الفصل الثاني

الفلسفة الثنائية

(١) ثنائياتٌ كثيرة وجذورها واحدة

للثنائية الفلسفية صورٌ شتَّى: منها النظرة الثنائية إلى العالم التي تستهدف تفسيره بمنظورين مختلفين: وتلك هي الثنائية الإبستمولوجية، ومنها القول بوجود جوهرين متمايزين في عالم الواقع، وتلك هي الثنائية الميتافيزيقية: ثنائية الله والعالم، المادة والروح، وما يتفرَّع عنها من ثنائيةٍ بين الجسم والذهن … إلخ. كما أننا نستطيع كذلك أن نقول إن هناك ثنائية ثقافية أو حضارية تتمثل في القول بوجود ثقافتين مختلفتين، لكلٍّ منهما خصائص معينة تتميز بها عن الثقافة الأخرى.

غير أن هذه الصور المختلفة من «الثنائية» ليست منفصلةً أو متباعدة على نحو ما تبدو لأول وهلةٍ؛ إذ إننا مثلًا نستطيع أن نستخلص من النظرة الثنائية إلى الكون، وهي الثنائية الميتافيزيقية أو الأنطولوجية نظرية خاصة في تحليل المعرفة.١ كما أننا قد نجد أن خصائص الثنائية الثقافية مرتبطة في كل حضارةٍ بنظرةٍ خاصة إلى الواقع وبتحليلٍ معين للمعرفة.٢
وفي استطاعتنا أن نقول إن زكي نجيب محمود المفكر والأديب يُجسِّد في شخصه، وفي إنتاجه الفكري، هذه الثنائيات جميعًا التي تعبر أدق تعبير عن مشكلاتنا الفكرية والثقافية منذ بداية عصر النهضة العربية في القرن الماضي، كما سبق أن ذكرنا وحتى يومنا الراهن. ولم تكن الفلسفة العربية التي اقترحها في «تجديد الفكر العربي» بما فيها من ثنائياتٍ بين السماء والأرض، أو بين الله والإنسان، أو بين العقل والوجدان … إلخ إلخ، إلا تلخيصًا للثنائية التي يعيشها مجتمعنا العربي، وخبرها مفكرنا الكبير منذ بداية نضجه العقلي، ولعل المشكلات التي تثيرها هذه الثنائية وما تسببه من حيرةٍ وقلقٍ، كانت من بين الدوافع التي دفعته إلى «الوضعية المنطقية»، فلم تكن اللحظة النادرة التي تحدَّث عنها في ربيع عام ١٩٤٦م، أو أحسَّ فيها بما يشبه اللمحة الذهنية، تتوقد لتُضيء له الطريق، سوى عثور على حلٍّ لمشكلة الثنائيات التي وجدها في ثقافة مجتمعه، بل أحسَّ بها في أعماقه؛ ومن ثمَّ فليس غريبًا أن يصف هذا الموقف الفلسفي الجديد الذي فرَّق له بين مجال الوجدان، ومجال العقل، بهذه العبارات ذات الدلالة الواضحة: «لقد أراد لي توفيق الله، منذ بدأت حياتي العقلية المنتجة، أن أقع على طريقٍ من طرق التفكير الفلسفي، رأيته كأنما خُلقت له وخُلق لي، ثم رأيته وكأنه أنسب ما أقدمه في عالم الفكر لأمَّتي؛ لأنه إذا كان الغموض والخلط بين المعاني أحد الأمراض العقلية التي أصابت أمَّتي، فتلك الطريقة من طرق التفكير هي من أنجح وسائل العلاج، وأما تلك الطريقة فهي أننا إذا كنا في مجال العلم: فلا بد أن يجيء القول الذي نقوله مما يطابق الواقع عند التطبيق. أما مجالات القول الأخرى فلكلِّ مجال منها معياره الخاص …»٣ وعلينا أن ننتبه جيدًا إلى أمثال هذه العبارات الهامة، التي تدلُّ أولًا على أنه كان يعاني من مشكلة الثنائية بين مجالَي العلم والوجدان، وأنه كان يعتقد أن الخلط بينهما، بله الخلط بين المعاني والأفكار والمفاهيم مرضٌ يسود ثقافتنا، وأنه وصل إلى الوضعية المنطقية بوصفها حلًّا منطقيًّا لما تُعانيه هذه الثقافة من اضطرابٍ ومشكلات، لا سيما في تفرقة هذه الفلسفة الأساسية بين هذين المجالين الرئيسين من مجالات القول؛ ولهذا فإننا كثيرًا ما نجده يعبر عنها كما لو كان يعرفها من قبل! فهذا الموقف الفلسفي الجديد الذي عثر عليه في لحظةٍ نادرةٍ من ربيع ١٩٤٦م، كان على حدِّ تعبيره: «كأنما هو ثوبٌ فُصِّل على طبيعة تفكيري، تفصيلًا جعل الرداء على قد المرتدي، بل إني شعرتُ في اللحظة نفسها بأنه إذا كانت الثقافة العربية بحاجةٍ إلى ضوابط تُصلح لها طريق السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا …»٤ ونحن نستشف من هذه العبارات أنه كان يُعاني بالفعل مشكلاتٍ ثقافية، هي تلك الثنائيات التي سوف نتحدث عنها بعد قليلٍ، وأن فكره كان يتجه في مجرى معين قبل أن يتعرف على الوضعية المنطقية، فلما عرفها شعر أنها جاءت ملائمةً تمامًا لمجرى هذا التفكير!
ثنائية العقل والوجدان سمةٌ أساسيةٌ في حضارة الشرق، وهي كذلك عند مفكرنا؛ ولهذا كان زكي نجيب محمود في أعماقه، وفي حياته، وفكره، كأنما هو التجسيد الحي «للشرق الفنان» الذي يجمع بين النظرة الذاتية المباشرة إلى الوجود، التي تجعله خطرةً من خطرات النفس أو نبضةً من نبضات القلب … وهي نظرة الروحاني المتصوف والشاعر والفنان … وبين نظرة العالم الذي يُقيم بينه وبين الكائنات حاجزًا من قوانينه ونظرياته.٥ لكن هذا الشق الثاني غير موجودٍ الآن، وتلك هي مشكلة الشرق «الأوسط»، وتلك هي مشكلة الثنائية في الثقافة العربية التي عاناها مفكرنا منذ مطلع نضجه العقلي، ولم يستطع أن يوفِّق بينها فكيف يجتمع العقل والوجدان في تصورٍ نظريٍّ عام …؟! ثم جاءت الوضعية المنطقية لتعطيه تفرقةً بين مجالين كان يستشعرهما بداخله، فكأنما أعطته الإطار النظري الذي كان يبحث عنه، وإن كانت استفادته من هذا المذهب لم تتعد الخطوط العريضة التي تُعينه على حل مشكلاته، ومشكلات أمته الفكرية، من حيث هو «منهج»، دون أن يتقيَّد بحرفيته كمذهبٍ أو يورِّط نفسه في مضمونٍ فكريٍّ بعينه: «فكنتُ كمن يضع في يده ميزانًا يزن به الأشياء، دون أن يملأ يديه بمادةٍ معينةٍ، لا بد أن تكون هي وحدها موضع الوزن والتقدير …»٦
وعلى ذلك فإن النظرة الثنائية التي لخَّصها في كتابه «الشرق الفنان» عام ١٩٦٠م، ووصفها بأنها بمثابة حجر الزاوية في بناءٍ فكريٍّ جديدٍ، ظهرت معالمها الكبرى خلال السبعينيات في تجديد الفكر العربي و«المعقول واللامعقول في تراثا الفكري» وثقافتنا في مواجهة العصر.٧ أقول لم تكن هذه النظرة «جديدة» إلا في وضوح معالمها، وتحديد خطوطها الرئيسية، على نحوٍ محدودٍ متميزٍ، ولهذا فقد كان على حقٍّ تمامًا في قوله: إن هذا البناء الفكري الجديد جاء ليُكمِل، لا لينقُض، ما أنجزه خلال الخمسينيات من تحديدٍ لمنهج التفكير العلمي.»٨
ذلك لأن بذور هذه الثنائية كانت قائمةً في أعماق وجوده متغلغلة في تفكيره طوال حياته على نحوٍ متوازن بين العقل والوجدان، وهو يرجو أن يحدث هذا التوازن في ثقافتنا العربية، ونحن عندما نقول إنه يُجسِّد في شخصه هذه الثنائية المتوازنة والمرجوة لمجتمعنا، فإننا نقصد المعنى الحرفي لهذه العبارة، فهو عندما أراد مثلًا، أن يكتب سيرته الذاتية لم يجد أمامه مفرًّا من تصويرها في قالب «ثنائيٍّ واضح»، فيكتب كتابين منفصلين: «قصة نفس» يحكي أعماق الجانب الذاتي الباطني غير المرئي، ثم «قصة عقل» الذي يروي تطوره العقلي في فترةٍ تزيد على ستين عامًا! وإنك لتلمس هنا وهناك، داخل كل كتابٍ من هذين الكتابين ضربًا واضحًا من الثنائية لا سيما ثنائية «العقل والوجدان» «ثنائية العالم والفنان» … وهو عندما يريد، مثلًا آخر، أن يُصوِّر نفسه من الداخل، في «قصة نفس» يختار لها شخصيتين رئيسيتين تمثلان هذه الثنائية بوضوح كامل: شخصية الأحدب «رياض عطا»، صاحب الوجدان الملتهب، وشخصية «إبراهيم الخولي»، صاحب العقل الواضح والأسلوب العلمي.٩ ويدور حول أحيانًا — ينقلب إلى صراعٍ أحيانًا أخرى — بين هاتين الشخصيتين بحثًا عن الكيفية التي يمكن بواسطتها التوفيق بين «العقل والوجدان»، بحيث يكون هناك انسجامٌ أو توازن بين هذين الجانبين، فلا يطغى جانبٌ على جانب، يقول الثاني للأول توضيحًا لموقفه: «لستُ أقل منك حرصًا على مشاعر الإنسان وآماله ومُثله العليا، هذه المشاعر والآمال والمُثل التي زعمت لي في خطابك الأخير، أنني سائرٌ بمذهبي نحو هدمها، كل ما هنالك من أمرٍ في هذا الصدد، هو أنني أفرِّق بين لغة العقل ولغة الشعور، فمن لا يريد أن يتحدث عمَّا يقع في حسِّه مما يُتاح للآخرين أن يراجعوه فيه بحواسهم؛ فهو لا يريد أن يتحدث بلغة العقل، وليس في ذلك رفع ولا خفض للغة المشاعر، بل الأمر أمر تفرقةٍ بين نوعين مختلفين من الكلام، فإذا كان المجال مجال علم فلا يجوز للشعور أن يتسلَّل إلى سياق الحديث بألفاظه الدالة على وجدان، أما إذا كان مجال أدب وفن فليختر ما يشاء من لفظٍ ليثير في سامعه المشاعر التي يقصد إلى إثارتها فيه … فلنعطِ ما للعقل للعقل وما للشعور للشعور …»١٠
ولعلك تلمح في هذه الوقفة الفلسفية الأثر الواضح الذي تركته الوضعية المنطقية في طريقة تفكيره: فهناك شروطٌ ينبغي مراعاتها في أية جملةٍ يريد لها صاحبها أن تكون ذات معنى مفهوم عن الطبيعة الخارجية، أو أي جزءٍ محدد من تلك الطبيعة؛ ذلك مجالٌ واحد من مجالات الكلام ألا وهو المجال العلمي، أما ما عداه من ميادين القول؛ كالشعر وغيره من ضروب التعبير الفني، فلها شروط أخرى خاصة بها يعرفها المشتغلون بتلك الميادين.١١ ومن ثم فلا يجوز أن يكون هناك خلط بين فلسفةٍ ودينٍ، وبين عقل وإيمان، بين منطق وفن … إلخ، وهذا هو الموقف الذي أراده لأبناء أمَّته أن يستخلصوه من تراثهم، شكلًا لا مضمونًا، وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضًا، بل أن يجعلوا بينهما تعاونًا للوصول إلى هدفٍ واحد، فلكلٍّ من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك.١٢ فيكون موقفنا كمن استكثر أن يترك العقل وحده حكمًا في الميدان فقالوا: نجعل للإيمان قسطًا وللعقل قسطًا …١٣ فهو إذا كان متحمسًا للعقل على نحوٍ ظاهرٍ، فذلك لأن هذا الجانب ناقصٌ في ثقافتنا، لكن ذلك لا يعني أنه يُهمل ذلك الجانب الأخر؛ أعني جانب الخيال والوجدان، يقول: «من يقرأ لي فيراني متلفعًا بمنطق العقل رائحًا وغاديًا، وقد لا يعلم أن لي خيالًا يشتعل لأتفه المؤثرات اشتعالًا يكتسح أمامه كل ما يعترض طريقه من قوى النفس الأخرى …»١٤

(٢) البدايات الأولى للثنائية الإبستمولوجية

يحدثنا في «قصة عقل» أنه كان في العشرينيات من عمره، وبعد تخرجه مباشرةً، صاحب ملحمة صوفيةٍ: «نزع إليها صاحبنا منذ فراغه من دراسته، وأخذت تعاوده حينًا بعد حينٍ وامتدت معه أعوامًا جاوزت أعدادها عشرة.»١٥ لكنها لم تنتهِ بعد هذه الأعوام العشرة، كما قد توحي هذه العبارة، وإنما أُعيد تشكيلها لتتحول إلى نظرة الفنان التي تحدَّث عنها فيما بعد، ووصفها بأنها سمة الشرق الصوفي.١٦ في هذه الأعوام الأولى نجد أمامنا شابًّا يؤمن «بوحدة الوجود»، ويكتب عنها مقالًا لينشره سلامة موسى في «المجلة الجديدة»، ويكون الدافع إلى كتابة المقال «رؤية ذاتية إلى الوجود»، سوف يتحدث عنها بعد ذلك «في الشرق الصوفي»، فهو يسير وحده بين الحقول في الريف، ويقف طويلًا أمام ماشيةٍ ألقيت أمامها أعواد الذرة لتطعم، فتدور في ذهنه صورٌ متلاحقة لألوانٍ من الوجود، يعتمد بعضها على بعضٍ ويتحوَّل بعضها إلى بعض، نباتٌ يتغذَّى من عناصر الأرض، وحيوانٌ يتغذَّى من النبات، وإنسانٌ يتغذى من لحم الحيوان تغذية تسري في دمائه وفي أعصابه، فإذا هو يُخرج غذاءه ذاك علمًا وفلسفة وشعرًا، وتملؤه هذه الفكرة فيعود ليكتب مقالة عن «وحدة الوجود».١٧ وعندما تدور الأيام متقلبة به بين سبل الفكر، فإنه يظل مُبقيًا في أعماقه على فكرة «وحدة الوجود»، التي تعاوده بين الحين والحين، ولعل أجمل ما كتبه فيها بعد ذلك مقال بعنوان «درس في التصوف»، نُشر في عددٍ خاص من الرسالة في ٣ مارس ١٩٤١، وهو عبارة عن حوارٍ بين أستاذٍ متصوفٍ مؤمن بوحدة الوجود، وتلميذه الشاب الذي يظهر في أول الدرس عابسًا نافرًا مما يقوله الأستاذ. ولقد لخَّص هذا المقال في كتابه «قصة عقل».١٨
غير أن هذه النظرة الصوفية التي تجلَّت في كثيرٍ من المقالات، والتي كانت تعاوده حينًا بعد حين، وامتدت معه أعوامًا طويلة (والواقع أنها ما زالت موجودةً حتى اللحظة التي كتب فيها «قصة عقل»)، لم تكن قائمةً بذاتها، بل صاحبتها نظرة علمية صارمة، يقول عن نفسه إنه: «خلال تلك الأعوام نفسها (الأعوام التي سيطرت فيها النظرة الصوفية)، كانت تغلب عليه النظرة العلمية الصارمة، التي لم تكن تريد له أن يأذن لشيءٍ في الوجود كله أن يفلت من قبضة العلم، لا يستثني من ذلك القيم الخلقية نفسها وما نُسمِّيه بالمُثُل العُليا …»١٩
وهذه الثنائية الإبستمولوجية التي عانى منها في صدر الشباب، هي التي لخَّصها بوضوحٍ شديدٍ في «الشرق الفنان» فيما بعد، ورأى أن جانبًا منها وهو «النظرة الصوفية»، يمثل خاصيةً أساسية في نظرة الشرق الأقصى إلى العالم، في حين أن الجانب الآخر وهو «النظرة العلمية»، يمثل الخاصية الأساسية للفكر الغربي … أما ثقافتنا العربية فهي تحاول — أو ينبغي لها أن تحاول — الجمع بينهما يقول: «هما إذن، نظرتان ينظر الإنسان بأيٍّ منهما إلى نفسه وإلى العالم، أو ينظر بكلتيهما: بهذه مرة وبتلك مرة أخرى؛ ذلك أن الإنسان إذ يقف إزاء الحقيقة الخارجية، فإما أن ينظر إليها خلال ذاته فيشبهها بنفسه تشبيهًا يدمج الطرفين في كائنٍ واحد، وتلك هي وقفة الفنان أو المتصوف ومن لفَّ لفهما، وإما أن ينظر إليها، وكأنه متفرجٌ يتابع ما يجري أمامه على مسرح الحوادث، فيصفه وصفًا يصلح لنفسه ولغيره من الناس على حدٍّ سواء، وتلك هي نظرة العالم ومن يجري مجراه في التفكير، وثالث الفروض أن يجمع بين النظرتين ليفرِّق بين أمرين، فإن كان موضوع النظر وجدانًا ينبض به قلبه إزاء الكون نظر إليه بالنظرة الأولى، فكان فنانًا أو متصوفًا، وإن كان موضوع النظر ظواهر الأشياء الخارجية نظر إليه بالنظرة الثانية، فكان عالمًا أو ذا نزعةٍ علمية … والنظرة الأولى هي طابع الشرق الأقصى والثانية هي طابع الغرب.»٢٠ وأما تآلف النظرتين فهو مميزٌ تميزت به ثقافة الشرق الأوسط في عصور ازدهارها، عندما بلغت حضارتها أوجها.٢١ انظر إلى العالم من داخله تكن فنانًا، أو انظر إليه من ظاهره تكن من رجال التجربة والعلم، انظر إليه وجودًا واحدًا حيًّا تكن من أصحاب الخيال البديع المنشئ والخلَّاق، أو انظر إليه كثرة من ظواهر يصحب بعضها بعضًا، أو يعقب بعضها بعضًا، تكن من أصحاب النظر العقلي الذي يستدل النتائج ويقيم الحجج والبراهين، ذلك بطبيعة الحال، بل ينبغي لك إن أردت لنفسك تكامل الجانبين، أن تجمع بين النظرتين، فتصبح الفنان حينًا، والعالم حينًا. ولقد اجتمع الطرفان: العقل والوجدان، في ثقافة الشرق الأوسط، وهو في قمة مجده، على نحوٍ من التوازن الذي ربما لم يتحقق بالدرجة نفسها في أية ثقافةٍ أخرى. والمشكلة في هذه الثقافة الآن أن كفة الوجدان طاغيةٌ، فليس ثمة توازن. وإذا قلنا ثقافة الشرق الأوسط فإنما يعنينا منها الثقافة العربية بصفةٍ خاصة.٢٢ وهي ثقافةٌ يُجسِّدها مفكرنا الكبير على نحوٍ صارخٍ؛ ولهذا لم تكن مصادفةً، كما يقول هو نفسه: «حين أنشئ المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب أن وجد نفسه عضوًا في لجنتين من لجانه: لجنة الفلسفة ولجنة الشعر، كما وقع عليَّ اختيار وزارة الثقافة، في الوقت نفسه تقريبًا، عضوًا في لجنة تفرغ الفنانين والأدباء، وعضوًا في لجنة المقتنيات الفنية، ولبثت عضوًا في تلك اللجان التي جمعت بين الفلسفة والأدب والفن ما يقرب من عشرة أعوام أو زيد عليها …»٢٣ كما أنه ينال التقدير مرتين: مرة جائزة الدولة للفلسفة، وأخرى جائزة الدولة للأدب …٢٤ وفي مقالات الأهرام امتزجت الشخصيتان على حدِّ تعبيره، في هويةٍ واحدةٍ: فالفكر ذو أعماقٍ وأبعاد، والانفعال الوجداني ذو حرارةٍ ونبض.٢٥ لكن ذلك كله لا يعني أن تشخيصه للثنائية المميزة للثقافة العربية، إنما هو «إسقاط» لا أكثر ولا أقل! فسوف نتبيَّن فيما بعد كيف برزت هذه الثنائية واضحة في الحضارة الإسلامية، وسوف نلتقي بكثيرٍ من الأمثلة التي تؤيد هذه القضية، فثنائية «العقل والوجدان»، سمةٌ تميزت بها ثقافتنا في عصور ازدهارها، فلما مالت هذه الحضارة إلى الانحدار، حدث الخلل بين الكفتين فرجحت كفة العاطفة والوجدان على نحوٍ صارخٍ، ومهمتنا أن نُعيد التوازن إلى ما كان عليه أيام الازدهار بأن نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.٢٦

(٣) ثنائية أنطولوجية

إذا كانت الفاعلية الفلسفية هي في صميمها حفرٌ تحت أرض الواقع الفكري، لعلنا نصل إلى الجذور الدفينة التي انبثق عنها هذا الواقع، فقد قام فيلسوفنا.٢٧ بهذا الحفر في الحياة الثقافية المعاصرة، ليرتدَّ بها إلى منابتها، فتكون هذه المنابت هي ما يمكن أن نُسمِّيه بالفلسفة العربية المعاصرة، «وتدور عجلة الزمن مع صاحبنا، وإذا هو أمام قضيةٍ عقليةٍ خاصة بالرؤية العامة التي ينظر بها الإنسان وينظر إلى العالم على أساسها، تتوقف نتائج فرعية لا حصر لعددها، فماذا تكون تلك الرؤية التي يختارها …؟! رأى صاحبنا أن أقرب ما يمدنا بالرؤية الملائمة لنا، هو الافتراض الذي يرى أن الروح والعقل ليسا أمورًا من مادة، وأن المادة الخالصة لا هي من روحٍ ولا هي من عقلٍ، وأن الإنسان قد اجتمع فيه الجانبان: الروح والعقل من جهة، والجسم من جهةٍ أخرى …»٢٨ تلك هي الثنائية الإبستمولوجية الأساسية عند زكي نجيب محمود، لكنها سوف تؤدِّي في الحال إلى ثنائية أنطولوجية يرى أنها كامنةٌ في أعماق ضمائرنا جميعًا، «أحسب أن لو تعمقنا ضمائرنا لوجدنا هناك مبدأ راسخًا عنه انبعث — وما تزال تنبعث — سائر أحكامنا في مختلف الميادين، وهو مبدأ لو عرضته على الناس في لغةٍ واضحةٍ صريحة، لما وجدت منهم أحدًا يحتجُّ أو يعارض؛ وأعني به مبدأ الثنائية التي تشطر الوجود شطرين، لا يكونان من رتبةٍ واحدة، ولا وجه للمساواة بينهما؛ هما الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث، أو قل هما السماء والأرض إن جاز هذا التعبير.٢٩
ومعنى ذلك أن ثنائيتنا الأنطولوجية من نوعٍ فريدٍ، صحيحٌ أنها تشطر الوجود شطرين، كما فعلت الثنائية الميتافيزيقية على مرِّ التاريخ، لكنها تختلف عن المذاهب الثنائية في: «أنها لا تسوي بين الشطرين: بل تجعل للشطر الروحاني الأولوية على الشطر المادي؛ فهو الذي أوجده وهو الذي يسيره، وهو الذي يحدد له الأهداف …»٣٠
قد يُقال: وماذا كانت ثنائية أفلاطون إن لم تكن هي بعينها ما نسمِّيه «بالثنائية الفريدة» الخاصة بنا … ألم يشطر أفلاطون الوجود إلى وجودٍ معقول ووجودٍ محسوس، وجعل الثاني معتمدًا على الأول، إن لم تكن مجرد «ظل» له يتصف بالتغير والحدوث والعرضية … إلخ، في حين يتسم الأول بالأزلية والروحية؟ ألم تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد والجزئيات؟ ويُجيب الدكتور زكي نجيب بقوله: «إذا قيل إن الفلسفة الأفلاطونية وما جرى مجراها، كانت ضربًا من الثنائية التي تجعل الأولوية للمطلق المجرد على الأفراد الجزئيات، قلنا: نعم! ولكن أفلاطون قد بلغ في ذلك حدًّا ألغى معه وجود الأفراد الجزئية وجودًا حقيقيًّا، بما في ذلك أفراد الإنسان أنفسهم، فليس للفرد الإنساني الواحد من حقيقةٍ عنده إلا بمقدار ما يشارك في الإنسانية بمعناها المجرد … ولا أظن أن مثل هذا الإلغاء لحقائق الأفراد، متفقٌ مع عقيدتنا التي تُلقي على أفراد الناس تبعات خُلقية عما يعملون أفرادًا، لا أنواعًا وجماعات، فهذا معناه اعترافنا الصريح بالوجود الحقيقي لهؤلاء الأفراد في حياتهم الدنيا، وفي حياتهم الآخرة على حدٍّ سواء … وإذن فالنظرة الثنائية التي تناسبنا هي نظرةٌ متميزةٌ فريدة تجعل الكائن الإلهي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية في جهةٍ أخرى …»٣١
ومعنى ذلك أننا سنجد أنفسنا أمام ثنائيةٍ أنطولوجية تتفق مع الثنائية الإبستمولوجية السابقة؛ لأنه لو كان هناك ضربان من الوجود: وجودٌ «مطلق» ووجودٌ «حادث»، لكان لا بد من وجود طريقين للمعرفة: وإنِّي لأتساءل، على أساس نظرتنا الثنائية المقترحة، لماذا لا يكون للمعرفة نطاقان لكلٍّ منهما وسيلة خاصة به؟! فإذا كان الأمر أمر الحقيقية المطلقة جاءتنا المعرفة عن طريق، وإذا كان الأمر أمر الطبيعة وكائناتها جاءت المعرفة عن طريقٍ آخر. ولا يجوز لأيٍ من النطاقين أن يزاحم في وسائله، ولكم نشبت معارك بين أناسٍ أرادوا تطبيق وسيلة العالم الأول على العالم الثاني، أو وسيلة العالم الثاني على العالم الأول، فكانوا يُعانون من هذا الخلط شر ما يعاني من تشتتٍ وبلبلةٍ ولبسٍ وغموض …»٣٢
وسوف يتفرَّع عن ذلك بطبيعة الحال ثنائية «المنهج»، بحيث نجعل لدراسة ظواهر الطبيعة — أعني العلوم الطبيعية — منهجًا خاصًّا ذا شروطٍ معينةٍ، ولما يتصل بالحقيقة المطلقة منهجًا آخر. أما منهج العلوم الطبيعية فيقوم على مشاهدة الحواس وإجراء التجارب، وعلى سلامة التطبيق، فلا يعنينا من الدنيا إلا ظواهرها، بحيث لا يجوز لأنظارنا عندئذٍ أن تنفذ إلى ما وراء تلك الظواهر؛ لأنها بالنسبة للعلوم ليس لها وراء؛ فهي الظواهر وحدها … أما منهج ما وراء الوقائع الصمَّاء من حقائق؛ كالقيم الخلقية مثلًا فذلك شيءٌ آخر، قد لا نلجأ فيه إلى مشاهدة الحواس، وإلى التجارب العابرة بقدر ما نلجأ فيه إلى إدراك البصيرة أو إلى إملاء الوحي، أو إلى ما يسري بين الناس من عُرفٍ وتقاليد …٣٣

(٤) ثنائية ثقافية أو حضارية

إذا كانت الثنائيات السابقة، إبستمولوجية أو أنطولوجية، تُمثل نظرةً معرفية إلى العالم، وفهمًا خاصًّا لطبيعة الوجود الذي نعيش فيه، وكانت، من ثم، ترتبط بنظرة الإنسان الفرد إلى هذا الوجود، فإن الثنائية الثقافية أو الحضارية تعكس مشكلة المجتمع العربي الحضارية منذ خروجه من العصور الوسطى وحتى اللحظة الراهنة؛ ومن هنا تحولت هذه الثنائية إلى مشكلةٍ تؤرِّق مفكرنا الكبير، كما تؤرق كل مفكرٍ تنويريٍّ، على مستوى الوطن العربي كله، وهي تتلخص في محاولة الإجابة عن هذا السؤال: «كيف السبيل إلى ثقافةٍ نعيشها اليوم، بحيث تجتمع فيها ثقافتنا الموروثة مع ثقافة العصر الذي نحياه، شريطة ألَّا يأتي هذا الاجتماع بين الثقافتين تجاورًا بين متنافرين، بل يأتي تضافرًا تنسج فيه خيوط الموروث مع خيوط العصر نسج اللُّحمة والسدى؟»٣٤
تلك هي المُعضلة التي تتحدى المثقف العربي في زماننا ولا يدري حتى هذه الساعة كيف يحلُّها؛٣٥ ولهذا يسعى مفكرنا إلى الوصول إلى حلٍّ يؤدي بمصر خاصة، وبالوطن العربي عامةً، إلى بعثٍ جديدٍ نواكب به العصر وفكره وحضارته، دون أن نفقد هويتنا التاريخية.٣٦
ولهذا تراه يصف هذه المشكلة بأنها أم المشكلات في حياتنا الثقافية: «لستُ أتردد لحظةً حين أُقرر بأن أم المشكلات الثقافية الراهنة، هي محاولة الكشف عن صيغةٍ لحياتنا الفكرية والعملية، تجمع لنا في طيِّها طرفين؛ إذ تحافظ لنا على خصائصنا العربية الأصيلة، وفي الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها، لنستقبل في رحابة صدرٍ أسُس الحضارة العصرية كما يحياها اليوم روادها …»٣٧ وهو يُطلق عليها أحيانًا اسم «مشكلة الأصالة والمعاصرة»، وربما كان هو أول من استخدم هذين المصطلحين، ويصف قضية الجمع بين أصالتنا وضرورة معايشتنا لعصرنا، بأنها كانت أهم ما تعرَّض له من اهتماماتٍ بالتفكير والكتابة، إذا ما استعرض حياته الفكرية من أولها إلى آخرها …٣٨ فهذه القضية التي تشغله، قضية الدمج بين الأصالة والمعاصرة، هي التي سوف تُشكِّل لنا «المسلم الجديد»، الذي يكون مسلمًا يؤدي فرائض الدين ويقوم بأركانه، ثم «يسعى إلى قوة العلم في أحدث صوره، يسعى إليه من أبوابه ومن نوافذه، ومن كل ثقب إبرة يوصله إلى تلك القوة …»٣٩ وكانت هذه المشكلة هي السؤال الكبير الذي طرحه أستاذنا في مقدمة كتابه «تجديد الفكر العربي»، كيف نُوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منَّا عصرنا أو نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا أو نفلت منها …؟! إنه لمُحالٌ أن يكون الطريق إلى هذه المواءمة هو أن نضع المنقول والأصيل في تجاورٍ، بحيث نُشير بأصابعنا إلى رفوفنا فنقول: هذا شكسبير قائمٌ إلى جوار أبي العلاء، فكيف إذن يكون الطريق؟ كيف السبيل إلى ثقافةٍ موحدةٍ متسعةٍ يعيشها مثقفٌ حيٌّ في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل في نظرةٍ واحدة؟!٤٠ وفي استطاعتنا أن نقول إن جهوده لا في «تجديد الفكر العربي»، ولا في «المعقول واللامعقول»، وحدهما، بل في كل ما كتبه قبل ذلك وما كتبه بعد ذلك … إنما استهدفت الإجابة عن هذا السؤال الكبير، الذي فرض نفسه علينا طوال أمدٍ ليس بقريبٍ.٤١ فقد فرضت هذه المشكلة نفسها على مثقفي العالم العربي، منذ اللحظة التي شعر فيها هؤلاء بوجود ثقافةٍ ذات طابعٍ عالميٍّ، تجتاح الجو الفكري للبلاد العربية، ويتعين تحدي علاقاتها بالثقافة الموروثة عن الأسلاف.٤٢ وإن شئنا تحديدًا أكثر قلنا إنها المشكلة التي أصبحت تمثل قطب الرحى في نهضتنا الحديثة، منذ جاءت الحملة الفرنسية على مصر ووصلت شواطئ الإسكندرية عام ١٧٩٨م؛ أي قبيل فاتحة القرن التاسع عشر بسنين، وكان مع الحملة جماعة من العلماء الفرنسيين المتخصصين في ميادين علمية مختلفة، فكان ما صنعه أولئك العلماء أن استدعوا علماء الأزهر الشريف، جماعة بعد جماعةٍ، ليطلعوهم على عجائب العلوم الجديدة؛ من ذلك مثلًا، أن يوقفوهم صفًّا مشتبكي الأيدي جارًا مع جاره، ثم يمسون الواقف في أول الصف بسلكٍ مكهرب، فتسري رعدة الكهرباء في جميعهم، فأما هم فيأخذهم العجب، وأما العلماء الفرنسيون فيأخذهم الضحك! ولقد حدث يومًا أن اغتاظ من تلك الألاعيب الصبيانية أحد الشيوخ، فقال لهم ما معناه: هل في علمكم الجديد ما يجعل إنسانًا موجودًا هنا وموجودًا في بلاد الغرب في وقتٍ واحد؟! فأجابوا بقولهم أن ليس في علومهم ذلك لأنه محالٌ، فرد هو قائلًا: لكن ذلك ممكنٌ في علومنا الروحانية.٤٣
وكأن هذه الحادثة التاريخية قد رسمت بوضوحٍ ناصعٍ حجم المشكلة الثقافية التي نعانيها: حدودها وأبعادها، كما كشفت عن ثلاثة حلول ما زال لها أنصارها حتى هذه الساعة: فريقٌ استمر — كالشيخ الذي أسلفنا ذكره — يرفض ثقافة الغرب، مُكتفيًا بأن يملأ أوعيته من كتب التراث، فكان أصيلًا لكنه غير معاصر، إذ إنه غضَّ النظر عن العصر بكل ما يضطرب به من قضايا ومشكلات فكريةٍ، ومع هذه الجماعة تذهب عامة الناس من غير المثقفين؛ وفريقٌ آخر — وإن كان قلة قليلة — لم يجد بأسًا في أن نمحو صفحتنا محوًا لنملأها بثقافة العصر وحده، كما هي معروفة في مصادرها، بغير تحريفٍ ولا تعديل. وهكذا كان هذا الفريق معاصرًا يعيش قضايا العصر، لكنه غير أصيلٍ لا يرتبط بجذوره الثقافية الأولى. بقي فريقٌ ثالث اهتم بتراثه اهتمامًا واضحًا، ثم راح يطوِّع فكر العصر بعض التطويع، فاستكان له ولو إلى حين، وفي رحاب هذا الفريق تقع الكثرة الغالبة من أعلام الأدب والفكر في تاريخنا الحديث: محمد عبده، ولطفي السيد، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وزكي نجيب محمود … إلخ، وغيرهم مما يزدان بهم مسار نهضتنا، كما سبق أن ذكرنا بالتفصيل، على اختلاف نزعاتهم وأذواقهم، لم يرفضوا العصر، لكنهم حاولوا أن يصوغوه في قوالب الثقافة العربية الأصيلة، مع تفاوتٍ بينهم في درجة النجاح، ومع هؤلاء القادة يذهب معظم المثقفين.٤٤

ولقد ركَّز هذا الفريق الثالث في حركته الشاملة، التي استهدفت النهوض بالحياة الثقافية العربية، لكي تواكب العصر من ناحية وترتبط بهويتنا التاريخية من ناحيةٍ أخرى؛ ركَّز خلاصة دعوته في فكرتين أساسيتين هما «الحرية» و«التعقيل»، وهما في الواقع وجهان لحقيقةٍ واحدةٍ. أما الحرية فلا تكون إلا من قيد، والقيد الذي كان قائمًا عندئذٍ، بل القيد الذي أخذ يزداد صلابةً على مرِّ القرون التي سادها الحكم التركي، هو قيد الجهل والخرافة في فهم الناس للظواهر والأحداث، وهو أيضًا قيد النص المنقول الذي يفرض نفسه على الدارسين فرضًا، بحيث لا يكون أمام هؤلاء الدارسين من منافذ الفكر المستقل، إلا أن يعلقوا على النص بشروح، ثم على الشروح بشروح … وهلم جرًّا. وهي نفسها الحالة التي جاءت النهضة الأوروبية لتجدها جاثمةً على عقول الدارسين، فكان التخلص منها والخروج عليها هو نفسه معنى النهضة ولبُّها.

وأما «التعقيل» فهو أن نجعل احتكامنا إلى العقل دون النزوة والهوى، وإلا وقعنا مرةً أخرى عبيدًا لسطوة العاطفة والانفعالات، وإذا قلنا «العقل» فقد قلنا أحد أمرين، أو الأمرين معًا، فإما أن يستند الإنسان في أحكامه إلى شواهد الحسِّ والتجربة، وذلك إذا كان موضوع البحث ظاهرةً خارجية من ظواهر الطبيعة والمجتمع، أو أن يستند الإنسان في أحكامه إلى سلامة الاستدلال في استخراج تلك الأحكام من مقدماتها، وذلك حين يكون موضوع البحث فكرةً نظرية، وقد يجتمع الطريقان معًا في بحثٍ واحد بعينه، فنجمع شواهد من تجاربنا أولًا، ثم نكوِّن فكرةً نظرية نستدلُّ منها إلى ما يسعنا من نتائج، وذلك هو سبيل العقل.٤٥

على أن الفكرتين — فكرة الحرية وفكرة التعقيل — مكملتان إحداهما للأخرى؛ لأنك إذا تحررت من قيود الجهل والوهم والخرافة، كنت بمثابة من قطع من الطريق نصفه السلبي، وبقي عليه أن يقطع النصف الآخر بعمل إيجابيٍّ يؤديه؛ كالسجين تُخرجه من محبسه، فلا يكون هذا وحده كافيًا لرسم الطريق الذي يسلكه بعد ذلك، وكذلك التحرر من خرافة قد يقع في خرافةٍ أخرى؛ ولهذا كان لا بد لتكملة الطريق على الوجه الصحيح، أن تكون أمام المتحرر بعد تحرُّره خطة مرسومة يهتدي بها، وما تلك الخطة الهادية إلا خطة «العقل» في طريق سيره، ومعنى ذلك أن النهضة الثقافية التي جاءت بالدعوة إلى الحرية والتعقيل، قد كفلت أمامنا سواء السبيل بنصفها السلبي والإيجابي معًا …!

ولا شك أن العلوم المختلفة من طبيعةٍ وكيمياء وطب وهندسة وغيرها، من شأنها أن تكفل «التحرر» من الخرافة، كما تكفل «تعقيل» السير إلى الهدف الذي تريده؛ ومن هنا جاء اهتمام مفكرنا الكبير بالعلم ومناهجه، والتصدِّي بكل جهدٍ ممكن لإشاعة التفكير العلمي في كل ما يتعلق بالطبيعة وظواهرها، ولعل كتبه الأكاديمية كلها ليست سوى لبِناتٍ في هذا الصرح، هكذا كانت أهداف «خرافة الميتافيزيقا»، و«نحو فلسفةٍ علمية»، و«المنطق الوضعي»، بجزئيه، الذي أعلن خطته في مقدمته بكل وضوحٍ «أنا مؤمنٌ بالعلم، كافرٌ بهذا اللغو الذي لا يُجدي على أصحابه، ولا على الناس شيئًا، وعندي أن الأمة تأخذ بنصيبٍ من المدنية يكثر أو يقل بمقدار ما تأخذ بنصيبٍ من العلم ومنهجه …»٤٦

كان اهتمامه بالعلوم المختلفة نتيجةً منطقية لاهتمامه «بالحرية والعقل» معًا، وهما الدعامتان الأساسيتان لنهضتنا الحديثة، وهو بذلك إنما يُكمل الشوط الطويل الذي قطعه المفكرون التنويريون منذ عصر رفاعة الطهطاوي حتى الآن.

١  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٨١.
٢  في «الشرق الفنان» عرض لخصائص هذه الثنائية الثقافية، وسوف نعود إلى هذا الموضوع.
٣  «قيم من التراث»، ص١١٧–١١٨.
٤  «قصة عقل»، ص٩٢.
٥  «الشرق الفنان»، ص٧–٨.
٦  «مجتمع جديد أو الكارثة»، ص٢٤٦.
٧  «قصة عقل»، ص١٧٦.
٨  المرجع نفسه في الصفحة نفسها.
٩  «قصة نفس»، ص٢١٦.
١٠  «قصة نفس»، ص١٨٢.
١١  «قصة عقل»، ص١٠٨، وقارن مقدمة الطبعة الثالثة من «موقف من الميتافيزيقا».
١٢  «تجديد الفكر العربي»، ص١٣٦.
١٣  المرجع نفسه، ص١٧٤.
١٤  «عن الحرية أتحدث».
١٥  «قصة عقل»، ص٢٠.
١٦  «الشرق الفنان»، ص١٧.
١٧  «قصة عقل»، ص١٨.
١٨  ص١٩–٢٠.
١٩  «قصة عقل»، ص٢٠.
٢٠  «الشرق الفنان»، ص١٠٩–١١٠.
٢١  المقصود بهذه الأحكام العامة أن أئمة الفكر في الهند وفارس والصين … إلخ، كانت تغلب عليهم النظرة الصوفية، ومن ثم كانت السمة الغالبة في ثقافة الشرق الأقصى؛ على حين أن الاستدلال العقلي كان يغلب على أئمة الفكر في الغرب، ابتداءً من ثقافة اليونان القديمة … إلخ، لكن لا يقصد بذلك بالطبع، أن كل عابر سبيل في الشرق الأقصى كان صوفيًّا، وأنه لم يكن بينهم التاجر الذي يحسب المكسب والخسارة، وقل مثل ذلك في ثقافة الغرب.
٢٢  «قصة عقل»، ص١٧٨–١٧٩.
٢٣  «قصة عقل»، ص١٧٨–١٧٩.
٢٤  المرجع نفسه، ص١٧٤.
٢٥  «قصة نفس»، ص٢٤٢.
٢٦  المرجع السابق، ص٢٤١.
٢٧  عندما أصدر قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة الكويت كتابًا تذكاريًّا عن أستاذنا الكبير لبلوغه الثمانين، جعل عنوانه «الدكتور زكي نجيب محمود: فيلسوفًا وأديبًا ومعلمًا»، مطابع الوطن عام ١٩٨٧م، وكتب أحد الزملاء معترضًا على صفتين في هذا العنوان هما: «الفيلسوف» و«المعلم». والحق أن لكلمة فيلسوف معاني مختلفة، ونحن نستخدمها هنا بنفس المعنى الذي أطلقت به على مفكري عصر التنوير: «فقد أطلق على جماعة التنوير في فرنسا كلمة فلاسفة Philosophes»، وهكذا أصبح فولتير، وديدرو، وكوندرسيه، وهولباخ ونظراؤهم يتسمون بالكلمة الفرنسية فلاسفة Philosophes، تميزًا لهم عن الفلاسفة النسقيين Philosophers أي أصحاب المذهب النسقي System، مثل أفلاطون وأرسطو قديمًا وكانط وهيجل حديثًا، قارن مثلًا: The Encyclopedia of philosophy, Vol. II, p. 519 Macmillan 1967.
أما كلمة «معلم» فقد ظن الزميل أنها مقتصرة على أرسطو، والصحيح أن أرسطو يلقب «بالمعلم الأول»، كما يلقب الفارابي «بالمعلم الثاني» … إلخ، ويمكن أن يُطلق لقب «معلم» على أي مفكرٍ تنويريٍّ، فما بالك برجلٍ كان «معلمًا» طوال حياته؟! قارن ما يقوله أستاذنا عن نفسه «معلم أنا مهنةً وفطرةً معًا، فلو لم تسِر بي ظروف حياتي نحو مهنة التعليم لاخترت بطبيعتي أن أكون معلمًا، فلست أحب في هذه الدنيا الطويلة العريضة شيئًا أكثر من حبي للمعرفة وشرحها وتوضيحها ونشرها، وذلك هو التعليم …» قيم من التراث، ص١٦٥.
٢٨  «رؤية إسلامية»، ص٤٣–٤٤.
٢٩  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٧٤.
٣٠  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٧٥.
٣١  المرجع السابق، ص٢٧٦.
٣٢  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٨٢.
٣٣  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٨٢–٢٨٣، لكن يصعب في الواقع أن نقول إننا نأخذ الحقائق المطلقة من العرف والتقاليد، اللهم إلا إذا كان المقصود هنا «المبادئ الأخلاقية» الدائمة، التي تتجسد في هذه العادات كالوفاء والإخلاص والشجاعة … إلخ، والتي يُعبر عنها كل مجتمع بطريقته الخاصة مع أنها واحدة ودائمة.
٣٤  «المعقول واللامعقول»، ص٧.
٣٥  «هموم المثقفين»، ص١٣.
٣٦  «قصة نفس»، ص٢٠٢.
٣٧  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٥٤.
٣٨  «قصة عقل»، ص٢٢٢.
٣٩  «عن الحرية أتحدث»، ص٨٥.
٤٠  «تجديد الفكر العربي»، ص٦.
٤١  المرجع نفسه، ص١٠.
٤٢  د. فؤاد زكريا، «تجديد الفكر العربي في الميزان»، ص٩٩ من الكتاب التذكاري السالف الذكر مطابع دار الوطن بالكويت، عام ١٩٨٧م.
٤٣  «عن الحرية أتحدث»، ص١٤٢.
٤٤  قارن مثلًا: ثقافتنا في مواجهة العصر، ص١٥ وما بعدها.
٤٥  المرجع السابق.
٤٦  المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤