العائق» على أنه كان رأيًا في الماضي، قالت به فرقةٌ من المتكلمين ورفضته أخرى …! ونُسي، أو أُهمل، ما بدأ به مفكرنا من أن هذا العامل المعوِّق ما زال قائمًا بيننا حتى اليوم، وربما يجهل أصحابه الفرق التي أيَّدت والتي عارضت في آنٍ معًا، ولو أن الأمر قد اقتصر على تراث الماضي، لما أخذنا عجب ولا كانت هناك مشكلةٌ، لكن الخطر الحقيقي في الأمر أن هذه الفكرة ما زالت متغلغلةً في ثقافتنا الحاضرة، لا فقط بين العامة، بل الأمر يجاوز هؤلاء إلى العلماء أنفسهم، وبين الأساتذة، الذين يعملون في الجامعات، ويقومون بتدريس العلوم الحديثة: الكيمياء، والفزياء، والنبات، وطبقات الأرض! فليست المشكلة «تاريخًا مضى»، ولا يجوز أن نستشهد بما قالته الأشاعرة، ونتغاضى عن اعتراضات المعتزلة، بل أن العائق قائمٌ بيننا حتى اليوم.

(٥) مشكلاتٌ متجددة

تلك كانت «عقبات» على الطريق اختصرها مفكرنا في ثلاث، تعوق نهضتنا وتشلُّ حركتنا، وتمنعنا من الانطلاق، وإن كانت العقبة الأولى هي، في تصوري أخطر العقبات جميعًا …!

طهَّرنا الأرض من الألغام ونريد إقامة البناء، فما هو المطلوب الآن؟ علينا بادئ ذي بدءٍ أن نسأل أنفسنا سؤالًا طرحه مفكرنا مِرارًا، في أحاديثه الإذاعية في الكويت، ثم «في تجديد الفكر العربي»، وبعدها في مقدمة كتاب «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، وهذا السؤال هو: أتكون مشكلات حياتنا اليوم هي نفسها المشكلات التي عالجها الأجداد في الماضي، وأجهدوا أنفسهم في البحث عن حلولٍ لها …؟! وهل نستطيع أن نفيد اليوم من هذه الحلول، أم أن هناك مشكلاتٍ انتهت وثقافة في تراثنا لا نعيشها اليوم؟ «ويجيء الجواب بالنفي القاطع لوحدة المشكلات»، فنحن نواجه مشكلاتٍ أساسيةً لم يعد يصلح لها ما ورثناه من قيمٍ مبثوثة في تراثنا، لسببٍ بسيطٍ هو أنها لم تكن هي نفسها المشكلات التي صادفت أسلافنا، حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها الحلول …»٥٢
فالمشكلات القديمة في أية ثقافةٍ هي مشكلات ميتة، ومحاولة إحيائها ضربٌ من التغاضي عن «العقل المتطور وعَود إلى البساطة الذهنية الأولى، وسعي للبحث عن ملاذٍ نبتعد بواسطته عن المشكلات والصعوبات القائمة، وهروبٌ إلى الجدب والعقم»، على حدِّ تعبير هيجل.٥٣
فما هي المشكلات التي نواجهها اليوم، ولم يكن يعلم أسلافنا عنها شيئًا؛ أعني أنها اختلفت قليلًا أو كثيرًا عن مشكلاتهم؟ يعتقد مفكرنا أن على رأس هذه المشكلات «مشكلة الحرية» بمعناها السياسي، ومعناها الاجتماعي وهما المعنيان اللذان تدور حولهما أرجاء الحياة المعاصرة.٥٤ وسوف نتحدث فيما يلي بإيجازٍ عن هذه المشكلات، وعلى رأسها «مشكلة الحرية» التي كانت موضع اهتمامه في أحاديثه ومقالاته ومحاضراته وندواته.

(٥-١) مشكلة الحرية

الحرية التي نقصدها هنا هي الحرية السياسية، التي لم يكن أسلافنا يعرفون عنها شيئًا؛ ذلك لأن فكرة الحرية في تراثنا القديم كانت تقابل «الرق»؛ فالفرد من الناس إمَّا أن يكون حرًّا ذا حقوقٍ وواجباتٍ، وإما أن يكون عبدًا لغيره، فلا حقوق له إلا ما يأذن به مولاه. أما الحرية السياسية اليوم فهي تنصرف إلى اختيار الحكومة، بانتخاب المواطنين بطريقٍ مباشر أو غير مباشر (وكان ذلك بتأثير أوروبا وأمريكا). وما ظهر حديثًا من أنظمةٍ للحكم تكفل للمواطنين أن ينتخبوا مَن يمثِّلهم أمام من تُسند إليهم مناصب الحكم، بحيث تكون السلطة في نهاية الأمر للشعب، فإذا رضي عن الحكومة أبقى عليها، وإذا سخط عمل على إزالتها في غير حاجةٍ إلى معارك ومذابح وتعذيب وسجن وتشريد.٥٥
ومرة أخرى يعترض الزميل حسن حنفي على القول بأن تراثنا القديم، لم يعرف شيئًا عن «الحرية بمعنييها السياسي والاجتماعي، ويذهب إلى أن: «معنى الحرية موجودٌ في التوحيد … في شعار «لا إله» ثم تأكيد شمولية القيم في فعل الإيجاب «إلا الله»، وهو موجودٌ أيضًا في العدل.»٥٦ أما ممارسة الحرية والوقوف أمام الحاكم الظالم؛ فهو موجودٌ أيضًا في رأي الزميل، في تراثنا القديم»: فقد كانت ثورة القرامطة٥٧ والزنج٥٨ والعبيد لممارسة الحرية السياسية والاجتماعية، وإن لم يستعمل اللفظ.٥٩ فذلك في رأيه «خيرٌ في البحث عن اللفظ، وتحليل الألفاظ كما هو الحال في الوضعية المنطقية والمنهج التحليلي …»٦٠

والواقع أن اعتراض حسن حنفي يبعد كثيرًا، مرةً أخرى، عن الموضوع المطروح للنقاش؛ فهو مثلًا «يستخرج» فكرة الحرية من مفهومي «التوحيد والعدل»؛ أي إنه يقوم بتحليل الألفاظ، وسواء نجح فيها أم لا؛ فالحرية «المستخرجة» على هذا النحو لا علاقة لها بالحرية السياسية!

أما ثورة القرامطة فهي حركةٌ دينيةٌ لم تكن تستهدف «تحرير المواطن» بقدر ما تستهدف الاستيلاء على السلطة، ونحن عادةً لا نفرِّق كثيرًا بين الصراع على السلطة، التي ربما لو انتصرت لكانت أسوأ من السلطة القديمة، وبين الصراع من أجل تحرير المواطن؛ فالمعروف عن جماعة القرامطة أن أفرادها أخذوا بالطاعة العمياء للجماعة ولزعيمها، وعندما أسسوا دولةً في الأحساء، في شبه الجزيرة العربية، عاثوا في الأرض فسادًا، وأغاروا على قوافل الحج! أما ثورة الزنج التي قامت بمعاونة القرامطة، فهي أقرب إلى ثورة العبيد في روما، ولم يقل أحدٌ أنها قامت لتحرير المواطن، وردِّ حقوقه المسلوبة، بل إن بعض المؤرخين يُطلق عليها اسم «فتنة الزنج»، فقد أثاروا الرعب في الجزء الجنوبي من العراق خمسة عشر عامًا!

أما القول بأنه من الظلم البيِّن القول بأن تراثنا لم يعرف السلطة المنتخبة من الشعب لأنه عرف نظام الخلافة، والإمامة، والخلافة في تراثنا بنص الأصوليين عقد، وبيعة واختيار …»٦١ فذلك كله حديثٌ عن «المثال» أو عن «النصوص»، لكن الواقع يدحضه، فنحن نعرف أن موضوع البيعة كان مسألةً صورية تمامًا (كالاستفتاءات الآن)، وظلت صوريتها تزداد إلى أن تمت أحيانًا لطفلٍ صغير في الخامسة من عمره، أو على مظروفٍ مغلق لا يعرف الناس ما بداخله.٦٢ ومن ثم يظل مفكرنا الكبير على صوابٍ في قوله: أنه يندر، أن لم يكن يستحيل، أن تجد طوال التاريخ العربي، أن حكومة زالت لأن الشعب المحكوم بها لم يعد يريدها، فهناك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير: أخذ الحكم وراثة، أو أخذه عنوة، وفي كلتا الحالين لا يزحزحه عن أريكته إلا غدر أو قتل أو سجن: فلا الشعب اختار، ولا الشعب يملك حق العزل!٦٣

(٥-٢) حرية المرأة

ويتفرع عن مشكلة الحرية مشكلات لها خطرها (وقد سبق أن عرض لها مفكرنا بإيجازٍ في أحاديثه الإذاعية كما ذكرنا من قبل)؛ منها حرية المرأة؛ فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير امراة الأمس، فقد كانت سالفاتها من بنات «الحريم» و«الجواري» و«الغانيات»، في حين أن المرأة اليوم أصبحت طبيبةً ومهندسة ومحاسبة ومدرِّسة، في مختلف مدارج التعليم إلى درجة الأستاذية في الجامعة، كما أصبحت المرأة العربية اليوم قانونيةً، وممثلة للشعب في مجالس النواب، ووزيرة مع الوزراء في قيادة أمَّتها، فهل يجوز أن يعاملها الرجل اليوم، كما كان يعامل سالفاتها بالأمس؟ ومن هنا فإن المرأة العربية تجد نفسها في أزمةٍ حادة.٦٤

(٥-٣) الدخول في عصر العلم

ومن مشكلاتنا الكبرى كذلك، مشكلة الدخول في عصر العلم والصناعة، وهو العصر الذي أصبحت فيه المعرفة من جنسٍ يختلف عما كان يُسمِّيه آباؤنا «معرفة» اختلاف الأبيض عن الأسود، فقد كانت المعرفة، لعهودٍ طويلةٍ «كلامًا في كلام»، ثم أصبحت أجهزة بالغة الدقة لقياس الانتقال والسرعة وضبط الاتجاهات، ونقل الصوت والضوء، وتحريك الطائرات والغواصات والصواريخ … إلخ، وباختصار انتقل الإنسان من معرفة «اللفظ» إلى معرفة «الأداء».٦٥

(٥-٤) مشكلة الوحدة

من المشكلات التي نصبح معها ونمسي: مشكلة الوحدة العربية، والقومية العربية وما يتهددها من عوام التسلط والعنصرية متمثلة في الغزو الصهيوني، الذي هو أخطر من أي غزوٍ مضى؛ لأنه غزوٌ جاء ليقيم ويكتسح وليضرب بجذوره في الأرض؛ ولأنه غزوٌ تناصره دول كبرى.٦٦

كان ذلك، بصفةٍ عامة، الجانب السلبي في مشروع زكي نجيب محمود ﻟ «تجديد الفكر العربي»، وهو جانبٌ يتمثَّل من ناحيةٍ في تطهير الأرض وإزالة العقبات التي تعرقل مسيرتنا، كما يتمثل من ناحيةٍ أخرى في رفض مشكلات الماضي وعدم العمل على إحيائها، والالتفات جيدًا إلى مشكلاتنا الجديدة.

طهَّرنا الأرض وأزحنا الألغام، وتبيَّنا المشكلات فماذا يبقى بعد ذلك؟ يبقى الجانب الإيجابي من المشروع، وهو يتمثل فيما يسمِّيه مفكرنا بالفلسفة العربية المقترحة.

وفي هذه الفلسفة المقترحة يحاول مفكرنا إحداث ثورة في «اللغة»؛ فهو يرى أن نقطة البدء في ثورة التجديد هي «اللغة»؛ ذلك لأن اللغة ليست مجرد تعبير عن أفكار، بل هي جزءٌ لا يتجزأ من عملية التفكير نفسها، بحيث يصبح مُحالًا أن يتغير للناس فكر، دون أن تغير اللغة في طريقة استخدامها، وهو هنا يسوق ملاحظتين:
  • الملاحظة الأولى: أننا حين نربط الفكر باللغة فإن ذلك لا يعني أن كل ما ننطق به من ألفاظٍ يُشكِّل فكرًا، فمن النطق ما هو «هراء» وتخليط كتخليط المجانين؛ ولذلك فرَّق ابن جنى بين «القول» و«الكلام»، بحيث جعل القول ما تتحرك به الشفتان. أما الكلام فلا بد أن يحمل فكرًا ومعنى.
  • الملاحظة الثانية: يعود الكلام المعبِّر عن فكرٍ فينقسم نوعين: الأول الكلام الذي يرتبط بالواقع المحسوس، كقولي مثلًا: «الكويت تقع على الخليج العربي»، فهو كلامٌ ذو علاقةٍ بأمرٍ واقع، يمكن رؤيته ورسمه على الورق، والنوع الثاني هو الكلام الذي يرتبط بكلامٍ آخر، كقولي: «إن ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفةٍ على السرعة.» فهذا الكلام لا يشير إلى شيءٍ في دنيا الواقع، وإنما هو يُعبِّر عن نفسية المتحدث، وهذه التفرقة هي التي جاءت بها الوضعية المنطقية، وأخذ بها مفكرنا في المرحلة الثانية من تطوره الروحي، واعتبرها كشفًا هامًّا في الفلسفة المعاصرة.
ومفكرنا يعيب على اللغة العربية أنها كانت في تراثنا القديم، وما زالت حتى يومنا الراهن، من النوع الثاني الذي لا يصور الواقع «فهي توشك ألا تنتمي إلى دنيا الناس، فلا تكاد ترى علاقةً بينها وبين مجرى الحياة العملية؛ ولهذا السبب خلق الناطقون باللغة العربية لغاتٍ عامية، يباشرون بها شئون حياتهم اليومية …»٦٧
وهكذا ينتهي فكرنا إلى أن الفصحى في تراثنا الأدبي لم تكن أداة للاتصال بمشكلات العالم الأرضي، ولا وسيلة للثقافة المتصلة بحياة الناس، بل كانت مجالًا للفن الذي يهوم في السماء أو ما يشبه السماء، فقد كان الكاتب يُعنى بالقول في ذاته كيف يجيء مسبوكًا.٦٨
فاللغة عندنا نغمٌ يطير بنا فوق أرض الواقع، ويصعد إلى اللانهائي والمطلق، والأمل المنشود هو أن تتطور اللغة بحيث تحقق شرطين؛ الأول: أن تحافظ على عبقريتها الأدبية، وأن تكون أداةً للتوصيل لا مجرد وسيلة لترنيم المترنمين. والثاني: أن تكون الوسيلة الأولى التي ندخل بها مع سائر الناس عصر التفكير العلمي الذي يحلُّ المشكلات.٦٩
ويُشدِّد مفكرنا على الدور الهام والخطير الذي لعبته الكلمة في تراثنا، حيث كانت هي الفكرة، وهي الثقافة، وهي المهارة، «فاللغة هي عزُّهم، وهي مجدهم، وهي فنهم، وهي علامة إعجازهم، وخصوصًا إذا ارتفعت إلى مستوى الشعر.»٧٠ وقد تكون الكلمة الجميلة مفتاحًا يفتح الأبواب المغلقة، ويفتح الطريق إلى مناصب الدولة، ويفتح الخزائن بالرزق، وقد يكفي لصدِّ الرجل عن قضاء حاجته ألا يكون موهوبًا بالنطق الجميل، يقول عمر بن عبد العزيز: «إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها، فيلحن فأرده عنها، وكأني أقضم حبَّ الرُّمان الحامض، لبغضي استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيعرب، فأُجيبه إليها التذاذًا لما أسمع من كلامه» … وهكذا كان موقف العربي على إطلاقه.٧١
والواقع أن تحليل مفكرنا لظاهرة اللغة في ثقافتنا رائعٌ عميقٌ، لا سيما عندما ينبهنا إلى أن المشكلة الكبرى في اللغة، لا تنحصر في كونها قطعت صلتها بالواقع، وكونت عالمًا قائمًا بذاته، بل إنها أصبحت في نظر العرب بديلًا عن الواقع، بحيث يكفي أن نتحدث عن الشيء، ولكن نعتقد أنه قد تحقق وهنا يكون الاهتمام منصبًّا على الصياغة اللفظية وجمال وقعها، لا على ما تؤدِّيه من دورٍ في العالم الفعلي، فالصيغ اللغوية أنما تفعل فعلها كله، ما دامت حسنة التركيب جميلة الجرس، ولا على صاحبها، ولا على قارئها بعد ذلك أن يهتدي بها في تجارةٍ أو صناعةٍ أو سفرٍ أو قتال!٧٢
فإذا أراد العربي تحولًا إلى عصرنا فإن عليه أن ينتقل من حضارة اللفظ إلى حضارة الأداء. وإذا كان قابيل قتل أخاه هابيل، ففسر ذلك بأنه يرمز إلى أن الزارع قتل الراعي، وأن مرحلة من مراحل الحضارة، وهي مرحلة الزراعة، قد أعقبت مرحلةً أكثر منها بدائية هي مرحلة الرعي، فإننا في حاجةٍ اليوم إلى من يقتل قابيل؛ أي المرحلة الزراعية حتى يُخلي المكان لمرحلةٍ ثالثةٍ هي مرحلة الصناعة الآلية، الصناعة التي لا تحتاج من الإنسان إلى عضلاتٍ، بل إلى آلات، ولو تحقق ذلك انتقل الإنسان من فكرٍ إلى فكر، ومن حياةٍ إلى حياةٍ، أعني، مرةً أخرى، أن ننتقل من ثقافة الكلمة إلى ثقافة التشكيل التي تغير بها درجة الأرض.٧٣
ويلحُّ مفكرنا على أن التحول المطلوب هو الانتقال إلى «المعاصرة»، التي هي «العلم والصناعة»، وهو لا يتشكك لحظةً واحدة في أن هذا هو طريق التحول من تخلفٍ إلى عصرية، وهو أن ننتقل من «معرفة» قوامها الكلام إلى «معرفة» قوامها «الآلة التي تصنع»؛٧٤ ولهذا فلا بد أن تضيف ثقافتنا العربية المعاصرة إلى الجانب الجميل من اللغة العربية، لغةً أخرى شائهة قبيحة ينفر منها النظر والسمع، فيسير الإنسان إلى مجاوزتها إلى دنيا الواقع الكائنة على أرض الحوادث.٧٥ واللغة المقصودة هنا هي لغة العلم والتقنية والصناعة … إلخ؛ أي لا بد أن نجعل من اللغة أداة غاية في ذاتها، فنُضيف بذلك فكرًا «إلى أدب»، وننتقل من اللفظ «الجميل» إلى اللفظ «الدال»، ومن جرس اللفظ إلى مدلوله، من تركيب الجملة إلى بنية الواقع، وبذلك نخرج إلى عالم الوقائع والأحداث، فننظر إلى العالم الخارجي تلك النظرة التي تلتمس فيها القوانين المطردة التي تنظمه، والتي على أساسها يمكن التخطيط لمسارات المستقبل تخطيطًا يحقق الأهداف المأمولة.٧٦

(٦) إقامة البناء: فلسفةٌ عربيةٌ مقترحة

طهَّرنا الأرض قبل البناء، وفرَّقنا بين المشكلات التي عالجها الأجداد، ومشكلاتنا المعاصرة التي لا نستطيع أن نجد لها حلولًا في تراث القدماء، لكن ذلك كله يمثل الجانب السلبي من المشروع الثقافي الجديد، فما هو الجانب الإيجابي؟ بقي علينا الآن أن نعرض لهذا الجانب الإيجابي، الذي يتمثل في فلسفةٍ عربيةٍ جديدةٍ تجمع بين «الأصالة والمعاصرة»، بين «العقل والوجدان»، فلسفةٌ تخرج الأسس الكامنة في أفكارنا، ومعتقداتنا وسلوكنا، وثقافتنا بصفةٍ عامةٍ، تخرجها من حالة الكمون إلى حالة العلن والإيضاح، لتسهل رؤيتها ومناقشتها.

ومفكرنا يضرب بأدواته التحليلية؛ ليصوغ لنا فلسفةً تعبر عن جذورنا الثقافية: نقرؤها فنجد أنفسنا منعكسةً فيها، وهذا ما حاوله الإمام محمد عبده من قبل، وما حاوله طه حسين، والعقاد، والحكيم … إلخ، وإن كانت هذه الأمثلة أقرب إلى عالم الأدب والأدباء منها إلى عالم الفلسفة بمعناها الاحترافي.

فما هي هذه الفلسفة الجديدة التي يقترحها مُفكرنا، لتكون عربيةً ومعاصرةً في آنٍ معًا؟ هي ضربٌ من الفلسفة الثنائية تعتمد على ركنين أساسيين هما:
  • (أ)

    ثنائية الأرض والسماء.

  • (ب)

    ثنائية الطبيعة والفن.

وسوف نتحدث عن كل ركنٍ منهما بإيجاز.

(٦-١) ثنائية الأرض والسماء

يذهب مفكرنا إلى أننا لو تعمَّقنا ضمائرنا، لوجدنا أن هناك مبدأ واضحًا عنه انبعث، وما تزال تنبعث، سائر أحكامنا في مختلف الميادين، وهو مبدأٌ لو عرضناه على الناس في لغةٍ واضحةٍ بسيطةٍ وصريحةٍ، لما وجدت منهم أحدًا يحتجُّ أو يعارض، وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين: لا يكونان من رتبةٍ واحدةٍ، ولا وجه للمساواة بينهما، وهما: الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث، أو قل إنهما، بصفةٍ عامة، الأرض والسماء.٧٧
وهو يُنبهنا إلى أن الثنائية التي يقترحها عن ثنائية أفلاطون التي بلغت حدًّا من التجريد ألغت معه وجود الأفراد الجزئية، أو على حدِّ تعبير هيجل أن أفلاطون سدَّد طعنةً قاتلة للشخصية الحرة اللامتناهية.٧٨ بصفةٍ خاصة أفراد البشر، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقةٍ عنده إلا بمقدار ما يشارك في الإنسانية بمعناها المجرد. وهذا الإلغاء لحقيقة الأفراد لا يتفق مع عقيدتنا التي تُلقي على أفراد الناس تبعاتٍ خلقية عمَّا يعملون أفرادًا، لا أنواعًا ولا أجناسًا ولا جماعات، وهناك كثير من الآيات القرآنية التي تجعل الإنسان الفرد مسئولًا عن معتقداته: فالإيمان فرديٌّ، والمسئولية فرديةٌ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [النجم: ٣٨، الزمر: ٧، فاطر: ١٨، الإسراء: ١٥ … إلخ]، ويستخف بالذين يقولون إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُهْتَدُونَ [الزخرف: ٢٣].٧٩ وذلك يعني اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد، في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الأخرى على حدٍّ سواء.
النظرة الثنائية التي تناسبنا هي، إذن، نظرةٌ متميزةٌ وفريدة، تجعل الكائن الحي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهةٍ أخرى، ثم تقسِّم عالم الأفراد هذا إلى كثرةٍ من عناصر، بالنسبة لأفراد الناس، على الأقل، لأنها نظرةٌ تأبى أن ينطمس الفرد الإنساني الحي المسئول في عجينةٍ واحدةٍ مع سائر مفردات العالم الطبيعي. فكأنما هي نظرةٌ تجمع بين الثنائية والكثرة: ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، والكثرة بالنسبة إلى أفراد الناس الداخلين في هذا الكون المخلوق، تتضمن نوعين من التفرقة والتمييز، أحدهما تفرقة تميز الخالق، عن مخلوقاته بشرًا، كانت تلك المخلوقات أم غير بشرٍ: ثم تفرقة أخرى تميز، في عالم المخلوقات، بين البشر وسائر الكائنات؛ وذلك لتجعل الإنسان، دون سائر الكائنات، ضربًا من الإرادة الحرة المسئولة التي لا تخضع لقوانين الطبيعة كل الخضوع، لكنها في مقابل هذه الحرية، كان عليها أن تحمل عبء الأمانة، أمانة الحرية في شجاعةٍ وإقدامٍ، ويترتب على هذه النظرة الثنائية أربع نتائج على النحو التالي:
  • (١)
    أننا لا نطمئن بالًا حين يُقال عن الإنسان إنه ظاهرةٌ تخضع كلها للقوانين العلمية، ونحرص على أن نُبقي جانبًا منه يستعصي على ذلك التقنين لأنه جانبٌ فريدٌ خلَّاق، مسئولٌ عن خلقه وإرادته.٨٠
  • (٢)

    كما أننا نرفض في مجال الأخلاق أن يكون مدار الفعل الأخلاقي السليم منفعةً تعود على الناس؛ لأننا نرى أن الفضيلة هي جزاء نفسها؛ ومن ثم نُقيم الأخلاق على أساس الواجب لا على أساس الفائدة، ولا ينفي ذلك أن يجيء الواجب مصحوبًا بنتائج نافعة، فوق كونه واجبًا، لكنه واجبٌ يؤدى من قبل نفكر فيما يترتب عليه من نفعٍ، وهذه الوقفة الخلقية نتيجة مباشرة للصورة الكونية التي تصورناها، إلهٌ خالق وعالمٌ مخلوق، وفي هذا العالم إنسانٌ متميزٌ دون سائر المخلوقات بالإرادة الحرة المسئولة، التي تتصرف في إطار التشريع الإلهي، لكنه مع ذلك تصرف فيه حرية الاختيار، التي من شأنها أن تجعل تبعة الفعل واقعةً على فاعله.

  • (٣)
    ويترتب على هذه الصورة الكونية أيضًا موقفٌ خاصٌّ بمعايير الجمال في الفنون والآداب، فالفن عندنا هو في هندسة تشكيلاته، هندسة يطرب لها الذهن من وراء الحاسة المدركة؛ فالفن العربي في زخارفه ورسوماته تتماثل فيه المربعات والدوائر والمثلثات وغيرها من أشكال الهندسة، بحيث يراعى أنه إذا امتدت عينا الرائي في أحد أطرافه، أحسَّ أنه يستطيع أن يمدَّ تلك التشكيلات الهندسية إلى غير نهايةٍ، وفي هذه الانطلاقة من المحسوس إلى المعقول، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن الطبيعة إلى ما وراءها، يكمن جوهر الروح العربية.٨١
  • (٤)
    ويترتب على هذه الصورة الكونية أيضًا نظرية خاصة في تحليل المعرفة الإنسانية؛ فالفلسفة الثنائية المقترحة تجعل للمعرفة نطاقين: لكلٍّ منهما وسيلةٌ خاصة به، فإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها، جاءتنا المعرفة عن طريقٍ آخر، ولا يجوز لأيٍّ من النطاقين أن يزاحم الآخر في وسائله، وبعبارةٍ أخرى علينا أن نجعل للعلوم الطبيعية منهجًا، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهج آخر. أما منهج العلوم الطبيعية فقائمٌ على مشاهدة الحواس وإجراء التجارب، وعلى سلامة التطبيق. أما منهج ما وراء الوقائع الصمَّاء من حقائق كالقيم الخلقية، مثلًا، فقد نلجأ إلى شهادة الحواس والتجارب العابرة، بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة، أو إلى إملاء الوحي أو إلى ما يسري بين الناس من عرف تقليد.٨٢ ومن الواضح أن قسمة الوضعية المنطقية تعود فتطلُّ برأسها من جديدٍ مع قدرٍ طفيفٍ جدًّا من التعديل.

(٦-٢) ثنائية الطبيعة والفن

الثنائية الإبستمولوجية التي عانى منها مفكرنا في صدر شبابه، ولخَّصها في «الشرق الفنان»، والتي تجمع بين نظرة الصوفي ونظرة العالم، أدَّت الآن إلى ثنائيةٍ أنطولوجيةٍ، وهو يرى أنها غالبة على الذهن العربي، تشطر الوجود شطرين، فتظهر ثنائية بين الأرض والسماء، وبين الخالق والمخلوق، بين الواقع والمثال، بين الدنيا والآخرة، بين المعقول والمنقول … إلخ، لكن لا بد أن نكون على وعيٍ بأن هذين الشطرين ليسا من مرتبةٍ واحدة ولا وجه للمساواة بينهما؛ ذلك لأن نظرة العربي، في صميمها، هي أن السماء قد أمرت وعلى الأرض أن تُطيع، وأن الخالق قد خطَّ وخطط وعلى المخلوق أن يقنع بالقسمة والنصيب، وأن المثال سرمديٌّ ثابتٌ، وعلى الواقع أن يفسر نفسه على بلوغه، وأنه إذا تعارضت الآخرة والدنيا، كانت الآخرة أحق بالاختيار، وأن المنقول إذا ما تناقض مع المعقول، ضحَّينا بالمعقول ليسلم المنقول.٨٣
وعلينا أن نلاحظ هنا عدة أمورٍ هامة:
  • أولًا: الأمر الأول الذي ينبغي علينا أن نلاحظه أننا أمام ثنائيةٍ حادة بين الغيب والشهادة، بين الروح والجسد، بين الإنسان والله.
  • ثانيًا: أن العربي لم يتصور العلاقة بين الطرفين على أنها علاقة تبادل أو أخذ وعطاء، بل هي علاقة الحاكم والمحكوم، والحاكم هنا مطلق السلطان، والمحكوم معدوم الحول والحيلة.

    ولا يغير من الصورة أن يكون الحاكم المطلق عادلًا، وأن يكون المحكوم ملاقيًا جزاءً وفاقًا؛ إذ ما يزال طريق السير في اتجاهٍ واحد: يهبط الأمر من أعلى فيصدع به الأسفل.

  • ثالثًا: أن الصورة الموجودة في السماء انعكست على الأرض، وأصبح النظام السياسي نسخةً من النظام السماوي، فإذا كانت قوانين الطبيعة يمكن أن تتعطل أو تطرد بحسب ما يشاء الحاكم السماوي المطلق، فإن حاكم الدولة الأرضية يمكن أن يعبث بقوانين المجتمع فيطبقها أو لا يطبقها حسب مشيئته، فها هنا أيضًا في صورة حياة الإنسان في مجتمعه، نجد أن لصاحب السلطان أن يريد، وعلى الناس أن يطيعوا؛ ولهذا تجد أن الكلمة في مجتمعاتنا لصاحب القوة النافذة، ولصاحب الجاه، والحق مع صاحب النفوذ.
  • رابعًا: سوف يترتب على ذلك أيضًا أن تكون الأخلاق هي أخلاق الواجب، والأهمُّ من ذلك أن الواجب مفروضٌ علينا من صاحب السلطان، والأصل أن يكون صاحب السلطان في عليائه من السماء، ثم جاز أن يتمثل، كما رأينا، في المتربع على كرسي الحكم من أفراد البشر؛ ولهذا فإننا لا نتصور أن تكون الأخلاق «أخلاق سعادة»، تعود علينا قيمتها بحياةٍ نافعةٍ سعيدة طيبة، بل الواجب هو الواجب لأن سلطة عليا أوجبته علينا. مهما تغيرت ظروف العيش وتطور المجتمع تبدلت أوضاعه، ونحن لا نتصور أن تتطور معايير الحكم الأخلاقي، فإذا تطور المجتمع انسلخت دنيا الحياة الواقعية عن دنيا القيم الأخلاقية، وأصبح الفعل في ناحيةٍ والعقول في ناحيةٍ أخرى.٨٤
ولقد ألفنا هذا الازدواج إلفًا توهَّمنا معه أنه طبيعة الأمور؛ ومن ثم كان النفاق الذي يقع في كل لحظة، لا تكاد نمسه أو نعيه، فلا تثير فينا دهشةً أن تنفرج الزاوية بين المدرسة بقيمها والبيت بفعله، أو أن تكون هذه الزاوية أشدَّ انفراجًا بين المسجد والسوق.٨٥
واستكمالًا لهذه الصورة جاءت حياتنا الفنية انعكاسًا لهذه النظرة الشمولية التي تُعلي من شأن الخارج على حساب الداخل؛ فالمعيار يهبط عليك من أعلى، ولا ينبثق من طويتك؛ ولهذا كانت الأولوية في حياتنا الفنية لسلامة الشكل لا لحيوية المضمون: فالرسوم أشكالٌ هندسية، والقصائد تفعيلاتٌ موزونة، وتسربت هذه الشكلية إلى مناشط الحياة جميعًا، فما دمت قد حافظت على الشكل المقبول، عند القانون أو عند الشرع أو العرف، فقد أدَّيت واجبك بغضِّ النظر عما ينطوي عليه هذا الشكل من لُباب الفعل، فنحن نهتم «بالمظهر» لا بالحقيقة: فأظهر للناس في أوضاع الغنى تكن غنيًّا، وفي أوضاع الحرية تكن حرًّا، وفي أوضاع العالم تكن عالمًا، فالمهم هو أن يُسلم الشكل من الشوائب.٨٦
وهكذا ينتهي مفكرنا إلى أن من تصورنا لهذه الثنائية التي تفصل بين السماء والأرض، نشأ طغيان الحاكم بالمحكوم، وانهدمت ضرورة القوانين في الطبيعة والمجتمع على السواء، وعلت الإرادة على الفكر، وسبقت قوة الجاه رجحان الحق، وأصبحت الفضيلة واجباتٌ مفروضة، وبات الفن شكلًا بغير مضمون.٨٧

ولا يرى مفكرنا مانعًا أن تبقى هذه الثنائية فيما يختصُّ بعلاقة الإنسان بربه، لكنه يوجب أن تُضاف إليها ثنائيةً جديدة تكفل لنا النتائج المسايرة للعصر الجديد، وهي ثنائيةُ العلم والحرية … أما «العلم فهو يعني معرفة ظواهر الطبيعة؛ أي العلم بالطبيعة وما فيها من صنوف الكائنات، غير أن ذلك يستوجب أن يكون الإنسان نفسه «ذاتًا، عارفة، عالمة، باحثة، منقبة»، فيصبح هناك ذات تعلم وموضوع يعلم: الذات العارفة، والموضوع المعروف، الإنسان والعالم.»

والنتيجة التي تلزم عن هذه القسمة هي ضرورة أن يخضع الإنسان لواقع العالم كما يثبته العلم، مع ضرورة أن تظل للذات حريتها، فترغب وترهب، وتحب وتكره وتختار وتدع، وتقبل وتدبر، وتجرؤ وتجبن … إلخ.

فالعلم بالطبيعة الخارجية قيد، وانطلاق الطبيعة الداخلية على سجيتها حرية، والجمع بين ذلك القيد وهذه الحرية هي ما تريده للمواطن العربي، وإذا تقيَّد الناس بحقائق العلم تشابهوا على اختلاف قومياتهم وتباين أجناسهم. أما الحرية نفسها انطلاق الذات وراء طبيعتها، وها هنا يختلف الناس، فردًا عن فردٍ أولًا، وأمةً عن أمةٍ ثانيًا. إنني حين أثبت حقائق الطبيعة الخارجية، فذلك «علم» والعلم واحدٌ للجميع، أما حين اتعقب حقائق الطبيعة الداخلية، فذلك «فن» و«الفن منوعٌ بتنوع الأفراد والأمم»، العلم موضوعيٌّ والفن ذاتيٌّ، وينبغي أن أحذر خلط العلم بأهواء الذات، أو أن أزيف الفن بموضوع يُملى عليه من الخارج، وبالعلم المقيد والفن الحر يتكون الإنسان المعاصر، وعند مفكرنا أن العربي متخلفٌ عن عصره؛ لأنه لم يكتسب العلم بالطبيعة. كما أنه لم يُنشئ فنًّا يُعبِّر عن ذاته؛ فهو إن عرف شيئًا عن «العلم» فقد استمدَّه من غيره ثم حفظه حفظ التلميذ لدرسه، والفن كذلك سلعةٌ منقولة عن سوانا (عن أسلافنا أو معاصرينا)، فإذا كان في المنقول فن؛ فالفن لغيرنا عبَّر به عن ذاته هو، أما نحن فذواتنا مطمورةٌ تنتظر الفنان الأصيل.

فإذا انطلقنا من هذه النقطة: الحقيقة العلمية عن الواقع التي يتشابه الناس في الخضوع لها، والعبارة الفنية التي تصور الذات، فتتشابه جميعًا في الحرية عند صوغها، أسلمتنا هذه النقطة إلى نتيجةٍ لازمةٍ؛ وهي أننا سواسيةٌ أمام العلم والفن معًا، فلا يكون التفاوت بيننا بسبب المنصب أو الجاه أو النفوذ أو الثراء، بل فلانًا أصاب الحق في العلم والصدق في الفن، بالعلم المشترك نعرف العالم ونغيره، وبالحق الذاتي نعرف الإنسان ونقوِّمه، بالعلم المشترك تنشأ الحضارة بنظمها ومصانعها وتجارتها … إلخ، وبالتعبير الفني عن الذات تنشأ الثقافة بقيمها التي تفرِّق بين الحسن والقبيح، والمقبول والمرذول.٨٨

(٦-٣) قيمة العقل في تراثنا

ويُضيف مفكرنا إلى هذه الثنائية التي تتميز بها الفلسفة العربية خاصيةً أخرى، يجعلها تقوم بدور الحلقة الرابطة بيننا وبين الأسلاف في مجال الفكر والثقافة، بحيث تجيء هذه الصلة طبيعية لا متكلفة ولا مصطنعة، وهي خاصية «المحاكاة» بالمعنى الذي فَهِمَ به أرسطو الفن، عندما ذهب إلى أن الفن محاكاة للطبيعة، أو بالمعنى الذي وصف فيه «جون ديوي» (١٨٥٩–١٩٥٢م) عمله في تجديد الفلسفة، والمنطق بصفةٍ خاصة، «بأنه يريد أن يصنع لهذا العصر، مثل ما صنع أرسطو لعصره …»٨٩
ومن ثم فإن علينا أن نتعقَّب أسلافنا لنرى ماذا صنعوا تجاه دنياهم لنصنع نحن تجاه دنيانا، ويرى مفكرنا أن أهم ما كان يميزه العربي القديم في وقفته تجاه العالم من حوله هو أنه نظر إليه نظرةً «عقلية»؛ ومن هنا فإذا أردنا مواصلة السير على هدي تراثنا لنربط الحاضر بالماضي، فإن علينا أن نلتزم بهذه الوظيفة العقلية التي اصطنعوها، وإن اختلفت مشكلاتنا عن مشكلاتهم، وهو يريد أن يفهم «العقل» هنا بأنه الانتقال من مقدمةٍ إلى نتيجةٍ تترتب عليها، ومن وسيلةٍ إلى غاية، ومن شاهدٍ إلى مشهودٍ عليه … إلخ فالعقل في مجال الاستنباط انتقالٌ من عبارةٍ لفظيةٍ إلى عبارةٍ تلزم عنها، وهو في مجال التجربة انتقالٌ من معلومٍ إلى مجهولٍ، ومن شاهدٍ إلى غائبٍ، ومن ظاهرٍ إلى خفيٍّ … إلخ؛ ومن ثم كان العقل هو الذي يتعقَّب الحدث إلى أسبابه أو إلى نتائجه، وبهذا التعريف للعقل تستطيع أن نقول إن العربي القديم قد يتميَّز به كلما تأمل أو نظر، ومن شأن هذه الوقفة العقلية أن ترد الأشتات إلى وحدةٍ تضمُّها ضمة المبدأ الواحد لنتائجه المتفرعة، أو العلة الواحدة لسلسلة معلولاتها، فقد رأى العالم مؤلف من كثرةٍ من الكائنات؛ فالتمس لها الرباط الموحد، وقل ذلك في قواعد اللغة، وأحكام الشرع. وهكذا طفق العربي يرد الكثرة إلى وحدةٍ تبرز ما فيها من تجانس.٩٠
ويعتقد مفكرنا أن أرسطو كان في تحليلاته المنطقية يتَّجه بحديثه إلى المفكر العربي من بعده، ليجعلها هذا المفكر من أهم علامات المثقف في عصره، وهنا يتساءل: «لماذا لم تستجب الهند مثلًا، للمنطق الأرسطي استجابة العرب …؟» ويجيب «جزءٌ من الجواب عندي أن وقفة العربي من الأمور طابعها العقل …»٩١ وهو يعتقد أن الشعب الذي يتميز بالنظرة العقلية إذا ما رأيناه في بعض حالاته يلوذ بطراوة الوجدان ورخاوته، من ضغط العقل وقسوته، فإنما نرجِّح عندئذٍ أن قد أصابه شيءٌ من الوهن أو الضعف.
غير أن الاعتراض الرئيسي على الزعم بأن الروح العربي الأصيل روحٌ «عاقل» هو: كيف يتفق هذا الزعم مع سيادة الشعر في الثقافة العربية القديمة، والشعر وجدانٌ أساسًا …؟ ألم يكن للشعر مكانة عُليا في الثقافة العربية؟ فكيف نوفِّق بين صفة الشعر الغالبة، وبين الزعم بأن العرب قد تميزوا بنظرةٍ عقليةٍ.٩٢ وإجابة مفكرنا على هذا الاعتراض تنبعُ من خبرته الشخصية؛ فهو هنا كأنما يتحدث عن نفسه، يقول ليس بين الأمرين تناقضٌ يحول دون أن يجتمعا معًا «فكم وقع لنا في خبرتنا الشخصية المحدودة من أمثلةٍ لرجال جمعوا بين العقل العلمي، إذا ما كان المجال مجال عقلٍ وعلم، ووجدان الأديب كلما استثارت وجدانهم أحداث الحياة! وإذا صدق هذا على أفرادٍ من الناس، فماذا تكون الأمم إلا مجموعاتٍ من أفراد؟ وهو أصدق في الأمة العربية منه في أي أمةٍ أخرى مما نعرف …»٩٣

وهكذا يعود مفكرنا إلى فكرة الجمع بين «العقل والوجدان»، وإلى تكرار فكرة «الشرق الفنان»، فلئن غلبت ثقافة الوجدان على تراث الشرق الأقصى من هند وصين، وغلبت ثقافة العقل، فلسفةً وعلمًا، في تراث أوروبا، فقد كان في شرقنا العربي ذلك الجمع المتزن بين عقلٍ ووجدان؛ فالثقافة العربية تمثَّلت منطق أرسطو بكل ما فيه من ركونٍ إلى الحدس والوجدان. وهذه المزاوجة الثقافية بين العقل والوجدان، تلائم المزاج العربي، واللغة العربية، ملائمةً كاملةً، فبحكم ذلك المزاج يفصل العربي بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي، بين اللانهائي والمحدود، بين خلود الآخرة وفناء الدنيا. يفصل بينهما ذلك الفصل الذي لا يجعل لكل عالمٍ من العالمين أهلًا غير أهل العالم الآخر، بل عنده أن أهل هذا هم أنفسهم أهل ذاك، غير أن الواحد تمهيد للثاني.

وإذا تساءلنا الآن كيف يُتاح للولي المعاصر أن يُتابع السير على طريق العربي القديم، كانت الإجابة: أن يكون ذلك باتخاذ الوقفة نفسها التي وقفها سلفه لينظر إلى الأمور بالعين نفسها، ألا وهي عين «العقل» ومنطقه دون الحاجة إلى إعادة المشكلات القديمة ذاتها؛ أعني أن يأخذ العربي المعاصر موقفًا من العربي القديم صورته لا مادته، فيأخذ الوقفة العاقلة المتزنة ليطبقها لا على مسألة «الكبائر ومرتكبيها»، بل فيما يعرض له هو من مشكلات عصره: كمشكلة الفرد والجماعة، ومشكلات الاقتصاد … وغيرها.

تلك كانت خلاصة سريعة للفلسفة العربية التي يقترحها مفكرنا الكبير، وعلينا قبل أن نُنهي هذا البحث أن نقف قليلًا لتقييم هذه المحاولة.

خاتمة: نقد وتقدير

  • (١)

    إذا أردنا تقييم المشروع الثقافي، والفلسفة المقترحة لزكي نجيب محمود، فلا بد أن نضع ذلك كله في سياقه التاريخي لنحكم عليه حكمًا سليمًا. لو أننا تأملنا مسار نهضتنا لوجدنا أنها بدأت قبل خاتمة القرن الماضي بسنتين، وعلى وجه التحديد مع الحملة الفرنسية على مصر وسقوط الإسكندرية عام ١٧٩٨م، وما زلنا حتى يومنا الراهن نعيش هذه النهضة.

    منذ ذلك التاريخ والأفكار تنهمر على تربتنا الثقافية، فقد بذر رفاعة الطهطاوي (١٨٠٠–١٧٨٣م) الكثير من البذور في المرحلة الأولى حول الحرية والمساواة، فاهتم في كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين» بما أسماه «بالحرية العمومية والتسوية بين أهل الجمعية»، وهو يقصد الحرية العامة والمساواة بين أبناء المجتمع.

    ولقد عمل مفكرونا بعد ذلك، على نمو هذه البذور وإنضاجها، فعند قاسم أمين (١٨٦٥–١٩٠٨م) وصلت الدعوة إلى حرية المرأة إلى ذروتها، وكان أحمد لطفي السيد (١٨٧٢–١٩٦٣م) أول من بشَّر بالديمقراطية السياسية، وظهر جمال الدين الأفغاني (١٨٣٩–١٨٨٩م) بدعوته إلى الاحتكام إلى العقل. وواصل الإمام محمد عبده (١٨٤٥–١٩٠٥م) النضال ليحرر حياتنا الدينية مما علق بها من خرافة، ولينجو بعقول الناس من ظلمة الجهل.

    ثم ظهرت أبعادٌ جديدةٌ للحرية وللمساواة وللعقل، فدعا عباس العقاد (١٨٨٩–١٩٦٤م) إلى تحرير الشعر والفن بصفةٍ عامة، ودعا طلعت حرب (١٨٦٧–١٩٤٢م) إلى تحرير الاقتصاد، وكتب طه حسين (١٨٨٩–١٩٧٣م) يدعو إلى الحرية الفكرية والالتزام بالمنهج العقلي الصرف … إلخ إلخ.

    هذه كلها أفكار تناثرت في طريق نهضتنا التي بدأت منذ نحو قرنين، لكنها ظلت أفكارًا مبعثرةً لا تسلك في خيطٍ واحدٍ ولا يجمعها عقدٌ، ولا تحتويها فلسفة؛ ومن هنا فقد كان مشروع زكي نجيب الثقافي، والفلسفة الثنائية المقترحة، عملًا غير مسبوقٍ، فليس ثمة، فيما أعلم، محاولة لوضع فلسفةٍ عربيةٍ قبله سوى «جوانية» عثمان أمين، وتعادلية الحكيم.

  • (٢)
    أما جوانية عثمان أمين فهي ليست مذهبًا بالمعنى الدقيق ولا محاولة لإقامة مذهب، وهو نفسه يقول: «الفلسفة عندي شيءٌ آخر غير «النسق» المحكم المغلق المحيط …»٩٤ وإنما هي مجموعةٌ من الانطباعات الشخصية عن الحياة والمجتمع والثقافة، والإنسان …إلخ، كونها من مطالعاته الكثيرة متأثرًا بمجموعةٍ من الفلاسفة والمفكرين منهم ديكارت، وكانط، وفشته، وبرجسون، ومحمد عبده …إلخ، وهي ضربٌ من «التعاطف» مع الأشياء والناس لالتماس «المخبر» لا المظهر، «الباطن» لا «الظاهر»، وتفحص «الداخل» بعد ملاحظة «الخارج»، وتلتفت إلى المعنى «وإلى» القيمة وإلى «الروح» … إلخ، لكن ذلك كله مجرد انطباعات، كما قلنا، وتجارب شخصية وهذا واضحٌ من «اليوميات الجوانية»، التي يسجل فيها أستاذنا مجموعة من الخواطر والتجارب الشخصية المتصلة بقضايا وأحداث عامة فكرية وأخلاقية.٩٥
  • (٣)

    أما تعادلية توفيق الحكيم التي عرضها في كتيبٍ لا تكاد صفحاته تزيد عن مائة وثلاثين صفحة من القطع الصغير؛ فهي سياحةٌ تطوف على ميادين الفكر؛ لتقف عند كل ميدانٍ منها لحظةً تعطيك جرعةً تفجِّر في نفسك بعدئذٍ تساؤلات وتأملات. إنها سياحةٌ تطوف بك إلى ميادين: الميتافيزيقا، والأخلاق، والاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والجيولوجيا، وغيرها من فروع العلم والمعرفة. لكن هذه السياحة لا يمكن اعتبارها «فلسفة مقترحة» ولا هي «مذهب» يجمع شتات الأفكار التي تبعثرت على طريق نهضتنا منذ نحو قرنين من الزمان.

    غير أن الملاحظة التي تستوقف النظر حقًّا هي أن الحكيم أراد من هذه المحاولة إقامة التعادل بين «العقل والقلب»، حتى إنه ذهب إلى أن اختلال التعادل بينها «كانت له نتجته الطبيعية التي لا بد أن تُلازم كل اختلالٍ في الميزان، وهي القلق»، وفضلًا عن ذلك فهو يريد إقامة قاعدةٍ أساسيةٍ للتعادل بين «الإيمان والعقل»، بين «العمل والفكر» بين «الإرادة البشرية والإرادة الإلهية»، كما يرى أن الخير والشر كليهما ضروريٌّ ليعادل الآخر … إلخ، وكأن الأفكار التي يعرضها إرهاصات بفلسفةٍ ثنائيةٍ أو شعور منه بحاجتنا إلى مثل هذه الفلسفة.

  • (٤)

    المشروع الثقافي عند زكي نجيب محمود غير مسبوقٍ والفلسفة العربية الثنائية المقترحة هي ضربٌ جديد من التفلسف، يحاول لأول مرةٍ أن يجمع شتات الأفكار التي تناثرت على طريق نهضتنا، دون أن يضمها نسقٌ أو تُسلك في عقدٍ واحد، وليكون لنا، بذلك «فلسفةٌ عربية» لا تتجاهل العصر ولا تنفصل عن الماضي.

  • (٥)

    لا شك أن زكي نجيب محمود كشف لنا في مشروعه، بل في كل ما كتب، عن سمةٍ أساسية من سمات تخلفنا هي الخلط بين مجالات كان ينبغي التمييز بينها بوضوح، فنحن في كثيرٍ من الأحيان لا نفرِّق بين مجال الدين ومجال العلم، وبين مجال الوجدان (والدين وجدان) وبين مجال العقل، وتلك محمدة نحمدها له لأن إدراك الفروق والتمييزات بين المجالات المختلفة هي البداية الحقيقية للانطلاق والتقدم، فكل من أراد أن ينجز عملًا عظيمًا عليه أن يحدد نفسه كما قال هيجل بحق، في حين أن الخلط وعدم التمييز أو التحديد الواضح يؤكد التخلف ويثبت التفكير البدائي الفج.

  • (٦)

    وضع مفكرنا يده على مشكلةٍ رئيسيةٍ عندنا، وهي اللحاق بركب الحضارة مع الإبقاء على هويتنا العربية، وأطلق على هذه المشكلة مرة اسم «الأصالة والمعاصرة»، ومرةً أخرى الجمع بين «العقل والوجدان» أو العلم والدين، ومن أجل الوصول إلى حلٍّ لهذه المشكلة كتب «تجديد الفكر العربي» و«المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» و«ثقافتنا في مواجهة العصر» و«مجتمع جديد أو الكارثة» … إلخ وهو جهدٌ لم يبذله مفكرٌ آخر في أية مشكلة.

  • (٧)

    ضغط على «الدُّمل» عندنا عندما أدرك بوضوحٍ أن «أسَّ البلاء في مجال الفكر هو أن يجتمع السيف والرأي الذي لا رأي غيره في يدٍ واحدةٍ، وتلك كانت الحال في جزءٍ من تراثنا، هو الجزء الذي ندعو إلى طمسه ليموت …!»

  • (٨)

    لكن هل الصورة الكونية للعلاقة بين السماء والأرض هي التي نقلناها إلى المجتمع، فانعكست على تصورنا للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما يقول مفكرنا الكبير، أم أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن الواقع الماثل أمامنا هو التصور الأقوى، والصورة الحية التي ننقلها إلى السماء، وليس العلاقة «المتخيلة» بين صاحب السلطان في علياء سمائه هي التي ننقلها إلى المُتربِّع على كرسي الحكم من أفراد البشر، أيهما أقوى وأشدُّ أثرًا: دنيا الواقع التي نعيش فيها أم دنيا المثال التي نتخيلها؟

    ومن هنا فلا يجوز أن نقول إن العلاقة بين الله والإنسان التي تصوَّرها العربي في تراثه، هي الشكل المستتر للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، ذلك لأن العكس، في رأينا، هو الصحيح؛ فالإنسان يرتفع من الأرض إلى السماء فيتصور السماء على غرار ما هو على الأرض؛ ولهذا كان المصري القديم يُصوِّر السماء على هيئة نهرٍ عظيمٍ أشبه بنهر النيل، ولم يجد غضاضةً في تصوير السفن التي تسير في السماء بين الكواكب، وكما كان اليوناني في ديانته القديمة يُصوِّر كبير الآلهة «زيوس» على غرار الرجل اليوناني الذي يستمتع بحياته ويجري وراء النساء، ويخون زوجته المخلصة الوفيَّة، وأما زوجته «هيرا» فقد كانت راعية الزواج والأسرة تمثل المرأة اليونانية المتهورة المغلوبة على أمرها.

  • (٩)
    فليس صورة السماء (أو العلاقة بين العبد وربه) هي التي انعكست في النظام السياسي، وإلا فماذا نقول في أمر الآيات القرآنية الكريمة، التي تذهب إلى أن هذه العلاقة تقوم على الحب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُم عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة: ٥٤]، وفي الحديث القدسي: «لا يزال العبد يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به»، وغير ذلك كثيرٌ مما بنى عليه صوفية الإسلام مذهبهم في الحب الإلهي بنوعيه: حب الله للإنسان وحب الإنسان لله.
  • (١٠)

    أما الفلسفة الثنائية المقترحة فهي ليست مستقرةً عند مفكرنا الكبير؛ فهو يعتقدُ أنها ثنائية لا تسوِّي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني (الله، الخالق، الروح … إلخ) الأولوية على الشطر المادي (الكون، المادة، الجسد … إلخ)؛ فهو الذي أوجده، وهو الذي يسير ويحدد له الأهداف «وواضحٌ أننا هنا أمام واحدية؛ إذ يمكن أن يرد الشطر المادي إلى الشطر الروحاني! ثم يقول أحيانًا أخرى أنها نظرةٌ تجمع بين الثنائية والكثرة، ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق، وكثرة بالنسبة لأفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق، ثم نراه يميل، بصراحةٍ ووضوحٍ، إلى الواحدية لا سيما في المقالات التي كتبها تحت عنوان «من إشعاعات التوحيد».

  • (١١)

    الفلسفة الثنائية، بصفةٍ عامةٍ، تعتمد على عنصرين لا يمكن رد أحدهما إلى الآخر، وها هنا تكمن صعوبتها الرئيسية، التي تجلَّت في ثنائية ديكارت في العلاقة بين النفس والبدن، والغدة الصنوبرية الشهرية التي اتضح أنها خاطئةٌ بعد ذلك. ولقد بذلت المدرسة الديكارتية بعد ذلك جهودًا مضنيةً لحل المشكلة باءت كلها بالفشل، والصعوبات التي واجهت ثنائية القرن السابع عشر، سوف تُطلُّ برأسها من جديدٍ، مع أي ثنائيةٍ تتحدث عن «المادة والروح» أو النفس والبدن …إلخ.

  • (١٢)

    في ظنِّي أن هذه الفلسفة الثنائية المتقرحة ليست فلسفة تضرب بجذورها في تراثنا، بقدر ما هي مشكلةٌ كان يعانيها زكي نجيب محمود نفسه طوال حياته: فهو يحمل في شخصه حسَّ الفنان وصرامة العالم، وهو يجمع في أعماقه بين شفافية الوجدان، وجفاف العقل الخالص … إلخ؛ ولهذا كانت المشكلة أساسًا هي مشكلة، وزكي نجيب محمود الأديب الفنان صاحب المقال الأدبي الشهير، وعالم المنطق العقلاني الجاف، فكيف يدخل الاثنان في إرهابٍ واحد؟

  • (١٣)

    صيغة «الأصالة والمعاصرة» أو «العقل والوجدان» وهي الصيغة المقترحة لحل مشكلاتنا تصطدم بعقباتٍ كثيرةٍ: فهل المعاصرة «هي العقل» والأصالة هي «الوجدان»؟ في هذه الحالة نكون قد حكمنا على التراث كله، بأن أشبه ما يكون بالعمل الفني الذي لا تستطيع أن نتعامل معه إلا بوجداناتنا؛ مع أننا كثيرًا ما نعود إليه بوصفه يشتمل على نماذج كثيرة من ثنائية العقل والوجدان معًا!

  • (١٤)
    كيف يستقيم القول بأن وقفة العربي من الأمور «وقفة عقلية»، وأن الشعب العربي يتميز بالنظرة العقلية، مع تأكيدنا في الجانب السلبي من المشروع أن هناك عاملًا مكبِّلًا لأرجلنا من السير «وهو ذلك الميل الشديد الذي نحسُّه في نفوسنا نحو أن تكون قوانين الطبيعة لعبة في أيدي أصحاب القلوب الورعة الطيبة» …؟٩٦ «ألم نقل أن تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات عقبةٌ بالغة الخطورة في طريقة تقدمنا، وأننا نحس بميلٍ دفين إلى الإيمان بها؟ وأن اللاعقلانية في جماهيرنا مغروزة في طبائعها كألوان جلودها، فجماهيرنا دراويش بالوراثة، ولا عجب أن تروج فيهم الخرافات والكرامات والخوارق.»٩٧
  • (١٥)

    وأخيرًا مهما يكن من أمر الانتقادات التي يمكن أن توجَّه إلى هذه الفلسفة العربية الثنائية المقترحة، فسوف يبقى لمفكرنا الكبير أنها أول محاولة لإقامة «فلسفة»، ووضع نسق للأفكار المبعثرة التي اقتصرت عليها نهضتنا حتى الآن.

    ولقد كان من الضروري أن تظهر فلسفة تضم شتات الأفكار الكثيرة التي ظهرت عن الحرية، والعدالة، والمساواة، والتقدم، والتراث، والمعاصرة، والعلم، والدين، والوجدان، والعقل … وعشرات غيرها امتلأت بها الساحة الثقافية منذ نحو قرنين، دون أن تسلك في عقدٍ واحد، ولن يكون في استطاعتنا أن نقول إن عندنا «فلسفةٌ عربية» ما لم تجمع هذه الأفكار في نسقٍ واحدٍ، وتفسرها فكرةً واحدة. ولقد أخذ مفكرنا بيدنا ليخطو بنا أول خطوةٍ على طريق التفلسف، ونأمل أن يتلوها خطوات.

١  زكي نجيب محمود، «الشرق الفنان»، ص٨٩ (المكتبة الثقافية، العدد رقم ٧)، عام ١٩٦٠م.
٢  «قصة عقل»، ص١٧٦.
٣  «حصاد السنين»، ص٣٨٨.
٤  د. فؤاد زكريا، «تجديد الفكر العربي في الميزان»، دراسة في الكتاب التذكاري الذي أصدرته جامعة الكويت في عيد ميلاده الثمانين، عام ١٩٨٧م، ص٩٩.
٥  المرجع نفسه، ص١٠٠.
٦  د. حسن حنفي، «تجديد الفكر العربي أشكال التواصل والانقطاع في فكر زكي نجيب محمود»، مجلة القاهرة، العدد ١٣٢، نوفمبر ١٩٩٣م.
٧  كان الدكتور فؤاد زكريا قد عبَّر عن الفكرة نفسها في دراسةٍ بعنوان «الأصالة والمعاصرة»، التي اعتبرها الصيغة الحديثة التي طرحها العقل العربي على نفسه، في سياق علمية مراجعة النفس الشاقة والأليمة، لكي يفهم سر هزيمة يونيو ١٩٦٧م، أو يخفف عن نفسه من وقعها، ويبحث عن الوسائل الكفيلة بتعويضها، راجع «الصحوة الإسلامية في ميزان العقل» دار الفكر للنشر والتوزيع، القاهرة ١٩٨٩م، ص٩٦.
٨  «قصة عقل»، ص٢٠٠.
٩  زكي نجيب محمود، «الشرق الفنان»، ص٨٧–٨٨.
١٠  زكي نجيب محمود، «قصة عقل».
١١  قارن المقدمة التي صدر بها ثقافتنا في مواجهة العصر، ص٧.
١٢  «حصاد السنين»، ص٣٨٦.
١٣  «حصاد السنين»، ص٣٨٨.
١٤  أولت جامعة الكويت، بدورها، اهتمامًا خاصًّا بمفكرنا، فأصدرت عنه كلية الآداب عام ١٩٨٧م كتابًا تذكاريًّا ضخمًا بعنوان «الدكتور زكي نجيب محمود: فيلسوفًا وأديبًا ومعلمًا»، وهو مجموعة من الأبحاث والكتابات مهداة إلى مفكرنا في عيد ميلاده الثمانين، كما كتبت عنه الزميلة أسامة الموسى المدرس المساعد بقسم الفلسفة رسالة ماجستير بعنوان «المفارقات المنهجية في فكر زكي نجيب محمود»، وقد أصدرتها جامعة الكويت ضمن مطبوعاتها.
١٥  «قصة عقل»، ص١٧٧.
١٦  أهدى إليها كتابه: «المعقول واللامعقول» الذي أصدره عام ١٩٧٢م.
١٧  راجع المقدمة التي كتبها لكتابه «تجديد الفكر العربي»، ومسجل في نهايتها أنه كتب هذه القدمة في جامعة الكويت في يونيو ١٩٧١م.
١٨  «قصة عقل»، ص٢٠٠.
١٩  المرجع نفسه، ص٢٠١.
٢٠  «حصاد السنين»، ص١٦.
٢١  راجع في ذلك كله د. عبد الله العمر، «علامات استفهام»، دار اليقظة، الكويت، عام ١٩٨١م، ص١٨٣–٢٠٢.
٢٢  هذه مجرد نماذج لنشاطه الفكري خلال هذه الفترة، وهي التي بقيت بعد الغزو العراقي الغاشم لدولة الكويت، وقد كان للصديقين الكريمين الأستاذ عبد العزيز الصرعاوي والدكتور عبد الله العمر، الفضل في حصولنا عليها.
٢٣  قارن مقال «بين لاوند وزكي نجيب محمود» للدكتور عبد الله العمر جريدة الرأي الكويتية، العدد ٣٣٦١ في ٨ مارس عام ١٩٧٣م.
٢٤  راجع هذه المحاضرة في مطبوعات رابطة الاجتماعيين بالكويت، ص١٨٧، مطابع الرسالة.
٢٥  المرجع السابق، ص١٨٨.
٢٦  المرجع السابق، ص١٩٨.
٢٧  نفس المرجع، ص١٩٩.
٢٨  «قصة عقل»، ص٦٨.
٢٩  د. حسن حنفي: «أشكال التواصل والانقطاع في فكر زكي نجيب محمود»، مجلة القاهرة، نوفمبر ١٩٩٣م.
٣٠  زكي نجيب محمود، «قصة عقل».
٣١  المرجع نفسه.
٣٢  د. حسن حنفي، «أشكال التواصل والانقطاع»، ص٧٦.
٣٣  «تجديد الفكر العربي»، ص٥.
٣٤  «حصاد السنين»، ص١٦.
٣٥  نشرها في كتابه «قيم من التراث» تحت عنوان «طريقة الرمز عند ابن عربي في ديوانه ترجمان الأشواق»، ص٤٩ وما بعدها.
٣٦  «رؤية إسلامية»، ص٦.
٣٧  المرجع نفسه، ص٢٢.
٣٨  المرجع نفسه، ص٢٥.
٣٩  «حصاد السنين»، ص١٦–١٧.
٤٠  «حصاد السنين»، ص١٨.
٤١  يرى د. فؤاد زكريا أن «السطور التي كان فيها المؤلف يعبر عن حيراته وأزمته الفكرية، أصدق بكثيرٍ من تلك التي كان فيها يلتمس حلًّا لتلك الأزمة، ويقترح لتلك الحيرة مخرجًا «تجديد الفكر العربي في الميزان»، ص١٠٠، وإن كنت أعتقد أن الميزة الأولى لزكي نجيب محمود هي إخلاصه للفكر وهو أمرٌ قليل الحدوث، للأسف، مع مثقفينا.
٤٢  «تجديد الفكر العربي»، ص١٠.
٤٣  المرجع نفسه، ص٢٠.
٤٤  نفس المرجع، ص٢٦.
٤٥  المرجع السابق، ص٣٤.
٤٦  نفس المرجع، ص٣٨.
٤٧  «تجديد الفكر العربي»، ص٤٦–٤٧.
٤٨  «تجديد الفكر العربي»، ص٥٤.
٤٩  نفس المرجع، ص٥٧.
٥٠  «تجديد الفكر العربي»، ص٦٠.
٥١  د. حسن حنفي، «تجديد الفكر العربي» إشكال التواصل والانقطاع في فكر زكي نجيب محمود، مجلة القاهرة، العدد ١٣٢، نوفمبر ١٩٩٣م.
٥٢  «تجديد الفكر العربي»، ص٧٣.
٥٣  Hegel: History of Philosophy Vol. I p. 45 (English Trans. By E. S. Haldane).
٥٤  «تجديد الفكر العربي»، ص٧٣.
٥٥  «تجديد الفكر العربي»، ص٧٤.
٥٦  د. حسن حنفي، «أشكال التواصل والانقطاع» مقالٌ سابق.
٥٧  القرامطة فرقةٌ من الشيعة الإسماعيلية أسسها في جنوب العراق عام ٨٩٠ ميلادية حمدان قرميطي (ولفظ «قرميطي»؛ أي أحمر العينين، هو الذي اشتُقت منه كلمة «القرامطة»).
٥٨  ثورة الزنج قام بها الزنج، وهم جماعات العبيد الذين استُقدموا من أفريقيا عام ٨٦٩ ميلادية، بقيادة رجل فارسي اسمه علي بن محمد، زعم أنه ينتسب إلى علي فاطمة، استغل أوضاع العبيد السيئة فحرضهم على الثورة، واعدًا إيَّاهم بالحرية والثروة.
٥٩  راجع في ذلك كله د. حسن حنفي، تجديد الفكر العربي: أشكال التواصل والانقطاع في فكر زكي نجيب محمود»، مجلة القاهرة، العدد ١٣٢ نوفمبر ١٩٩٣م.
٦٠  د. حسن حنفي، المرجع السابق.
٦١  د. حسن حنفي، المرجع السابق.
٦٢  عرضنا لهذا الموضوع بالتفصيل في كتابنا «الطاغية»: دراسةٌ فلسفية لصورٍ من الاستبداد السياسي»، سلسلة عالم المعرفة بالكويت، العدد ١٨٣، ومكتبة مدبولي عام ١٩٩٧، قارن بصفةٍ خاصة ص٢٠٦–٢٠٨ وص٢١٢–٢١٣.
٦٣  «تجديد الفكر العربي»، ص٧٥.
٦٤  «تجديد الفكر العربي»، ص٧٩.
٦٥  المرجع نفسه، ص٨١.
٦٦  المرجع السابق، ص٨٢.
٦٧  «تجديد الفكر العربي»، ص٢١٦–٢١٧.
٦٨  المرجع نفسه، ص٢١٧.
٦٩  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٢٣.
٧٠  المرجع نفسه، ص٢٣٢–٢٣٣.
٧١  المرجع نفسه.
٧٢  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٣٣.
٧٣  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٣٥.
٧٤  المرجع السابق، ص٢٣٩.
٧٥  المرجع السابق، ص٢٥١.
٧٦  المرجع نفسه، ص٢٥٤.
٧٧  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٧٤.
٧٨  هيجل «أصول فلسفة الحق»، ص١١٢، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام (المجلد الأول من المؤلفات الهيجلية)، أصدرته مكتبة مدبولي بالقاهرة، عام ١٩٩٦م.
٧٩  قارن: إمام عبد الفتاح إمام، «مدخل إلى الفلسفة» ص١١١ من الطبعة السادسة، مؤسسة دار الكتب الكويت، عام ١٩٩٣م.
٨٠  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٧٧.
٨١  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٧٨.
٨٢  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٨٨.
٨٣  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٩٤.
٨٤  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٩٨.
٨٥  المرجع السابق، ص٢٩٩.
٨٦  نفس المرجع، ص٢٩٩.
٨٧  نفس المرجع في نفس الصفحة.
٨٨  «تجديد الفكر العربي»، ص٣٠٢.
٨٩  «تجديد الفكر العربي»، ص٣٠٦.
٩٠  «تجديد الفكر العربي»، ص٣١٥.
٩١  المرجع السابق، ص٣١٣.
٩٢  نفس المرجع، ص٣١٦.
٩٣  «تجديد الفكر العربي»، ص٣٢٠.
٩٤  د. عثمان أمين: «الجوانية: أصول عقيدة وفلسفة ثورة»، ص٩، دار القلم، القاهرة ١٩٦٤م.
٩٥  المرجع نفسه، ص٧٤.
٩٦  «تجديد الفكر العربي»، ص٥٧–٥٨.
٩٧  المرجع نفسه، ص١٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤