الفصل الثالث

تحت مبضع التحليل

(١) «الحرية» و«العقل»

إذا ما تساءلنا عن الإسهامات الخاصة التي قدَّمها زكي نجيب محمود في سبيل نهضتنا الثقافية، كان الجواب: إنها كثيرةٌ، لقد أكمل في بعضها الدعوة إلى المفاهيم التي كانت تتبلور في مسار النهضة السابق، ولا سيما فكرتَي «الحرية»، و«العقل». لكنه ها هنا كان أكثر تحديدًا؛ ولهذا فإننا نراه ولا يكتفي باستخدام هاتين الفكرتين أو الدعوة إليهما، وإنما يأخذ نفسه بتحديد كل لفظ يريد أن يستخدمه، ويطلب من الآخرين أن يفعلوا ذلك «فهو يتشدَّد في الشروط المفروضة على المتكلِّم الجاد، إذا نطق بعبارةٍ أراد بها انتقال فكرة من رأسه إلى رءوس الآخرين.»١
وإذا كانت الدعوة إلى الدقة في تحديد المعاني هي أهم الهموم، التي حملها هذا المفكر طوال ما يزيد على نصف قرن، فقد كان يشعر أن من أوجب واجباته على نفسه أن يتوخَّى هو مثل هذه الدقة التي يدعو إليها الناس.٢
ولهذا ليس ثمة ما يُدهشنا عندما نجده في بداية حديثه عن الحرية، يتساءل «ما المقصود بالحرية»؟ تلك الكلمة التي ترددت على أقلام الكتاب وألسنة الخطباء والمتحدثين منذ أواخر القرن الماضي … ثم يروح يضرب بمبضع التشريح في هذه الفكرة؛ ليستخرج معانيها المختلفة التي أخذت تزداد مع الأيام اتساعًا وعمقًا، فقد بدأت وهي تتضمن المساواة بين المواطنين «بحيث يكون للمواطنين حق الشورى في أمور بلادهم، ثم إذا جاء المستعمر البريطاني تحول معنى «الحرية السياسية»، ليصبح تحررًا من المستعمر، وظلت هذه القضية هي الشغل الشاغل، إلى أن عبت بها النفوس فتفجرت ثورة ١٩١٩م، فأخذ معنى الحرية يتعمق؛ فلم يعد فقط التحرر من المستعمر، بل أصبحنا نتحدث عن «حرية الاقتصاد الوطني»، و«حرية المرأة»، وحرية الفنان والأديب … إلخ. وهكذا أخذ تيار الحريات يتصاعد قوةً وتنوعًا، إلى أن جاءت ثورة ١٩٥٢م، ففتحت أبوابًا واسعة لحرياتٍ اجتماعية: تحرر الفلاح من تسلُّط صاحب الأرض، وتحرر العامل من تحكُّم صاحب العمل … إلخ.٣

لكنَّ أحدًا، طوال هذا التاريخ، لم يضع «هذه الحريات» على مائدة التشريح، وإنما تُرك التحليل العقلي لزكي نجيب محمود المنطقي؛ لينظر نظرةً فاحصةً مدققة في تلك الحريات بكل فروعها؛ ليكشف لنا عن حقيقةٍ لها خطرها؛ وهي أن أهدافنا السابقة من تلك الحريات كانت تنحصر في الجانب السلبي وحده، بمعنى أن تكون المطالبة القومية مقصورةً على «التحرر» من قيودٍ تُكبِّلها في هذا الميدان أو ذاك؛ كالتحرر من الاحتلال البريطاني، وتحرر المرأة من طغيان الرجل، وتحرر العامل الزراعي من استبداد مالك الأرض، وتحرر العالم الصناعي من تحكم صاحب رأس المال، وتحكُّم كذا في كيت … وبعبارةٍ أخرى أوشكت كل جهودنا المبذولة طلبًا للحرية أن تنحصر في تحطيم الأغلال والقيود، وهو أمرٌ واجبٌ ومطلوب، غير أن التحرر ليس سوى جانب واحد فقط من الحرية هو «الجانب السلبي»؛ إنه في حقيقته لا يزيد على أن يفتح باب السجن لينطلق السجين حرًّا»؛ أي إنه لم يعد مغلول الحركة مقيد الخُطى، ولكن ماذا بعد ذلك؟ ماذا «يصنع» ليحيا؟

ها هنا تبدأ الحرية بمعناها الإيجابي الذي لا بد فيه من «قدرة» الإنسان على أداء عملٍ، ولا قدرة في أي ميدانٍ إلا لمن عرف حقيقة ذلك الميدان وما يتعلق به، إننا نريد «حرية الذين يعلمون».٤

وهكذا ربط مفكرنا ربطًا وثيقًا بين الحرية بمعناها الإيجابي، وقدرة الإنسان على أداء عملٍ معين «يعرف» كيف يقوم به؛ فالجانب الإيجابي من الحرية والمعرفة وجهان لعملةٍ واحدةٍ، أن الطفل الذي يظفر بقلمٍ وورقةٍ بعد بكاءٍ عنيدٍ، «حرٌّ» في أن يخطَّ بالقلم ما يشاء، والفنان «حرٌّ» في إقامة بنائه اللوني على اللوحة، لكن ما أبعد الفرق بين حريةٍ وحرية! لقد أزيلت الموانع التي كانت تحول دون حصول الطفل على ورقةٍ وقلم، فلما بلغ مراده كان حرًّا، وانطلقت تلك الحرية المجنونة «تشخبط» الخطوط على الورق بلا هدفٍ، وأما الفنان العارف بأسرار فنِّه، فقد استطاع بحريته «المقيدة» بقواعد الفن وأصوله، أن يُبدع ما قد يضاف إلى كنوز الجمال، وإذن فالتحرر هو الجانب السلبي من الحرية، أما الجانب الإيجابي فهو يرتبط بالعلم والمعرفة؛ ومن هنا كان حق الحرية بمعناها الإيجابي المنتج، مقصورًا على أولئك الذين يعلمون!

أما الفكرة الثانية، «فكرة العقل»، فقد وقف مفكرنا عندها طويلًا، لما لها من أهميةٍ في بناء حياتنا الثقافية: «فإذا كانت الحرية في جانبها السلبي تعني «التحرر» من القيود، فإنها في جانبها الإيجابي تعني البناء، وذلك يحتاج إلى خطةٍ مرسومةٍ يهتدي بها من تحرر من القيود، وهذه الخطة الهادفة هي التي يرسمها «العقل».»٥ فما هو هذا العقل؟ مهما اختلفت تعريفات الناس للفظة «عقل»، فإنهم في عصرنا الراهن على الأقل متفقون على أبعاد معنى، لا يجوز أبدًا أن ينصرف إليه مفكرٌ واحدٌ، وهو المعنى الذي يتصور أن ثمة في عالم الكائنات كائنًا مستقلًّا بذاته قائمًا برأسه اسمه «عقل»، كما يُشير اسم «هملايا» «مثلًا» إلى جبلٍ معلومٍ. بل إن العقل اسمٌ يُطلق على فعلٍ من نمطٍ ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها، والفعل ضرب من النشاط يُعالج به الإنسان الأشياء على وجهٍ معين.٦ وإذا كان العقل فعلًا فإننا نستطيع تحديده على النحو التالي: «العقل حركةٌ انتقاليةٌ تبدأ سيرًا من شواهدٍ وبينات ومقدمات، وينتهي عند نتيجةٍ تتولد مما بدأ منه. فليس عقلًا ذلك الذي يُدرك ما يدركه بلمحةٍ مباشرةٍ أو بلمعة (كما يقولون)؛ لأن أمثال هذه الإدراكات المباشرة لها أسماء أخرى، وطبائع أخرى. أما العقل فإدراكه غير مباشر لأنه قدرةٌ استدلاليةٌ، ومعنى ذلك أنه يتضمن قيام طرفين: طرفٌ نبدأ منه، طرفٌ آخر هو النتيجة التي تنتهي إلينا …»٧ والعقل حرٌّ في اختيار الطرف الأول الذي يبدأ منه، ولكنه إذا ما حدد لنفسه نقطة البدء لم تعد له بعد ذلك حرية النتائج؛ لأن هذه النتائج تلزم بالضرورة عن نقطة الابتداء.٨
«على أن للعقل طريقين اثنين، لا ثالث لهما، يلتزم منهما هذا الطريق أو ذاك، بحسب الموضوع الذي يُفكر فيه، أما أحدهما فهو الطريق الذي يجعل نقطة ابتدائه معطيات تعطاها حواسنا الظاهرة …»٩ في الحالة الأولى يجد العقل أمامه عبارةً مركبة من كلماتٍ أو رموز الرياضة، فيصبُّ عليها عمله الفكري … وليس أمامه إلا أن يستخرج من تلك العبارة … التي تكمن في مفهومات رموزها، إن العقل في هذه الحالة لا يتبرع بفكرةٍ من عنده، بل مهمته أن يفضَّ الأغلفة التي تستر المعاني داخل رموزها، فكما أنك إذا وضعت في طاحونة الغلال قمحًا، لم يخرج لك إلا دقيق القمح، وإذا وضعت في عصَّارة الخضر والفاكهة عنبًا، لم يخرج لك منه إلا عصير العنب، كذلك الحال في تركيبات اللفظ أو الرمز تكمن فيها معانٍ، ثم يأتي التفكير العقلي ليستخرج تلك الكوامن، فيأخذ ما يريد ويرفض ما لا حاجة لنا به، والتفكير الرياضي كله هو من هذا القبيل.١٠ وذلك أول الطريقين. أما الطريق الثاني فهو حين لا يكون ما بين أيدينا إلا مركباتٍ من ألفاظٍ ورموز، بل «معطيات» تلقَّتها حواسنا من مصادرها. وفي هذه الحالة يكون طريق العقل مختلفًا عن طريقه في الحالة الأولى؛ ذلك لأن عمله هنا هو محاولة الكشف عن الروابط القائمة بين مجموعة الأشياء، التي رأيناها أو سمعناها أو أدركناها بأية حاسةٍ أخرى من حواسنا، فافرض مثلًا أن السماء تمطر، فكل الذي نراه قطرات ماء، ثم نبدأ في الكشف عن الصلة بين هذه القطرات وبقية المحسوسات، كأن نرى العلاقة بينهما وبين درجة الحرارة، وبينها وبين درجة الرطوبة، وبينها وبين درجة ضغط الهواء، وبينها وبين اتجاه الريح …إلخ فإذا كشفنا عن تلك الروابط كنَّا أمام ما يفسر المطر تفسيرًا عقليًّا.١١

العقل إذن فاعلية تبدأ من بدايةٍ معينة: تعتضد الرموز إذا كانت البداية فكرةً رياضية؛ لتقول إنها تنتج كذا وكذا، أو تبدأ من وقائع حسيَّة فتربط بينها وبين وقائع أخرى، لتستخرج لنا ما نسمِّيه بالقوانين.

ويستحيل على العملية العقلية، كائنة ما كانت مادتها، أن تتحرك قيد شعرة إلا إذا كانت بين أيدينا «نقطة الابتداء» التي منها تسير، وقد تكون نقطة الابتداء هذه «وقائع»، وقد تكون «فروضًا»، فإن كانت الأولى كانت العملية العقلية من الضرب السائد في علوم الطبيعة. وإذا كانت الثانية كانت من الضرب السائد في علوم الرياضة، ولا ثالث لهذين الضربين في عمليات الفكر، فمهما تنوعت موضوعات البحث، ألفيتها بعد شيءٍ من التحليل، إمَّا منتمية إلى النوع الذي يُبنى على الحقائق الواقعة، وإما منتمية إلى النوع الذي يُبنى على الفروض.١٢
وهكذا نصل إلى ثنائية «المبدأ» أو ثنائية نقطة البداية:١٣ التي قد نبدأ فيها من وقائع الطبيعة، وهو ما تفعله مجموعة العلوم الطبيعية، كما ذكرنا، وقد نبدأ من «فروض» كالرياضة: فتكون مبادئ مختارة ليس فيها إلزام لأحدٍ من غير أصحابها، فقد يفرض الرياضي أن المكان مستوٍ ثم يبني النتائج على فرضه هذا، أو قد يفرض أن المكان كُرِّي ثم يستنبط، أو أن المكان أسطواني. وهكذا.١٤
غير أنه إذا كانت الرياضة هي المثل الكلاسيكي للبداية التي تبدأ من فروضٍ، أو مبادئ مختارة، فإن الديانات المختلفة مثل آخر للنسقات الفكرية التي تُبنى على «مبادئ»، فكلٌّ منها يضع كتابه أمامه «مبدأ» يسير منه ويستنبط، بحيث تكون الأحكام الفقهية في كل دين صوابًا بالنسبة إلى نصِّ كتابها.١٥ وهنا نلفت النظر إلى نقطةٍ هامةٍ وخطيرة: وهي أن المنظومات الفكرية المختلفة، وإن تكن كل منها مستقلةً عن الآخرين في صواب أحكامها أو خطأ تلك الأحكام؛ أعني أن كلًّا منها إذا استشهد بصواب حكم معين فمرجعه هو مبدؤه، لا مبدأ المنظومة الأخرى، إلا أننا نستطيع المفاضلة بين هذه المنظومات الكثيرة المتجاورة، على أساس ما تؤدِّيه كل منها للحياة الإنسانية من سعادةٍ أو من تسامٍ أو غير ذلك؛ فالأمر هنا شبيهٌ بأن ترى بيوتًا متجاورة، لكلٍّ منها أساسه الذي أُقيم عليه، ولكل منها أجزاؤه الداخلية التي بُنيت على ذلك الأساس، فلا يكون بيت منها حجةً على بيتٍ آخر، فقد يُهدم أحدهما لضعف أساسه، بينما يبقى الآخر بقوة أساسه، لكن استغلال هذه البيوت المتجاورة بعضًا عن بعض، لا يمنع من المفاضلة بينها من ناحية ما تؤدِّيه في حياة ساكنيها.١٦
ضربنا مثلين للمبادئ المفروضة نختارها ليبدأ منها العقل سيره، هما «العلوم الرياضية»، و«البناءات الدينية»، ونستطيع أن نسوق مثلًا ثالثًا من الفكر السياسي، فها هنا كذلك تجد النظرية السياسية تبدأ من «مبدأ» معين تُقيم عليها بناءها كله: خذ مثلًا فيلسوفين إنجليزيين هما «هوبز» و«لوك»، الأول يُقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم للأقوى. وهذا، الأقوى إذا ظفر بالسلطان لم يعد من حق الشعب المحكوم أن يقيله أو أن يعترض عليه. أما الثاني فيقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم لمن يختاره الشعب، وبذلك يكون للشعب حق إقالة الحاكم إذا انحرف عما أرادوه من أجله، من المبدأ الأول ننتهي إلى حكم الفرد المستبد، ومن المبدأ الثاني ننتهي إلى حكم الشعب لنفسه، هكذا نجد أنفسنا أمام منظومتين فكريتين، كل منهما ترتكز على ركيزة، وكل منهما يحكم على نتائجها بالصواب أو الخطأ بحسب طريقة استنباطها من مبادئها، فكيف تفاضل بينهما إذا أردنا أن نختار لأنفسنا إحداهما دون الأخرى؟ لأننا لا نفاضل بينهما على أساس صواب إحداهما وخطأ الأخرى؛ لأن كلًّا منهما قد تكون صحيحة الأجزاء، ما دامت هذه الأجزاء مستنبطة استنباطًا سليمًا من المنبع. بعبارةٍ أخرى قد تكون كلتا المنظومتين صوابًا على ما بين تفصيلاتهما من اختلافٍ بعيدٍ، لسنا نفاصل بينهما على أساس الصواب والخطأ لأن كلًّا منهما مبنية على «مبدأ»، والمبدأ «فرض»، والفرض لا يوصف بصوابٍ أو خطأ، وإنما تكون المفاضلة على أساس النفع للإنسان في حياته … وقل مثل ذلك في جميع المذاهب الفلسفية الأخرى.١٧

العقل، إذن، فاعلية أو نشاط نسير به من «أ» إلى «ب»، وقد تكون «أ» معطيات الحس، و«ب» هي القوانين أو أدوات الربط بين الظواهر الطبيعية، وذلك هو طريق العلم الطبيعي، وقد تكون «أ» بداية مفترضة هي الرموز الرياضية أو هي «النصوص الأدبية» أو «النظريات السياسية»، أو المبادئ النظرية في المذاهب الفلسفية المختلفة … إلخ، ويكون أساس المفاضلة بينها هو مدى نفعها لحياة الإنسان.

غير أننا إذا نظرنا بهذه الفاعلية «العقلية» إلى أمور الحياة والثقافية معًا، كنَّا كمن يسأل عند كل موضوعٍ مطروح: هل الخطوة الفلانية إذا خطوناها بلغنا الأهداف؟!

وهذه النظرة تستتبع صفات فرعية كثيرة تنتج عنها، كما تنتج الثمرات من شجراتها، وهذه الصفات تُشكِّل ما نُسمِّيه «بالنظرة العقلية» أو الوقفة العاقلة، ويمكن تلخيصها فيما يلي:
  • (١)

    أولى هذه الصفات، وهي نفسها نتائج نابعةٌ من ذلك المبدأ العقلاني، أن تتحدد الأشياء بنِسبها الصحيحة بعضها من بعض، فيبدو الكبير كبيرًا كما هو والتافه تافهًا كما هو، فقد تهتم الدولة المتحضرة بمسألةٍ عمليةٍ تريد لها أن تستقرَّ في أذهان الناس، ولكنها تتغاضى عن توافه السلوك التي ربما اختارها هذا الرجل أو ذاك.

  • (٢)

    ومن النتائج التي تترتب على الوقفة العاقلة أيضًا إيثار الآجل على العاجل؛ إذ كان في العاجل خيرٌ قليل قد يعقبه شرٌّ كثير، أو كان في الآجل خيرٌ كثير قد يسبقه شيءٌ من ألم التضحية.

  • (٣)
    ومن أبرز جوانب النظرة العقلية، وأكثرها أهمية بالنسبة لنا، أن تُردَّ الظواهر إلى أسبابها الطبيعية، فلا يفسر المرض، مثلًا، إلا بالجراثيم التي أحدثته، ولا يعلل سقوط المطر إلا بظروف المناخ، وهكذا. ويترتب على هذا الربط السببي الصحيح أن نلتمس للأشياء أسبابها الطبيعية كذلك، فإذا أردنا غلالًا زرعنا لنحصدها، وإذا أردنا قتالًا حملنا له السلاح بمرانٍ واقتدار.١٨ ومن هنا كان السحر هو الضد المباشر للنظرة العقلية؛ إذ إنه «اللامعقول»؛ ذلك لأن السحر يعلل الأحداث بغير أسبابها الطبيعية، فإذا كانت علَّة المطر مثلًا، هي مقدار ما يتكثف في الهواء من بخار الماء، جعلها الساحر ورقةً يكتب عليها أحرفًا يختارها، أو عباراتٍ يزعم لها القدرة على إنزال المطر. وإذا كانت علة الشفاء من مرضٍ معين هو أن تزال الجراثيم التي تحدث، كانت هذه العلة عند الساحر «عفريتًا» سكن الجسد العليل، والشفاء من المرض إنما يكون بطرد هذا العفريت بأقوالٍ تُقال، وبخورٍ يُعطِّر جو المكان، ويطهِّره من الكائنات الشيطانية العابثة بأجساد الناس … وهكذا.١٩
  • (٤)

    والنظرة العقلية تنظر إلى الواقع كما هو لتحوره إلى واقعٍ جديدٍ إذا أرادت، دون أن تُقيم بينها وبين الواقع حائلًا تنسجه الأوهام، ثم سرعان ما تنسى أنه أوهام، فإذا كان البدائي يخلق لنفسه الخرافة لينظر بمنظارها إلى واقع الدنيا، فإن المتحضر هو الذي يواجه تلك الوقائع كما تبدو لبصره وسمعه.

  • (٥)

    على أن أبرز ما تتميز به النظرة العقلية إلى الكون هو حب الإنسان للمعرفة، حيث يلمُّ بأسرار البيت الذي هو ساكنه؛ فالعقلاني في نظرته ذو نهمٍ نحو معرفة الحقائق والطبائع والعلل، ولا يصده عن ذلك شيءٌ من التحريم الذي يفرضه البدائيون على أنفسهم.

أيكون غريبًا بعد ذلك أن نقول إن «سلطان العقل» هو مدار القياس لدرجة الحضارة؟ فقل لي كم عقلت أمة في تدبير أمورها، أقل لك كم صعدت في مدارج التحضر …٢٠ فالعقلانية في وجهة النظر هي التي تراها ماثلةً في كل حضارةٍ مهما اختلف لونها، ولا تراها في أي جماعةٍ بدائيةٍ مهما تعددت بعد ذلك صفاتها، فلربما اتجهت النظرة العقلية نحو الأفكار المجردة تنظمها وتنسقها في ترتيبٍ هرميٍّ يضع الأهم منها فوق الأخص، كما حدث عند اليونان الأقدمين أو ربما اتجهت نحو تحليل ما نزل به الوحي من تشريع، كما حدث للعرب الأولين، أو اتجهت نحو ظواهر الطبيعة تستخرج قوانينها النظرية، كما حدث لأوروبا في عصورها الحديثة، أو اتجهت نحو تجسيد تلك القوانين العلمية النظرية في أجهزةٍ يُديرها الإنسان، أو تدير نفسها بنفسها كما يحدث لعصرنا القائم.٢١
على ضوء هذا الذي أسلفناه نستدير إلى عصرنا وحضارته. إنه ليس بدعًا يشذُّ من القاعدة التي سارت عليها العصور؛ فالحضارة فيه ما زالت قائمةً على نفس الأساس، الذي قامت عليه حضارات السالفين، والأساس هو «العقل» … ونسأل بعد ذلك أين تقف الأمة العربية اليوم من مسيرة الحضارة؟ … «وأُجيب بجوابٍ يختلط فيه قليلٌ من الأسى وكثيرٌ من الأمل؛ الأسى للهوة اللاعقلية العميقة التي لا تزال تتخبط في ظلالها، والأمل في جيلٍ جديدٍ أراه على الطريق إلى العقلية العلمية وضيائها …»٢٢

على أننا لا نستطيع أن نُغادر هذا الجزء الهام، مع ما فيه من جوانب عقلية قيمة، قبل أن نُشير إلى مسألةٍ قد نختلف فيها مع أستاذنا الكبير وهي «المفاضلة» بين المذاهب الفلسفية على أساس نفعها؛ ذلك لأن كلمة «النفع» منذ البداية كلمةٌ غامضة، وتثير أسئلةً كثيرة: ما هو المذهب «النافع» وبأي معنى؟ ومتى يكون كذلك؟ ألا يمكن أن يكون المذهب «غير نافع» الآن، ثم يتَّضح أنه «نافعٌ» بعد عشرات السنين؟! ألم يجد فلاسفة النهضة، مثلًا، أفكارًا نافعةً عند فلاسفة اليونان؟!

ثم ألا يجوز لنا أن ننقد المذاهب الفلسفية من منظورٍ غير المنظور النفعي؟ ألم يستعرض أرسطو، مثلًا، في كتابه «الميتافيزيقا» الفلاسفة السابقين عليه من طاليس حتى أفلاطون، ناقدًا كل فيلسوفٍ على حدة من منظورٍ عقليٍّ لا علاقة له بالمنفعة؟!

ثم ألا يمكن أن يكون «نقد» فلسفةٍ ما، أو دحض مذهبٍ معين لا يعني سوى أن المبدأ الذي يرتكز عليه قد أصبح عاملًا مساعدًا أو عنصرًا مسلسلًا في الفلسفة التي تليها. وهكذا تسير المذاهب الفلسفية يعقب بعضها بعضًا في تطورٍ جدليٍّ تندثر قشرتها الخارجية، ويبقى مبدؤها ليصبح عنصرًا مكونًا في مذهبٍ أعلى؟٢٣
ألم يقل هيجل إن «الفلسفة» كل متصل تدفعه ضرورةٌ داخلية، فكل فلسفةٍ كانت ولا تزال ضرورية؛ وبالتالي فليس منها ما اختفى وزال، وإنما تجدها عناصر إيجابية في كل واحد … وآخر فلسفة هي نتيجة لجميع الفلسفات السابقة …٢٤ فلا يكون، في هذه الحالة، ثمة «مُفاضلة بين المذاهب الفلسفية» التي تشبه الشجرة مع نموها، ولم يكن في استطاعة أي مذهبٍ أن يرى النور ما لم تتقدمْه المذاهب السابقة كلها!

(٢) مشكلة الأصالة والمعاصرة

كانت قضية الجمع بين الأصالة الثقافية التي تضرب بجذورها إلى المقومات الأولية التي جعلت من العربي عربيًّا، وبين المعاصرة التي تجعله جزءًا من زماننا بنشاطه الفكري، لا بمجرد وجوده الجسدي، هي قطب الرحى و«أم المشكلات»، كما سبق أن ذكرنا، في حياة مفكرنا الكبير، حتى إنه يقول عنها إنها أصبحت القضية التي يصحُّ أن نقول حيالها قولة هاملت في أزمته النفسية: أن أكون أو لا أكون: ذلك هو السؤال.٢٥ فإذا كان موضع الإشكال عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل، فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان.٢٦ اللقاء بين «العقل والوجدان».٢٧ والصيغة التي يقترحها مفكرنا الكبير كحلٍّ لمشكلة «الأصالة والمعاصرة» هي الصيغة التي تجمع بين «العقل والوجدان»، بحيث يكون واضحًا لدينا أن مجال العقل يشمل جميع الظواهر الطبيعية والاجتماعية … إلخ التي تحتاج إلى تفسيرٍ «علمي» بالمعنى الواسع لهذه الكلمة، وهو المعنى الذي يسوِّي بين البشر أجمعين، ويكون هناك إمكان لعرض خطوات السير عليهم خطوةً خطوة، حتى نصل من نقطة الابتداء إلى النتيجة التي ننتهي إليها، أما مجال الوجدان فهو مجال الفن والشعور بصفةٍ عامة، وهو مجالٌ يتميز بأنه «ذاتي» خاص بالفرد، وليس عامًّا مشتركًا بين الناس؛ ففي بدائع الفن نجد أن لكل فنان طابعه الفردي الخاص، الذي يستمدُّه من حياته الباطنية التي لا يشاركه فيها إنسانٌ آخر، وعلى ذلك فإن علينا أن ندرك أنه في مقدمة الإصلاح، إذا أردنا إصلاحًا، أن نُربِّي الأجيال الجديدة على وقفةٍ أخرى، يفرق المرء لنفسه فيها تفرقةً واضحةً بين ما هو عام، فيحيله إلى العقل وأدواته، وما هو خاص فلا بأس عندئذٍ في الركون إلى لغة الشعور.٢٨ فإذا ما تساءلنا: لماذا انقضت على مصر منذ بدأت نهضتها الحديثة حتى الآن مائة وخمسون سنة على الأقل، ومع ذلك لا نستطيع أن ندَّعي أنها تشرَّبت من ثقافة العصر الجديد ما كنا نتمنى لها أن تتشربه؟! لماذا أصبح المتعلمون في مصر يُعدُّون بعشرات الملايين، ومع ذلك فإن نفورهم من رؤية الحياة بنظرةٍ علمية تلتزم منطق العقل، لا يقل عن نفور أجدادهم الذين غمرتهم موجة الظلام إبان القرون الثلاثة السابقة على بدء النهضة الحديثة …؟! إذا طرحنا أسئلةً كهذه، وجدنا لها جوابًا واحدًا هو: نقصٌ في تربية العقل وإسرافٌ في إشعال الوجدان.٢٩ كما لو أن شيئًا في تركيبنا الثقافي يوسوس لنا دائمًا بأن العقل وحده لا يكفي سندًا للإنسان في حياته، وأن ظواهر كثيرة تحدث متحدية العقل أن يفسر حدوثها بمنطق العلم، فلا يسع العقل إزاءها إلَّا أن يقف عاجزًا، ومثل هذا الشعور بعجز العقل وقصور العلم، يتملكنا بدرجةٍ قَلَّ أن تجد لها نظيرًا في شعوبٍ أخرى، وعلى الرغم من يقيني بأهمية الجانب الوجداني في حياتنا فطالما أحسست بواجبي في الإعلاء من شأن العقل، والعقل يتبعه قيام العلم ومناهجه، حتى لو ذهبت في ذلك الإعلاء إلى حدِّ المبالغة، لأحدث نوعًا من التوازن في حياتنا بين عقلٍ ووجدان؛ إذ التوازن بينهما مفقود.٣٠
إن المشكلة الحقيقية التي نصادفها في حياتنا العملية ليست في قبول صيغة «العقل والوجدان»، وإنما في بيان مجالَيهما من ناحية، وما يستتبعه الأخذ بهما في دنيانا الواقعية من ناحيةٍ أخرى: سل مَن شئت: هل تحب أن تتابع العصر في عقلانيته وتقنياته؟ يُجبك في استعلاء بأن العقلانية وما يترتب عليها هي جزء من ميراثنا الأصيل. لكن قل له: إنها في عصرنا تستتبع عدة أمور؛ منها ألا تُلقي بزمامك إلى العاطفة أيًّا كان نوعها، ومنها أن يتولى العمل من يحسن أداءه، لا من ينتمي إلى أصحاب الجاه بأواصر القربى، ومنها أن يكون الارتكاز كله على الواقع المادي الصارم، ومنها أن نصطنع في حياتنا نظرةً علمانية تجعل محورها هنا على هذه الأرض، قبل أن يكون هناك في عامٍ آخر … قل له هذا، يأخذه الفزع؛ لأنه عندما أعلن أنه من أنصار النظرة العقلية، لم يكن قد تخيَّل لنفسه أنها نظرةٌ تلد كل هذا النسل العجيب، فهو عقلانيٌّ بالاسم، لا بالمضمون والنتائج، أنه يقبل من العصر تقنياته؛ لأنه يريد كسائر عباد الله، أن ينعم بالسيارة والطيارة وأجهزة التدفئة والتبريد، لكن إذا علم أن إدخال هذه الآلات في حياتنا معناه إدخال عادات جديدة، في تلك الحياة، ومعناه إحلال قيمٍ جديدة محل قيم قديمة، أخذه الهلع؛ لأنه في عمق نفسه لا يريد عن قيمه الموروثة بديلًا. وهكذا نقع في أزمةٍ حضاريةٍ من طرازٍ نادرٍ لأننا في الحقيقة بمثابة من يحيا ثقافتين متعارضتين في وقتٍ واحد: إحداهما خارج النفس والأخرى مدسوسة في حناياها لا تريم، فترى حضارة العصر في البيوت والشوارع والأسواق، بينما تحس حضارة الماضي رابضة خلف الضلوع.٣١ والواقع أن علينا أن نُسلِّم بضرورة اللجوء إلى العقل، وإلى العلم الذي هو في حقيقته تجسيد للعقل في رسم السبل الناجحة، ولا يكفي أن نُفاخر سائر الدنيا بأننا أصحاب قلوبٍ عامرةٍ بوجدانها، لا فرق في ذلك بين أن يكون الموضوع المعروض للمعالجة مما تنفع أو لا تنفع فيه القلوب ووجدانها: «ومن ثم كانت دعوتي التي ما فتئت أكررها بوجود التفرقة الواضحة بين مجالين: مجال لا يصلح له إلا العقل بكل رصانته وبروده، ومجال آخر من حق المشاعر أن تشتعل فيه ما شاءت لها حرارتها.»٣٢ علينا أن نُبدِّل ذلك الرأي الشائع فينا الآن، والذي يقول إن العقل وعلوه — وهو لبُّ العصر الذي نعيش فيه — عدوٌ للوجدان ومشاعره، ولما كانت الكثرة الكاثرة منا نصيرة للوجدان فسحقًا للعقل ومناهجه.٣٣ كلا، ليس العقل نقيضًا للوجدان وإنما لكلٍّ مجاله الخاص، والمشكلة الأساسية عندنا تكمن في خلطنا بين المجالين أو عدم وعينا بالحدود الدقيقة لكلٍّ منهما.

وإذا كان من الباحثين من يرى أن «زواج» الأصالة والمعاصرة، أو الصيغة المقترحة للجمع بين العقل والوجدان، أُمنيةٌ مستحيلة التحقيق، أو هي فكر بالتمني فحسب، فإن مفكرنا الكبير يعتقد أنها قد تحققت بالفعل في تراثنا القديم، وأن لها أمثلةً كثيرة في فكرنا الحديث أيضًا؛ وبالتالي فهي ممكنة التحقق، بل لا بد من تحققها في فكرنا المعاصر.

لقد ألف الناس قبل ظهور الإسلام ضربين من الحضارة ومن الثقافة، اختلفا فيما بينهما إلى حدِّ التنافر، بل إلى حد الدخول في حروبٍ مستعرةٍ، وهاتان الحضارتان هما حضارة الفرس وثقافتهم من جهة، وحضارة اليونان وثقافتهم من جهةٍ أخرى، المحور في الحالة الأولى هو «الوجدان»، أو هو «الإملاء» إملاء القلب أو الوحي أو الحدس، يفرض على الإنسان طريقة فكره ونمط سلوكه … والمحور في الحالة الثانية هو عقل الإنسان يقيم له الحجة على الباطل فيرفضه، ويسوق له البرهان على الحق فيرتضيه … وكان الظن هو ألَّا سبيل إلى لقاءٍ بين «شرق» متمثلًا في فارس، و«غرب» متمثلًا في اليونان، ثم جاء الإسلام في أوائل القرن السابع الميلادي، ومع فتوحاته انهدمت الفواصل بين الثقافتين، أو قُل أنها اندمجت في خطوةٍ أولى على طريق المواطن العالمي، وكان ذلك الدمج الباهر هو الذي أخرج إلى العالم، تلك الصيغة الحضارية الثقافية الإسلامية الجديدة التي ألقت في مركبٍ واحد: صوفية الفرس وعقلانية اليونان. وهذه الطبيعة الثالثة الجديدة قد جمعت بين إدراك الحدس الصوفي وإدراك العقل الاستدلالي، بحيث احتملت الحياة الثقافية الإسلامية أن يظهر فيها أعظم المتصوفة وأعظم مناطقة العقل في آنٍ معًا.٣٤
ويتساءل مفكرنا الكبير: «لماذا استطاعت ثقافة المسلمين أن تنقل في عصر المأمون، بصفةٍ خاصة، ما نقلته من فلسفة اليونان وعلومهم إلى اللغة العربية، ولم ينقلها أهل الهند أو أهل الصين إلى لغتهم؟!» ويجيب: «إن العلة لم تكن في لغة تستطيع ولغة أخرى لا تستطيع، بل العلة هي أن ثقافة تتقبل منطق العقل (إلى جانب الوجدان) وتهضمه، وثقافة أخرى لا تتقبله ولا تهضمه.»٣٥ كان القرآن الكريم هو كتاب المسلمين (والدين لا يلجأ في أية جهةٍ يظهر فيها إلى الاستدلال العقلي، وإنما هو يأتي برسالةٍ موحاةٍ من الله أو غير موحاة مثل أنبياء الشرق الأقصى، فيتقبل الناس فحوى هذه الرسالة فإذا بها دين وعقيدة)، فهو إذن لمحة قلب، أو نبضة وجدان أو «حدس» بالمصطلح الفلسفي أو هو إدراكٌ مباشر.٣٦

إنه إيمانٌ لا يستند إلى برهانٍ ولا يُراد له أن يستند إلى برهان؛ لأن الإنسان لا يريد برهانًا على صدق وجدانه، أو صحة شعور يشعر به مباشرة في طوية نفسه: إذا كنت جائعًا وأشعر بالجوع فلست أريد البرهان من أحدٍ على أنِّي جائعٌ أو على أنِّي أحب؛ تلك حالاتٌ وجدانيةٌ داخلية يقبلها صاحبها قبولًا مباشرًا، لا هو يريد لنفسه أن يبرهن على صدقها، ولا هو متوقع من سواه أن يبرهن له عليها. وهذه الرؤية المباشرة التي لا وسيط فيها لا تقتصر على الدين فحسب، وإنما هي مجال كل ما ينتجه الوجدان من فنٍّ وأدب وتصوف … إلخ.

لكن على أساس هذا الدين الجديد قامت علومٌ عقليةٌ، فإذا كان الدين ليس علمًا ولا هو يحتوي على علمٍ لأنه في صميمه رسالة أخلاقيةٌ؛ فإن من أعظم ما يفخر به الدين الإسلامي، هو أنه حثَّ الناس على أن يُعملوا عقولهم ليكتشفوا قوانين الكون، وبمجرد نزول القرآن لم يكد يمضي ثلاثة أرباع القرن بعد الرسالة، حتى ظهرت حركةٌ عقليةٌ جديدة؛ ففي المناخ الذي نزلت فيه الرسالة المحمدية كان الإيمان مُشتعلًا في القلوب، وتلك هي الخطوة الأولى، عندما تُؤخذ الرسالة الجديدة مأخذ التصديق الذي يؤمن فحسب، ثم تاتي الخطوة الثانية؛ وهو أن يصبَّ أصحاب التحليلات العقلية تحليلاتهم على ذلك الذي كان موضع إيمان في الخطوة السابقة.

في القرن الثاني الهجري ظهرت مجموعةٌ من المفكرين صممت على أن تفهم القرآن الكريم حقَّ فهمه، كيف؟! كان من المنطقي أن يبدءوا بدراسة اللغة العربية نفسها لتجتمع لهم أدوات الفهم الصحيح. فلم يريدوا الوقوف من اللغة موقف المتذوِّق وكفى، بل أرادوا أن يجعلوا دراسةً علمية بأدق ما يكون المنهج العلمي. ولم تكن قواعد اللغة قد استُخلصت وجُمعت حتى ذلك الحين، فانصرفوا إلى استخلاصها وجمعها. وهنا تشعَّب الباحثون إلى شعبتين: الأولى مقرها البصرة، والثانية مقرُّها الكوفة؛ ومن ثم فأول ما نجده من أنشطةٍ عقليةٍ هي هذه الدراسات اللغوية التي رأيناها في مدرسة «الخليل بن أحمد» وتلميذه سيبويه في البصرة، والكسائي في مدينة الكوفة، وكذلك ما بذلته المدرستان في استخراج الأسس التي لا بد من الكشف عنها لكي تُفهم اللغة العربية على أساسٍ علميٍّ صحيح. ولنلاحظ جيدًا أن هذا الجهد يُبذل لأول مرةٍ في التاريخ، فلم يحدث أن تصدَّى عالمٌ قبل ذلك لاستخراج قواعد اللغة أو عروض الشعر أو الاشتقاق. فوضع الخليل بن أحمد المعجم الأول عندما جمع المفردات من أفواه الناس لأول مرة. فما الذي كان يستهدفه بهذا الجهد؟! فهم القرآن فهمًا سليمًا. ولنلحظ هذه الوقفة نفسها، رجلٌ يبحث في اللغة بحثًا علميًّا ليفهم دينه، ولننظر في هذه الوقفة فقط، ونتخيلها فماذا نجد؟ نجد أمامنا رجلًا عالمًا إذا شئت، متدينًا إذا شئت؛ لأن كليهما في «دمجٍ واحد»، بل إنه حين أراد العلم إنما أراده من أجل الدين، وهذا الوجود ذو الوجهين المتكاملين هو جمعٌ للنمطين السابقين في نمطٍ واحد.٣٧
تلك هي الصيغة المقترحة لحل ثنائية الثقافة التي نعيشها الآن. وفي استطاعتنا أن نضرب أمثلةً أخرى كثيرة على وجود هذه الصيغة في ثقافتنا القديمة؛ أعني الجمع بين «العقل» و«الوجدان» بين ثقافة اليونان وثقافة الفرس في ثقافةٍ جديدة، خُذ مثلًا «علوم الدين»، وهي بناءٌ علميٌّ أُقيم لخدمة الدين: الفقه، مثلًا، نحن أمام نصٍّ قرآنيٍّ، مجموعة أحاديث نبوية وتزيد أن تستخرج الأحكام الشرعية، وهي ليست ظاهرة كلها لكل إنسان، وإنما الظاهر منها قليل، والباقي يحتاج إلى عقلٍ وعلمٍ يستخلص من الآيات الكريمة ما قد كمن فيها من أحكامٍ شرعيةٍ؛ فهي إذن عملية عقلية، وعلينا مرةً أخرى أن نُمعن النظر في «فقيه» يقوم بهذا الدور، لنجد أنه إنسانٌ متديِّنٌ عالم في آنٍ معًا. وليست المسألة هنا مجرد تجاوز العنصرين، وإنما العنصران متشابكان؛ لأن أحدهما جاء ليخدم الآخر، فإذن هما كيانٌ واحد، فكأنما تجد النمطين السابقين في نمطٍ واحد.٣٨
خُذ مثلًا ثالثًا «علم الكلام» الذي سُمِّي كذلك؛ لأنه نشاطٌ عقليٌّ ينصبُّ على تحليل «كلام» الله الذي هو القرآن الكريم، فالله «واحد»، لكن هذه الذات الواحدة لها صفات كثيرة من علمٍ وإرادة وقدرة ورحمة، فهل تعدد الصفات في الذات الواحدة لا يعطيها شيئًا من التعدد؟! نحن نؤمن «بالواحد» لكنا نحتاج إلى عمليةٍ عقليةٍ تبيِّن لنا كيف أن تعدد الصفات لا يتناقض مع الواحدية المطلقة … إلخ، لكن انظر مرةً ثالثة إلى القائمين بهذه العملية العقلية، وحاول أن ترى جوهر الرجل منهم ما هو؟ إنه دمجٌ للنمطين في نمطٍ واحد؛ فهو دين وعقل معًا. وقل مثل ذلك في الفلاسفة المسلمين؛ فمن هو الفيلسوف المسلم؟ هو رجلٌ أراد أن يقرأ نتاج العقل اليوناني بلغة الشريعة، أو أن يقرأ الشريعة بلغة العقل، وعنوان كتاب ابن رشد فيه الكفاية: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال»، حلِّل رجلًا كهذا تجد أنه أراد أن يدمج العقل اليوناني مع الشريعة الإسلامية في كيانٍ واحد.٣٩
إذا كانت هذه الأمثلة، وغيرها كثير، تتصدر التاريخ الذي ازدهرت فيه الحضارة الإسلامية، أيكون من الصعب أن نوفِّق من جديدٍ إلى الدمج بين «العقل والوجدان»؟! أيصعب علينا أن نرتبط بماضينا عن طريق الوجدان الذي هو بطبيعته لا يتقدم؟! «فالنص الديني» يبقى كما هو، في حين تتقدم علوم الدين أو علوم اللغة لأنها نشاطٌ عقليٌّ. كما أن كلمة «التقدم» قد تكون بغير معنى في الآداب والفنون، «فقد لا يستطيع شاعرٌ من شعرائنا اليوم أن يُجاري امرئ القيس، وقد لا يستطيع أحدٌ من رواة الحكايات في يومنا أن يقترب من الذروة الأدبية التي بلغتها ألف ليلة وليلة، لا، إن التقدم لا يكون إلا في معرفتنا العلمية أو العقلية، أما ما هو خاص بالوجدان، فلا تقدم فيه، فلا أظن أن الأم العصرية الثكلى تبكي فقيدها على نحوٍ أكمل من بكاء الأمَّهات بالأمس، ولا أن يغني عاشقٌ في عشق حبيبته بأكثر مما غنَّى قيس في عشق ليلاه.٤٠

وفي ظنِّي أن هذه الفكرة تحلُّ مشكلة الجماعات الدينية التي تدعونا إلى أن نعود إلى الماضي بوصفه أزهى عصور الإسلام، وذلك يكون ممكنًا بالنسبة للمسائل الوجدانية التي لا تتقدم: نقاء القلب، وإخلاص السريرة وحلاوة الإيمان … كذلك ما في الماضي من فنٍّ أو أدبٍ، أما العلوم والمعارف بجميع أنواعها فلا بد أن تكون هي علوم العصر؛ لأنها مجال «العقل» وهو وحده الذي يتقدم.

فإذا تساءلنا: «مَن الذي أراه يا ترى يُجسِّد لنا بشخصه المتعين ذلك الضرب من اللقاء بين تراثنا ومنتجات عصرنا في دنيا الفكر؟! إن أول من يَرد إلى خاطري كلما ألقيت على نفسي هذا السؤال هو: طه حسين، فإلى جانب مؤلفاته ذات القيمة الكبرى، أرى في شخصه ما هو أهم منها فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه، وأعني بذلك طريقته في الجمع بين موروثنا وروح عصرنا، أما موروثنا فلا أظن أحدًا يجادل في سعة إلمامه بذلك الموروث إلمامًا فيه الدقة وفيه الفهم، وأما روح العصر فظاهرٌ في منهجه وفي رؤيته وفي تصوُّره …٤١ وأسوق مثالًا آخر لرجلٍ جمع في شخصه الحُسنيين وهو الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ فهو الآخر يلم بالموروث إلمامًا يجعل ذلك الموروث على أطراف أصابعه، وهو في الوقت نفسه يُحيط بأهم ما دار في عقول علماء الغرب في ميدان تخصصه.٤٢
والحق أننا نستطيع أن نطبق الفكرة نفسها على جميع أعلام نهضتنا الثقافية الحديثة، ابتداءً من رفاعة الطهطاوي حتى زكي نجيب محمود نفسه، فكل واحدٍ من هؤلاء المفكِّرين الأعلام كان أصيلًا من حيث إلمامه بالتراث، لكن كان أيضًا معاصرًا عندما وقف على ثقافة العصر؛ ولهذا جاء فكره مركبًا بين الاثنين معًا. إننا لا نريد لثقافتنا أن تفنى في ثقافة غيرنا، بحيث نجعل منهم نموذجًا لنا نحتذي به، وإنما نريد أن ينحصر تفردنا الثقافي في تلك الجوانب التي تميِّز الشعوب، والتي هي في الوقت نفسه ليست مقياس التقدم الحضاري، هو جانب العقل، وأعني بها جوانب القصيدة والفن.٤٣
والخلاصة أنه ليس من المحتم أن يكون إما الحياة كلها للعلم ومنهجه الاستقرائي، وإما الحياة كلها للانضواء تحت مبادئ مقبولة سلفًا، فليس من المستحيل أن نحيا في ساحةٍ من قسمين، لكل منهما المنهج الذي يُلائمه: فقسمٌ للعلوم وما يتفرع عنها من صناعات، ويكون له منهجه القائم على تقصِّي الوقائع قبل صياغة القوانين، وقسمٌ آخر لحياة الوجدان والقيم الخلقية والجمالية، وفيها يكون السير مهتديًا بمبادئ مسبقة.٤٤

وفي استطاعتنا أن نقول إن زكي نجيب محمود نفسه، مثلٌ حيٌّ متعين لهذه الصيغة التي يقترحها لحل مشكلتنا الثقافية؛ صيغة الدمج بين «العقل» و«الوجدان»؛ ولهذا فإن من الطبيعي أن نسأل الآن: ما هي الإسهامات التي قدمها هذا المفكر في كل مجالٍ من هذين المجالين؟

القسم الأول: مجال التحليل العقلي

يمكن أن نقول إن زكي نجيب محمود قدَّم الكثير لمجال العقل، ابتداءً من محاولاته لتحديد «مفهوم العقل» نفسه — كما سبق أن أشرنا — مبينًا مجالات استخدامه، إلى محاولته إشاعة النظرة العقلية على نحو ما حددها في النقاط الخمس السابقة. لكن هناك جانبًا بالغ الأهمية هو استخدامه للفاعلية العقلية أو النشاط العقلي، تحديد وتحليل كثيرٌ من المفاهيم الشائعة وإلقاء الضوء عليها، وهي مهمةٌ شاقةٌ في مجتمعٍ اعتاد أن يُرسل القول على عواهنه، ويستخدم الفكرة الغامضة لمجرد أنها موجودةٌ، أو لأنها تُثير وجدانه؛ مع أن الحياة الفكرية بمعنى من أدقِّ معانيها هي تحديد الفواصل بين المعاني المتداخلة، أو المتشابهة: ولك أن تحكم على أمةٍ بدرجتها في مدارج الحياة الفكرية بمقدار ما استطاع أبناؤها تحديد المعاني التي يتداولونها …٤٥ وهذا هو الدور الذي تقوم به: «الفاعلية الفلسفية» فمما توصف به الفاعلية الفلسفية، أحيانًا أنها محاولة لتوضيح المفاهيم التي تقع عند الناس بين الجهل التام والعلم التام، يعني أنها مفاهيم يتداولها الناس وهم على بعض العلم بها، فلا هم يجهلونها كل الجهل، ولا هم يعلمونها كل العلم، فتتناولها الفلسفة بالتحليل والتوضيح لعلَّها تبلغ من معانيها مبلغ التحديد الدقيق الحاسم، فهذه المفاهيم التي تقع عند الناس وسطًا بين الغموض والوضوح، هي أشبه بمدينةٍ تراها على مبعدةٍ فترى بروزًا ممتدًا في الأفق.٤٦
وهكذا قل في كثيرٍ جدًّا من المفاهيم والأفكار التي نتداولها في مجرى حياتنا الفكرية، بل في مجرى حياتنا العملية، والتي نشعر أن الحياة، فكرية أو عملية متعذرة بدونها، ومع ذلك فعلمنا بها لا يكاد يتعدد علمنا بأن الأفق البعيد مدينة كبيرة، وها هنا يكون عمل الفلسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها. والعجيب أن يتهمك الناس نتيجة لهذا التحليل بأنك تعقِّد البسيط وتصعِّب السهل، حين جاءهم الفيلسوف بتحليلٍ يفكِّك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه كأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون!٤٧
كانت طريقته أن يمسك بعدسةٍ مكبرةٍ تكشف للقارئ عناصر الفكرة التي هي مدار الحديث، فذلك وحده كفيلٌ أن يُزيل ضباب الغموض الذي يكتنف المفاهيم المحورية التي عليها تدور ثقافتنا.٤٨ فالتوضيح معناه تحليل المفهوم الغامض لاستخراج العناصر الداخلة في تكوينه لكي نفهمه، تمامًا مثل أي عمليةٍ كيميائيةٍ، فلكي تفهم الماء أو الهواء، أو قطعة الفحم، أو ما شئت، فهمًا علميًّا عليك بتحليلها في المعامل، وكذلك التحليل العقلي للأفكار الغامضة، عليك أن تحللها تحليلًا عقليًّا، لكي تكشف عناصرها ومكوناتها التي دخلت في تكوينها.٤٩

وإذا أردنا أن نقدم نماذج لهذه الأفكار التي قام أستاذنا الكبير بتحليلها لوجدنا أنها كثيرةٌ كثرة لافتة للنظر؛ ولهذا فلا مندوحة لنا عن تقسيمها إلى مجموعاتٍ ثم نُقدِّم من كل مجموعةٍ أمثلةً قليلة.

المجموعة الأولى: أفكار سياسية

(أ) المثقف الثوري

في الستينيات ظهر تعبير «المثقف الثوري»، وشاع على أقلام الكُتَّاب، وكان على مفكرنا الكبير أن يطرح على نفسه هذا السؤال: «متى يكون المثقف مثقفًا وكفى، ومتى يكون مثقفًا وثوريًّا معًا؟!» ويجيب من خلال منظورين «للإسراء والمعراج». أما الأول فهو حديثٌ للرسول الكريم أورده ابن عربي، يقول فيه: «ما ابتُلي أحدٌ من الأنبياء بمثل ما ابتُليت به»، مشيرًا بذلك إلى رجوعه من حالة الرؤية (رؤية الحق)، إلى دنيا الناس؛ ليخاطب فيهم من ضلَّ ليهديه سواء السبيل، والمنظور الثاني: حديثٌ لواحدٍ من الصوفية يقل: «صعد محمد النبي العربي إلى السموات العُلا، ثم رجع إلى الأرض، قسمًا بربي لو بلغت هذا المقام لما عدتُ أبدًا …» ونحن هنا أمام نمطين مختلفين من الوعي: الأول تتميز به حالة النبوة، والآخر حالة المتصوف الذي يشاهد «الحق»، ويتمنى ألا يعود إلى الناس، فإذا عاد كانت عودته غير ذات نفعٍ كبيرٍ؛ لأنه سيحصر نفسه في ذاته مُنتشيًا بما قد شاهد.٥٠ وها نحن أمام رجلين: رجل يرى الحق فتكفيه الرؤية، ورجل يرى الحق فلا يستريح له جنبٌ حتى يغيِّر الحياة وفق ما رأى، ولست أرى ما يمنع من التوسع في التطبيق، بحيث نجعلها تفرقة بين المثقف الذي ينعم بثقافته، ثم لا يغير من مجرى الحياة شيئًا. والمثقف الذي لا ينعم بثقافته إلا إذا استخدمها أداةً لتغيير الحياة من حوله، وفي هذه الحالة الثانية يكون المثقف مثقفًا وثائرًا معًا …»٥١
لكن ذلك يحتاج إلى تحديدٍ أكثر: فصفة «الثورية» حين تُضاف إلى المثقف، أكثر انطباقًا على ميدان العلوم الإنسانية منها على ميدان العلوم الطبيعية، فلا يجوز أن يُقال عن عالم الرياضة الذي درسها وطبَّقها في بناء الجسور أنه مثقفٌ ثوريٌّ؛ لأنه طبَّق ما تعلم … كلا! فالتفرقة مقصورةٌ على أصحاب الثقافة الإنسانية؛ لأنها هي التي تشمل القيم، والقيم هي التي يُصيبها التغير، حين يُقال إن ثورة قامت فغيَّرت وجه الحياة.٥٢
لكن هذا التحديد لا يزال غير كافٍ؛ لأن الذي يغيِّر وجه الحياة قد يغيرِّها إلى الوراء، لا دافعًا بها إلى الأمام، في حين أن الثورية تُضاف إلى المثقف الذي يدفع بالحياة إلى الأمام، في مقابل «الرجعية» لمن يريد أن يردَّ الحياة إلى الوراء. غير أن الدقة تحتِّم علينا أن نفهم معنى «الأمام» و«الوراء»؛ لأنها لا تكون مفهومةً إلا بالنسبة لهدفٍ معلوم. وهكذا نستطيع أن نحدد «المثقف الثوري» تحديدًا أكثر دقةٍ، بقولنا أنه من أدرك مثلًا جديدة للحياة الإنسانية، وحاول تغيير الحياة وفقًا لها، شريطةً أن يجيء هذا التغيير في الاتجاه الذي يسير فيه التاريخ، بحيث تتسع الرقعة البشرية التي تتمتع بما كان مقصورًا على القلَّة، من جوانب القوة والحرية والعلم وسائر أوجه الكمال.٥٣
والطريف أنه يجعل من سقراط النموذج الأول «للمثقف الثوري»؛ لأنه لا يستريح ولا يطمئن، حتى يحمل الناس على قبول ما ارتسم في ذهنه من وجوب أن يكون زمام الأمور كلها لمبادئ العقل: فلا نزوة ولا رغبة ولا عاطفة أجدى على الإنسان من عقله.٥٤ «ومثَلُنا الثاني للمثقف الثوري هو أفلاطون: ارتسمت في ذهنه صورةٌ عقلية للدولة المثلى كيف تكون، بحيث تجيء دولةٌ قائمة على دعامة العدل»، وأخذ في محاورة «الجمهورية» يفصل القول في صورة هذه الدولة العادلة … ولو اكتفى أفلاطون بهذه الصورة لعددناه «مثقفًا»، يرى الفكرة ويحللها فيسترخي ويستريح، لكنه كان مثقفًا ثوريًّا وهو يلتمس طريق التنفيذ لفكرته التي ارتآها عند تلميذه ديونيسيوس، الشاب الذي آل إليه الحكم في سراقوصة بجزيرة صقلية …»٥٥ كذلك كان الغزالي في تاريخ الفكر الإسلامي هو خير الأمثلة التي تُضرب للمفكر الثوري؛ لأنه غيَّر بفكره حياته وحياة الناس من بعده لعدة قرون … وفي حياتنا الفكرية الحديثة يقوم «جمال الدين الأفغاني» بدور سقراط: يُجادل ويناقش ويخلق التلاميذ والأتباع، ويشعل الروح ويُوقظ النفوس … كذلك كان تلميذه «محمد عبده» يدرس ليصلح ويبني وينشئ ويعلِّم ويربِّي، ولم يكن «مثقفًا» وكفى، بل كان «مثقفًا ثوريًّا». وقل مثل هذا في قاسم أمين ولطفي السيد، الأول يكتب ليغيِّر نصف الشعب «المرأة»، والثاني ليؤصِّل حياةً سياسية على أصولٍ ديمقراطية.

وهكذا يسير بك في تحليله العقلي لمفهومٍ ظهر في حياتنا الثقافية إلى آفاقٍ لم تكن في الحسبان. بل لم يتصور مَن استخدموا هذا المفهوم أنه يمكن أن ينسل هذا النسل كله!

(ب) إرادة التغيير

لم يكن زكي نجيب محمود في يومٍ من الأيام منتميًا إلى حزبٍ سياسيٍّ معين، ولكن كان يتخذ على حدِّ تعبيره «موقفًا سقراطيًّا»، هو أن يكون صاحب رأيٍ مستقلٍّ، من حقِّه إبداء الرأي وتوجيه النقد لكثيرٍ من أوضاع مجتمعه، دون أن يلتزم بأفكار حزبٍ معين أو بموقفٍ «أيديولوجي خاص». ولقد أمدَّه هذا «الموقف المستقل» بحرية الحركة، في نقد وتحليل أي مفهومٍ يظهر على مسرح حياتنا الثقافية أو السياسية، دون أن يجد في هذا التحليل حرجًا ولا غضاضة؛ ولهذا تراه قابعًا مع قلمه مُمسكًا بمبضع التحليل يتلقف كل ما يظهر من أفكارٍ ومفاهيم ليبدأ عمله! لا يهمُّه بعد ذلك المصدر الذي أطلق الفكرة — رئيس الجمهورية أو جمهور الناس في الشارع — فبعد حرب السويس تحدَّث الرئيس جمال عبد الناصر في إحدى خطبه داعيًا إلى «إرادة التغيير» التي نحن أحوج ما نكون إليها، ويتلقفها مفكرنا الكبير ويضعها تحت عدسته المكبِّرة، فإذا بهذا التعبير يتحوَّل إلى تحصيل حاصلٍ! فهما مترادفان! «إرادة التغيير» كلمتان صيغتا على صورة المضاف والمضاف إليه كما نقول: قراءة الكتب أو «رؤية الشمس» … وهما معًا تكونان أحد المبادئ التي نستهدفها في بناء حياتنا الجديدة، وهما من ذلك الضرب من المفاهيم التي يكون الناس منها على درجةٍ وُسطى بين «الجهل والعلم»، ومن ذا لا يستخدم كلمة «إرادة» وكلمة «تغيير» في حديثه الجاري، وهو على بعض العلم بما تعني هذه الكلمة أو تلك؟!٥٦

وينتهي من تحليله إلى أنه لا انفصال بين الإرادة والعمل، حتى ليصبح من اللغو أن نقول عن إنسانٍ أن له «إرادة»، لكنها لا تجد العمل الذي تؤديه، وإلَّا كنت كمن يقول إنه يأكل ولا طعام أو يشرب ولا ماء!

الإرادة هي نفسها العمل الذي يحقق الهدف، ويُزيل ما قد يحول دون تحقيقه، شريطة أن يكون الهدف هو هدفك أنت، وإلا كنت آلةً مسخَّرةً في يد صاحب الهدف. إنك في الفعل الإرادي أنت الآمر والمأمور، إنك أنت تعمل العمل الذي تسعى به إلى تحقيق أهدافك، فأنت عندئذٍ بجميع سلوكك تجسيد للإرادة وتنفيذها.٥٧
وهكذا نجد أن قولك «إرادة التغيير» لا يزيد شيئًا عن قولك «الإرادة» … لأن هذه لا تكون بغير فعلٍ، ولا فعل بدون تغيير، فسواء أكان التغيير الحادث ضئيلًا، أم جسيمًا فهو تغييرٌ؛ لأنك لا تفعل الفعل في خلاء، بل لتحرك به شيئًا فيتغير مكانه، وباختصارٍ كل إرادة فعل، وكل فعل حركة وتغيير! ومن ثم فلا ينبغي أن نتحدث عن «إرادة التغيير»، بل عمَّا نريد تغييره، أو الهدف الذي من أجل تحقيقه تغير ما تغير، وهو يقترح أن يتجه التغيير إلى المعايير والقيم التي تسود حياتنا، ويضرب لها مثلًا بالتوحيد بين العام والخاص «فنحن بما ورثناه من تقليدٍ اجتماعيٍّ أحرص ما نكون على «الملك الخاص»، وأشد ما نكون إهمالًا «للملك العام»، كما هي الحال في العناية الواجبة بالابن والعناية الواجبة بالمواطن البعيد، والعناية بتنظيف الدار من الداخل والعناية بتنظيف الطريق العام، بين المال الذي نملكه والمال الذي تملكه الدولة، بين العيادة الخاصة يديرها الطبيب الذي يستغلُّها، والمستشفى العام يُديره الطبيب نفسه، ولكنه يديره باسم الدولة.»٥٨ وقل مثل ذلك في معاني «الجاه» و«الصدارة في المجتمع» والزهو بعدم الخضوع للقانون … إلخ.٥٩

(ﺟ) أخلاق القرية

وعندما تحدَّث الرئيس السادات عن أخلاق القرية.٦٠ زاعمًا أنها الأخلاق المُثلى، وأنه يريد أن يعود بالمجتمع إلى مثل هذه «الأخلاق الرفيعة»؛ تصدَّى مفكرنا الكبير لتحليل الفهم الغريب لأخلاق القرية، وكان مما قاله: «إن أخلاق القرية هي الأخلاق التي أفرزتها الحضارة الزراعية الريفية، وبمقدار ما نريد المحافظة على شيءٍ من هذه الحضارة، تكون الحكمة في المحافظة على أخلاقها. غير أن الاتجاه العام الذي يسود عصرنا هو تحويل القرية إلى مدينةٍ لا تحويل المدينة إلى قرية؛ فالأقرب إلى التصور أن يتحول الفلاح إلى عاملٍ زراعيٍّ، بكل ما تحمله كلمة عامل الآن من حقوق الأجور والتأمينات والانتماء النقابي وغير ذلك. لقد جاءت قيم الحضارة الصناعية، لتبقى وتسود وليس لنا عن ذلك محيص.»٦١
ثم يستطرد أستاذنا الكبير فيعدد «مساوئ» أخلاق القرية، التي يُشيد بها رئيس الجمهورية:
  • (١)

    أبناء القرية في تمسُّكهم بأخلاق الريف الزراعي يعدُّون أنفسهم أسرةً واحدة أو كالأسرة الواحدة؛ ومن هنا كان مصدر صلابتهم، لكن من هنا أيضًا كان مصدر التخلف الحضاري عندهم؛ ذلك لأن الشعور الأسري هو في الأساس مصدر «المحسوبية». فيكفي صاحب الحكم أن يعلم أن بينه وبين فلان تلك العلاقة الوثيقة، ليجعله «محسوبًا» عليه؛ مما يُلزمه إلزامًا خلقيًّا أن يُسانده ولو بغير حقٍّ، وهي مساندة غالبًا ما يجيء ثمنها أن يدين المحسوب لولي نعمته بالولاء … وهكذا تظهر النتائج الضارة!

  • (٢)
    العلاقة بين أفراد القرية قائمةٌ على ما تقضيه روابط الدم؛ أعني روابط القربى، وكثيرًا ما يكون ذلك على حساب المصلحة القومية التي تجاوز القرية وأبناءها، فالحضارة الصناعية أدت إلى تجمُّع ألوف العمال في مصنعٍ واحد، بل ويسكنون عادةً في حيٍّ واحد؛ مما أدى إلى علاقاتٍ اجتماعية من نوعٍ جديد هي العلاقات التي تتمثل في النقابات، وسرعان ما يصبح الهدف المشترك لا خدمة أسرة واحدة، بل خدمة حرفةٍ صناعية معينة، وخدمة القائمين بها. وهنا تتغير معاني طائفة كبيرة من الألفاظ الخلقية كالعدل والكرامة والتعاون.٦٢
  • (٣)
    إذا كان في الدعوة إلى أخلاق القرية رومانسية تُشبع الخيال، فإن فيها الكثير من جوانب القصور: ليس فيها مثلًا مكان لدقة الزمن باعتبارها فضيلة؛ فأدقُّ ما تعرفه أن يُقال صبح، ضحى، وعصر، ومغرب؛ ولذلك يضيق ابن القرية عندما تُطالبه بتوقيت يلتزم الساعة والدقيقة … فإذا عرفنا أن دقة الزمن من الركائز الأساسية في الحضارة الصناعية القائمة، علمنا أن أخلاق القرية لم تعد تُسعف من أراد المشاركة في حضارة هذا العصر.٦٣

(د) يمين الفكر ويساره

ومن المفاهيم الغامضة التي استخدمت بدلالاتٍ سياسيةٍ أيضًا «اليمين واليسار»، فهما كلمتان تستعملان على نطاقٍ واسعٍ للتفرقة بين الأفكار والمواقف والأشخاص: فهذه الفكرة من اليمين وتلك من اليسار، وكذلك هذا الموقف وذلك. وهذا الرجل وذاك، وكثيرًا ما يوصف من وُضع في زمرة اليمين بالرجعية واللاعلمية؛ لأن اليسار وحده هو التقدمي والعلمي، وليس الأمر من قلة الشأن بحيث نتركه يمضي بغير تحديدٍ …٦٤
وينتهي من تحليله لهذين المفهومين إلى نتيجة: «أراها محتومةً حتمًا؛ وهي أن ليس هناك فواصل فارقة في ميدان الفلسفة بين يمينٍ ويسار، وكذلك لست أعتقد أنه يطوف لأحدٍ ببال أن يكون في «العلم» يمين ويسار …»٦٥
لكن هذه التفرقة تكون واضحةً في مجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة … فضلًا عن مضمون الأدب دون الشكل، ومضمون الفن التشكيلي، وشكله معًا عند من يطالبون الفنان بأن يحمل فنَّه رسالةً في الاقتصاد والاجتماع.٦٦

(ﻫ) الطاغية

لستُ أرى أن أُنهي هذا القسم بأفكاره ومفاهيمه السياسية قبل أن أتحدَّث بسرعةٍ عن تحليل مفكرنا الكبير لمولد الطاغية كيف يكون؟! فهو يراقب عصفورًا جاء يلتهم حبَّات أرز، وُضعت في وعاءٍ في الشرفة الخارجية للمنزل، فما إن حطَّ العصفور على مقربةٍ قريبة من الأرز، حتى أخذ يتلفت بحركةٍ سريعةٍ هنا وهنا، قبل أن يُقدم على التقاط الحب، كأنما أراد أن يستوثق من غيبة الرقيب، حتى إذا اطمئنَّ بعض الشيء خطا خطوتين بحذر شديد، وأصبحت حبَّات الأرز على ملقطٍ منه، لكنه مع ذلك تريَّث لحظةً وراح من جديد يلتفت يُمنة ويسرة، فلما لم يجد ما يُنذر بالخطر، التقط حبةً واحدة بلقطةٍ سريعة، ثم سكن لحظةً وعاد يلتفت، فلما لم يجد إلَّا الهدوء والأمان، انكبَّ على الأرز يلتهم منه ما يملأ حويصلته وطار.٦٧
وهو هنا يصوِّر لنا كيف يبدأ المعتدي بالحذر والخوف، حتى إذا ما أمن مغبة الاعتداء ملأته الشجاعة، فأقبل على العدوان بكل قدرته وهو مطمئنٌّ آمن، أو قل إنه كالمطمئن الآمن، لا يحول شيء بينه وبين السير في الشاطئ إلى آخر المدى. إن سكوت صاحب الحق المنهوب سرعان ما يجعل الناهب صاحب حقٍّ في الاعتداء: «والقاعدة التي أُريد أن أضعها بين يديك هي أنه حيثما فرَّط إنسان في حقِّه، ظهر لذلك الحق طاغية يستبدُّ به.»٦٨

المجموعة الثانية: مفاهيم دينية

(أ) التطرف الديني

في تحليله لهذا المفهوم مثالٌ واضحٌ لارتباط التحليل عنده، بما يظهر في حياتنا الثقافية أولًا بأولٍ من مفاهيم وأفكار؛ فهو يستخدم الفاعلية الفلسفية فيما يظهر على سطح هذه الحياة، من أفكارٍ أيًّا كان نوعها، فعندما بدأ الناس يتحدثون عن «التطرف الديني»، كتب في الحال «متطرف تحت المجهر»، يحاول أن يسأل مع الناس عن معنى هذا التعبير، وتكون الإجابة عنده على النحو التالي:

إن علينا بادئ ذي بدءٍ أن نُفرِّق بين طرفين: «الدين» كما هو قائمٌ في الكتب السماوية من ناحية، و«المتدين» بذلك الدين من جهةٍ أخرى. فبينما الكتاب واحدٌ فإن المتدينين به كثيرون، وليس هو من الأمور الشاذة في طبيعة الناس، أن يختلفوا في طريقة فهمهم لنصٍّ واحد قرءوه. وهذا ما حدث للمسلمين؛ فهم مُتفقون على الكتاب الكريم لكنهم مختلفون في فهمهم لبعض آياته، ومن هنا نشأت المذاهب المتعددة؛ ومن ثم يكون معنى التطرف أن يأخذ المسلم بطريقةٍ معينة في الفهم، أو بمذهبٍ معين، ثم يعلن أنه هو وحده الصحيح، وقد أخطأ الآخرون، ولو وقفت المسألة عند هذا الحدِّ لهان الأمر، لكنه ينقلب «متطرفًا» إذا هو أراد أن يحمل الآخرين بالقوة — كائنة ما كانت صور القوة — على مشاركته فيما يعتقد.٦٩
وينتهي مفكرنا الكبير من تحليله لمفهوم التطرف إلى أن هناك أربع خصائص للمتطرف في مجال الدين أو في أي مجالٍ غير الدين، وهي:
  • أولًا: سمةٌ أساسية للمتطرف وهي سمةٌ تُؤخذ عليه أن يقوم بإرهاب الآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، وفي ذلك الإرهاب يسكن جوهر التطرف، فليست المسألة أنه يختار لنفسه وجهة نظر، يرى الأفكار والمواقف من خلالها، وإنما المسألة أنه يريد أن يُرغم الآخرين بالقوة للأخذ بها، فقد كانت وجهة نظر «الخوارج» مثلًا خالية مما يُؤخذ عليهم، ومع ذلك فقد نفرت منهم الأمة الإسلامية، لماذا؟! كانت العلَّة في تطرفهم هي اللجوء إلى القسوة العنيفة إرهابًا لكل من وقعت عليه أيديهم حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإذا لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها؛ مع أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظةً واحدة، ويديمون الصلاة حتى لقد كانوا يُعرفون بما كانت تتقرَّح به جباههم من السجود على حصباء الأرض العارية.٧٠
  • ثانيًا: إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلةً لإرغام الخصوم هو العلامة الحاسمة التي تُميِّز المتطرف عمن سواه، كان محالًا أن يلجأ إليه إنسانٌ قويٌّ واثقٌ بنفسه وعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أي صورةٍ من صوره؛ لماذا؟! لأن الإنسان إذا أحسَّ في نفسه ضعفًا تملَّكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأي خائفٍ آخر ترى المُتطرف هلعًا جزوعًا، يُسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع قبل أن تسنح الفرصة أمام ذلك الخصم.٧١
  • ثالثًا: لا يتطرف بالمعنى السابق إلا مَن حمل على كتفيه رأسًا فارغًا وخاويًا، اللهم إلا أضغاثًا دفع بها إلى ذلك الرأس عن فهمٍ أو غير فهمٍ، وذلك لسببين:
    • الأول: أن تكون الأفكار التي شحن بها رأسه غير علميةٍ لأن الفكرة العلمية مقطوعٌ بصوابها.
    • الثاني: أن ما يمتلئ به رأس المتطرف، ما دام لا يمتُّ إلى العلم بصلةٍ، لا بد أن يكون فيه الخصائص المضادة للعلم، ومنها «حرارة الانفعال»، وغموض المعنى واحتمال أن تتعدد فيه وجهات النظر.٧٢
  • رابعًا: السمة الأخيرة أن التطرف في الواقع، حالةٌ من حالات التكوين النفسي، ولا نقول إنه وجهة نظر إلا من باب التساهل، وإنما هو في حقيقته الدفينة «حالة نفسية»، تجعل صاحبها على استعدادٍ لأن يتطرَّف وكفى! فليس المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه، بل المهم في تكوينه هو أن يتطرف للتطرف في حدِّ ذاته؛ ومن هنا رأينا أمثلةً كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يومٍ وليلة، من تطرف في فكرةٍ إلى تطرف في الفكرة التي تُناقضها؛ فتراه اليوم متطرفًا في رؤيةٍ إسلاميةٍ معينة، ثم نراه غدًا متطرفًا في رؤيةٍ شيوعيةٍ، أو العكس؛ مع أن الإسلام والشيوعية ضدَّان لا يلتقيان.٧٣

(ب) فلسفة الشهادة

ماذا تعني شهادة «لا إله إلا الله» التي هي أصلٌ ثابتٌ في حياتنا الدينية والثقافية؟! هي من الشجرة العقلية بمثابة الجذع وجذوره، ثم تنبت الغصون وتنمو وتورق؛ فهي شهادةٌ تدلُّ — من بين ما تدل عليه — على ثلاثة أركان دفعةً واحدة لإقامة هيكلٍ ثقافيٍّ كامل، لو كسوناه لحمًا لأصبح حياةً فكرية، تحمل طابعًا يميزها عن كثيرٍ مما عداها؛ فهي تدلُّ على ذات إلهية مشهودة، وذاتٍ إنسانيةٍ شاهدة، ومجموعة من أفراد الناس تتم الشهادة في حضورهم:
  • (١)

    أول ركن تدلُّ عليه الشهادة، وجود الذات الإلهية، التي تشهد أن ليس ثمة من آلهةٍ سواها، ثم نجد لهذه الذات صفاتٍ كثيرة، تتوحد في نسقٍ معين، هي ما نُطلق عليه أسماء الله الحسنى، وهذه المجموعة من الصفات هي لله على نحوٍ مطلق، وهي كذلك للإنسان على نحوٍ نسبيٍّ؛ أي إن المسلم لا بد أن يعمل على أن يكون في حياته عالمًا فريدًا قديرًا مهيمنًا عزيزًا جبارًا … إلخ، وإلا كانت شهادته باللفظ دون المعنى.

  • (٢)
    أما الركن الثاني الذي تتضمنه الشهادة فهو وجود الذات الإنسانية الشاهدة، ولا بد من الوقوف المتأمل عند «الذات الإنسانية» هذه، لنرى متى يتحقق وجودها وكيف؟! إنه مهما يكن من أمر التشابه والتجانس بين أفراد البشر، فلن يكون الفرد الإنسان «ذاتًا»، إلا إذا بقيت له بقية يختلف بها عن جميع مَن عداه، وهي بقيةٌ لها كل الأهمية والخطورة؛ لأنها هي التي تُحدد هويته، وهي التي نعدُّها مسئولة أمام الله والناس. وهذا الجانب الفريد من كيان الإنسان، هو الذي «يشهد ألَّا إله إلا الله».٧٤
  • (٣)
    يبقى الركن الثالث المتضمن في «الشهادة»؛ أعني به وجود الآخرين الذي هو ركنٌ أساسيٌّ في حياة هذا الإنسان، ولك أن تُقدِّر الفرق الشاسع بين إنسانٍ يتصرف كما لو لم يكن في الدنيا إنسان سواه، وآخر يضع في اعتباره عند كل خطوةٍ يخطوها وكل فعل يُؤديه، أن هناك آخرين اعترف بهم ضمنًا حين شهد ألا إله إلا الله. وهكذا تنشأ لنا عن أصلٍ واحد ضروب ثلاثة: الحقيقة الدينية، والفردية الإنسانية، وروابط المجتمع.٧٥

(ﺟ) الضمير الديني

الغاية التي يجب أن نستهدفها من التربية الدينية هي إيجاد ذلك الضرب من الوجدان الديني الذي من شأنه أن يهدي صاحبه كلما جدَّ موقف في الطريق، إلى اختيار السلوك الذي يعينه على تكامل شخصيته، تكاملًا ينمُّ عن «وحدانية تلك الشخصية»؛ لأن ما يحقق إسلام المسلم هو في المقام الأول، أن يجسِّد في شخصه رسالة الإسلام، و«التوحيد» من تلك الرسالة هو في صميم الصميم.

لكن ماذا نعني بكلمة «الضمير»؟! نعني بها ما استخلصناه لأنفسنا مما وعيناه وعشناه: إما من خبراتنا المباشرة أو مما علمنا إيَّاه آباؤنا ومعلمونا، «فأضمرناه» في نفوسنا لنحمله معنا أينما توجَّهنا، فنكون بمثابة من يحمل معه دليلًا هاديًا، يرشده إلى سواء السبيل إذا ما أشكل عليه الأمر.٧٦
فما هو المبدأ الذي يستخلصه المسلم من أحدية الله ويُضمره في صدره ليكون مرجعه في مسلك حياته؟ كيف نحول عقيدة «التوحيد» بالتربية إلى «ضمير»، يكون به المسلم مسلمًا فيما يدع وفيما يختار؟! هذا المبدأ هو أن يختار الفعل الذي يتسق مع غيره في بناء شخصيةٍ موحدةٍ. فالتوحيد الإسلامي هو في أعماقه تناسق في حياة الإنسان الأخلاقية، بمعنى أن تنظم مجموعة القيم الروحية في ترتيبٍ معين، يبيِّن أيها أولى من أيها إذا ما تعارضت في موقفٍ معين؛ ومن ثم فعقيدة المسلم إذا ما رسخت في صدره ضميرًا يهديه إلى جادة الطريق، ضمنت له ألا تتعدد معاييره الأخلاقية، فمعيار أمام ولي الأمر ومعيار آخر أمام الناس، ومعيارٌ ثالث يقيمه حين يخلو لنفسه! إننا إذا استطعنا تربية هذا «الضمير الديني» عند أبنائنا وبناتنا، كان ذلك درعًا تحميهم من أن يذلَّ صغيرهم لكبيرهم، أو أن يذل فقيرهم لغنيهم، أو أن يذل محكوم لحاكم.٧٧

مفاهيم متفرقة

هناك مفاهيم دينية كثيرة تعرَّض لها مفكرنا بالتحليل والتشريح؛ من ذلك مثلًا التفرقة بين «الفكر الإسلامي» من ناحية، «وفكر المسلمين» من ناحيةٍ أخرى، فلكي يكون الفكر إسلاميًّا لا بد أن يكون مُنصبًّا على مسائل متصلةٍ بعقيدة الإسلام وشريعته، منها مثل وجود «الله» وصفاته كالوحدانية، والعدل، والقدرة، والعلم … إلخ،٧٨ كذلك فكرة الإمامة، خلق القرآن … إلخ إلخ. هذا هو الفكر الإسلامي الذي ينصبُّ على موضوعاتٍ متعلقة بالعقيدة، إلا أن المسلمين كان منهم علماء ذوو فكرٍ إنسانيٍّ عام لا يتقيد بصفةٍ، تقصره على ديانةٍ دون ديانةٍ أخرى، وها هنا نرى للمسلمين فكرًا في شتى نواحي العلم والمعرفة؛ مما لا يختص بالعقيدة والشريعة، وليس فيه من الإسلامية إلا إسلام صاحبه مثل عالم الرياضة، وعالم الفلك، وعالم الكيمياء والبصريات، والطبيب، والمهندس، بل ونستطيع أن نُضيف أنواعًا أخرى مثل كُتَّاب الرحلات، ونقد الأدب، وعلم الحيوان والنبات …إلخ كل ذلك ضروب من العلم والمعرفة قام بها مسلمون، حتى أصبحت جزءًا هامًّا فيما نُسمِّيه بالتراث العربي، إلا أنه لا يندرج فيما نسميه بالفكر الإسلامي …٧٩
ومن المفاهيم الدينية التي عالجها أيضًا «الدين» و«التدين» و«علوم الدين»، عندما رأى خلطًا في رؤية الناس لها حتى أهل التخصص منهم «فالدين قائمٌ في نصوصه المحددة … ثم يأتي الطرفان الآخران: من يؤمنون بذلك الدين وهم من يصفونهم «بالتدين»، ثم علوم الدين التي تُقام على النصوص كما سبق أن رأينا. فعلم الدين لا هو «الدين» ولا هو «التدين»، إنما هو فاعلية عقليةٌ تقوم على الدين. ولقد لبث الإسلام «دينًا» للمؤمنين «يتدينون» بمبادئه وتعاليمه، قبل أن يظهر الفقهاء ليقيموا عليه العلم بمنهج التفكير العلمي، وعندما نزلت الآية الكريمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، «كان قد كمل دين الإسلام ودخل الناس أفواجًا، ولم يكن قد كُتِب بعدُ سطرٌ واحد في أي علمٍ من علوم الدين؛ مما يقطع بأن الدين نفسه شيء، والمتدينون به شيء ثانٍ، والعلوم التي تقوم عليه شيءٌ ثالث.»٨٠
ولك أن تقرأ مقال «الشيطان الأخرس» لترى كيف كان يتصدَّى مفكرنا للمفاهيم الدينية الخاطئة بالتحليل والتفنيد فور ظهورها في الصحف اليومية؛ فلو نشر واحدٌ من أئمة الدين في جريدة الأهرام «أن رجال الشريعة قادرون على أن يقولوا كلمتهم في كل شيء»، يكون تحليل مفكرنا «لو كان الأمر كما قال القائل لوجب منذ الغد أن تُغلق الجامعات جميعًا، ومراكز البحث وغيرها مما يريد أن يبلغ شيئًا من الحق، لا نُبقي إلا على كلية الشريعة لأنها تُعلمنا «كل شيء» …!»٨١

المجموعة الثالثة: مفاهيم قومية وأفكار وطنية

(أ) العروبة

في اعتقادي أن مفكرنا الكبير كان متحمسًا لجعل «العروبة» مفهومًا ثقافيًّا، وليس فكرة سياسية، فقد كتب يقول: «ليست عروبة العربي قرارًا سياسيًّا تصدره مؤتمرات القمم أو مؤتمرات السفوح والوديان … بل هي مركبٌ ثقافيٌّ يعيشه في حياته اليومية، ولا يستطيع العربي نفسه أن ينسلخ عنه إذا أراد … وأن يُعيده إليه إذا أراد … لا … ليست عروبة العربي قميصًا يلبسه إذا شاء ويخلعه إذا شاء، بل هي خصائص تُوشك أن تبلغ منه ما يبلغه لون الجلد والعينين …»٨٢ فما هي هذه الخصائص:
  • أولًا: أولى خصائص العروبة لغتها على أنه لا يكفي في هذا الجانب بأن تكون لغة الكلام والكتابة عربيةً؛ فالأوروبي الدارس للغة العربية قد يتكلمها ويكتبها، ومع ذلك لا تدرجه في العروبة ابنًا من أبنائها … إذ المهم هنا هو اللفتات العقلية أو الإدراكية العميقة التي تكمن في كيان العربي، فتميل به إلى اكتساب الصفات المتمثلة في اللغة العربية. فمن خصائص اللغة العربية مثلًا أنك إذا عرفت الأصل الثلاثي، عرفت كيف تفجِّر منه شجرة المشتقات على كثرة فروعها، فإذا عرفت كلمة «كتب» فجَّرت منها كاتب وكتاب وكتابة ومكتوب … إلخ، فكأنها القبيلة أو العشيرة بتعدد أفرادها، لكن هؤلاء الأفراد ينتمون إلى رأسٍ واحد …
  • ثانيًا: ثانية الخصائص ميل العربي إلى القفز السريع من الأفراد الجزئية إلى تجريدها وتعميمها في أنواعٍ وأجناس؛ فهو لا يهمُّه هذا الطائر المعين بل يكفيه أن يعرف الطائر في عمومه من حيث هو نوع … إن العربي في تكوينه العقلي لا يعبأ كثيرًا بالأفراد أو المفردات، وإنما يريد «الخلاصة» العامة المجردة ليسهل حملها معه، وهو مسافرٌ في الفلاة على ظهور الإبل! ولقد بلغ ميل الشاعر العربي إلى التجريد حدًّا جعله إذا تغزَّل في امرأةٍ لا يقصد امرأة بعينها، بل إن غزله منصبٌّ على «نوع» المرأة بأسره، وكذلك إذا وصف جوادًا أو بعيرًا أو ما شئت.٨٣
  • ثالثًا: وثالثة الخصائص إيمان العربي أن الحضارة الصحيحة إنما تُدار على محور الأخلاق، فليس المهم فيمن هذَّبته الحضارة أن يكون قويًّا بسلاحه ولا قادرًا بماله، بل المهم هو أن يقوم بالتعامل بين الإنسان وربِّه، والإنسان والإنسان على أنماطٍ رسمتها السماء لأهل الأرض؛ ومن هنا كان جوهر العروبة الاعتقاد بأن الخالق يشاء ويأمر، والمخلوق يُطيع بغير سؤال!
  • رابعًا: ليس عند العربي مقابلة بين واقعٍ ومثال، بل بين «واقع» و«واقع»؛ فكلمة مثال العربية تعني كائنًا ماثلًا أمامنا نراه ونلمسه. وأما كلمة «واقع» فهي تعني «الوقوع» الذي هو الهبوط والسقوط؛ ومن هنا كان العربي يُقصر نظرته على دنيا الكائنات الفعلية، يوازن بين بعضها وبعضها الآخر، وهي بأجمعها «واقع» سواء في ذلك ما هو أدنى وما هو أعلى!
    لكن علينا أن نلاحظ أن تحديد تلك الخصائص لا ينفي أن نحاول تغيير ما نريد تغييره منها، لقد أردنا فقط أن نقول: «إن عروبة العربي هو وجوده الثقافي المميز؛ فهي لا تُمنح بقرارٍ كما قد يتوهَّم الواهمون!»٨٤

(ب) الشخصية المصرية

لا تناقض بين عروبة العربي من جهةٍ ومميزاته الإقليمية من جهةٍ أخرى؛ فالمصري مصريٌّ وعربيٌّ معًا، كما يكون السوداني سودانيًّا وعربيًّا، والعراقي عراقيًّا وعربيًّا في آنٍ … فليس على هذه الأرض إنسان واحد وحداني الانتماء، وإنما الأمر في هذا يشبه الدوائر التي تتدرج اتساعًا.٨٥ وإذا صحَّ ذلك فما هي أهم الخصائص الممميزة للذات المصرية …؟! أهمها عمق الشعور الديني، ويتبعه عند المصري اتساع النطاق الذي يتعامل فيه مع «الغيب»، إمَّا بالإيمان الرشيد أحيانًا، وإما بتهاويم الخرافة أحيانًا أخرى.٨٦
ثم تجيء بعد ذلك خاصة انتمائه الأسري، وهو انتماءٌ لا يقف معه عند حدود «الأسرة النواة»، كما يصفها كثيرٌ من كُتَّاب الغرب اليوم بمعنى الوالدين والأخوة، بل يوسع المصري من حدود الأسرة التي يشتدُّ بها الانتماء إليها، لتشمل كذلك أبناء العمومة والخئولة ومن يتصل بهم.٨٧
ثم يتميز المصري كذلك بحبه لأرضه ليس فقط من حيث هي أرض يزرعها، بل من حيث هي كذلك أرض يتصل بها ولادةً ونشأةً وذوي قربى … ولقد تفرَّع عند المصري من عمق إيمانه الديني وقوة انتمائه لأرضه وأصله، حب يشبه الحب الصوفي للعمل الذي يؤديه، زراعة كانت أو صناعة، وأعني بالحب الصوفي هنا حبًّا للشيء في ذاته ولذاته، لا للأجر الذي ترتب عليه.٨٨
ثم يُلخِّص مفكرنا مفتاح الشخصية المصرية في عبارةٍ موجزةٍ هي «المصري صانعٌ عابد»، يتعامل مع هذه الدنيا وكائناتها بحواسه وجوارحه، ويتعامل مع الغيب بقلبه وإيمانه، هو واقعيٌّ في الحالة الأولى صوفيٌّ في الحالة الثانية، هو ماديٌّ في أحد جوانبه روحاني في الجانب الآخر. وكأن مفكرنا يريد أن يقول إن شخصية المصري مثالٌ حديث للصيغة التي اقترحها حلًّا لمشكلتنا الثقافية المعاصرة؛ وأعني بها صيغة الجمع بين «العقل والوجدان». ولقد ساعده على هذا الجمع بين الجانبين في شخصيةٍ واحدة متكاملة، أنه نموذجٌ فريدٌ يجمع في صيغةٍ حضارية واحدة خصائص فِلاحة الأرض وبداوة الصحراء ومجتمع المدينة.٨٩
لكن أين يا تُرى نجد ذلك المصري الذي هو «صانع وعابد» في آنٍ معًا؟! يجيب: «إنك تراه فيما صنعت يداه، تراه في كل مسلَّةٍ قُدَّت من الصخر العتي بإزميلٍ عبقريٍّ جبار، وارتفعت برأسها نحو السماء، وكأنها كلمة دعاء في صلاة! إنك تراه في أخناتون يشهد أن الله واحدٌ وراء كثرة الظواهر على الأرض في السماء. إنك تراه في راهب الدير الذي يزرع ويعبد الله في حياةٍ واحدة. إنك تراه في المساجد ومآذنها، التي لا تدري وأنت شاخصٌ ببصرك إليها في روعة بنائها، أهي صلاة تجسَّدت في عمارة أم هي عمارة ذابت في صلاة.٩٠

(ﺟ) الولاء للوطن

عندما شاهد في التليفزيون جماعةً من الشباب تهتف بالفداء بأرواحها ودمائها «ولاءً» لهذا أو ذاك، شعر أن في هذه الصورة شيئًا يُثير القلب ويتطلب التصحيح.٩١ فيكتب على لسان سقراط: «إن الولاء لا يكون لشخصٍ، وإلا فماذا لو غاب هذا الذي أعلنت له إخلاصك؟ أتصبح بغير إخلاصٍ لأحدٍ؟! إن الولاء الصحيح يا أصدقائي لا يكون لشخصٍ بقدر ما يكون لقضيةٍ معينة أو لفكرةٍ أو لعقيدةٍ دينية، أو غير ذلك مما يحيا من أجله الإنسان ويشعر ألَّا حياة له بغيره …»٩٢ ثم يحلل معنى الولاء ليجد أنه في حقيقته يتضمن أساس الأخلاق كلها … أما سرُّ الولاء فهو أن الفرد يشعر عن عمق وجدانه، أنه لا يستطيع العيش وحده فريدًا في هذا الكون الفسيح، ويريد أن يجد «آخر» يتحد معه ليوسع من وجوده، فإذا وجد هذا «الآخر»، تمسَّك به وأخلص له؛ ومن هنا كان الولاء ضرورةً حيوية لكل ما من شأنه أن يجعل وجودنا أغزر معنى وأوسع نطاقًا.٩٣ «فالولاء يكون لله لأنه مالك يوم الدين، والولاء يكون للوطن الذي بغيره ينعدم أهم أركان الهوية في هذه الدنيا، والولاء يكون لأي مجموعةٍ تُمثل فكرةً لها دوام، وأنتمي إليها عضوًا فيها عاملًا مع غيري على تحقيق هذه الفكرة …»٩٤ وهكذا تندمج الذات الفردية في ذاتٍ أوسع منها وأشمل؛ ليصبح الفرد بهذا الدمج جزءًا من أسرةٍ أو جماعة أو من أمةٍ أو من الإنسانية كلها … إلخ.
لكن ماذا نحن صانعون إذا تعارض ولاءٌ وولاء، كأن يتعارض في موقفٍ معين ولاء فردٍ لأسرته وولاؤه لأمته؟! الجواب: أن نختار الطريق الذي يُتيح للفرد تكاملًا في شخصيته بدرجةٍ أعلى، فهل يكون إنسانًا أكمل إذا هو انتمى إلى أسرةٍ قوية وأمة ضعيفةٍ، أو إذا انتمى إلى أسرةٍ ضعيفة وأمةٍ قوية؟! الإجابة تكاد تدلُّ على نفسها؛ وهي أن البديل الثاني أفضل وأكمل وأسمى؛ ومن هنا لك أن تسأل نفسك: أيكون الولاء والتضحية بدمائنا وأروحنا لمصري أم لمصر؟!٩٥

المجموعة الرابعة

(أ) وضع المرأة

لا نريد أن نُسهب طويلًا في أمر المفاهيم الاجتماعية، بل يكفي أن نقول إنه كان يتلقف ما يظهر في حياتنا الاجتماعية من أفكارٍ وقيم، ليقوم بتشريحه بنفس الفاعلية العقلية التي قدمنا لها فيما سبق مجموعة من الأمثلة. ولقد كتب عمَّا أسماه «بالردة في عالم المرأة»، ورسم لها صورةً في غاية الأهمية، ذهب فيها إلى أن «أبشع جوانب الردَّة في حياة المرأة اليوم ليس هو أنها تريد أن تتعلم إلى آخر المدى فيمنعها أحد، وليس أنها تريد أن تعمل بما تعلمته فيمنعها أحدٌ … وإنما الجانب البشع من تلك الردة هو أن المرأة اليوم تريد أن تجعل من نفسها وبمحض اختيارها، حريمًا يتحجب وراء الجدران أو يتستَّر وراء حجبٍ وبراقع، وكأنها الفريسة السهلة تخشى أن تتخطفها الصقور. أما أن تُحصن نفسها بقوة الروح، وبالشعور بكرامتها إنسانة واعية مستنيرة، فذلك زمنٌ أوشك على الذهاب مع ذهاب رائدات الجيل الماضي. ألا ما أبعد الفرق في حياة المرأة المصرية بين الليلة والبارحة؛ ففي بارحتها ألقت بحجابها في مياه البحر عند شواطئ الإسكندرية.٩٦ إيذانًا بدخولها عصر النور، وأما في ليلتها هذه فباختيارها تطلب من شياطين الظلام، أن ينسجوا لها حجابًا يردُّ عنها ضوء النهار …»٩٧

(ب) الرأي العام

ولعل من أجمل التحليلات التي قام بها في الميدان الاجتماعي تحليله لفكرة «الرأي العام»، الذي وصفه بأنه «الإله الزائف الجديد»، وقال عنه إنه «ذو وجهين» وهو بوجهٍ منهما لا عيب فيه إذا نزعت عنه شوكة التأليه، ولكنه بوجهه الآخر الذي يتسلَّح فيه بتلك الشوكة الرهيبة، ينقلب إلى طاغيةٍ يسحق فردية الأفراد سحقًا ليحيلهم إلى أشباحٍ وظلال: «فقد يحدث أن نرى العالم من علمائنا قديرًا في علمه وهو في ميدانه، لكنه ما إن يفرغ واجبه إزاء تخصصه العلمي، حتى يُسرع الخطى لينخرط مع الرأي العام فيما هو غارقٌ فيه، من تهاويم قد تبلغ أحيانًا كثيرة حدَّ الخرافة.»٩٨
ويفند مفكرنا «عمومية» الرأي العام بقوله: «إن وجود فردٍ واحد لا يرى الرأي الذي هو عام، ينفي عن الرأي العام عموميته، وحتى لو كان من حق الرأي العام أن يضغط بقوته العددية في اتخاذ القرارات، وفي انسحاب النواب الذين ينوبون عنه، وهو حقٌّ للناس لا شك فيه، فليس له الحق نفسه في منع الآراء والأفكار التي لا تعجب جمهوره.»٩٩ إن الذي يربط أفراد الجمهور بعضهم ببعض في تكوين رأيٍ عام، يغلب أن يكون هو «الانفعال» لا «العقل»؛ فالانفعال ينتقل من فردٍ إلى فرد بالعدوى، أما الفكرة العقلية فينقلها صاحبها إلى متلقِّيها بالإقناع، والإقناع بحكم طبيعته عمليةٌ فردية وليست عملية جماعية.١٠٠

(ﺟ) العلمانية

من المفاهيم التي شاعت في مجتمعنا أيضًا، وتعرَّض لها مفكرنا بالتحليل العقلي، مفهوم «العلمانية». وهو يرى أنه يُنطق بفتح العين لا كسرها، وأنه في هذا التحريف في النطق يكمن معظم الخلط؛ ولهذا يكتب مقالًا عنوانه، «عين، فتحة، عا»، ليشد انتباه القارئ إلى أن الكلمة لا تُنسب إلى «العلم» بل إلى «العالم»، وأنها جاءت بهذا المعنى من اللغات الأوروبية، بعد أن خرجت من العصور الوسطى، حيث أقام رجال الدين من حياة الرهبان مثلًا أعلى؛ فالزهد في الدنيا، لا الإقبال عليها، هو ما ينبغي للإنسان الكامل أن يهتدي به؛ وذلك لأن عقيدتهم تسمح لهم بأن يفصلوا بين الأرض والسماء، بين الدنيا والآخرة، في الأولى تكون السيادة لقيصر وفي الثانية يكون الأمر لله، فما لنا نحن بهذا كله وليس في عقيدتنا ما يدعونا إلى إهمال هذا العالم …؟! بل العكس هو الصحيح، فقد أمرنا بأن نحتفل بالدنيا وكأننا نعيش فيها أبدًا، وأن نعمل للآخرة كأننا منتقلون إليها غدًا!» تلك هي العلمانية التي لم تكن تحتاج منَّا إلا أن نفتح لها العين، فإذا هي جزء من حياتنا، ومقومٌ جوهريٌّ من مقومات تاريخنا في فترات عزِّه ومجده، فمن الذي يحاربه أولئك الذين ركبوا جيادهم، وحملوا قسيهم ورماحهم ليقاتلوا «العلمانية» حتى يقتلوها …؟!»١٠١ لكن إذا كانت مقاومة من يقاوم العلمانية بفتح عينها مصيبة أعظم فيمن يقاومونها بكسر العين؛ لأن عينها إذا كُسرت كانت الإشارة عندئذٍ إلى العلم وإلى الحياة التي تقيمها العلوم: «فهل يرضيكم، أيها السادة، أن نزرع أرضنا بغير علمٍ، وأن نُدير مصانعنا بغير علم، وأن نُنشئ مدارسنا وجامعاتنا بغير العلم، وأن نعد عدتنا العسكرية بغير العلم؟! هل يرضيكم أيها السادة أن نمحو أسماء العلماء من تاريخنا، فلا يكون فيهم بعد اليوم جابر بن حيان ولا الخوارزمي ولا ابن الهيثم ولا ابن النفيس؟! وإذا رأيتم في هؤلاء موضع فخر لنا، فلماذا لا تريدون لأحفادهم المعاصرين أن يعيدون سيرتهم الأولى؟!»١٠٢
ويمكن أن نسوق، فضلًا عن هذه المجموعات التي ذكرناها، أمثلة تفوق الحصر لأفكارٍ ومفاهيم قام مُفكرنا الكبير بوضعها على مائدة التشريح العقلي، منها فكرة «التراث»١٠٣ و«الثقافة».١٠٤ والفرق بين «الفرد والمواطن والإنسان».١٠٥ ومعنى التكنولوجيا.١٠٦ و«القيم الثلاث: الحق والخير الجمال».١٠٧ وارتباطها بأوجه الحياة الواعية للإنسان، وهي «الإدراك والسلوك والوجدان»، وعن معنى «الهوية» في مقاله: «نافخ النار».١٠٨ وعن معنى «الفكر وحريته»، و«وحدة التفكير»، و«رجل الفكر ومشكلاته».١٠٩ و«العقل الحر»، و«أزمة العقل»، و«سلطان العقل»، ومعنى «الروحانية».١١٠ وعن معنى «الديمقراطية» …١١١ إلخ، لكن تكفينا هذه القطرات من هذا البحر الزاخر؛ لننتقل إلى جانبٍ آخر هو «الوجدان»، لنسوق كلمةً سريعة عمَّا قدمه لدينا زكي نجيب محمود الأديب.

القسم الثاني: مجال الوجدان

يتمثل الجانب الوجداني عند مفكرنا في الفن بصفةٍ عامة، والأدب بوجهٍ خاص، ولعلنا لا نُبالغ إذا قلنا إن زكي نجيب محمود هو واحدٌ من أبرع كُتَّاب المقالة الأدبية في أدبنا المعاصر، وهو صاحب رأيٍ خاص في نقد الأدب وكتابة المقال الأدبي، وسوف نعرض لرأيه هذا بعد قليلٍ مع نماذج من المقالات الأدبية عنده، لكنا نريد الآن أن نُفرق بين الأدب بوصفه ممثلًا لجانب «الوجدان»، والعلم بوصفه مُعبرًا «عن العقل» … فأين يختلفان وكيف يلتقيان؟!

أولًا: الأدب والعلم

كثيرًا ما عقد مفكرنا مقارناتٍ مطولة بين الأدب والعلم لكي يُفرِّق بينهما من ناحية، ولكي يهاجم من ناحيةٍ أخرى أصحاب «الأدب العلمي»، مبينًا أنهم يخلطون بين أمرين لا يجوز الخلط بينهما؛ ذلك لأننا نجد أنفسنا، في حالة الأدب والعلم، أمام ضربين من الكلام يختلف أحدهما عن الآخر أتمَّ الاختلاف، ويستحيل أن يتحول إليه «كما يستحيل أن تتطور الأغنام وتصبح أبقارًا»؛ لا لأن الأدب متميزٌ عن العلم بجمال أسلوبه، مع جواز اتحادهما في مادة القول؛ بل لأن الاختلاف أعمُّ من ذلك بكثير؛ فالعبارة العلمية من طراز والعبارة الأدبية من طرازٍ آخر، ولن يستطيع جمال الأسلوب أن يعبر ما بينهما من فجوةٍ واسعة سحيقة.١١٢
ونحن هنا إنما نعود بطريقةٍ أخرى إلى ثنائية «العقل والوجدان»، وإلى ثنائية المجالين المختلفين من مجالات القول، ينبغي علينا أن نُفرِّق بينهما بدقةٍ وعناية، فالعلم تعميمٌ والفن تخصيص، العلم تجميعٌ والأدب تفريد، العلم يلاحظ الأشياء والنظائر ليستخلص منها أوجه الشبه فيصوغها في قانونٍ واحد يُنظِّمها، والفن يلاحظها جزئية واحدة يقف عندها، العلم يستبعد نفس الخصائص التي يستبقيها الفن؛ فالخصائص الفريدة التي تميِّز فلانًا من الناس دون سائر الأفراد، هي التي يستبقيها الفنان ليحللها ويصورها، وهي نفسها التي يستبعدها العالم؛ لأنها ليست مشتركةً بين سائر أفراد النوع الإنساني، يقول عالم النبات عن الزهر ما ينطبق على الزهر كله ما دام منتميًا إلى فضيلةٍ واحدةٍ، أما الفنان فيقف عند زهرةٍ واحدة في لحظةٍ زمنيةٍ واحدة، يلقفها من تيار حوادثها الدافق، قبل أن تمضي إلى غير عودة، فيصوِّرها رسمًا أو أدبًا أو مشاءت له مادته التي يستخدمها وسيلة لإثبات ما يريد أن يثبته.١١٣
وفي استطاعتنا أن نقول ذلك بصدد كل ما يعالجه الفن بشتى صنوفه، وعلى أساس هذا المعيار تستطيع أن تقيم «النقد الأدبي»، هب أنك بصدد قصيدة نظمها شاعرٌ عن الحب، فانظر إلى أي حدٍّ قد تفردت العاطفة التي يعبِّر عنها، بحيث أصبحت كائنًا وحدها قائمًا بذاته، لا تشاركها لحظةً أخرى من لحظات الحب، لا أقول عند سائر المحبِّين، بل عند هذا المحب نفسه، فلا يكفي أن يتحدث عن «الحب» بصفةٍ عامة تقول أنه أجاد؛ لأن الحب بصفةٍ عامة من حيث هو عاطفة يشترك فيها أفراد البشر أجمعون بدرجاتٍ متفاوتةٍ، هو من شأن علم النفس لا من شأن الفنان، فعالم النفس هو الذي يتحدث عن هذه العاطفة «بصفةٍ عامة»، أو أنه يتكلَّم عنها كما تبدو آثارها عند هذا الفرد من الناس، وهذا وذاك، في كل زمانٍ ومكان، هذا التعميم في الأحكام يكون علمًا ولا يكون فنًّا ولا أدبًا. أما الفنان أو الأديب فهو ينظر إلى حالاته النفسية في حبه ليلقف منها حالةً واحدة، ثم يبرز هذه الحالة الواحدة العابرة، وهو بذلك يصوِّر لنا ما لا يتكرر في سائر الحالات، ولا حالاته هو الشخصية دع عنك حالات الآخرين! إن المحب لا يشعر بعاطفة الحب على لونٍ واحد وبنغمةٍ واحدة، وأصداءٍ واحدة، وأثرًا واحد، بل نراه إزاء حبيبه الآن بما لم يُكنُّه بالأمس وما لن يكونه غدًا، ومع ذلك فهي كلها مواقف من حبه، فلا يكفي أن يقول: «إني أحب، أو إني في جحيمٍ أو نعيمٍ من الحب» ليكون أديبًا، بل يتحتَّم أن يخصص لنا خيوط العناصر النفسية، التي جعلت حبه جحيمًا أو نعيمًا، ولو أجاد الملاحظة، وأجاد الوصف، لعلم أن شبكة هذه الخيوط محالٌ أن تلتقي على صورةٍ واحدة في لحظتين متباعدتين.١١٤

الواقع أن مجرى العواطف والمشاعر عند الإنسان قريبة مما كان يصف به الفيلسوف اليوناني هيراقليطس الكون كله، تيارٌ متدفقٌ، كل شيء فيه تتغير حالاته تغيرًا دائمًا دائبًا، ويحاول «العالم» أن يتلمس وسط هذه التيارات الدافقة من الحوادث اطرادات تتكرر على غرارٍ واحد، فإن وجد جعله قانونًا ثم راح يقيس الأبعاد المكانية والزمانية في ذلك الاطراد، لينتهي إلى صيغة قانون فيه دقة كمية … أما الأديب أو الفنان، فشأنٌ آخر: إنه لا يلتمس اطرادًا في الحوادث، بل تستوقفه حادثة واحدة، أو حالة واحدة فيثبتها على اللوحة رسمًا، أو يثبتها باللفظ أدبًا، أو في أنغام الألحان موسيقى.

وليست كل حالة جزئيةٍ في صلاحيتها للفن على حدٍّ سواء مع سائر الحالات، بل إن الفنان ليقع على الجزئيات ذات الدلالة؛ أي الجزئيات التي تكون أكثر إيماءً عند القارئ أو الرائي، فكاتب القصة أو المسرحية، مثلًا، لا يجيد فنًّا إذا راح يسرد التفصيلات عن شخصياته سردًا بغير تمييزٍ، بل صحيح الفن هو الاختيار الموفق، فأي التفصيلات في حياة هذا الشخص الذي أصوِّره أهدى إلى حقيقة شخصه وسر نفسه وكنه وجوده؟ سل نفسك ما سر الجودة الفنية في هذه الشخصيات الأدبية: هاملت، الملك لير، دون كيشوت، وغيرهم؟ تجد أنه اختيار التفصيلات التي يجريها الأديب كلامًا وسلوكًا، بحيث يتكوَّن له في النهاية شخصٌ متكامل فريد؛ فهو لا يرسم الإنسان بصفةٍ عامة وإلا كان عالمًا، بل يرسم «هاملت» أو «لير» فردًا واحدًا ذا طابعٍ متميزٍ، يستحيل أن يتكرر له في الوجود مثال يطابقه كل المطابقة.١١٥

سبيل العلم، إذن، وسبيل الأدب مختلفان ولن يتطور هذا إلى ذاك أبدًا، ولسنا نريد أن نتتبع شتى الفروق التي تُباعد بينهما وتباين، لكنا نريد أن نُضيف خاصيةً هامة أخيرة، وهي أن الأدب بمقدار ما يكون الكلام فيه وصفًا للواقع والحقائق الخارجية بمقدار ما يبعد عن الكمال الفني، أن الصور الفوتوغرافية تصور الحقيقة الواقعية تصويرًا أمينًا؛ ولذلك لم تكن فنًّا بالمعنى الذي نقصده، إنك كثيرًا ما تقف أمام صورةٍ رسمها «بيكاسو» أو «ماتييس»، فلا تدري ماذا أراد المصوِّر أن يصوره؛ لأنه لم يُرد قط أن يصور شيئًا خارجيًّا عن ذاته، فهذا الخليط اللَّوني قد تردد في خياله كما تردد الأنغام في أذن الموسيقى، فرسمها على لوحته لتجيء موسيقى للعين في أنغامٍ من ضوء.

إن الآلام والأفراح لا تكون إلَّا داخل نفوس أصحابها، وكذلك يكون الحب وتكون الكراهية، وكل عاطفةٍ إنسانيةٍ أخرى، فماذا يريد أصحاب الأدب العلمي أن نصنع بالعواطف إذا هممنا بكتابة الأدب؟

ثانيًا: النقد الأدبي

هناك مدارس كثيرة في النقد الأدبي يحسن أن نسوق عنها كلمةً لتعرف أين يقف مفكرنا من هذه المدارس.١١٦ فافرض أن أمامنا ديوان شعر أخرجته المطابع وراح النقَّاد يعالجونه كلٌّ على طريقته الخاصة، فكم زاوية للنظر يمكن أن ننظر منها إلى هذا الديوان؟
  • (١)

    هناك الزاوية التي ينظر منها الناقد إلى الديوان المنقود، نظرةً يحاول بها أن ينفذ ببصره خلال الشعر الذي يقرؤه إلى «نفس» الشاعر الذي أنشأ الديوان ما طبيعتها؟ أهي نفسٌ مرحة متفائلة؟ أم هي مكتئبة متشائمة؟ أم هي كيت؟ فالناقد في هذه الوقفة يتَّخذ الشعر «وسيلة» لغايةٍ يهتمُّ بها، وليس الشعر هنا غاية في ذاته بل هو عند ناقدٍ من هذا الطراز وسيلة للكشف عن نفسيةٍ صاحبه، وبعبارةٍ أجلى وأوضح، المهم عند الناقد هنا هو «علم النفس» لا «الشعر»، ومن أمثلة ذلك وقفة العقاد في كتابه «ابن الرومي من شعره» … وقد تسمى هذا الاتجاه في نقد الأدب والفن بالاتجاه «النفسي»، ويمكن أن نقول إن «فرويد» وهو يقرأ مسرحية «أوديب» لسوفكليس كان ناقدًا أدبيًّا من هذا الطراز.

  • (٢)

    وهناك زاويةٌ أخرى للنظر إلى الديوان المفقود، وهي شبيهة بالزاوية الأولى في كون الناقد يتخذ من الشعر الذي بين يديه «وسيلة» لغايةٍ تُثير اهتمامه في المقام الأول، وكل الفرق بين الرؤيتين أنه بينما الناقد في الحالة الأولى يبحث من خلال الشعر عن «نفسية» الشاعر، نرى النقد في الحالة الثانية يبحث خلال الشعر عن «الحالة الاجتماعية»، التي كانت تحيط بذلك الشاعر، فكأنما شعر الشاعر هنا هو بمثابة وثيقة تاريخية لصورةٍ من صور الحياة الاجتماعية، ويمكن اعتبار كتاب طه حسين عن المتنبي مثلًا لهذا الاتجاه الاجتماعي في النقد.

  • (٣)
    وهناك، ثالثًا، زاوية أخرى للنظر يبحث الناقد منها لا عن «نفسية» الشاعر ولا عن «الحالة الاجتماعية» التي أحاطت به، بل يبحث في نفسه هو — نفس الناقد — عن وقع هذا الشعر فيها، فماذا ترك في جوانحه من أثر؟ هل خرج من قراءة الديوان وهو على وعيٍ بالغايات العليا التي استهدفها الكون؟ هل خرج من قراءته راضيًا عن نفسه أو ساخطًا عليها، ثم يسطر الناقد وصفًا لطوية نفسه، والأغلب أن يجيء هذا الوصف وكأنه في ذاته «أدب» بُني على أدب، ويمكن تسمية هذا الاتجاه في النقد «بالاتجاه التأثري» …١١٧
  • (٤)
    هناك وقفةٌ أخيرة، وربما تسبق منطقيًّا، جميع المواقف السابقة، فقبل أن يقف الناقد من الشعر المنقود وقفةً نفسية أو اجتماعية أو تأثرية، كان عليه أولًا أن يتأكد أن الذي بين يديه «شعر» يستحق المعالجة بهذا الطريقة أو تلك؛ ومن هنا فإن الناقد عليه — في رأي مفكرنا، وتلك هي وجهة نظره في النقد — أن يفحص الشعر نفسه؛ أي إن ينصب النقد الأدبي على الأثر الأدبي ذاته أو منحصرًا في النص ذاته؛ فأمام الناقد ترقيم على صفحات من كتاب ومهمته أن يحلل هذه التشكيلات اللفظية التي انتشرت أمامه على صفحات الكتاب؛ أي النص ولا شيء غير النص، فالكلمات المرقومة على الصفحات هي موضوع النقد، وتحليلها وتشريحها وفحصها من جميع وجوهها هو مهمة الناقد بالأثر الأدبي، لا ينبغي أن يعتمد في فهمه على شيءٍ وسواه «إنني لا أكون ناقدًا أدبيًّا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، إذا ما اتخذتُ الأثر الأدبي نافذةً أنظُر من خلالها إلى شيءٍ سواها؛ كأن أنظر إلى البيئة والظروف الاجتماعية والسياسية التي هي قائمةٌ وراء الأثر المدروس؛ إذ لو فعلت لكانت القطعة الأدبية التي أمامي بمثابة الوثيقة التاريخية لا أكثر ولا أقل، ولا أجعل من الأثر الأولي نافذةً أنظر منها إلى دخيلة نفسه، أو دخيلة نفس الناقد؛ إذ لو فعلت لكنت أشبه بعالم النفس يُحلِّل لمريضه أحلامه وردود أفعاله وخواطره ومشاعره … الناقد لا هو عالم اجتماع ولا سياسة ولا عالم نفس ولا طبيعة؛ وإنما هو ناقدٌ أدبيٌّ غايته دراسة قطعةٍ أدبيةٍ يختارها للدراسة.»١١٨ وتلك وجهة نظر في النقد يدافع عنها كثيرون، عندما يذهبون إلى أنه «لا بد من اتخاذ العمل الفني ذاته محورًا لكل ما يُقال في ميدان النقد وأساسًا لكل تذوق؛ فالاستطراد في الكلام عن شخصية الفنان أو وقائع حياته أو ظروف مجتمعه، دون أن تربط بين ما تقوله وبين العمل الفني ذاته، لا تعدو أن تكون استطرادات ذات قيمةٍ تاريخيةٍ أو نفسيةٍ أو اجتماعية، ولكنها ليست نقدًا بالمعنى الصحيح …»١١٩ على أن النقد الأدبي يدخل في مجالاتٍ أشد تعقيدًا كما تفعل «البنيوية» مثلًا؛ مما يجاوز هذه التحديدات العامة التي وضعها أستاذنا؛ ولذا سنكتفي بهذه الفكرة لننتقل إلى أدب المقال.

ثالثًا: أدب المقال

قلنا إن زكي نجيب محمود يكاد يكون من أبرع كُتَّاب «المقالة الأدبية»، في أدبنا المعاصر. ولقد كان له تصورٌ خاص لهذا اللون من الأدب، تأثَّر فيه بأدباء المقال الإنجليز بصفةٍ خاصة، لكن اهتمامه بهذا الطراز من الفنون الأدبية جاء مسايرًا لاهتمام أدباء عصره بالمقال «فأديبنا قصير النفس، تكفيه المقالة الواحدة يفرغ في أنهرها القليلة كل ما يتأجَّج به صدره من عاطفةٍ وما يخلج به رأسه من فكرٍ: فإن غضب أدبينا من نقصٍ يلمحه في بناء الجماعة أو أخلاق الفرد، فزع إلى المقالة يصبُّ فيها ثورة غضبه، وإن افتتن أديبنا بمجال الطبيعة الخلَّاب، لجأ إلى المقالة يبثُّ فيها ما أحس من عجبٍ وإعجابٍ …»١٢٠ فالمقال عندنا ملاذ الأديب، بصفةٍ عامة، باستثناء قلة قليلةٍ عمدت إلى القصة أو المسرحية … إلخ، ولا بأس أن يلجأ الأديب إلى المقال إذا سار على قواعد الأدب الصحيح … فما هي؟
هناك ثلاثة شروط للمقال الأدبي من حيث الشكل:
  • (١)
    أول شرط للمقال الأدبي أن يكون له «فورم Form»؛ أي شكل أو صورة معينة، يضع فيها الأديب فكرته؛ فهو لا يسرد تحليلاته كما يفعل رجل المنطق؛ أعني أن الانتقال لا يكون بحيث تأتي الفكرة الثانية عن طريق الاستدلال من الفكرة الأولى حتى نصل إلى النتائج، بل الأديب محكومٌ بتداعي المعاني بحيث لا يكون لها ضابطٌ من نظام، هي قطعة لا تجري على نسقٍ معلومٍ، فقد تجيء على شكل «حلم»، يرى فيه الأديب نفسه مرةً في القاهرة وأخرى في أوروبا، بل وفي أماكن لا رابط بينها سوى ما يُريد أن يُثيره في نفس قارئه من وجدان.
  • (٢)
    الشرط الثاني أن يصدر المقال عن قلقٍ يحسُّه الأديب مما يُحيط به من صور الحياة وأوضاع المجتمع، على شرط أن يجيء السخط في نغمةٍ هادئةٍ خفيفة هي أقرب إلى الأنين الخافت منها إلى العويل والصراخ «فإن التمست في مقالة الأديب نقمةً على وضعٍ من أوضاع الناس فلم تجدها، وإن افتقدت في مقال الأديب هذا اللون من الفكاهة الحلوة المستساغة فلم تُصبْه، فاعلم أن المقالة ليست من الأدب الرفيع، في كثيرٍ ولا قليل، مهما تكن بارعة الأسلوب رائعة الفكرة.»١٢١
  • (٣)

    الشرط الثالث أن تعبِّر المقالة الأدبية عن ضربٍ من السمر بين الكاتب والقارئ؛ فهو صديقٌ يُحادث صديقه عن حادثةٍ شهدها في الترام؛ ملاحظة هنا أو هناك مما يقع عليه البصر، بحيث لا يكون القارئ أمام «مُعلم» يعنِّفه، ولا أمام واعظٍ يخطب فوق مِنبره، يميل صلفًا وتيهًا بورعه وتقواه، ولا مؤدب يصطنع الوقار حين يصبُّ في أذن سامعه الحكمة صبًّا ثقيلًا؛ ومن هنا فلا بد أن يشعر القارئ، وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيفٌ استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث؛ ولهذا لا بد أن يكون أسلوبها عذبًا سلسًا دفَّاقًا بلا زخرفة!

أما من حيث المضمون فإن كاتب المقالة الأدبية على أصحِّ صورها، هو الذي تكفيه ظاهرةٌ ضئيلة مما يعجُّ به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلامٍ يأخذ بعضها برقاب بعض، دون أن يكون له أثرٌ فوريٌّ في استدعائها عن عمدٍ وقصدٍ وتدبير؛ ومن هنا فلا يجوز أن تبحث المقالة الأدبية في موضوعٍ مجرد، كأن تبحث فضل النظام الديمقراطي أو معنى الجمال أو قاعدة في علم النفس أو أصول التربية. بل لا بد أن تُعبِّر عن تجربةٍ معينة مسَّت نفس الأديب، فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قُرَّائه؛ أما الموضوعات الاقتصادية أو السياسية أو العقلية، فلها أنواع أخرى من المقالات الخاصة بالدراسات الأكاديمية، تقربها من البحوث بقدر ما تُبعدها عن «المقال الأدبي»، الذي يميل فيه الأديب الحق إلى أن يخدع القارئ كي يُمعن في القراءة، وكأنه هو يسرِّي عن نفسه المكروبة عناء اليوم، وهو كلما قرأ تسلَّل إلى نفسه ما شاع في سطور المقالة من نكتةٍ خفيفةٍ وسخرية هادئة، وقد يعجب القارئ: كيف يمكن أن يكون في النفوس البشرية مثل هذه اللفتات واللمحات؟ ولكنه لن يلبث حتى يتبيَّن أن هذا الذي عجب منه إنما هو جزءٌ من نفسه أو نفوس أصدقائه، فيضجره أن يكون على هذا النحو السخيف، فيكون هذا الضجر منه أول خطوات الإصلاح المنشود.١٢٢

رابعًا: نماذج من أدب المقال

علينا الآن أن نستعرض بعضًا من المقالات الأدبية؛ لنرى كيف كان يُطبق الشروط السابقة، ويتقيَّد بها فيما كتب من مقالاتٍ أدبية، كان يُطلق عليها هو نفسه اسم القنابل المتفجِّرة؛ لأنه أراد لها أن تنسف جزءًا من ألف جزء من الإطار الثقافي العتيق الذي كنا وما نزال نعيش فيه يقول: «صورتُ في إطارٍ أدبيٍّ، في أوائل الخمسينيات ما انطبعت به نفسي حينئذٍ من فوضى القيم في حياتنا، بحيث انقلبت أعلاها على أسفلها، فيعاقب المحسن ويكافأ المسيء، وربما أكون قد أسرفتُ في القسوة، لكنها قسوة المواطن يحب وطنه، ويثيره أن يراه قد تنكَّب عن جادة الطريق …»١٢٣

سوف أسوق أمثلةً قليلةً «للمقالة الأدبية»، وإن كان علينا أن نضع في ذهننا ملاحظتين: الأولى أن المقالات التي كتبها زكي نجيب محمود، وهي تبلغ المئات ليست كلها مقالات أدبية، تنطبق عليها الشروط السابقة، بل فيها المقالات التي تُعالج «أفكارًا» أو «مفاهيم اجتماعية»، وتقوم بتحليلها تحليلًا عقليًّا مُستخدمًا الفاعلية الفلسفية، على نحو ما أشرنا من قبل. والملاحظة الثانية أن المقالة الأدبية يصعب تلخيصها؛ لأن المهم في القطعة الأدبية إنما هو الأثر الذي يخرج به القارئ؛ ولهذا لا بد أن يقرأها في مكانها وكما عرضها صاحبها، لكننا سوف نسوق نماذج قليلة على النحو التالي:

(أ) بيضة الفيل

من أمتع المقالات الأدبية التي كتبها أستاذنا الكبير مقالةً بعنوان «بيضة الفيل»، يسخر فيها من المناقشات «البيزنطية»، التي تحتدُّ بين بعض الناس في موضوعاتٍ في غاية التفاهة من ناحية، ثم هي تخلق مشكلات من عَدمٍ من ناحيةٍ أخرى، يبدأ المقال على النحو التالي: «قال الشيخ: الفيلة تلد ولا تبيض، والمشكلة المراد حلُّها هي هذه: لو كانت الفيلة تبيض فماذا يكون لون بيضها؟١٢٤ لاحظ أن أول سطر في المقال يقرر حقيقةً علميةً واقعة هي «أن الفيلة تلد ولا تبيض»، لكنا اعتدنا أن نخلق مشكلاتٍ من عدم: فافرض أنها تبيض فماذا يكون لون بيضتها؟ يستمرُّ المقال فيقول: «في الجواب عن هذا السؤال اختلف العلماء: يقول عمارة بن الحارث بن عمارة: تكون بيضاء، واستدلَّ على صحة قوله بدليلٍ من القياس ودليل من اللغة.١٢٥ أما دليل القياس فهو أن كافة مخلوقات الله التي تبيض بيضها أبيض، وليس في طبيعة الفيل ما يدل على أنه لو باض أخذت بيضته لونًا آخر غير البياض … أما دليل اللغة فهو أن البيضة مشتقةٌ من البياض، وإذن فالبياض أصل والبيضة فرعٌ منه … وأخيرًا تساءل عمارة: ما حكم الشرع في بيضة الفيل، أيحلُّ أكلها للمسلمين أم يحرم عليهم؟ وهنا أجاب بدقَّته المعهودة أن بيضة الفيل حلالٌ أكلها بشرط، حرامٌ بشرط …» على هذا النحو الجميل يصور الأديب مشكلاتنا التافهة التي نخلقها من لا شيء، وهو يخدع القارئ بأن يذكر أسماء العلماء كما لو كانوا من التراث فعلًا؛ ليشعر القارئ أن مناقشاتنا لا تزال هي نفسها مناقشات العصور الوسطى، انظر مثلًا إلى المقال يستمر جادًّا مع أنه يسخر سخرةً مريرةً، «وتصدى معسرة بن المنذر لتفنيد ما قال عمارة بن الحارث في بيضة الفيل من حيث لونها، فقال عن دليل القياس الذي ساقه عمارة … إنه ليس صحيحًا أن كافة الحيوان الذي يبيض لونه أبيض؛ فبيض البط فيه خضرة خفيفة، وبيض الدجاج في بعضه حمرةٌ خفيفة، ومن الطير ما بيضه أرقط، ومنه ما بيضه أزرق … أما دليل اللغة فهو استنتاجٌ معكوس ومغلوطٌ في آنٍ معًا … إلخ»، وكان من بين تلاميذ ابن الحارث تلميذٌ نجيبٌ، فتصدَّى للرد على نقد معسرة، فقال إنه زلَّ زلةً ما كان ينبغي أن يقع في مثلها رجلٌ مثله، وهو شيخ المناطقة في زمانه …» وتستمر المحاورة، وهذا هو «الفورم» أي الشكل الذي اتَّخذه المقال، بأسلوبٍ ساخرٍ لاذعٍ عن إهدار القدرات العقلية في مناقشاتٍ لا معنى لها؛ لأنها تتناول موضوعات نخترعها من ناحية، وهي أتفه من أن تكون موضوعًا لحوارٍ من ناحيةٍ أخرى. ويختتم المقال بما يريد الكاتب أن يفتح عين القارئ عليه، وهو بعدنا من مشكلات العصر، فيقول إنه حدثت رجفةً عنيفةً «وزُلزلت الأرض زلزالها، وقال الشيخ ما لها؟ فقيل: يا مولانا قنبلةٌ ذرية، في لمحةٍ تقضي على الأصل والذرية، فعجب الشيخ أن كان في الدنيا علم غير علمه!»١٢٦

(ب) جنة العبيط

وفي استطاعتك أن تقول الشيء نفسه عن مقالة «جنة العبيط»، التي تُعالج فكر العصر الوسط الفجِّ، الذي ما زلنا نعيش فيه فضلًا عن عادته الاجتماعية البالية، ويبدأ المقال: «أما العبيط فهو أنا، وأما جنتي فهي أحلامٌ نسجتها على مرِّ الأعوام عريشة ظليلة، تهبُّ فيها النسائم عليلةً بليلة، فإذا ما خطوت عنها خطوة إلى يمينٍ أو شمال أو أمام أو وراء، ولفحتني الشمس بوقدتها الكاوية، عدت إلى جنتي أنعم فيها بعزلتي، كأنما أنا الصقر الهرم تغفو عيناه، فيتوهَّم أن بُغاث الطير تخشاه، ويفتح عينيه، فإذا بُغاث الطير تفري جناحيه، ويعود فيغفو لينعم في غفوته بحلاوة غفلته … إلخ.» لاحظ السجع الواضح ذا الدلالة.

(ﺟ) نفوسٌ فقيرة

من أمتع المقالات التي تهزُّك هزًّا عنيفًا مقاله عن «النفوس الفقيرة»، الذي يبدأ تصوير الأنواع المختلفة للفقر:

الفقر صوره شتى … منها اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، حتى لتنقلب حبَّات الرمل على سطحه جمرات من نار …

ومنها الصخر الأجرد الذي صلد عوده وتصلَّبت أطرافه، فلا يتفجر جوفه عن قطرة أو نبته …

ومنها السماء لا تجود بالغيث، تيبس الأرض من تحتها وتتشقق، ويجفُّ الزرع ويموت، وتشخص الأبصار إليها ضارعةً، وتصعد الدعوات إليها مسترحمة، لكنها كالحة مصفرة الوجه لا تجود …

ومنها الوردة تذبل وتذوي، طار عنها الشذى وجفَّ من عرقها الماء … ومنها الجدول غيض ماؤه، تعبره ماشيًا على قدميك فترن أصداء خطاك بين صخورٍ لخلائه وفراغه … ومنها الجيوب تخلو من المال …

لكن لا اليباب القفر الذي تلتهب رماله بوقدة الشمس، ولا الصخر الأجرد الذي صلد صدره، ولا السماء اليابسة ولا الوردة الذابلة، ولا الجدول غيض ماؤه ولا الجيوب الخالية من المال، بمستطيعة أن تعبر عن الفقر بأبلغ مما تعبر عنه النفوس الفقيرة.

فقيرةٌ هي تلك النفوس التي يعيش أصحابها فيما نعيش فيه ولا تتأثر، كأنما تنظر العين ولا ترى، وتسمع الأذن ولا تعي، وكأنما قُدَّ القلب من صوَّان … صاحب النفس الفقيرة كالمذياع التالف، فيه المفاتيح والصمامات والأسلاك، لكن الهواء من حوله يعجُّ بموجات الصوت، وهو أبكم لا يلتقط ولا يذيع … فقيرةٌ هي النفس التي تنظر إلى باطنها فتجد خواء، فتمتد إلى خارجها لتقتني ما يسدُّ لها هذا الخواء، فتتصيد أناسًا آخرين لتخضعهم لسلطانها. إنها علامةٌ لا تخطئ في تمييز أصحاب النفوس الفقيرة من سواهم، فحيثما وجدت طاغية — صغيرًا كان أو كبيرًا — فاعلم أن مصدر طغيانه هو فقر نفسه، أن المكتفي بنفسه لا يطغى … فقيرةٌ هي النفس التي لا تستطيع أن تقف موقف سواها، لترى ما ترى وتحس ما تحس … فقيرةٌ هي تلك النفوس التي لا يستطيع أصحابها أن ينظروا من وراء الأشخاص إلى حيث ظروفهم، ولو قد فعلوا لاشتدَّ بهم التسامح واتسع فيهم العفو والمغفرة.

فقيرةٌ هي تلك النفوس التي تبطش بالأشياء والأحياء بطش الصبيان؛ فقيرةٌ، يا أبا العلاء، هي تلك النفوس التي لا تخفف الوطء؛ لأنها لا تدري أن أديم الأرض هو من هذه الأجسام …١٢٧

(د) الكوميديا الأرضية

وهو في مقالٍ عنوانه «الكوميديا الأرضية» يتخيَّل أن دانتي «قد بُعث حيًّا، وأنه كتب هذه القصيدة الجيدة، التي اتخذ فيها أيضًا من أستاذه القديم «فرجيل» دليلًا وهاديًا، ويصور أستاذنا بسخريةٍ مريرةٍ كيف وجد دانتي في الجحيم كل مَن فعل خيرًا أو قال صدقًا، لأنه أراد أن يصوِّر القيم المقلوبة في مجتمعنا، فماذا وجد الشاعر في أول حلقة من حلقات الجحيم: «ها هنا وجد عبدة المبادئ الذين أنهكوا قواهم وأضاعوا حيواتهم في سبيل مبادئهم … ولهذا فقد حقَّ عليهم الحرمان من نعيم الفردوس!» وماذا وجد في الحلقة الثانية من الجحيم «أولئك الذين شغلتهم في الدنيا عقولهم عن إشباع شهوات أجسادهم …» أما في الحلقة الثالثة فقد أعدَّ العقاب لمن عفَّ فلم يُلحف في السؤال عن حقِّه لدى أصحاب السلطان، وفي الحلقة الرابعة جماعةٌ كانت تشغل نفسها بالإصلاح فتفسد على غيرهم نُعاسهم وأحلامهم، أما الحلقة الخامسة فقد خُصِّصت لمن أخذ زمانه بالدقة، فلا يؤخر موعدًا ولا يؤجل عملًا إلى غد … وهكذا نجد في كل حلقةٍ من الجحيم «أفاضل الناس»، حتى الحلقة العاشرة تجد فيها مَن لم يتشفعوا بشفيعٍ أو يتوسطوا بوسيطٍ وعملوا في صمت.

وفي استطاعتك أن تقول إن خصائص المقالة الأدبية بارزةٌ في كثيرٍ جدًّا من المقالات التي كتبها في كتبه المتقدمة: «جنة العبيط» و«الثورة على الأبواب»، و«شروق من الغرب» حيث تغلب النغمة الأدبية، ولك أن تقرأ فيها «ظلم» و«خيوط العنكبوت»، و«عروس المواد»، و«الكراهية الصامتة»، و«عند السفح» … إلخ، وفي كتبه المتأخرة «رؤية إسلامية»، «عن الحرية أتحدث» و«تحديث الثقافة العربية» … مقالات «أستاذ يحلم»، و«ذبابة تعقبتها»، و«نافخ النار» … وغيرها كثير.

خاتمة

بعد هذه الرحلة الطويلة التي قطعناها في فكر زكي نجيب محمود، علينا أن نقف في هذه الخاتمة لنتأمل مجموعة من الملاحظات، أهمها ما يأتي:
  • (١)

    لقد حاول هذا الباحث تأكيد القضية التي أثارها في البداية؛ وهي أننا نُخطئ كثيرًا عندما نحكم على فكر زكي نجيب محمود من منظور الوضعية المنطقية وحدها، وأن كل من يأخذ بهذا المنظور، فإنه يكشف عن خطأ أساسيٍّ أو قصورٍ شديدٍ؛ لأنه لم يتتبع التطور الروحي لهذا المفكر، أو أنه اكتفى بالتوقف عند مرحلةٍ واحدة من مراحل تطوره.

  • (٢)

    أن زكي نجيب محمود مفكرٌ تنويريٌّ يقوم بمواصلة المهمة التنويرية، التي بدأها رفاعة الطهطاوي وسار فيها أعلام نهضتنا الحديثة؛ فهو يستكمل الطريق نفسه الذي سار فيه روَّادٌ كبار من أمثال محمد عبده ولطفي السيد وطه حسين والعقاد، وغيرهم من الذين جمعوا بين الثقافة العربية الأصيلة والفكر المعاصر في دمجٍ واحد؛ ومن هنا قدَّم مفكرنا صيغةً ثنائية هي «العقل والوجدان» والتفرقة بين هذين المجالين حلًّا لمشكلتنا الثقافية، وقد عرض هذه الصيغة في «الشرق الفنان»، وجسَّدها هو نفسه بحياته ومؤلفاته.

  • (٣)

    في هذه الصيغة الثنائية «العقل والوجدان» حرص على خلق طريقةٍ عقليةٍ جديدة، يحلِّل بها المثقف العربي لنفسه ولمجتمعه، إذا أراد، مفاهيمه وأفكاره بأن يفكَّها إلى مكوناتها الأصلية، ليلقي عليها الضوء، فلا نستخدم مفاهيم غامضةً يمكن أن تكون عقبةً أكثر مما تكون دافعًا للتطور، ثم قدَّم لنا نماذج من اهتماماته الأدبية لا سيما «المقال الأدبي»، الذي يهدف إلى إثارة الوجدان عند القارئ.

    فأي منهجٍ نُطبقه في الحالات التي يتداخل فيها اللامتناهي مع المتناهي ويتصل به؟!١٢٨
  • (٤)
    نستطيع أن نقول أيضًا إن «فكرة الثنائية»، لا سيما الأنطولوجية، غير مستقرةٍ عند مفكرنا الكبير؛ فهو أحيانًا يرى أنها ثنائية لا تسوِّي بين الشطرين، بل تجعل للشطر الروحاني الأولوية على الشطر المادي؛ فهو الذي أوجده، وهو الذي يُسيِّره ويحدد له الأهداف.١٢٩ وواضحٌ أننا هنا أمام واحدية؟! إذ يمكن أن يُردَّ الشطر المادي إلى الروحاني! ثم يقول في أحيانٍ أخرى: «إنها نظرةٌ تجمع بين الثنائية والكثرة، ثنائية بالنسبة إلى الله الخالق والكون المخلوق والكثرة بالنسبة لأفراد الناس الداخلين في حدود هذا الكون المخلوق …»١٣٠ ثم هو يميل، بصراحةٍ ووضوح، في مقالاته الأخيرة في جريدة الأهرام، إلى الوحدانية؛ ولك أن تقرأ مجموعة المقالات التي كتبها بعنوان «من إشعاعات التوحيد …»١٣١
  • (٥)

    يقترح أستاذنا الكبير صيغة «العقل والوجدان» حلًّا لمشكلة «الأصالة والمعاصرة»، وإن قلنا إن هذه الصيغة هي المفتاح «السحري» لحل مشكلتنا الثقافية، فسوف نصطدم بكثرةٍ من المشكلات، منها مثلًا أن ثنائية «العقل والوجدان» زوجان مختلفان من المقابلات يختلفان أتمَّ الاختلاف عن الأصالة والمعاصرة! فهل نقول إن المعاصرة هي العقل والأصالة هي الوجدان؟! في هذه الحالة نكون قد حكمنا على التراث كله بأنه أشبه بالعمل الفني الذي لا نستطيع التعامل معه إلا بوجداننا؛ مع أننا كثيرًا ما نعود إليه بوصفه يشتمل على نماذج كثيرة من ثنائية «العقل والوجدان» معًا!

    ثم ألا نستطيع أن نقول إن في المعاصرة عقلًا ووجدانًا، وفي الأصالة عقلًا ووجدانًا؟! وفي العقل أصالةٌ ومعاصرةٌ، وفي الوجدان أصالة ومعاصرة؟! ألا يجعلنا ذلك ننتهي إلى أن مشكلة الأصالة والمعاصرة، ربما كانت «شبه مشكلة» أو «شبه زائفة»؛ لأن المثقف العربي الحقيقي هو في الوقت نفسه أصيلٌ ومعاصر معًا؟!

  • (٦)
    لكن أيًّا ما كانت الانتقادات التي توجَّه إلى هذه الفلسفة الثنائية، فسوف يبقى لهذا الرجل أنه حمل مشعل التنوير ما يقرب من ستين عامًا يُضيء به العقول والقلوب معًا في مؤلفاته ومحاضراته وأحاديثه ولقاءاته … وأنه كان مفكرًا عربيًّا مخلصًا في عروبته ووطنيته، كما يقول واحدٌ من أشد معارضيه: «كتابات زكي نجيب محمود ترفض الاستعمار والاحتكار والإرهاب بالفكر والسياسة. إنه يريد الآلات المتقدمة والتكنولوجيا الراقية، ولا يريد أن يستجلب معها استعمارًا ولا احتكارًا، بل لقد شارك الناس زمنًا في الاستماع إلى أغنيات الاشتراكية ولم يرفضْها، كما دعا إلى حريةٍ اجتماعية وإلى إنصاف العمال والفلاحين، وهو يقدِّم بشخصه نموذجًا نادرًا للمفكر الحر …»١٣٢
١  من مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «موقف من الميتافيزيقا»، ص٢، عام ١٩٨٣م، دار الشروق.
٢  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص١٩٣.
٣  «قيم من التراث»، ص٢٢١.
٤  هذا عنوان مقالة عن الحرية وتمديدها في كتابه «قيم من التراث».
٥  «في مفترق الطرق»، ص٣٢٠.
٦  «تجديد الفكر العربي»، ص٣٠٩.
٧  «عن الحرية أتحدث»، ص٢٠.
٨  المرجع نفسه في الصفحة نفسها.
٩  «في مفترق الطرق»، ص٣٢١.
١٠  «في مفترق الطرق»، ص٣٢٢.
١١  المرجع نفسه، ص٣٢٣.
١٢  «في مفترق الطرق»، ص٣٢٣.
١٣  كلمة «مبدأ» هنا ليست لها أية دلالة أخلاقية لأن المقصود اشتقاقها اللغوي من حيث هي نقطة «ابتداء».
١٤  «تجديد الفكر العربي»، ص١٩٣.
١٥  قد يعترض معترضٌ قائلًا: كيف يمكن أن تكون الديانات المختلفة أمثلة للنسق الرياضي العقلي، في حين أن البداية في أي دينٍ وجدانية أو قلبية أو إيمانية، أعني «غير عقلية»؟! … لكن صاحب الاعتراض يغفل النقطة الهامة في الموضوع، فدور العقل هنا يبدأ من «نقطة معينة»، سواء جاءت عن طريق القلب أو الوجدان أو الوحي أو الغريزة، ثم يستخرج منها ما تؤدي إليه من نتائج، أو يعتصر المقدمات كما يعتصر عنقود العنب، وتلك «علوم الدين»، لا الدين نفسه، وسوف نعود إلى الحديث عنها بعد قليل، وفي استطاعتك أن تقول الشيء نفسه عن العلوم الرياضية، فطريقة السير من البداية إلى النتائج هو الفاعلية العقلية، لكن البداية كيف تكون …؟ معرفات: «النقطة ما لا طول له ولا عرض» … إلخ، لكن هذه كلمات تحتاج هي نفسها إلى تعريفٍ، فألجأ إلى كلماتٍ جديدة ثم إلى كلماتٍ أخرى ثالثة ورابعة وهكذا، إلى أن أصل إلى ما يُسمى «باللامعرفات Indefinables»، إذ يستحيل أن أسير إلى ما لا نهاية. وهكذا تكون البداية في الرياضة هي بدورها بداية غير عقليةٍ، بمعنى ما قل مثل ذلك في سائر الاستخدامات لكلمة عقل في حياتنا اليومية أو الاجتماعية أو السياسية … إلخ، وحتى المعنى اللغوي الذي يلزمني بأن «أتقيد» في خطوات الانتقال، بحيث تؤدي كل خطوةٍ إلى الأخرى، فإذا كان العقل هو ذلك النمط من أنماط السلوك، الذي يتبدى عندما تحاول رسم الطريق المؤدية إلى هدفٍ أردنا بلوغه، فليس الهدف المختار في ذاته «عقلًا»؛ لأنها مبدأ مفروض. أما العقل بمعناه الدقيق فهو ببساطةٍ شديدةٍ رسم الخطوات الواصلة بين هذا المبدأ المفروض من جهة، وذلك الهدف المطلوب من جهةٍ أخرى «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي»، ص٢١، وانظر أيضًا ثقافتنا في مواجهة العصر ص١٩٧.
١٦  «تجديد الفكر العربي»، ص١٩٤.
١٧  «تجديد الفكر العربي»، ص١٩٦.
١٨  «المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري»، ص٤٣٧.
١٩  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص١٩٨–١٩٩، وانظر أيضًا أزمة التطور الحضاري، ص٢١–٢٢.
٢٠  المرجع نفسه، ص١٩٩، وأزمة التطور الحضاري، ص٢٢.
٢١  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص١٩٦، وأزمة التطور الحضاري، ص٢١.
٢٢  المرجع نفسه، ص٢٠٣.
٢٣  Hegel: Science of Logic vil. II p. 914 Eng. Trans by W. Johnstonl Allen & Unwin 1951.
٢٤  Hegel: The History of Philosophy vol. i. p. 37 Trans by H. S. Haldane.
٢٥  «قصة عقل»، ص٢٢٢.
٢٦  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٧١.
٢٧  «قصة عقل»، ص١٨٩.
٢٨  «قصة عقل»، ص١٢١.
٢٩  المرجع نفسه، ص١٢٢.
٣٠  «قصة عقل»، ص١٢٢.
٣١  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٢٠٤–٢٠٥.
٣٢  «قصة عقل»، ص١٤٠–١٤١.
٣٣  «قصة عقل»، ص٢٣١.
٣٤  هموم المثقفين، ص٨٢–٨٣.
٣٥  المرجع نفسه، ص٨٤.
٣٦  قد لا يوافق البعض على ذلك على اعتبار أن التشريع الديني يراد منه أن يحكم الإنسان في كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ وبالتالي فهو يستحيل أن يكون «لمحة قلب» أو «نبضة وجدان».
٣٧  هموم المثقفين، ص٨٥–٩١، وقارن الحوار الذي أجراه الزميل الدكتور صلاح قنصوه مع الدكتور زكي لمجلة المستقبل العربي.
٣٨  المرجع نفسه.
٣٩  المرجع السابق.
٤٠  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٢٠١.
٤١  «عن الحرية أتحدث»، ص١٩٢.
٤٢  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٢٠٦–٢٠٧.
٤٣  «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٢٠٦–٢٠٧.
٤٤  «قيم من التراث»، ص١٩.
٤٥  «قيم من التراث»، ص١٥٢.
٤٦  هموم المثقفين، ص٦٦.
٤٧  المرجع نفسه.
٤٨  «قصة عقل»، ص١٣٣.
٤٩  من حوارٍ أجراه الزميل صلاح قنصوه مع مفكرنا لمجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، عام ١٩٨٨م.
٥٠  «في حياتنا العقلية»، ص١٤٢–١٤٣.
٥١  المرجع نفسه، ص١٤٤.
٥٢  «في حياتنا العقلية»، ص١٤٥.
٥٣  المرجع نفسه، ص١٤٦.
٥٤  «في حياتنا العقلية»، ص١٥١.
٥٥  المرجع نفسه، ص١٥٢.
٥٦  «في حياتنا العقلية»، ص٦٧.
٥٧  المرجع نفسه، ص٦٩.
٥٨  «في حياتنا العقلية»، ص٧٤.
٥٩  المرجع نفسه، ص٧٥.
٦٠  وكذلك إذا تحدث رئيس الجمهورية الحالي عن «الصحوة»، كتب مفكرنا الكبير نريدها صحوةً واعية، قارن تحليله لهذه الفكرة في كتابه «عن الحرية أتحدث»، ص٢٩١ وما بعدها.
٦١  «أفكار ومواقف»، ص٣٦٩.
٦٢  المرجع نفسه، ص٢٧١.
٦٣  «أفكار ومواقف»، ص٢٧١.
٦٤  «في حياتنا العقلية»، ص٨٩.
٦٥  المرجع نفسه، ص٩٤.
٦٦  المرجع نفسه، ص١٠٠.
٦٧  «أفكار ومواقف»، ص١٦٥.
٦٨  المرجع نفسه، ص١٦٨.
٦٩  «رؤية إسلامية»، ص٢٦٤.
٧٠  «رؤية إسلامية»، ص٢٦٥.
٧١  المرجع نفسه، ص٢٦٦.
٧٢  «رؤية إسلامية»، ص٢٦٨.
٧٣  «أفكار ومواقف»، ص٢٥٦–٢٥٧.
٧٤  «أفكار ومواقف»، ص٢٥٩.
٧٥  المرجع نفسه، ص٢٦٠.
٧٦  «قيم من التراث»، ص١٠٠–١٠١.
٧٧  المرجع نفسه، ص١٠٣–١٠٥.
٧٨  «في تحديث الثقافة العربية»، ص٤٥٨ وما بعدها.
٧٩  المرجع السابق، ص٤٦٦.
٨٠  «قيم من التراث»، ص١٥٢.
٨١  «أفكار ومواقف»، ص١٧٩–١٨٠.
٨٢  هموم المثقفين، ص١٢٠، وانظر أيضًا خصائص أخرى للشخصية العربية «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٥٤ وما بعدها، وأيضًا «في مفترق الطرق»، ص٣٦٠ وما بعدها.
٨٣  هموم المثقفين، ص١٢٣–١٢٤، وأيضًا: «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٦٤.
٨٤  هموم المثقفين، ص١٢٧، وأيضًا «ثقافتنا في مواجهة العصر»، ص٦٥.
٨٥  هموم المثقفين، ص١٢٠.
٨٦  «في مفترق الطرق»، ص٣٧٤.
٨٧  المرجع نفسه، ص٣٧٥.
٨٨  المرجع نفسه في الصفحة نفسها.
٨٩  «في مفترق الطرق»، ص٣٧٥.
٩٠  المرجع نفسه، ص٣٨٦.
٩١  «قيم من التراث»، ص٣٨٥.
٩٢  «قيم من التراث»، ص٣٨٩.
٩٣  «قيم من التراث»، ص٣٨٩.
٩٤  «قيم من التراث»، ص٣٩٠.
٩٥  المرجع نفسه، ص٣٩٢.
٩٦  الإشارة هنا إلى حادثةٍ مشهورة في تاريخ الحركة النسائية المصرية، ملخصها أن هدى شعراوي عند عودتها من رحلةٍ لها في الخارج، وكان ذلك عقب ثورة ١٩١٩م، ذهب حشدٌ كبير من النساء لاستقبالها في ميناء الإسكندرية ولوحت لهن الزعيمة، وهي على ظهر السفينة، ثم ألقت برقعها في البحر قبل نزولها إلى الشاطئ.
٩٧  «في مفترق الطرق»، ص١٣٩ وما بعدها، وانظر في وضع المرأة أيضًا وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ في الكتاب نفسه، ص٨٥ وما بعدها.
٩٨  مقال «أهو شركٌ من نوعٍ جديد؟!» في كتابه «رؤية إسلامية»، ص٣١٥–٣١٦.
٩٩  المرجع نفسه، ص٣١٠، وقد بلغ الغباء ببعض النقاد حدًّا جعلهم يتصورون أن الرجل يدعو إلى رأيٍ عام «معين»! وأنه بذلك يتناقض! وهكذا تكون قد غابت عنهم الفكرة من أساسها، وهي ألا يتحول «الرأي العام» إلى غولٍ يلتهم حقوق الأفراد في التعبير عن رأيهم!
١٠٠  «رؤية إسلامية»، ص٣١١.
١٠١  «عن الحرية أتحدث»، ص١٨٨.
١٠٢  المرجع نفسه، ص١٨٩.
١٠٣  بالنسبة فكرة التراث قارن مثلًا «أنجعل التراث كنزًا نحن حراسه؟!» في كتابه: «تحديث الثقافة العربية»، ص٢٩٦ وما بعدها، وأيضًا «التراث أول الطريق» عن الحرية أتحدث، ص١٠٣ وما بعدها.
١٠٤  قارن «سؤال عن الثقافة وجوابه» في كتابه «قيم من التراث»، ص٣٢٥، و«ثقافة الغد» في كتابه «هموم المثقفين»، ص٢٠٠ وما بعدها، و«يوم الثقافة العربية» في كتابه «عن الحرية أتحدث» ص٤١٥، و«ثقافة السكون وثقافة الحركة» في كتابه «في مفترق الطرق»، ص٢٢٠ وما بعدها، و«خصوصية الثقافة»، و«اللغة ملتقى الثقافتين» في كتابه «تحديث الثقافة العربية» … إلخ إلخ.
١٠٥  «في حياتنا العقلية»، ص١٢٨ وما بعدها.
١٠٦  انظر مقالة «هذه اللفظة المسحورة» في كتابه «مجتمع جديد أو الكارثة»، ص٤٢١ وما بعدها.
١٠٧  مقال «قيمة القيم» في كتابه «من زاويةٍ فلسفية»، ص١٢١ وما بعدها.
١٠٨  انظر مقال «نافخ النار» الأهرام ١٣ أكتوبر ١٩٨٧م.
١٠٩  قارن هذه المقالات في كتابه «في حياتنا العقلية».
١١٠  قارن هذه المقالات في كتابه «في مفترق الطرق»، و«ثقافتنا في مواجهة العصر».
١١١  هموم المثقفين، ص١١٦.
١١٢  «قشور ولباب»، ص١٠٧، مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة، عام ١٩٥٧م.
١١٣  «قشور ولباب»، ص١٠٨.
١١٤  المرجع السابق، ص١٠٩.
١١٥  «قشور ولباب»، ص١٠٦.
١١٦  قارن كتابه «في فلسفة النقد»، ص٢٢٠ وما بعدها، وكذلك «قشور ولباب»، ص١١٨.
١١٧  «قشور ولباب»، ص١١٩–١٢٠، مكتبة الأنجلو، عام ١٩٥٧م.
١١٨  «فلسفة النقد»، ص٢٢٢–٢٢٣، دار الشروق، ط٣، عام ٨٣.
١١٩  د. فؤاد زكريا من مقدمته لترجمة كتاب «النقد الفني»، تأليف جيروم ستولنيتز ص ﻫ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة عام ١٩٨١م، ط٢.
١٢٠  جنة العبيط، ص٧ دار الشروق، ط٢، عام ١٩٨٢م.
١٢١  جنة العبيط، ص٩، دار الشروق، ط٢، عام ١٩٨٢م.
١٢٢  جنة العبيط، ص١٢.
١٢٣  «قصة عقل»، ص٦٨.
١٢٤  «قصة عقل»، ص٦٨.
١٢٥  جنة العبيط، ص٦٧.
١٢٦  جنة العبيط، ص٧٢.
١٢٧  «… والثورة على الأبواب»، ص٧٥–٨٢ من طبعة الأنجلو المصرية، القاهرة ١٩٥٤م، وقد أعاد نشرها في دار الشروق بعنوان «الكوميديا الأرضية».
١٢٨  د. فؤاد زكريا، «تجديد الفكر العربي في الميزان»، الكتاب التذكاري، ص١٠٧.
١٢٩  «تجديد الفكر العربي»، ص٢٧٥.
١٣٠  المرجع نفسه.
١٣١  جريدة الأهرام، ٢٤ / ١ / ١٩٨٩م، وكذلك ٣١ / ١ / ١٩٨٩م.
١٣٢  من تقديم الأستاذ إبراهيم فتحي لكتاب «نقد العقل الوضعي: دراسة في الأزمة المنهجية لفكر زكي نجيب محمود»، ص١٧–١٨، دار الطليعة، بيروت ١٩٨٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤