الجزء الثالث من مذكرات آدم

الجمعة

يجب عليَّ أن أذكر أنها صغيرة جدًّا، مُجرَّد فتاة غريرة يجبُ مُراعاة ظروفها، إنها مُمتلئةً حماسة واهتمامًا وحيوية … إنَّ العالم بالنسبة إليها سحر وأعاجيب وأسرار ومرح. إنها تعجز عن الكلام لفرط سرورها عندما تجد زهرة جديدة … فهي تُلاطفها، وتربتها، وتشمُّ أريجها، وتتحدَّثُ إليها، وتناغيها، وهي تجنُّ بالألوانِ جنونًا … فهناك الصخور البنية، والرمال الصفراء، والحشائش الرمادية، والأوراق الخضراء، والسماء الزرقاء، ولآلئ الفجر، والظلال القرمزية على سفوح الجبال، والجزر الذهبية التي تطفو في بحار حمراء عند الغروب، والقمر الشاحب وهو يسبح بين السحاب المتقطِّع، ولآلئ النجوم وهي تلمعُ في وسطِ الفضاء.

وليس لأيِّ واحدةٍ من كلِّ هذه قيمة عمليَّة في نظري، ولكن ما لها من ألوانٍ وجلالٍ يجعلها تفقدُ عقلها من أجلها، ولو استطاعت أن تهدأ وتصمت دقيقتين لكان هذا ممَّا يبعثُ الرَّاحة في نفس الإنسان، وفي هذه الحالة كنتُ أستطيع التَّمتُّع بالنظر إليها.

حقًّا إنَّنِي أستطيعُ الاستمتاع بذلك؛ لأنني بدأتُ أدرك أنها مخلوقٌ جميلٌ جدًّا، فهي رشيقة القوام، نحيفة، ملفوفة، خفيفة الحركة … وذات مرَّة كانت تقف وهي بيضاء كالرخام على صخرة وقد لفحتها الشمس بأشعتها، ثم ألقت برأسها الصغير إلى الوراء، ورفعت يدها لتحجب أشعة الشمس عن عينيها لكي تُراقب أحد الطيور وهو يسبح في الفضاء، فأدركتُ أنها جميلة.

الاثنين ظهرًا

إنها تهتمُّ بكلِّ شيءٍ على هذا الكوكب، فهناك حيوانات لا أهتمُّ بها أنا، ولكنها على العكس من ذلك تحبُّ كلَّ الحيوانات على السواء، فهي تعتقدُ أنها جميعًا كنوز، وترحِّبُ بكلِّ جديدٍ منها.

فلما رأت البرتنوسورس١ القوي وهو يسيرُ بخطًى واسعةً مُتَّجِهًا نحونا، اعتَبَرَتْهُ كنزًا جديدًا، واعتَبَرْتُهُ أنه كارثة؛ لأنه مخلوقٌ لا اتِّساقَ في شكله. لقد حاولَتْ هي أن تستأنسه، وكانت تعتقدُ أنها تستطيعُ استئناسه بالمُعاملة الطيبة حتى يصبح حيوانًا مُدلَّلًا، فقلت لها: إنَّه من المستحيل الاحتفاظ بحيوانٍ مُدلَّلٍ يبلُغُ ارتفاعه إحدى وعشرين قدمًا وطوله أربعًا وثمانين قدمًا، داخل بيتنا الصغير. وحتَّى لو حسنت نواياه من نحونا، ودون أن يقصد الأذى، فإنَّه قد يجلس فوق البيت فيحطمه تحطيمًا. إن نظرةً واحدةً إلى عينيه تدلُّ على أنَّه شارد الذهن.

ومع ذلك فقد أصرَّت على الاحتفاظ بهذا الوحش، ورفضت أن تتركه وظنَّت أنها تستطيعُ إنشاء مصنع للألبان مُبتدئة به، وطلبت منِّي أن أُساعدها على حلبه، ولكنَّنِي رفضتُ. إنَّ في ذلك خطرًا مُحقَّقًا؛ إذ ليس هذا الحيوان من النوع الذي يدرُّ اللبن! زد على ذلك أنه لم يكن لدينا سلم للقيام بهذه العملية.

ثمَّ بدا لها أن تركبه لتتفرَّجَ على المناظر، وكان هناك جزءٌ كبيرٌ من ذيله يتراوَحُ طوله بين ثلاثين وأربعين قدمًا مُلقًى على الأرضِ كأنه شجرة قد اقتُلِعَتْ بجذورها، فحاولت تسلق الذيل ولكنها لم تستطع، فإنها عندما وصلت إلى الجزء الشديد الميل انزلقت مُتجهة إلى الأرض، وكادت تُصاب بأذى لولا وجودي.

فهل اقتنعت الآن؟! أبدًا! لا شيء يُقنعها إلَّا التجربة العملية، إنها لا تُؤمِنُ بالنظريات التي لم تتم البرهنة عليها، ولا تأبه لها.

حقًّا؛ إنَّ هذه هي الروح الحقيقية وأنا أوافق عليها، فهي تجتذبني وأحس بتأثيرها. لو قدِّر لي أن أقضي معها وقتًا أطول لربما آمنت بها.

لقد كانت لها نظرية خاصَّة فيما يتعلَّقُ بهذا الوحش. إنها تعتقدُ أنَّنَا إذا استطعنا استئناسه وجعله أليفًا، ففي مقدورنا أن نجعله يقف وسط النهر لكي نستخدمه قنطرة! ولقد اتضح لي أنَّه أصبح أليفًا فعلًا، ولكنها لمَّا حاولت أن تثبت نظريتها فشلت، فقد كانت كُلَّما حاولت أن تطلب منه الوقوف وسط المجرى لكي تعبر النهر فوق ظهره، خرج من الماء وأخذ يتبعها كأنه جبلٌ مُتَحَرِّكٌ. إنه يشبه في هذا جميع الحيوانات الأخرى، فهي تتبعها كلما سارت.

١  من الحيوانات هائلة الحجم التي انقرضت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤