الفصل السابع

تحوُّلات

١

عندما توالت البلاغات العسكرية، وكنتُ أُترجِم كلًّا منها فور مجيئه، أيقنتُ أن المسألة ليست مسألة اشتباك فوق خليج السويس (عند الزعفرانة والعين السخنة) بل هي الحرب، وإن كان ذهني لا يستطيع تقبُّل النغْمة الهادئة لمذيعي صوت العرب، ولم نكن نستطيع سماعولم يتغير سلوك كاثلين مطلقًا سواها من الإذاعات، وكان اليهود الذين يعملون معنا في عُطلة؛ فهو «يوم كيبور» أو عيد الغفران لديهم، وعندما حل موعد الإفطار خرجتُ إلى الحديقة أتأمل غروب الشمس، وقد اعتدتُ منذ الطفولة أن أقرأ بصوتٍ مسموعٍ آياتِ القرآن: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٦، ٢٧) صدق الله العظيم.

وسمِعَني أحدُهم وأنا أُتمتِم بهذه الآيات فاقترب مني وسألني: هل تُصلِّي؟ وشرحت له معنى الآيات فقال لي: «ما أعمقَ إيمانَكُم أيها المصريون! أُراهن أن اليهود يصلُّون الآن أيضًا.» وابتسَم ومضى. وعُدتُ إلى الراديو لأستمع إلى القرآن، ثم حَلَّ الليل، وجئنا بالشاي من البوفيه وجلسنا نرشُفه صامتين وإذا بأحد المحرِّرين، وكان اسمه كارل ليمان (Karl Lehman)، يدخل المكتب مُمتقِع الوجه، ويبدو أنه كان يتحيَّن الفرصة للحديث معي في «الموضوع»، فبادأتُه أنا بالحديث مُرحِّبًا، فتقدَّم بخُطًى متثاقلة وقال: «هذه الدبَّابات الأربعمائة .. كيف تعبُر قناة السويس؟» وقلت له: «ربما على كوبري عائم pontoon bridge.» لكنه قال: «مُحال! لا يمكن للكوبري العائم أن يتحمل ثقل الدبابة!» ولم أُعلِّق. فعاد يقول: «هذه دعايةٌ ولا شك! ولكنها ستكون وبالًا عليكم! إذا حدث ونقلتُم الدبَّابات فسوف تخسرونها!» وابتسمتُ بسمةُ مُصطنَعة وأنا ألتزم الصمت؛ إذ تأكَّد لي ما شاع عن وجودِ ثلاثةٍ من اليهود في مكتب الأخبار، ومدى نفوذهم على ضآلة عدَدهم، وخشِيتُ أن يتدخَّل في العمل فلم أُجادِلْه، وتظاهرتُ بالانشغال بما أسمعه في راديو القاهرة، وحوَّلتُ وجهي عنه فانصرف.
وفي نحو الحادية عشرة وصل روجر كولمان Roger Coleman وهو مشرف النَّوبة الليلية، وكان من أقرب العاملين إلى قلبي؛ فهو ضحوك ولا يسمح لأي شيء بأن ينزعَ البسمة عن شفتَيه، وكان قصيرًا أصلع يلبس نظارةً طبيةً سميكة، وكانت زوجته كاثوليكيةً لا تؤمن بتنظيم الأسرة، فأنجبا ثمانية أطفال، واضطُر روجر إلى شراء سيارةٍ ضخمة من نوع لاندروفر حتى يستطيع نقل الأسرة كلِّها فيها إذا اقتضى الأمر، ولم يكُن يشكو من تكاليف الحياة وأعباء الأُسرة، فالدولة تتكفَّل بالعلاج والتعليم مجانًا، وكان يقول لي إنه استحدَث مذهب «الملبس التعاوني» (cooperative clothing) ومعناه أن يلبَسَ الأطفال بعضهم ملابس بعض، بحيث لا تَثْبُت الملكيةُ المطلَقة لأي قطعة من الملابس لطفلٍ دون سواه! والواقع أنه كان يُعطِي الصغير ملابس الكبير، ويحرص على توحيد الزي حتى لا يغار أحدٌ من صاحبه، وكثيرًا ما كنتُ أراه يسير وقد أمسك بأيدي ثلاثةٍ أو أربعةٍ من الصغار على الأقل!
وعندما انتهى روجر من قراءة أنباء اليوم جاءني ضاحكًا وقال: «أُراهِن أن ساليفان وهايمان (Sullivan & Hayman) سوف يحضُران الليلة أيضًا.» وكان قد لَمَح ليمان خارجًا، وأضاف في نبراتٍ شبه جادَّة أنه يظُن أن «القلق يعتَصِرهم على أبناء دينهِم في سيناء!» ورسمتُ نفس البسمة المُصطنَعة على شفتيَّ ولم أُعقِّب. كان قلبي يموج بمشاعرَ يصعُب وصفها؛ إذ أصبحتُ وحدي ممثلًا لانفجار غضب العرب بعد أن صبروا ست سنوات، وكنتُ أعلَم أن غضب «الأعداء» سوف ينصَبُّ على رأسي، لكن فرحتي بعبور القناة كان غامرًا؛ ومن ثَم تطوَّعتُ للبقاء طُول الليل أتتبَّع الأخبار، وفرِح روجر، وقال: «اعتبِر نفسَك في مصر، وأنكَ تسهَر مع الأُسرة في رمضان!»
واستمعتُ إلى سهرة الراديو الرمضانية ثم إلى قرآن الفجر وأذان الفجر وصلاة الفجر وتصوَّرتُ أن الجميع سوف يعودون الآن إلى المنزل في مصر، ولكنني لم أرفعِ السماعة عن أُذني، وفي الخامسة والنصف (السابعة والنصف بتوقيت القاهرة) صدر البلاغ العسكري الذي يلخِّص أحداثَ اليوم السابق، وحالما سمعتُ التنويه عنه في مُوجَز الأنباء أحضرتُ الآلة الكاتبة، وبدأتُ العمل، وربما كان ذلك أسرعَ نصٍّ ترجمتُه في حياتي! وأعدَدتُ الخبَر وأرسلتُه إلى المذيع في الاستوديو في لندن مباشرة (في مبنى الإذاعة الرئيسي — Broadcasting house) وطلبتُ من المهندس أن يدير مؤشِّر جهازه للاستماع إلى الإذاعة العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC World Service) فلا شك أنها ستكونُ أوَّل من يُذيع النبأ، وفعلًا أُذيع النبأ كاملًا كما كتبتُه بالحرف في نشرة السادسة صباحًا، وإن كان المذيع قد تلعَثم في العبارة الأولى، فالخبر يقول: «يقول راديو القاهرة …» والإنجليزية تقبل الإضافة بعكسِ موقع الكلمتَين أو باستخدام حرف الإضافة of، وهو الذي يُفضِّله الكلاسيكيون المُتحذلِقون والمتشبِّهون بهم، وكان النص الذي كتبتُه يقول: “According to Cairo Radio …” ولم يُعجِب المذيعَ ذلك فأراد أن يقول: the radio of Cairo فقال the Cairo of radio مما جرَّ عليه اللوم، ولم يجد ما يعتذر به سوى أنه كان لم يُفِق تمامًا من نومه!

وعندما طلع النهار أتى الجميع، وعُدتُ إلى المنزل لأنال قسطًا من الراحة، لكنني كنتُ أشعر أن راديو القاهرة (صوت العرب) قد أصبح أمانةً في عنقي، فنمتُ ساعاتي الأربع، ثم انطلقتُ وحدي إلى مكتب الأخبار، ووضعتُ السمَّاعة على رأسي، والتصقتُ براديو القاهرة، وأمامي الآلة الكاتبة جاهزة، وتوالَت البلاغاتُ العسكرية ثم التعليقات والمقابلات الصحفية، وأنا ثابت في مكاني أسمَع وأُترجِم، والعالم يسمع ويدهَش، حتى كان اليومُ الرابع للحرب — يوم النصر الحاسم في سيناء وأَسْر القائد الإسرائيلي «عساف ياجوري».

وتحوَّل العالم كلُّه! كانت الصحف تلتزم الحذَر في نشر تفاصيل الحرب حتى تلك اللحظة، وكان المعلِّقون السياسيون يقولون صراحةً إنهم لا يصدِّقون ما يحدُث، ولكن تدمير اللواء المُدرَّع الإسرائيلي في سيناء محا شكوك المتشكِّكين، وظهَر أحد المحلِّلين العسكريين في نشرة السادسة مساءً في التليفزيون ليتحدَّث عن الجسر الجوي الذي أقامته أمريكا اعتبارًا من مساء يوم ٦ أكتوبر، وقال إن شحنةً من الدبابات الأمريكية نزلَت عند العريش وقال أحد شهود العيان إنها «صفٌّ رائع من الدروع» — حرفيًّا.

An impressive array of armour.
ثم عُرضَ فيلمٌ تليفزيونيٌّ عن الحرب من داخل سيناء، صوَّره المصوِّر من وراء الخطوط الإسرائيلية، ولن أنسى ما حييتُ صورةَ الطائرتَين المصريتَين اللتَين كانتا تطيران على الارتفاع الصفري flying at zero altitude وهو أدنى ارتفاعٍ يمكن أن تطير عليه الطائرة دون أن تصطدم بالأرض، وقال المعلن إن سيناء مفتوحة أمام الطيران المصري، وإن المصريين فدائيون يُجازِفون بأرواحهم حين يطيرون على هذا الارتفاع؛ فأقل خطأ يجعل الطائرة ترتطم بالأرض، ولكن ذلك الارتفاع يجعلُهم بمأمنٍ من الإصابة بأي أسلحةٍ أرضية. ودارت الطائرتان أمام عيوننا — رغم عدم وضوح الصورة — ثم ارتفعتا فجأةً في الهواء كأنما بفعل السحر واختفيتا ثم لمحنا عند الأفق آثار الانفجار الذي أحدثَته القنابل التي ألقيتاها.

وصدَرَت صحف الحادي عشر من أكتوبر وهي تتحدَّث عن الحق العربي، وعن القضية الفلسطينية، وعن تحرير الأراضي العربية في سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية، بل والأغرب من ذلك كله أن يتحدَّث بعض المحلِّلين السياسيين عن ضرورة التدخل لإنقاذ إسرائيل من الدمار؛ فلن يتوقَّف العرب في رأيه عند استعادة حقوقهم، وعلى إسرائيل أن تعقد فورًا معاهدة سلام تضمَن لها بقاءها! كنتُ أقرأ هذا الكلام غيرَ مُصدِّق! كان التحوُّل في ذاته دليلًا على ما كنتُ أعرفه خير المعرفة من أن العالم لا يعرف إلا لغة القوة، ولكن مظاهر التحوُّل كانت غير متوقَّعة؛ فالذين كانوا يؤيِّدون إسرائيل لم يَعدِلوا عن تأييدها لكنهم أصبحوا يقولون إن القوة لم تعُد الوسيلة المؤكَّدة لتأمين وجودها، وباتوا يَدْعون إلى التعقُّل والسِّلم، والذين كانوا يناصرون الحق العربي لم يتحَّولوا عن مناصرته لكنهم أصبحوا يقولون إن القوة هي الوسيلة الوحيدة لاستعادته، وباتوا يؤازرون الحرب! أما الذين كانوا يزعمون الحياد والموضوعية فقد أفردوا الصفحات للحديث عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وكانوا ينتهون في كل مقالٍ تقريبًا إلى ضرورة نهوض الغرب بدَورٍ فعَّال في حل المشكلة التي تسبَّب فيها أصلًا بإنشاء دولة إسرائيل!

وحتى يوم الثلاثاء ١٦ أكتوبر لم أكُن أُغادر مكتب الأخبار إلا للنوم ساعاتٍ معدودة، وفي صباح ذلك اليوم ألقى السادات خطابه المشهور الذي وردَت فيه عبارته الذائعة «عشرة أيامٍ مجيدة»، وقد ترجمتُ الخطاب مباشرةً على الآلة الكاتبة، وأذكُر أنني أخطأت عندما كتبتُ كلمة sign وأنا أعني signal (عندما أعطى «الإشارة») فجاءني أحد الزملاء ليستوضح فنهرتُه كأنما أخطأ حين لم يحدُس الصواب بنفسه، ولكنني كنتُ مُرهَقًا من طول السهر، وكان الإنجليز من حولي سعداء بي، وعندما انتهيتُ وذهبتُ إلى المنزل، سمعتُ في الراديو ملخَّصًا لخطاب جولدا مائير الذي أعلنَت فيه عبور بعض القوات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية للقناة من ثغرة في الجبهة المصرية، وفزعتُ طبعًا، ولكن القضية كانت قد تحرَّكَت بما يكفي ﻟ «عودة الروح» إلى مصر، وعودة الثقة إلى نفوس التائهين والحائرين — والكثير من اليائسين!

وبعد وقف إطلاق النار ذهبتُ إلى لندن لتجديد جواز السفر، وقابلتُ الأستاذ فوزي عبد الظاهر المستشار الثقافي، وسألَني عن موعد انتهائي المرتقَب من الدكتوراه، فقلتُ له إنني أوشكتُ على الانتهاء وإنني أنتظر عودة الأستاذ المُشرِف من أمريكا. وتجوَّلتُ يومها في لندن كأنما لأستعيد ذكريات الصِّبا؛ إذ أحسستُ بعد الحرب أنني كبرتُ في السن، وكأن الساعات التي قضيتُها في الترجمة على مدى الأسبوعَين المنصرمَين جعلَتْني شخصًا آخر. وبدأتُ أُدرِك التحوُّلات التي تُصيب المصريَّ حين يصبح قلْبَ مصر نفسِها، وعندما يتوحَّد الفكر والإحساس فيه، وكان أوَّل خاطرٍ لي أن أدعو نهاد وسارة إلى العودة!

٢

زارني الدكتور نوح يوم ٢٢ أكتوبر فسلَّمتُه النقود ليحملَها إلى نهاد في مصر، ومعها خطابٌ أُلِحُّ فيه عليهما أن يعودا، وقضيتُ الأسبوع الأخير من أكتوبر في إعادة ترتيب بطاقات الفصل الأخير من الرسالة، وأنا أُتابِع عن كثَبٍ أخبارَ مصر، وكل ما يجري حولنا، كأنما أصبح الاهتمام بأحداث العالم «أسلوب حياة».

وتلقيت دعوةً ذات يومٍ إلى حفلٍ في الجامعة، باعتباري من الأساتذة المُنتدَبين من الخارج، بمناسبة تدشين جناحٍ جديد في المكتبة، وكان ضيف الشرف هو رايموند وليامز الذي أهدى الجناح مجموعةً من كُتبه الخاصة، فذهبتُ أولًا للحديث مع ذلك الأستاذ وثانيًا باعتباري المصري (بل العربي) الوحيد في الجامعة — وكان عليَّ أن أضع قناعًا هو قناع الرزانة والتعقُّل، وأن أنفُض عن نفسي آثار الاهتمام بالحياة العامة والاشتغال بالترجمة والكتابة، وإن كان الإنجليز لا يهتمُّون بذلك القناع — وعندما زال التوتُّر وهدأَت الأعصاب، انطلق المدعوُّون في الأحاديث الجانبية التي تسبقُ الحفلة الرسمية أو تمهِّد لها وكانت تُنذِر بتحوُّلٍ آخر في حياتي.

تعرَّفتُ أولًا بأستاذ أستاذي وهو البروفسور باراز Burroughs من جامعة أوكسفورد، وبزوجته ديانا إلوين جونز Diana Ellwyn-Jones كاتبة قصص الأطفال المشهورة، وتطَّرق الحديث بيننا إلى احتراف الكتابة وضياع حقوق الكُتَّاب، وحدَّثتُهم عن كتاباتي للمسرح بالعربية، وكيف توقَّفتُ عن الكتابة ثماني سنوات بسبب الدكتوراه اللعينة، وبأنني أعُدُّ الأيام حتى أعود إلى القاهرة لأُمارس نشاطي الأدبي، وقالت ديانا بلهجةٍ جادة: ولماذا لا تكتب بالإنجليزية؟ وضحكتُ وأنكرتُ قدرتي على ذلك، ولكن باراز أردف قائلًا: «إن كريس (يعني الأستاذ المشرف على رسالتي) يمتدح أسلوبكَ ويُفِيض في ذكر موهبتك.» وكدتُ أطير فرحًا — بطبيعة الحال — ولكنني وضعتُ قناع التواضُع الإنجليزي وقلتُ في نبراتٍ خفيضة: «هذا كرمٌ منه لا أستحقُّه.» فأسرعَت ديانا تقول: «فلنحكُم نحن على ذلك .. أَرِنا بعض كتاباتك.» ولم تُتَح لي فرصة الإجابة؛ لأن رايموند ويليامز دخل القاعة فالتفَت الجميع وساد الصمت. وبدأَت مراسم الاحتفال.
وبعد ثلاثة أيام وجدتُ في دُرج البريد الخاص بي مخطوطًا لرواية من تأليف ديانا إلوين جونز (وجميع المخطوطات مكتوبةٌ على الآلة الكاتبة بطبيعة الحال) فحملتُه إلى المنزل، كان مُرسلًا من أوكسفورد وتاريخ الإرسال صباح اليوم نفسه! وعندما فضَضتُ المظروف وجدتُ في داخله رسالةً تقول فيها إنها تريد أن تعرف رأيي في النص، وكان عنوان الرواية Craven Images أي صورٌ بشعة، وعكفتُ عليها حتى انتهيتُ من قراءتها في نحو الثالثة صباحًا؛ فقد كانت غير عادية في كل شيء. وعلى الفَور كتبتُ تحليلًا لها في نحو ثلاثِ صفحاتٍ وأرسلتُه في ظهيرة اليوم التالي (لم أنهَض إلا في الضحى) إلى الكاتبة.
كان ذلك يوم الثلاثاء، وكان عليَّ أن أعمل في الفصل الأخير من الرسالة بحيث أنتهي من تحديد تعريف «الأسلوب الرفيع الجديد» قبل عطلة نهاية الأسبوع، وقد يعجَب القارئ من هذه التسمية، ولكنني سوف أُوجِز ما أعني فيما يلي: كنتُ قد اهتديتُ في بحثي في تطوُّر أساليب الشعر في القرن التاسع عشر إلى أن الرومانسية أتت معها بأسلوبٍ جديد يطمح في محاكاة الأساليب الكلاسيكية عن طريق الإسراف في استعمال المجرَّدات — سواء كانت من المعاني المجرَّدة (الأسماء) أو غيرها. وكان المثَل الأعلى القديم للأسلوب الرفيع هو أسلوب ملتون في القرن السابع عشر، والذي كان يعتمدُ على بعض العناصر المعروفة مثل «جلال» الموضوع؛ أي أهميته التي ترجع إلى طابعه العام؛ أي العالمي واللازمني، ومثل «شرف» الألفاظ المنتقاة (كما يقول النقَّاد العربُ القدامى) وتحاشي الخصوصية ودقائق التجربة الشعرية، وتجنُّب التفاصيل الواقعية أو المعتادة وما إلى ذلك. ولكن الرومانسيين كانوا بصفةٍ عامة يجعلون من الفرد ومشاعره مِحْورًا للتأمُّلات الشعرية مما يتعذَّر معه «الجلال» في الموضوع، وكان وردزورث يُنكِر شرف ألفاظٍ بعينها ويدعو إلى استخدام الألفاظ العادية في الشعر، كما كان كلٌّ منهم يؤكِّد خصوصية تجربته الشعرية، ويتَّكئ على التفاصيل، وكان بعضها مُغرقًا في الواقعية. وقد اهتدَيتُ، كما قُلت، إلى أن وردزورث عندما تخطَّى المرحلة الثورية الأولى بدأ يطمح في محاكاة الكلاسيكيين على الرغم من جميع تلك السمات الرومانسية، وذلك عن طريق زيادة استخدام المجرَّدات؛ ولذلك فقد أطلقتُ على ذلك الأسلوب اسمَ «الأسلوب الرفيع التجريدي» (The Grand Abstract) وحتى يدرك القارئ مرماي سأسوق له مثالًا عربيًّا من البارودي؛ إذ قال في إحدى قصائده المبكرة التي كان «يروض فيها الشعر» (على حد تعبير علي الجارم):
ومَنْ تَكُنِ العَلْياءُ هِمَّة نفْسِه
فكلُّ الذي يلْقاه فِيها مُحبَّبُ

فالعلياء صفةٌ مجردة، أو اسم لشيءٍ غير محدَّد، فما هو تعريف «العُلَا» أو العلاء أو العلياء؟ هل هو المنصب الرفيع أو الشهرة أو المال أو المجد أو كلها معًا؟ وكذلك الهمة. ما هي الهمة؟ هل هي الطموح؟ هل هي الدافع الباطن على «العلياء»؟ وقِس على ذلك «كل الذي يلقاه» — الصعاب والعراقيل والمعاناة (الفقر/المرض/الاضطهاد/السجن؟). المعاني كما ترى مجرَّدة ويمكن إيراد أمثلةٍ بالغة التنوُّع لكلٍّ منها، وهذا هو المثَل الأعلى الكلاسيكي الذي يكفُل للبيت أن يجري مجرى الأمثال والحِكَم.

أما الرومانسيون فقد بدءوا يميلون إلى محاكاة هذا الأسلوب بعد استقرار الاتجاه الجديد، فاتجه وردزورث في مراجعته لقصيدة المقدمة، وهي قصيدةٌ تتميز بخصوصية التجربة — تعريفًا — لأنها سيرةٌ ذاتية، إلى الإسراف في المجرَّدات بحيث اختلفَت الطبعة المعدَّلة التي نُشرَت عام ١٨٥٠م (بعد وفاة الشاعر) عن النص الأصلي الذي كتَبه قبل خمس وأربعين سنة. وكانت مقارنة النص الأول بالنص المعدَّل من حيث الصور الشعرية هي موضوع دراستي للماجستير، أما الآن فأنا أبحث الأسلوب وأستخدم الاختلافات الأسلوبية قرائن لإثبات تطوُّر الأساليب الشعرية من القرن الثامن عشر إلى بداية التاسع عشر ثم في غضون القرن التاسع عشر نفسه — من مرحلة الثورة الرومانسية إلى مرحلة الطموحات الكلاسيكية.

كان عليَّ أن أنتهي من هذا التعريف، كما قُلت، قبل عطلة نهاية الأسبوع، لكنني وضعتُ البطاقات أمامي وجعلت أتطلَّع إليها وقد استولى على تفكيري خاطرٌ أوحد: لماذا لا أكتب بالإنجليزية — كتابةً إبداعية؟ أنا قطعًا لن أستطيع أن أُجاريَ سلاسةَ أسلوب ديانا، خصوصًا إسهابها في الوصف ودقة التفاصيل، فهي تصفُ أشياءَ تعرفها خيرًا مني، ولكنني قد أستطيع أن أتحدَّث عما أعرفه وربما نجَحْت. وبدلًا من كتابة الفصل الأخير من الرسالة («عشان نخلص») بدأتُ أكتُب قصةً قصيرة كانت حلقاتُها قد اكتملَت في ذهني منذ فترة، وكانت — مثل كل ما كتبتُه — مستمدة من الواقع الحي من حولي، وكانت طويلةً بعض الشيء، ولم أنته منها إلا يوم الجمعة، فقرَّرتُ أن أعرضها على ديانا وأسمع رأيها، فأعددتُ صورة زيروكس وأرسلتُها بالبريد، وجاءني الرد في يوم الإثنين.

كان الرد موجزًا وقد أرفقَت ديانا به قائمةً بأسماء وعناوين «وكلاء» agents وطلبَت مني إرسال نسخةٍ إلى أحدهم، وقالت إنها تفضِّل أن أتعامل مع وكيلها الذي تتعامل معه منذ سنواتٍ فهو أكثرهم خبرة! وتساءلتُ ما الوكيل وما التعامل مع الوكلاء؟ كان الردُّ يقول لي باختصار إن موهبتي ناضجة، ولا بد من الاستمرار على أساس الاحتراف، ويحذِّرني من أن أرسل قصتي إلى أي مجلة، بل أن أتعامل فقط مع الوكيل! وكان لا بد أن أسأل وأتقصَّى فعلمتُ أن الوكيل هو رجل أعمال يتمتَّع بموهبةٍ كبيرةٍ في الإدارة، ويعمل في مكتبه محامون ونقَّاد ومحرِّرون ومراجعون … إلخ، والمكتب يتولى الحكم على «العمل» (القصة أو المسرحية أو القصيدة أو ديوان الشعر … إلخ)، فإذا رأى أنه صالحٌ تولَّى إبرام عقدٍ مع الكاتب وعقدٍ آخر مع جهة النشر، (أو مع عدة جهات نشر إذا كان الكاتب لامعًا وفي هذه الحالة يُسمَّى الكاتب syndicated) بحيث يقتصر تعامل الكاتب مع الوكيل، ويقتصر تعامُل الناشر معه أيضًا، وهناك حالاتٌ لم يقابل فيها الكاتبُ الجهة التي تنشُر أعماله مطلقًا، أو لم يقابل مندوب تلك الجهة إلا في مناسباتٍ خاصة! وقلتُ في نفسي: ولِمَ لا؟ وفعلتُ ما نصحَت ديانا به وبدأتُ الانتظار الذي لم يطُل إذ جاءني برجوع البريد ردٌّ يقول: «إننا تسلَّمنا القصة وهي حاليًّا قيد الفحص، وسوف تجدون طيَّه بعض المعلومات عن شركتنا.»

كان المكتب أي مقر «الشركة» في أوكسفورد وقرأتُ التفاصيل بتمعُّن فوجدتُ ما يسُر القلب حقًّا، وحملتُ الخطاب إلى الكلية وطلبتُ مساعَدةَ سكرتيرة رئيس القسم في فهم الموضوع فأوضحَت أن الوكيل هو الوكيل القانوني الذي يتولى الحكم أولًا على العمل، ثم يعهَد إلى أحد المحرِّرين ﺑ «إعداده» للنشر (نعود للحديث عن ذلك فيما بعدُ)، ثم يتصل بالمجلات التي تنشُر ذلك اللونَ من الأعمال لنشره، ونادرًا ما ترفُض المجلة عملًا أوصى به الوكيل، بل العجيب حقًّا هو أن قرار النشر أصلًا في يد الوكيل لا في يد رئيس التحرير، وكان هذا جديدًا عليَّ ومثيرًا إلى حدٍّ بعيد، لكنني علمتُ فيما بعدُ أن ما أسميتُه بالوكيل هو مؤسسة كاملة، وأن النقاد الذي يحدِّدون صلاحية العمل يتمتَّعون بمؤهلاتٍ فنيةٍ وعلمية عالية المستوى، وتقاريرهم لا تقبل النقض؛ فهم لا يمثِّلون القيم الأكاديمية التي نَدْرُسها ونُدَرِّسها في الجامعة فقط بل يضمُّون إليها ما يريده القُراء، وما يمكن أن ينجح لو تغير الجو أو الذوق الأدبي، كما أن بعضهم يتميز بنظرةٍ مستقبليةٍ قادرة على استشفاف ذلك التغيُّر ومن ثَم على الدفع بالإنتاج الجديد إلى السوق! والأعجَب مما ذكرتُ أن الكاتب لا يملك اختيار الجهة التي ستنشُر عمله، وإن كان له حق الاعتراض، وقد يتمتَّع الكاتب بعد رسوخ قدمَيه بحق الاختيار ولكن ذلك لا بد أن يكون أيضًا عن طريق الوكيل!

وبعد دراسةٍ مستفيضة اتضح لي أن أساس ذلك هو التجارة؛ فقد آمن الإنجليز قبل غيرهم أن كل ما يعملُه الإنسان لا بد أن يعود عليه بفائدةٍ ما، وأقرب صور الفائدة إلى الذهن الإنجليزي العملي هو الربحُ المادي، بل إن الفكر التجاري يعتبر أن الشهرة أو ذيوع الصيت عاملٌ من عوامل تحديد قيمة الإنتاج المادية؛ ولذلك فما نعتبره اليوم جديدًا مثل حقوق الملكية الفكرية أو تجارة الخدمات وما إليها له جذوره في الفكر التجاري الإنجليزي. لا عمل دون أجر! هذه هي القاعدة الذهبية عندهم! هل يمكن أن أقول أيضًا: لا عمل دون ربح؟ لقد شاعت هذه الأيام تعبيراتٌ جديدة مثل «المؤسسات التي لا ترمي إلى الربح» (non-profit organizations) وأصبحنا نُصدِّق أن هناك بين الإنجليز من لا يرمي إلى الربح، ولكن الربح المقصود هنا هو الربحُ المادي في صورته المعتادة وهي النقود! أما الربح الحقيقي الذي تجنيه هذه المؤسسات فهو يأتي من طريقٍ بالغ الالتواء، فإذا كانت المؤسسة خيرية (charity) أي تدعو إلى الإحسان وإغاثة الملهوف (مثل منظَّمة أوكسفام Oxfam) فإنها تُساهِم عن طريق جمع تبرُّعات المحسنين وإنفاقها في وجوه الخير، في رسم صورة المجتمع الراعي الطيب، والدولة المؤمنة بالتكافُل، مما يُضفِي الطابع الإنساني السامي على وجه إنجلترا، ويهيِّئ لها المزيد من المكاسب المادية في صورتها المعتادة وهي النقود!

ولا ينفي ذلك بطبيعة الحال أن «أهل الخير» يدفعون التبرُّعات عن «إيمان» ويقين، وأن نسبةً كبيرة من «المؤمنين» يبتغون وجه الله فيما ينفقون، ولكن الطابع التجاري المتأصِّل في الحياة الإنجليزية يجعل الإنجليزي العادي «يحترم» المال منذ نعومة أظفاره؛ لأنه لا يرى أن النقود وسيطٌ للمبادلة أو صكوكٌ لحقِّ الامتلاك بل يرى فيها رأسماله، وهي فكرة قد تحتاج إلى إيضاح.

من المبادئ الأساسية التي يُلقِّنها الأهلُ للطفل مبدأ القسمة الثلاثية، (أو The three part division) ومعناها تقسيم الدخل إلى ثلاثة أجزاء؛ جزء يُنفَق على المسكن، وجزء يُنفَق على المعيشة (المأكل والملبس والمواصلات … إلخ)، وجزء يُدَّخر! ومنذ السنوات الأولى في حياة الطفل يعلِّمه الأهل أن يدَّخر قسمًا من مصروفه في «الحصَّالة»، ثم أن يتخذ لنفسه دفترَ توفير في مكتب البريد أولًا، ثم في البنك بعد ذلك (أو في جمعيات الإسكان building societies)، وهكذا يميل الطفل إلى الحرصِ على ماله، خصوصًا وأن أهله يُعدُّونه من البداية للاستقلال؛ فحالما يبلغ السادسة عشرة يصبح عليه أن يعتمد على نفسه؛ إما بالعمل، أو المساهمة في نفقات المنزل، أو الاستقلال والحياة بعيدًا عن الأُسرة. أما إذا كان مجتهدًا واجتاز امتحان دخول الجامعة (Sixth form) فهو يحصل على منحةٍ دراسيةٍ تتضمَّن مصاريف التعليم (tuition fees) وتكاليف السكنى والإقامة في أحد بيوت الطلاب (residence halls) إلى جانب راتبٍ شخصي stipend (أو مصروف pocket money) مما يؤهِّل الطلاب للحياة المستقلة بعيدًا عن منزل الأسرة، تمهيدًا للاستقلال نهائيًّا بعد التخرج والعمل والزواج.
ومعنى هذه التنشئة أن الصغير يرى في المال سبيلَه إلى الاستقلال والحرية، وإذا كان طموحًا فهو يحلُم بأن يعمل بالاستثمار والتجارة مما يجعل للمال قيمةً لا يراها من لا يسير في هذا الطريق (كأصحاب المهن من أطباء ومهندسين … إلخ)، وسواء تحقَّق حُلمُه أم لا فهو ينشأ على «احترام» الادخار، مما يغرس في نفسه الحرص، وقد فسَّر ذلك أحدهم بأن الجو مسئولٌ عن ذلك! ولطرافة هذه النظرة أُورِدها باختصار: أحرص الناس في الجزر البريطانية هم من يعيشون في أبرد الأجواء أي — اسكتلندا! فالبرد يجعل المرء منغلقًا على نفسه (inward-looking) ينشد الدفء ولا شيء يجلب الدفء مثل النقود! ولكن النظرة — كما ترى — فاسدة؛ ففي أبرد أماكن الدنيا عشتُ مع أكرم البشر في شمال أمريكا الشمالية!
أما الدولة فهي تشجِّع المحسنين على الإحسان بخصم تبرُّعاتهم من وعاء الضريبة، فما أيسَر أن أتبرَّع للخير إذا كانت النقود سوف تضيع من يدي على أي حال! بل إن أحد الخبثاء نشر في مجلة Punch الأسبوعية مقالًا يقول فيه إن التبرعات المخصومة من الوعاء الضريبي تساعد رجال الضرائب على اكتشاف الحجم الحقيقي لمكاسب المتبرِّع! وضرب الكاتب مثالًا على ذلك بتبرُّع اللورد سيف صاحب سلسلة محلات ماركس آند سبنسر (Marks & Spencer) بمبلغ ٢٤ مليون جنيه ﻟ «الفقراء» في إسرائيل، وهو الحد الأقصى المسموح بتحويله من إنجلترا إلى خارجها، فقال إن أرباحه المعلنة كانت ٢١٩ مليونًا، وكان صافي ربحه بعد خصم الضرائب ١٩ مليونًا؛ أي إن ما تبرَّع به قد خُصِم من مقدار الضريبة، وكان المفروض أن تكون ٢٠٠ مليون فنقَصَت بذلك المقدار، فكأن الحكومة هي التي تبرَّعَت لفقراء إسرائيل! وانتهى الكاتب إلى ما يلي:

«ولما كان الحد الأقصى المسموح بالتبرُّع به من الأرباح هو ١٠٪ وكان مقدار التبرع هو ٢٤ مليونًا، فإن معنى ذلك أن الأرباح المعلنة (٢١٩) تقل بمقدار خمسة ملايين عن الأرباح الحقيقية. فأين ذهبَت هذه الملايين؟!»

ولم يعقب أحد على ذلك المقال أو يعترض عليه، ولكننا قرأناه في الكلية، وناقشناه واستخلصنا منه ما استخلصنا!

وليس معنى ذلك، كما سبق أن ذكَرْت، غياب القيم الإنسانية (ومنها الثقافية والفنية) أو تضاؤلها، فهي ثابتةٌ وعريقة، ولكنها دائمًا ما تُوضَع في أُطر تجارية؛ ولذلك فإن أي إعلان أو دعوة لا بد أن تتضمَّن التكاليف وتحدِّدها بصورةٍ دقيقة، وأنت عندما تدخل المقهى تدفع أولًا ثمن الشاي مثلًا قبل أن تشربه، فأنت تشتري طعامك قبل أن تجلس لتناوله، وعندما يدعو الإنجليزي صديقه لتناول مشروب فإنه يفعل ذلك متوقِّعًا رد الدعوة، والشائع أن يشتري كل فردٍ ما سيشربه ثم يُجالِس صديقه مع ما اشتراه من مشروب.

كان نظام الوكلاء وما يزال أساس تعامل الكُتَّاب والفنانين مع أجهزة النشر والأجهزة الفنية، وقد فكَّرتُ طويلًا قبل أن أندفع في ذلك الطريق، خصوصًا بعد أن وصلَني في منتصف نوفمبر ردٌّ إيجابي من الوكيل، وكان يتضمَّن عرضًا بتوقيع عقدٍ لمدة ثلاث سنوات! وقرأتُ في ذيل الخطاب أن القصة، وكان عنوانها «الكمال» (Perfection) «قيد التحرير حاليًّا» فسألتُ توم هيتون الذي سبق أن خاض تجربة نشر كتابٍ له فقال إن التحرير معناه إعداد النص للنشر ولو اقتضى ذلك بعضَ التعديلات، وهي تعديلاتٌ قد لا تقتصر على اللغة، وهي مما يقبل به الجميع، حتى مشاهير الكُتَّاب وأعلامهم!

٣

كان التحوُّل الثالث هو ارتفاع سعر البترول حتى وصل إلى خمسة دولارات للبرميل في نوفمبر بسبب إعلان الدول العربية استخدام سلاح البترول للضغط على إسرائيل بصورةٍ غيرِ مباشرة؛ فالضغط على الغرب يؤدي إلى الضغط على إسرائيل، فكان قرار تخفيض إنتاج البترول العربي بنسبة ١٠٪ كل شهر حتى تستجيب إسرائيل! وسرعان ما تَكهرَب الجو! فبعد ارتفاع سعر البترول عاد الحديث عن الفحم مصدرًا بديلًا للطاقة، وقام عمال مناجم الفحم بقيادة هيو سكارجيل Hugh Scargill بمطالبة الحكومة برفع أجورهم، وهدَّد العمال بالإضراب، وظهر إدوارد (تيد) هيث Heath رئيس الوزراء على التليفزيون وهو يهدِّد ويتوعَّد، وقال إن حكومة المحافظين لن تسمح أبدًا للعمال بالضغط على الحكومة، وكانت ألفاظُه الغاضبة وصوتُه الغليظ من العوامل التي أثارت الرأي العام ضده، وكان ذلك درسًا طريفًا؛ فالإنجليز يحبُّون الالتفاف والتفاوض والتلاعب ويكرهون المواجهة والتصادُم! وهذا أيضًا من صفات المجتمع التجاري! وعلى أي حال، ما إن حلَّ ديسمبر حتى كان سعر البترول قد تضاعف من جديد، وبدأ العالم يحسُد العرب على الثروة التي هبطَت عليهم من السماء!
ولا أذكُر المناسبة التي دعَتْني إلى هبوط لندن، وكان ذلك في أوائل ديسمبر، ولكنني أذكُر أن البرد كان شديدًا والشمس ساطعة حين انتهى بي المسير إلى مطعم الإذاعة (في Bush House) وعندما دخلتُ وجدتُ ما يُشبِه الاجتماع حول مائدة، وفيها وجوهٌ أعرفها خير المعرفة، واطمأن قلبي حين رأيتُ عبد اللطيف الجمَّال — مصادفةً غريبة! — ﻓ «اشتريتُ» الغداء وذهبتُ إلى «الشلة».
figure
في المنزل رقم ٢١ شارع داربي إلى جانب المصنوعات الخشبية (الهواية الجديدة).

ومن الحوار المتناثر فهمتُ القصة، قبل أن يرويها عبد اللطيف لي بالتفصيل، ماذا حدث؟ بدأَت القصة منذ سنواتٍ عديدة عندما شارك المصري — صديقنا إدجار فرج (الصعيدي الشهم) — إنجليزيًّا يُدعى (يُدعى ما يُدعى، ماذا يعني الاسم — على حدِّ قول صلاح عبد الصبور)، في إنشاء مكتب للخدمات الإعلامية (الصحفية) والترجمة. لم يكن مسموحًا لإدجار فرج آنذاك (لأنه أجنبي) بممارسة الأعمال الحرة، أما ابن البلد فمن حقه بالطبع أن يُمارِس أي عملٍ يريد، وهكذا أُنشئ المكتب الذي سبق لي أن أشرتُ إليه، وسبق للكثيرين من الدارسين أن عملوا فيه بالترجمة (بالقطعة) وكان كالواحة في قلب الصحراء حين تخلو الأيدي من النقود، وكان جميع الجالسين حول تلك المائدة ممن روَوا عطشهم بنقود إدجار فرج.

كان المكتب مُسجَّلًا باسم الإنجليزي فقط (طبعًا) ولكن العمل كله كان في يدي إدجار، وقد اشتُهر بكفاءته وإخلاصه النادر، وكان ما يهمُّنا نحن هو كرمه وطيبة قلبه، فكان أخًا كبيرًا لجميع الدارسين المملِّقين، وأذكُر أنني دخلتُ المكتب أول مرة مع عبد اللطيف الجمَّال، وكان المطلوب ترجمة نشرةٍ خاصةٍ بتشغيل سيارةٍ جديدةٍ من الإنجليزية إلى العربية، وتناولها عبد اللطيف ونظر فيها ثم قال: إيه القرف ده؟ يعني إيه road-fouling؟ فضحك إدجار وقال له: بلاش! خد انت دي (وكانت مقالًا قصيرًا عن الشعر الإنجليزي الحديث) فقَبِل وخرجنا، وعندما عُدتُ إليه في اليوم التالي بالترجمة وضعَها على المكتب وظل يتأمَّلها حتى جاءت السكرتيرة ومعها الشيك! كان قد أمر بإصدار الشيك حتى قبل أن يقرأ ترجمتي بل قبل أن يتسلَّمها.

وكنا نلتقي أحيانًا في نادي الإذاعة أيام عملي في كوينز هاوس ونُناقِش السياسة أو الشئون العامة، وكان كثيرًا ما يسترسل في قصصه عن طفولته وقد طال به البعد عن مصر، فكانت تمثِّل لي واحةً أخرى في تلك الصحراء، وربما كنتُ أُحبه بصفةٍ خاصة؛ لأنه كان يُذكِّرني بأحد أقاربي وهو الرشيدي الذي كانت هوايته صيد الأفاعي!

أما شريكه في المكتب فكل معلوماتي عنه مستقاة من المرحوم الدكتور مجدي وهبة الذي ذكَر لي أنه كان يعمل في المخابرات البريطانية في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، وأنه تمكَّن أثناء فترة إقامته من تعلُّم اللغة المصرية الدارجة، وأصبح يُجيدها مثل أهلها، فهذا ما أكَّده لي عبد المنعم سليم، الكاتب المشهور، في لندن، ولم يُقدَّر لي أن ألتقي به حتى الآن، وقد حدَّثني عنه الدكتور عز الدين إسماعيل، وقالت لي الدكتورة لبنى عبد التواب يوسف إنه كان في ضيافة والدها ذات يومٍ وأسهب في انتقاد اللغة الإنجليزية التي يتكلَّمها المصريون ويكتبونها، واختص بحديثه مجدي وهبة ولويس عوض. وقالت لبنى إنها انزعَجَت وقالت له لا بد أن يكون هناك لَبْسٌ ما، ولكنه أعاد الكَرَّة مما أغضب الحاضرين.

وعندما ذهب إدجار فرج في يوم الإثنين السابق إلى المكتب وجد سكرتيرةً جديدة، فألقى عليها التحية واتجه إلى غرفته كالمعتاد فسألَته عما يريد، فضحك وقال لها إنه ذاهبٌ إلى مكتبه، فقالت له: أي مكتبٍ يا سيدي؟ أنا لا أعرفُك! وضحك إدجار وقال لها: أنا الذي لا أعرفُك؛ فأنتِ جديدة وهذا مكتبي من عشرين سنة! فنهضَت الفتاة واستدعت الحارس الذي تَولَّى إخراج إدجار فرج (بالذوق) بدلًا من أن يستدعي «الشرطة»!

ووقف إدجار على الباب حائرًا ينظُر إلى المكتب. لم يتغير شيء. اللافتة ما تزال موجودة، رقم المنزل ١٤ شارع شيرينجهام، والبناء المقابل لم يتغيَّر! وفكَّر إدجار قليلًا وانتهى إلى أنه كابوس، فقَرص نفسه ليتأكَّد أنه يقِظ، ثم حاول من جديدٍ دخول المكتب لكن الحارس تصدَّى له هذه المرة من الخارج وأسمعه ما لا يُحب أحدٌ سماعه، فانصرف.

وحاول إدجار أن يعثر على شريكه طول النهار عبثًا، واتصل بكل معارفهما فلم يجده في أي مكان، وقال ربما ترك لي رسالة في مكانٍ ما، فطاف بجميع الأماكن التي تصوَّر وجود الرسالة فيها ولكن سعيه خاب فعاد إلى المنزل وهو يُحاوِل جاهدًا تصديقَ ما حدث، وبعد جهدٍ استطاع النوم، وفي الصباح اتصل تليفونيًّا بالمكتب (فهذا أَصونُ للكرامة من الطرد إذا ذهب بنفسه) فردَّت عليه السكرتيرة، وطلب منها الحديث مع رئيس المكتب فقالت إنه لم يصل بعدُ، وعاودَ الاتصال حتى جاءه صوتٌ غريب، وبعد مناقشةٍ هادئة فهم إدجار فرج أن من يُحادِثه قد اشترى المكتب من صاحبه الإنجليزي منذ مدة، وأن الاتفاق كان أن يتسلمه بالأمس (يوم الإثنين) غداة سفر المالك الأصلي إلى الخليج؛ حيث يبدأ العمل هناك في مكانٍ ما. وشرح إدجار فرج كلَّ شيء للرجل على التليفون، ولكن الأخير اعتذر وقال له إنه يستطيع أن يُقاضيَه إذا شاء، ولكن كل أوراقِه صحيحة، وموقفه القانوني لا غُبار عليه.

وأصبَح إدجار فرج معلَّقًا في الهواء! كان المكتب كل حياته. والغريب أن شريكه لم يؤجِّر المكان بل باع الشركة (the firm) أي المؤسسة التجارية كلها إلى ذلك الغريب! لم يكن أمام إدجار إلا أن يلجأ إلى القضاء؛ فالحق في جانبه، وسوف يُنصِفه القضاء، ولكن تكاليف القضية باهظة وقد تستغرق سنواتٍ وسنوات، وفكَّر في أن يلجأ إلى أصدقائه المصريين يطلب المشورة (على الأقل) ولكن كرامته الصعيدية أبت عليه أن يضع نفسه في هذا الموقف، فاعتكف في منزله، ولم يطُل اعتكافه إذ «طبَّ»، عليه محمود حسين دون موعد، كعادته، وسمع القصة ولم يلبث أن استنفَر الناس لذلك الاجتماع!

وقلتُ في نفسي: ما أسعدَني إذ جئتُ أيضًا على غير موعدٍ لأمد يدي إلى جابر عثرات الكرام! واتفق الجميع على تقديم سُلفةٍ مبدئيةٍ لإدجار حتى تُقيلَه من عَثْرته، وضربنا موعدًا في اليوم التالي، وأتينا بالنقود ولكن أهم ما اتفقنا عليه كان فكرةً عبقرية تفتَّق عنها الذهن الذي دبَّر عبور قناة السويس بالدبابات! جئتُ متأخرًا إلى الموعد فوجدتُ أن القاعة الصغيرة في نادي الإذاعة أصبحَت قاعةً مصرية، وأن الفكرة التي طُرحَت تتلَّخص فيما يلي: ما دامت الشركات التي تتعامل مع المكتب لم تتعامل إلا مع إدجار وتعرفه جيدًا، فهو يستطيع إذا أنشأ شركةً جديدةً باسمه، وقد غدا ذلك ممكنًا قانونًا بعد حُصولِه على الإقامة الدائمة، أن يعود للتعامُل معها، ولا شك أن الثراء الذي هبط على العرب سوف يزيد من حجم التعامل معنا. واتفقنا أن علينا، ريثما يتحقَّق ذلك، أن نمتنع عن التعامُل مع الشركة الجديدة (القديمة) وأن يتبرع كلٌّ منا بجهد ترجمة شيءٍ ما للإذاعة العربية تُقدَّم باسم إدجار فرج، وفوجئنا عند هذا الاقتراح بأصواتٍ عربيةٍ أخرى غير مصرية تقول ونحن معكم! كان إخواننا العرب من غير المصريين قد سمعوا الخبر فجاءوا ليُساندونا، وبلَغ بي التأثُّر مبلغَه فطَفرَت من عيني دموع، وعندما مسحتُها سمعتُ من يهمس لي بلهجةٍ غير مصرية: «إيش كنت بتفكر؟ إدجار ابن غربة مثلنا!»

وسرعان ما اندمل الجُرحُ وعاد إدجار فرج للعمل، وظلَّت الحادثة بملابساتها حاجزًا نفسيًّا يمنعني من معرفة «صاحبه» الإنجليزي، ودليلًا على أننا مهما اغتربنا فسوف نظل نحمل الوطن في أعماقنا.

٤

لا أذكُر متى كتبت قصتي الثانية وعنوانها (Baby) وفيه تورية؛ فهو يعني «رضيع» أو «حبيب»، وكانت على عكس القصة الأولى تتضمَّن سخريةً أليمةً من ولع الإنجليز بالكلاب، والواضح أنني كنتُ أُحاوِل أن أُثبِت لنفسي فيها إحاطتي التامة بالثقافة الغربية، وربما كتبتُها من وجهةِ نظرٍ غربية أيضًا، ولكن الذي أذكُره جيدًا أنني كتبتُها في جلسةٍ واحدة، وبمتعةٍ غريبة، كأنما كان شخصٌ آخر هو الذي يكتُب! كنتُ أعرف أن القصة ليست مجالي، ولكن «المادة القصصية» الحية كانت أحيانًا تفرضُ نفسَها عليَّ، وعندما وصلَني خطاب الوكيل وبه العَقدُ كنتُ، على فرحي، أشعر بالضيق لأنه يُلزِمني بإنتاجٍ لا أضمن أن أُنتجه! وأبقيتُ الأمر سرًّا، ولم أوقِّع العقد، ولم أُطلِع عليه أحدًا سوى سمير سرحان عندما زارني في يوليو ١٩٧٥م!
وقرَّرتُ أن أجمع العالَمين اللذَين أعيش فيهما معًا، فدعوتُ زملاء الجامعة وزملاء مكتب الأخبار إلى عشاء في منزلنا، تكون الأطباق فيه شرقيةً محضة، وعلى رأسها الكباب، وكنتُ قد تلقَّيتُ خطابًا من نهاد تقول لي فيه إنها ستعود مع سارة «على رأس السنة» أو حرفيًّا (by the New Year)، فحدَّدتُ يوم ١٩ يناير ١٩٧٤م وكان يومَ سبتٍ للمأدبة، بحيث تكون احتفالًا بعودة الأُسرة، وعودة الأستاذ المشرف، ووداع العالمَين جميعًا؛ إذ كنتُ قدَّرتُ أن تكون مناقشة الرسالة في أوائل الفصل الدراسي الثاني، وأن نرجع جميعًا إلى مصر إما في الربيع أو في أوَّل الصيف. وأعلمتُ الأصدقاء بذلك وكتبتُ بالموعد إلى نهاد فجاءني الردُّ في نحو منتصف يناير بأنها لم تحصُل بعد على عمل، وأنها تفضِّل أن تنتظر حتى تحصُل على عمل، وأنها عندما قابلَت الدكتورة فاطمة موسى رئيسة القسم عرضَت عليها التدريس في معهد التمريض، وكتبتُ إليها أطلُب أن تتجاهل موضوع العمل وأن تعود هي وسارة في أقربِ فرصة.
واتصلتُ بتوم هيتون أقول له إن نهاد سوف تتأخر — وما العمل؟ فقال لي سوف أُرسِل إليك جاكي (وكان قد تزوَّجَها في ديسمبر حتى يتمتَّع بالإعفاء الضريبي العائلي حسبما قال لي) للمساعدة في ترتيبات المأدُبة. لم يكن هناك مجالٌ للتراجُع؛ فعدَد المدعُوِّين كبير، وبعضهم من معارف نهاد بل وأخص أصدقائها مثل وندي Wendy الأمريكية التي كانت زوجةً لأحد زملائنا واسمه جون إليوت Elliott وصديقةً لزميلٍ آخر يُدعى Eliot أيضًا، وكنا أنا ونهاد نتندَّر بذلك! ومثل مارجوري التي كانت تقيم مع شابٍّ يُدعَى بول، ويتنافسان على لقب «أبخل» أهل إنجلترا، ومثل جواد مطر العراقي زوج باميلا الإنجليزية، وكان يُسمِّي نفسه جو Joe، وكان المعروف أنه خدع الحكومة البريطانية فزعم أنه أصغر من سنه الحقيقي بعدة سنوات حتى يظل في العمل بعد سن التقاعد، وكانت زوجتُه محرِّرةً في القسم الإنجليزي، وكان هو صديقًا لفتاةٍ إنجليزية التحقَت مؤخرًا بمكتب الأخبار (لا أذكُر اسمها) وكانت تتميَّز بالطيبة التي نعتبرها من قبيل البلاهة في بلادنا، إلى جانب أستاذي وزوجته شارلوت، وأستاذه باراز وزوجته ديانا إلوين جونز، والدكتور فلتشر وصديقته التي كان يُسمِّيها بوبي Booby (أي ذات الصَّدْر الضخم) ولذلك كنتُ أتمنى أن تكون نهاد معنا.
وفي يوم الجمعة ذهبتُ إلى السوق وطلبتُ من الجزَّار مقدارًا ضخمًا من اللحم العَجَّالي وشرحتُ له أنني بصدد إعداد حفل شواء في الحديقة، فانهمَك في تقطيع اللحم، وإذا بسيدة تقف إلى جواري تقول لي: هل قُلتَ حفل شواء في الحديقة؟ فأومأتُ فقالت: «في يناير؟ سيموت الضيوف من البرد!» ولكنني شرحتُ لها أن الموقد ضخم والنار ستكون بمثابة مِدْفأة، فاندفعَت تقدِّم لي النصائح التي لم أطلُبها، ولسان حالها يقول: هذا أجنبيٌّ ساذجٌ يثق في الطقس الإنجليزي! ثم اشتريتُ اللوازم الخاصة بتتبيل اللحم وإعداد أنواع السلاطة الشرقية، والأرز والمكسرات التي ستُخلط به بعد تحميره، إلى آخر ذلك من التوابع، وعُدتُ مُحمَّلًا بهذه الأشياء فوجدتُ جاكي في المنزل؛ إذ كانت تعرف أين أضع مفتاح المنزل عند الخروج (لأنني كنتُ أتركه للخادمة «سو» التي تتولَّى تنظيف المنزل) ووجدتُ معها فتاتين من تلميذاتي السابقات هما كولينيت وماري! وقالت كولينيت، وكانت قصيرةً نحيلة، إنها سمِعَت أنني أحتاجُ لمساعدةٍ فأتت بصديقتها ماري — وهما «تحت أمر» جاكي! ولم أُحاوِل أن أعرف مصدر تلك «المعلومات» فالثرثرة وتناقُل الأخبار من فم لفم (on the grapevine) هي القاعدة في الريف، ولكنني حدَّدتُ ما ينبغي فِعلُه فيما يتعلَّق بإعداد الأثاث لاستقبال الضيوف، ثم إعداد المأكولات (إعداد الموقد ووضعه في مكانٍ مناسب بالحديقة، وتنظيف الخضر والفاكهة وإعدادها … إلخ). وعندما انتهى الجميع انصرفن وهن يتوقَّعن أن أدعوهن للمأدُبة في اليوم التالي، ولكنني لم أفعل، وانتهى اليوم «على خير».
figure
مارجوري صديقة د. نهاد صليحة.
كان الموعد في السابعة، وكانت جاكي مع توم زوجها أوَّل من حضَر، فتركنا النار تدبُّ في الفحم، وكانت السماء ملبَّدةً بالغيوم والمساء عاصفًا، ولكن درجة الحرارة كانت فوق الصفر ولم يتساقط الثلج أو المطر، فتفاءَلْت، وتناوبنا التهوية على الفحم وإن لم يكن بحاجةٍ إلى ذلك، وبدأ الضيوف يتوافدون، وبدأَت رائحة الشِّواء الشرقي تتصاعد، وكان نظام المأدبة حُرًّا؛ أي كان على كل ضيفٍ أن يتقدَّم بنفسه لأخذ ما يريد من الطعام، وجاكي تُرشِدهم، وكان باب المنزل نصف مفتوحٍ إذ كان بعضُ الضيوف لديهم عملٌ ذلك المساء (نشرة أخبار مثلًا) فكانوا يذهبون بسياراتهم لقضاء العمل والعودة. وفي نحو التاسعة التأَم الشمل ولكن اختلاف «العالمَيْن» جعل الأحاديث تميل إلى أن تكونَ «ثنائية»؛ فالأستاذ الجامعي يسأل المذيع أو المحرِّر عن الأخبار التي لا يعرفها، والصحفي يسأل الأستاذ عن سياسة حزب المحافظين المُعادِية للجامعات وهكذا، وفجأةً وجدتُ ديانا تناديني لتُعرِّفني بشخصٍ لم أَرَه داخلًا — إذ قالت بنغمةٍ ذات دلالة: «هذا هو ريتشارد دارنيل «الوكيل!»» — وصافحتُه مُرحِّبًا والمُصافَحة عادة منقرضة عند الإنجليز، ويُشارُ إليها بتعبير (the rare British handshake) وما زلتُ أكرهها وأحاول تجنُّبها (عبثًا) حتى اليوم. وسمعتُ صوتًا نسائيًّا لا أعرفه يقول من وراء ريتشارد: «لسنا وحوشًا لهذه الدرجة يا محمد!» ونظرتُ فإذا بامرأة تقدَّم بها العمر، وتكاد لكثرة المساحيق على وجهها أن تلبس قناعًا، وحدَستُ من تعلُّقها بذراع ريتشارد أنها زوجتُه، ولكنني لم أفهم ما قالَته، فسألتُها في دهشةٍ عما تعني فقالت إنها قرأَت القصص التي أرسلتُها إلى المكتب؛ فهي مُحرِّرةٌ أولى (كبيرة محرِّرين؟ senior editor) وأنها تعترضُ على تصويري للإنجليز في صورة «بعابع» (جمع بعبع ogre) أو وحوشٍ شائهة monsters، وبدأنا الحوارَ غيرَ المتوقَّع والذي استَمرَّ ساعاتٍ طويلة.

يبدو أن ديانا أدركَت أنني أتردَّد في التعاقد مع الوكيل خوفًا من المحرِّرين الذين «يغيِّرون» كلمات الكاتب، بل ويتدخَّلون أحيانًا في صُلب القصة أو الرواية، فدعت ميلاني كبيرة المحرِّرين حتى تُزيل مخاوفي بنفسها، مع الوكيل (صاحب المكتب) الذي كان طاعنًا في السن، ولم يكونا — على عكس ما حدَسْت — زوجَين. ودار الحديث عن مدى الحرية التي يتمتَّع بها المحرِّر في تغيير النص الأدبي وسمعتُ منها ما أكَّد مخاوفي بدلًا من أن يُزيلَها. قالت ميلاني:

«أنا أعرف تمامًا ما يخشاه محمد! إنه يخاف على أسلوبه مثلما فضَّل جوزيف كونراد أن «يستغني» عن «خِدمات» المراجعين والمحرِّرين ويخرج إلى العالم بأسلوبه الخاص الذي أصبح عَلمًا عليه! ولكن زمن كونراد قد انقضى! نحن الآن في عصر انفجار المطبوعات (publication explosion) وتكاثُر الموادِّ المقروءة (أو موادِّ القراءة) إلى درجة المرض (a plethora of reading matter) ودُورُ النشر مؤسَّساتٌ تجارية لا بد أن تُحافِظ على نجاحها المالي (viability) وإلا أغلقت أبوابَها وسادت البطالة حتى بين الكُتَّاب؛ ولذلك فعيونُنا دائمًا على السوق؛ الكتاب الرائج (best seller) هو المثَل الأعلى، وقد ترى من موقعِك في الجامعة أن هارولد روبنسون ليس كاتبًا نابهًا بل وربما لم يُدرَج في قوائم الأدب المُعتمَد (the canon) أبدًا، وربما ظل مصيرُه مصيرَ سومرست موم، ولكنه مصدرُ رزق دار النشر التي قد تُجازِف بنشر أعمالٍ لكُتابٍ جُدُد يعتزُّون بأساليبهم، وقد تخسر بعضُ هذه الكتب (وكانت كلمة كتاب في سياق حديثها تعني رواية) والناشر يغطِّي الخسارة بالربح من الكتاب الرائج؛ فهي كما ترى عمليةُ موازنةٍ تجارية في المقام الأول.»

وكنتُ أُصغي باهتمام وأذني تسجِّل كل كلمة حتى أستطيع الرد؛ فأنا لا أومن بأن الثقافة تجارةٌ بل رسالة، وربما كان لخلفيتي المصرية دَورٌ في هذا الموقف، ولكنَّني حاولتُ دَحضَ حُجَّتها من واقع منطقها نفسه، فقلتُ لها إذن لن يُكتَب لأديبٍ ذي أسلوبٍ مُتفرِّد أن يظهر من خلال دُورِ النشر الحالية! وكأنما كانت تتوقَّع السؤال جاء ردُّها سريعًا:

«بل لا بد أن يظهر أمثال هؤلاء، ولكنهم لا بد أن يحقِّقوا مبيعاتٍ كافية تكفُل لهم البقاء بين كُتابنا (تقصد المتعاقدين مع الوكيل)، أما إذا لم يحقِّقوا هذه المبيعات فسوف يكون ذلك نذيرًا بعدم تجديد العقد!»

وسألتُ: «وعليهم أن يكُفُّوا عن الكتابة .. وعن النشر؟» فقالت: «نحن لا ننصح أحدًا بالكَف عن شيء، ولكن نُقَّادنا يتيحون الفرصةَ للموهوبين فقط، وأما الأعداد الهائلة من المخطوطات التي تَرِد إلينا ولا تنمُّ عن موهبةٍ صادقة فنحن غيرُ مسئولين عنها، ونحن لا نتدخَّل بالنصح والإرشاد إلا لمن نَشتمُّ لديهم قدْرًا معقولًا من الموهبة، وهؤلاء هم الذين نتيح لهم الفرصة مرةً أو مرتَين، فإذا لم ينجحوا نفَضْنا أيدينا من المسئولية!»

وقلتُ بصوتٍ خفيض: «مع أنهم موهوبون؟» فقالت: «مع أنهم موهوبون! الموهبة يا محمد ليست موهبةً أسلوبية أو أدبية كما علَّمنا أساتذتُنا في المدرسة (وكانت تقصد بالمدرسة مراحل التعليم كلها)، بل هي — من وجهة نظرنا — القدرة على الوصول إلى الناس! فإذا سألتَني «من الناس؟» قلتُ لكَ لا أعرف! ولكن الناس هم القُراء، هم أنت وأنا والبواب والسكرتيرة والطاهية وعامل المصعد! ستقول لي إنهم لن يتذوَّقوا الشعر، ولن يشتروا الدواوين، وسأقول لك إننا لهذا السبب لا ننشُر الشعر!» وسألتُ بنفس اللهجة: «والمسرح؟» وردَّت: «ولا ننشُر المسرح قطعًا! المسرحيات تُكتب للتقديم على خشبة المسرح، وهناك وكلاءُ متخصِّصون في نشر المسرحيات، وغالبًا بعد تقديمها على المسرح!»

وتدخَّل ريتشارد ضاحكًا في الحوار فقال: «لا تصدِّق يا محمد! فلقد نشرنا ديوانًا ضم شعر المحدَثين في بريطانيا!» فأسرعَت ميلاني تقول: «لم أكن أنا الذي أوصيتُ به، وانظر ما جرَّ علينا من متاعبَ مع دار النشر!» وعاد ريتشارد يقول: «إنهم يهوِّلون المسائل؛ فلم يطبعوا إلا عشرة آلاف نسخة، ولم تكن صفقة الشعر تمثِّل واحدًا في المائة من مجموع الأعمال (turnover) ولم تكن الخسائر تُذكر!» وقالت ميلاني، كأنما لاستكمال العبارة: «رغم بيع النُّسَخ كلها!»
وعُدتُ أسأل بعد أن نهضتُ لإحضار فناجين القهوة التركي ووَضعِها على المِنضَدة الصغيرة، وبعد أن انضَم إلينا المشرف سالفسن وزوجتُه: «وهل تتدخَّلون ﻟ «تحرير» الشعر أيضًا — أقصد إذا نشرتموه أصلًا؟» ويبدو أن السؤال قد أثار أحزانَ أستاذي فضحك ضحكةً عصبية وقال: «لا تستبعد ذلك يا محمد! إنهم يحرِّرون كل شيء!» وقالت زوجتُه شارلوت: «إن كريس يحاول نشر ديوانٍ صغير منذ عامَين، ودُورُ النشر تقول إنه أصغر مما ينبغي! (too little)» وقال ريتشارد: «لِمَ لا تطبعُ منه طبعةً تجريبية (pilot edition)؟» وسألتُ: «تقصد طبعةً محدودة؟» وقال أستاذي «قد أفعل ذلك إذا سُدَّت جميع الأبواب في وجهي!» وقلتُ من باب تخفيف الجو الذي أصبح يكتسي طابع الجد: «بشرط أن تكون طبعةً غير محرَّرة! (unedited edition)» وضحكنا.

وعندما حان موعد انصراف الضيوف همسَت لي ديانا: «لا تصدِّق ميلاني! إنها لم تغيِّر حرفًا واحدًا في قصتك، لكنها ستُرسِل لك خطابًا تقترح فيه تغيير العنوان!» وأثارني هذا الاقتراح — وقلت لها إن العنوان جزءٌ لا يتجزأ من القصة، بل هو عنصرٌ من عناصر الدلالة — فضحكَت، ولوَّحَت بيدها مودِّعة وخرجَت هي وزوجُها مع ريتشارد وميلاني قبل الجميع؛ لأنهم كانوا سيرجعون إلى أوكسفورد بالسيارة، وهي رحلةٌ «باردة» في يناير!

ولم ينفَضَّ السَّامر قبل الحادية عشرة، وقد كُتب لجميع الذين استمرُّوا معي أن يعودوا إلى المنزل، بل وأن يعتادوا زيارتنا بعد رجوع نهاد، وأن يسمُروا معها، مع إضافة صديقةٍ أو صديقتَين (برئاسة إدا توماس!).

وفي هَدْأة صباح الأحد سمعتُ رنينَ جرس الباب، وتصوَّرتُ أن الغلام الذي يُحضِر الصحف يريدني لأمرٍ خاص، فهبطتُ الدَّرَج مسرعًا، وعندما فتحتُه بحذَر (فالبرد قارس) وجدتُ هاري فيلدز (Harry Fields) أحد زملائنا المترجمين واقفًا، فأسرعتُ بإدخاله، وأغلقتُ الباب. وهُرعتُ إلى المطبخ لإعداد القهوة، وبينما أنا منهمك في إعدادها تناهت إلى سمعي صرخاتٌ من منزل هاري؛ إذ كان يقيم إلى جوارنا، وتركتُ المطبخ وخرجتُ (دون أن أكون قد أفقتُ تمامًا) لأستفسر من هاري عن سبب الصراخ، فأشار بيدَيه إشاراتٍ فهمتُ منها أنه يائس ومنهار، فتركته وذهبتُ إلى الحمَّام ووضعتُ رأسي تحت الدش الساخن، وارتديتُ ملابس الشتاء الثقيلة، ونزلتُ فقدَّمت القهوة لهاري، ونظرتُ بسرعة في صحف الصباح (فصحف الأحد صفحاتها كثيرة وتتطلب ساعاتٍ طويلة من القراءة ولو دون تركيز!) ثم أحضرتُ قهوتي وجلستُ ولسانُ حالي يقول: «اصطبحنا!»

٥

وُلِد هاري فيلدز في مصر إبَّان الحرب العالمية الثانية لأبٍ إنجليزي وأم إيطالية، ودخل مدرسةً فرنسية (في منطقة قناة السويس — لا أدري أين)، فنشأ يعرف عدة لغات ويتكلَّمها جميعًا بلهجةٍ إيطالية! وكان يذكِّرني بالخواجات الذين كنتُ أشاهدهم في الإسكندرية والقاهرة في أوائل الخمسينيات، باستثناءٍ هام وهو أنه كان أسمَر الوجه، يميل إلى السمنة، ويستخدم يدَيه كثيرًا أثناء الحديث، وكان طيب القلب ويحب العمل ولا يتذمَّر أبدًا منه (وهي الصفة التي نُطلِق على صاحبها في مصر — بكل أسف تعبير «حمار شغل»)، وكان له طفلٌ جميل يُدعى مايكل أُصيب بمرضٍ خبيث في المُخ وأُجريَت له عملية وشُفي وإن كان مظهره قد تغيَّر، أما زوجته فكانت مصدر الصراخ في ذلك الصباح — وقصَّتُها مؤلمة.

كانت روزانا إيطاليةً قُحَّة، لا تعرف الهمس، ولا تعرف ضبط النفس، وكانت تُحب التعبير عن آرائها بصراحة يجدها الإنجليز مبعثًا للحرج الشديد، وكانت لغتها الإنجليزية محدودة ومع ذلك فهي تعتبرها (perfect) على حد تعبيرها، وكانت تعطيني دروسًا خاصة في اللغة الإيطالية (الساعة بجنيهٍ واحد) ولكنها كانت تُعاني من مرضٍ لا أعرفه، وكانت قد ذكَرَت عَرَضًا ذات يومٍ أنها أُصيبت بمرض التهاب الغشاء السحائي (meningitis) وشُفيَت منه في الماضي، وكان هاري يعتبرني صديق العائلة، ويُفضِي إليَّ بأسراره، كما كانت زوجته لا تثق في سواي، وكنا نناديها باسمٍ مختصَر هو روزا، والذي حدَث ذلك الصباح وتسبَّب في الصراخ حادثٌ يتكرر من حينٍ لآخر؛ ولذلك لم يكن هاري بحاجة إلى الإفاضة فيه، وكانت إشارات يده كافيةً للدلالة عليه.

كان أول حادث من هذا النوع قد وقع وأنا بعدُ في لندن؛ إذ قطَعَت روزا درس الإيطالية وفاجأَتني بإنجليزيةٍ مزعجة قائلة: «هل تعرف كلبةً من كلاب مكتب الأخبار تُرضي غرائز الكلب الذي يعيش معي؟» وأصابني الوجومُ التام. لم أفهم ما تعني، أو فهمتُ ولم أصدِّق ما فهمتُه، فلزِمتُ الصمت. وعادت تقول: «أرجوك اشرح له بالعربي الفصيح أنني مريضة ولم أعُد أصلُح.» فغمغمتُ غمغمةً لا معنى لها سوى تغطية حرج موقفي؛ ومن ثَم اندفعَت تقول: «إن هاري حيوان! أنا لا أصدِّق أنه مصري! هل تصدِّق أنه يشتهيني؟ هل تصدِّق أنه يحاول أن (..) …» وكان عليَّ في ذلك اليوم أن أنصرف معتذرًا بأنني لديَّ موعد مهم. أما ذلك الصباح، فيبدو أن هاري أعاد الكَرَّة.

وبعد أن شربنا القهوة أشرتُ إلى بعض أنباء الصحف، وأهمُّها إضرابُ عُمال الفحم (أو تهديدهم بالإضراب) واشتداد الأزمة بين رئيس الوزراء ورئيس نقابة العُمال، ولكنه كان على غير استعدادٍ للنقاش، وفضَّلتُ أن أقرأ الصحف في صمت، وأن أَعرِض عليه الصحيفة التي قرأتُها حتى يُلقيَ عليها نظرةً أو يقرأ شيئًا يصرفُ ذهنه عن صُراخ الصباح، وكنا في الضحى في الحقيقة، وكان عليَّ أن أُحاوِل ترتيب المنزل قبل أن تأتي «سو» للتنظيف في الصباح؛ ومن ثَم تركتُه وقمتُ للعمل، وانتهيتُ من ذلك وقلتُ له إنني لا بد أن أكتب أشياءَ معيَّنة، فإذا شاء بقي وإن شاء رحل. وكان يريد البقاء.

وكان يمكن أن يمُر يومُ الأحد في هدوء، لولا أنْ بدأ المطر ينهمر، وكان من نوع أمطار الشتاء الخفيفة المتواصِلة، وكان ذلك معناه أن أرفع بقايا المَوقِد من الحديقة وأن أضَع كل شيءٍ في الكوخ الخشبي الصغير المُقامِ في آخرها والذي يُستخدَم لتخزين أدوات «البَسْتَنة»، فأسرعتُ إلى الحديقة أعمل وحدي وهو جالسٌ لا يتحرك، ينظُر في الصحف بعينٍ زائغة وقد أخذ منه الهمُّ مأخذه، وكانت السماء ملبَّدةً بالغيوم وتُنذِر بأمطارٍ متواصلة طَوال اليوم، فقلتُ في نفسي هذا هو ما يصوره الروائيون للإيحاء بتجاوُب الطبيعة مع مصائب البشر!

وبعد حوالي ساعة جاء مايكل (ابن هاري) ليقول لأبيه إن والدتَه سقطَت مغشيًّا عليها وإنه قد استدعى سيارة الإسعاف، ولم يكد ينتهي من كلامه حتى وصلَت السيارة، فأسرع هاري خارجًا، واضطُرِرتُ إلى الخروج معه في المطر، وكان رجالُ الإسعاف قد دخلوا المنزلَ وفحَص أحدُهم «روزا»، وعندما وصلنا كان يتكلم في التليفون (ربما مع المستشفى) وسرعان ما حملها اثنان منهم، وكانت قد أفاقت من الإغماء، وذهب الجميع.

فلم أستطع التركيز بعد رحيل السيارة، وفي نشرة الواحدة ظهرًا سمعتُ أنباء الاتجاه إلى لومِ الرئيس الأمريكي نيكسون impeachment مما يعني عزلَه من منصبه بتهمة التواطؤ في التجسُّس على مقَر الحزب المنافس أثناء الحملة الانتخابية، وأنباءَ إضراب العمال (عمال المناجم) واتجاه رئيس الوزراء البريطاني إلى «مواجهة» العمال بقَصر ساعات العمل في الأسبوع على ٢١ ساعة (ثلاثة أيام بدلًا من خمسة)، وتوفير الطاقة الكهربائية بإطفاء أنوار الشوارع، وإغلاق البث التليفزيوني في العاشرة والنصف، وكان ذلك كلُّه نذيرًا بما أسماه المعلِّقون «الأيام المظلمة» القادمة، والتي كانوا يتهمون العرب بالتسبُّب فيها (بسبب رفع أسعار البترول).

وفي المساء اتصلت تليفونيًّا بهاري لأطمئن على زوجته، فقال باقتضابٍ إنها بخير، ورغم أن المرض (أي مرض) لا يحتمل الهَزْل، فقد ضحكتُ حين قال بالعربية المصرية: «الكلبة تمام التمام.» فقلتُ له بالعربية «سلامتها» فغَمغَم ووضع السمَّاعة. ولم أكَد أضعُها وكنتُ واقفًا أنظر من شباك المطبخ (الدور الأرضي) إلى الساحة التي تفصل بين المنازل في المنطقة السكنية، حتى رنَّ التليفون، وعندما رفعتُ السماعة، كان المتحدث رجلًا إنجليزيًّا أجَشَّ الصوت، قال إنه شاويش في البوليس، ويريدني أن أحضر لترجمة شيءٍ ما. قلتُ له إذن أرسلوا سيارة، فسألَني عن العنوان فأعطيتُه له وارتديتُ ملابس الخروج.

عندما دخلتُ مخفر الشرطة لأول مرة في حياتي وجدتُ مكتبًا لا يختلف عن أي مكتبٍ حكومي — موظَّفون، سكرتيرات، آلاتٌ كاتبة، تليفونات — ولا علاقة له بما نراه في السينما. وقفتُ حائرًا نحو خمسِ ثوانٍ، وقبل أن أتجه إلى الاستعلامات، لمحَتْني شرطيةٌ سوداء فجاءت باسمةً وقالت أنت مستر عناني؟ فأومأتُ وسِرتُ معها حتى دخلنا مكتب الشاويش، وهو الرئيس المناوب (النبطشي = النوبتجي) للمكتب يوم الأحد. وسألتُه: ما الخبر؟ فقال لي: عربيٌّ متهم بالاغتصاب! وقلتُ في نفسي «هذه هي الكارثة!» وتلفتُّ حولي باحثًا عن شكل عربي فلم أجد أحدًا، واستمر الشاويش في الحديث قائلًا: إننا بالطبع لم نوجِّه إليه التهمة بعدُ؛ لأننا لا نعرف ماذا يقول — وقيل لنا إنك تستطيع ترجمةَ ما يقول. ورحَّبتُ فأشار إلى كرسي فجلست. وأتت لي السوداء بكوب الشاي (فنجان من الشاي الساخن باللبن دون سُكَّر).

وعندما انتهيتُ منه عادت فقالت لي تفضل معنا، فدخلتُ غرفة فيها موظَّف تقدَّمَت به السن، وعندما قالت له السوداء إنني مصري تهلَّلَت أساريره وقال: «لقد خدمتُ في مصر في الحرب — أجمل بلدٍ في الدنيا! تفضَّل!» وجلستُ فشرح لي الموضوع، وهو أن أحد الدارسين العرب، ويبدو أنه بدويٌّ يغادر الصحراء لأول مرة في بعثةٍ لدراسة الزراعة في ردنج، «احتكَّ» بامرأة في الطريق العام، أو كما يقول طه حسين «مسَّها مسًّا غير كريم» حين دعَتْه إلى الاحتماء من المطر تحت المظلة. وقال العجوز إنه يظُن أن الشاب يعرف الإنجليزية ولكنه مصابٌ بنوعٍ من الذهول ولا يستطيع الكلام، وربما إن حادثتُه بالعربية نطق! وشرح لي بإيجازٍ حرجَ الموقف؛ فهم في الشرطة لا يريدون إحراج الدولة التي ينتمي إليها — خصوصًا في هذه الأيام — ولا يريدون التسرُّع بتوجيه التهمة إليه قبل الاستماع إلى أقواله كاملةً عن طريق مُترجِمٍ رسمي، وهمس لي وهو يميل برأسه نحوي: «والسيدة التي اتهمَتْه قد تتنازل عن الشكوى إذا اقتنعَت بوجود لَبسٍ ما.» وسألتُه إن كنتُ سأقوم بدَور المُترجِم الفَوري هنا أم في المحكمة؟ فقال بدهشة: محكمة؟ لا لا لا! سنُحاول الانتهاء من المسألة الآن، ولا أعتقد أننا سنحتاج إلى المحكمة!

وضغط جرسًا على المكتب فعادت السمراء إلى الظهور، فأشار إليها بيده إشارةً معيَّنة فخرجَت لحظة وعادت مع شابٍّ أشقَر وسيم، منكَّس الرأس، نحيل وقصير، وعلى وجهه أماراتُ الحزن (والندم؟) فجلَس قبالتي، وبدأ الموظَّف بسؤاله عما حدث، فكان يتكلَّم وأنا أُترجِم وهو يكتب، والسوداء واقفةٌ لدى الباب تسمع ما يُقال. لن أفصح عن اسمه الحقيقي — بطبيعة الحال — ولنُطلِق عليه اسم «طالب» وحسب. قال طالب:
«بدأ المطر يتساقط فجأةً وأنا ذاهبٌ إلى محطة الأتوبيس، ولم يكن هناك مكانٌ أختبئ فيه، ولم تكن معي مِظلَّة، وبينما أنا أعبُر الجسر (flyover) وجدتُ امرأةً تناديني للاحتماء تحت مِظلَّتها، فتردَّدتُ ثم جريتُ إليها، وبمجرَّد أن وضعتُ رأسي تحت المظلة حتى صاحت وصرخَت وأمسكَت بي، فاجتمع الناس وجاءت سيارة الشرطة في لَمْح البَرق. أنا بريء. هي التي دعَتْني وكانت تبتسم، لكنني لم أفعل شيئًا.»
وبعد أن اكتملَت الترجمة التي أوجزتُها هنا إيجازًا شديدًا، قال الموظف (ولم أكن أعرف حتى تلك اللحظة أنه قاضي صُلح Justice of the Peace) هذا معقول، وأقواله لا تتناقض مع أقوال الشاكية، ثم أشار إلى السوداء فجاءت واصطحبَت «طالب» إلى الخارج، وعاد القاضي للهمس فانحنى إلى الأمام حتى مسَّت ذقنه دفتر المحضر، وقال لي: هل تعتقد في أعماقك وضميرك (in your heart of hearts) أنه يقول الحقيقة؟ وقلتُ له: لقد ترجمتُ لك كل كلمةٍ بصدق وأمانة! وردَّ بسرعة: «طبعًا طبعًا، لا شك في هذا! كنتُ فقط أريد دعمًا لحدسي.» والتزمتُ الصمت. وبعد ثوانٍ معدودة أحسستُ أنها امتدت دهرًا، قال: أعتقد أننا لا يجب أن نُضيِّعَ من وقتك أكثرَ مما ضيَّعنا، وسوف نتصل بك إن جدَّ جديد. وخرَجْت.
كان المطر ما زال ينهمر، وإن كان من نوع الثلج الذي يذوب عندما يصل إلى الأرض، وهم يُسمُّونه sleet، وكان خفيفًا لدرجة أحببتُ معها أن أسيرَ فيه وأُحسَّ بنقراته الخفيفة المنعشة على وجهي، وأن أعود إلى المنزل بالأتوبيس بدلًا من سيارة الشرطة، وإن كانت لا تحمل علاماتٍ تدُل على ذلك، وسِرتُ أفكر في قضية اختلاط الدلالات الثقافية من جديد، أفلا يمكن أن يكون طالبٌ قد تصوَّر أن المرأة تدعوه إلى شيءٍ آخر، فمَد يدَه إلى ما لا ينبغي أن يمُد يدَه إليه؟! أفلا يجوز أن يكون قد شاهَد الإنجليز يفعلون مثل هذه الأشياء علنًا في الشارع فتصوَّر أنها مباحة؟! أفلا يجوز أن تكون السيدة قد بدرَت منها بادرة «فَسَّرَها» على أنها تشجيعٌ على المساس بخصوصيتها؟! وكيف يستطيع ذلك البدوي تفسير العلامات الثقافية التي تختلف كل الاختلاف عن علاماتِ مجتمعه؟ وسمعتُ هاجسًا آخر يهمسُ في أعماقي: أفلا يمكن أن يكون بريئًا حقًّا وصدقًا؟ ولم أدرِ بمرور الوقت إذ وجدتُني قد وصلتُ إلى المنزل.

بدأت اعتبارًا من يوم الاثنين الالتزام بجدول الكتابة؛ فمن غير المعقول أن أصل إلى هذا الحدِّ في الرسالة ثم لا أنتهي منها، وقضيتُ اليوم كله في المكتبة، وكنتُ أعود إلى المنزل مبكرًا (في نحو الخامسة) فأجلس إلى الآلة الكاتبة وأواصل العمل حتى العاشرة أو الحادية عشرة، ولم يكن أحد يتصل بي؛ فالجميع يعرفون أن أُسرتي في مصر، وأنني منقطعٌ عن العالَم للانتهاء من الرسالة، ولكن إغراء الكتابة كان يُطِل برأسه كالشيطان من حينٍ لآخر، وكنتُ أقاومه ما استطعتُ المقاومة، حتى انتهى الأسبوع ووجدتُني قد قاربتُ تحديد شكل الفصل الأخير، فوضعتُ ورقةً بيضاء في الآلة الكاتبة — وجعلتُ أتطلَّع إلى المساحة البيضاء وفكرة التمثيلية التليفزيونية تتشكَّل في الفراغ!

وفي يوم السبت ٢٦ يناير أشرقَت الشمس فخرجتُ إلى «الطبيعة» العارية من الأوراق، أتأمَّل الأغصان التي تبرقُ بكساء الصقيع الباكر، والسحابات البعيدة التي تغزو السماء ذات الزرقة العميقة، أو أتأمل أوراقَ الشجر الذابلة التي اختلطَت بالتربة، وهبطَت عليها قطرات النَّدى التي تجمَّدَت، ولن تنصهر إلا في العصر، ولربما تظل مجمدةً طول اليوم، وكان موضوع التمثيلية قد قاربَت التشكُّل، وكان يقوم على قصة جمال الدين كرجي باهي — وهو أفريقي مسلم من طائفة الإسماعيلية — أتى به توم هيتون من شرق أفريقيا، فأسكنه معه في المنزل الذي اشتراه، ورتَّب له عملًا في قسم التليكس بمكتب الأخبار، وسرعان ما أتى جمال الدين بأهله وطفله الصغير، وبدأ نزوح الأقارب حتى ضاق المنزل بهم، وكان النموذج الفني في ذهني هو قصة «القناع» لوالبول، ولكنني لم أكن أدرك أنني أنسج على منوال غيري، بل كنتُ أفكر فحسبُ في موقف الفرد الذي يجد نفسه محاطًا بأناسٍ ما فتئوا يتكاثرون حتى يغلبوه على أمره، وهو يزداد حبًّا لهم وإيمانًا بهم وفقدانًا لذاته وتفرُّده! الفكرة نفسها هي التي عالجها هارولد بنتر في فيلم «الخادم»، ولكنني كنتُ أعالج هنا نماذجَ حيةً موجودة حولي!

وفي المساء اتصل بي عبد اللطيف الجمَّال وقال لي إنه حصل على شهادةٍ مرَضِية تُعفيه من العمل ثلاثة أشهر! ولم أكَد أصدِّق — كيف؟ أقصد كيف يحصل على مثل هذه الشهادة وهو بصحةٍ جيدة؟ سألتُه: هل الطبيب مصري؟ فقال بل إنجليزي ابن إنجليزي! واتضح أنه ذهب إلى رئيس وحدة الأخبار وقال إنه يعاني من انهيارٍ نفسي ويطلب الإحالة إلى الطبيب، فحدَّدَت له الإدارة طبيبًا في لندن ذهب إليه وتظاهَر بأنه مريضٌ نفسي. وقال عبد اللطيف: «والدكتور اقتنَع وأعطاني الشهادة، وقال إنه سوف يرسل التقرير إلى رئيس الوحدة! معنى ذلك أنني أستطيع الانتهاء من الدكتوراه هذا العام! سأذهب غدًا إلى لندن وأُقيمُ هناك حتى أنتهي من الرسالة، وسوف أتصل بك من هناك.» والذي لا يعلمه عبد اللطيف — حتى اليوم — أن الطبيب كتب في تقريره إن عبد اللطيف كان يتظاهَر بأعراض مرضٍ معيَّن ولكن الفحص أثبَت أنه يعاني من مرضٍ أخطر كثيرًا وقد يتطلب دخولَه المستشفى للعلاج، إلى جانب التفاصيل الطبية التي لا يعرفها إلا المتخصِّصون. وذكرتُ ما نشرَتْه إحدى الصحف من أن ٤٦٪ من أَسِرَّة المستشفيات في بريطانيا (في إنجلترا وويلز فقط في الواقع) يشغلها المرضى النفسانيون، وقد قطعتُ تلك القُصاصة ووضعتُها (ألصَقتُها) بالكتاب الذي كنتُ قرأتُه (وما يزال لديَّ) عام ١٩٦٨م، وعنوانه «الطب النفسي اليوم» لمؤلِّفه ستافورد-كلارك. لقد نجحَت الكذبة المصرية هذه المرة، وإن كان ذلك بطريقةٍ غير مباشرة!

وفي يوم الخميس ٣١ يناير كان يبدو أن الربيع قد أتى؛ فالجو صحو ودرجة الحرارة لا بأس بها؛ إذ وصلَت إلى ١٢° ظهرًا، فخرجتُ إلى السوق سيرًا على قدميَّ وحينما رجعتُ وجدتُ في انتظاري مفاجأة: تكليفٌ من الشرطة (والشرطة تابعة للمجلس المحلي) بالحضور للترجمة الفَورية بعد أسبوعٍ في محكمة الجنح، وهي نوع من المحاكم لا يُوجَد عندنا، وهو يحاول إنهاء القضايا السهلة أو التي لا خلاف على الأدلة فيها؛ إما بإحالتها إلى محكمة الدرجة الأولى، أو بإصدار حكم، أو بحفظ القضية. وتُسمَّى هذه المحاكم magistrate’s court وهي تابعة أيضًا للمجلس المحلي للمدينة، وتختلف عن محكمة الصلح التي ذكرتُها من قبلُ في أن القاضي يحمل مؤهلًا قانونيًّا، على خلاف قاضي الصلح الذي يعيِّنه المجلس المحلي على أساس النزاهة والخبرة والسمعة الطيبة.
figure
جاكي زوجة توم هيثون مع اثنَين من قبيلةٍ كينية عند زيارتهما إلى لندن عام ١٩٧٢م.
وذكرتُ تجربة «طالب» ودعوت الله ألا تكون قضيةً مماثلة، وللقارئ أن يتصور مدى دهشتي عندما ذهبتُ في الموعد المحدد لأرى «طالب» نفسه في قفص الاتهام، وهو ليس قفصًا كالذي نراه في السينما بل مجرد حاجزٍ عادي في غرفةٍ عادية. دخلتُ فحلفتُ على المصحف أنْ أُراعي الله والضمير في ترجمتي، وكانت النيابةُ قد وجهت إليه التهمة رسميًّا هذه المرة، وكانت الظروف مختلفةً عن المرة السابقة؛ فلم تكن الدنيا تمطر، بل كان الجو صحوًا حين اقترب صاحبنا من الشاكية وحاول، فيما قيل، تقبيلَها. وكانت الفتاةُ حاضرة. وقمتُ بالترجمة لمدة ساعةٍ كاملة، عرفتُ فيها تفاصيل الاتهام؛ إذ يبدو أن «طالب» المذكور اقتفى أثَر الفتاة ثم هجَم عليها دون مقدِّمات مما سبَّب لها صدمةً عصبية trauma فصرخَت وتكرَّر ما حدث في المرة الأولى، ولم تستدعني الشرطة في المراحل التمهيدية للقضية؛ لأن قاضي الصلح أحال الشكوى إلى النيابة التي أمرَت باحتجاز المتهم (الذي لم يكن متهمًا بعدُ) ٢٤ ساعة، ثم وجَّهَت إليه التهمة رسميًّا، ثم حبسَتْه على ذمة القضية (remanded in custody in connection with …) ولم يستغرق القاضي وقتًا طويلًا في نظر القضية فأصدَر الحكم بترحيله من إنجلترا، وقال في «تلخيصه» summing up للقضية إنه أخذ في اعتباره صِغرَ سن المعتدي، وانتماءه إلى ثقافةٍ مختلفة، واحتمالَ اختلاله نفسيًّا، كما حكم بأن للمدعية الحق في التعويض المادي عما أصابَها من صدمة، وقال إنه سيحُيل القضية إلى سِفارة البلد المعني حتى يتم دفع التعويض الذي تحكُم به محكمةٌ أخرى مدنية، وسيكون على طالب أن يأتي إلى الشرطة «كل يوم» لتسجيل اسمه حتى يتم الفصلُّ في القضية المدنية!
كانت التجربةُ رهيبة! لقد وقع «طالب» في المحظور! وخرجتُ مهمومًا أريد أن أحكي ما حدث لأي صديق، وكنتُ أريد أن أعرفَ مصيرَ طالب بعد ذلك، ولم أكَد أخطو خطوةً واحدة خارج قاعة المحكمة حتى قابلتُ رجلًا أسمر يبدو أنه عربي، فنظرتُ إليه فابتسم وجاءني قائلًا: «أنا من السفارة، وقد اتفقنا بالفعل على دفع التعويض الذي طلبَتْه الشاكية، ولن تُحال القضية إلى محكمةٍ أخرى، بل ستَجري التسويةُ خارج المحكمة؛ أي (settlement out of court) حتى يستطيع «طالب» العودة إلى أهله.» وسألتُه أسئلةً كثيرة أجاب عليها بما بث الاطمئنان في قلبي، ولم يعُد لديَّ شك في أن «طالب» سيعود إلى وطنه بسرعة.
وقد يكون من المناسب أن أختم هذا الفصل بذكر الشيكَين اللذَين تلقَّيتُهما من المجلس المحلي بعد ذلك، لقاء جهودي في الترجمة، وكانت نقودًا تمنَّيت ألا أكسبها؛ فلكَم شاهدتُ الإنجليز يمارسون «ألعاب الحب» (love play) في الطريق العام، ولكم شاهدتُ الفسوق الصريح، دون أن يلتفت أحدٌ إليه أو يشكو منه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤