اخرجوا من مساجدنا!

«باحث وكاتب مصري له العديد من الكتابات حول الحرية والعمل والتزكية في الإسلام.» هذا هو التعريف الذي يُقدم به المهندس نشأت جعفر نفسه فيما يكتب، كأحد فلاسفة الإسلام السياسي الجُدد، وهو ما صاحب عملًا هامًّا له بعنوان: «الحرية تكليفات وليست حقوقًا»، وقد نشره على موقع «إسلام أونلاين». وهذا عنوان الموقع:

وهو مناط مناقشتنا هنا، كنموذج لمحاولة الإسلام السياسي إقامة عمليات التوفيق بين الإسلام كدين وبين إصرارهم على الإسلام كدولة.

ويبدأ المهندس جعفر برصد ما وصلت إليه الدولة الحديثة من معاني الحريات، ليبحث من بعدُ عن هذه الحريات في الإسلام، لإثبات عدم تخلف الإسلام كدولة عما وصلت إليه الدولة الحديثة من مفاهيم فيقول: «يمكن رسم خريطة الحريات في الدولة الحديثة كما يلي: حرية العقيدة والاعتقاد، حرية الفكر، حرية السؤال والمجادلة والمناقشة، حرية إبداء الرأي، حرية الاجتهاد وواجب الشورى، حق العمل، حق المرء في سؤال دولته تقديم خدمات له، حق التنقل والانتقال، حرية الاجتماع وتكوين الجمعيات والنقابات والشركات، سلامة البدن، حق الأمن، حرمة المسكن، سرية المراسلات. وهناك حريتان إضافيتان أضافهما الإسلام إلى حرية الفرد والجماعة هما: حرية الدعاء وحق الاستجابة، وحق الخطأ وحق المغفرة وواجب الاجتهاد وأجر المحاولة» اﻫ.

وما يمكن أن نفهمه من قوله إن هناك حريتين إضافيتين أضافهما الإسلام للحريات التي انتهت الدولة الحديثة لإقرارها، تسريبُه لقارئه، بشديد الخفة، أن تلك الحريات قد وافق عليها الإسلام سلفًا، ثم أنه أضاف إليها ما لم تعرفه بعدُ أو تكتشفه من حريات؛ مثل: حرية الدعاء وحق الاستجابة، إلى حق الخطأ والمغفرة، إلى واجب الاجتهاد وأجر المحاولة، وأن الإسلام عندما أضاف إليها لم يحذف منها. ويدعم هذا الفهم أنه قد أدخل من عنده — ضمن الحريات الأساسية للدولة الحديثة بمعناها الغربي الحالي، وفي وسط بنود الحريات — بندًا إسلاميًّا خالصًا ليس ضمن ما نعرفه في هذه الحريات الغربية الحديثة، وهو حرية الاجتهاد وواجب الشورى، ليكون هذا البند الإسلامي حاملًا لبقية الحريات الحديثة داخل بنية الإسلام، بحيث يترك قارئه وقد سلم بإقرار الإسلام كدولة لمواطنيه بهذه الحريات جميعًا. وهو حين يفعل ذلك يرتكب أكثر من خطأ وأكثر من خطيئة في حق مبادئ الحريات الحديثة وفي حق الدين نفسه، وهي الخطايا التي يرتكبونها نتيجة محاولاتهم الدائبة لجعل الإسلام دينًا ودولة، بما يفي بوصولهم إلى سُدة حكم الوطن.

فحديثه عن حق سلامة البدن كحرية مكفولة في دولتهم الإسلامية المرتقبة مأخوذًا عن حريات الغرب، سيتعارض مع الشريعة وعقوباتها البدنية كالجلد والقطع والرجم وقص الرقاب والسبي، وهي عقوبات تنص عليها آيات واضحات؛ منها كمثال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (المائدة: ٣٨)، وكذلك إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (المائدة: ٣٣).

إن المتأسلمين ينادون بالشيء ونقيضه في آنٍ، ويعدون بأمور على نية عدم الوفاء بها، لمخالفتها قوانين شرعية يعلمونها يقينًا؛ فيطلبون حق الفرد في سلامة البدن وفي الوقت ذاته يطلبون قطع اليد والرقبة والجلد والرجم، فإن نالوا كراسي الحكم تخلوا عن أحد نقائضهم، وقد تخلت حماس كما نرى عن تطبيق الشريعة لصالح الحقوق الإنسانية الحديثة، بعدما وصلت سُدة الحكم، رغم أن هذا التطبيق كان هو المعلن الأساس كهدف تكتيكي واستراتيجي لعمل حماس السياسي.

ومثل حماس نجد المهندس نشأت جعفر ينسى أهم الحريات؛ وهي حرية أن يحكم الشعب نفسه بنفسه باختيار من يمثله، فلا يشير إلى فقهاء ومفتين عينوا أنفسهم وصاة على المسلمين دون اختيار شعبي في انتخابات واضحة. أما إذا أصر المهندس على مطلب سلامة البدن، فإنه في هذه الحال سيقع حتمًا تحت طائلة إنكاره معلومًا من الدين بالضرورة.

فهو لم يعلن مثلًا أن تلك الحدود كانت خاصة بزمانها بشكل واضح، وأن ضرورات الحريات في الحياة المعاصرة تستدعي تركها لزمانها، بل لم يتطرق إلى ذلك بالمرة، كما لو كان مجرد قوله بحق سلامة البدن في دولته المرتقبة هكذا مرسلًا دون إنكار واضح لهذه الحدود أو إعادة تكييفها، كفيلًا بالتسليم بكلامه دون سند شرعي، ودون مراجعة لما بين يديه من حدود تتعلق كلها بسلامة البدن.

ثم أخذه من الدولة الحديثة حريتها التأسيسية (حرية الاعتقاد) ونسبتها لدولته، هو قول مرذول وكذوب؛ لأن المسلمين على كافة فِرقهم لا يرون للإنسان حقًّا في تغيير عقيدته الإسلامية، ويقف دونه ودون هذه الحرية معنى «الرِدَّة»، وهي عقوبة التارك لدينه المفارق للجماعة، «ومن بدَّل دينه فاقتلوه» بنص الحديث النبوي، بل إن الفِرق الإسلامية نفسها يُكفر بعضها بعضًا، فكل مذهب يرى الآخر خارجًا عن الجماعة تاركًا للدين، وما يحدث عمليًّا اليوم في العراق لخير دليل وبرهان على ما يرتكبه فلاسفة الإسلام السياسي من تزوير وتلفيق لكسب الجماهير إلى صفهم، ولو خداعًا لهم وللدين وللوطن، وخاصةً إزاء ما يتعلق بهذه الحريات والحقوق التي يزعمونها، من تراث فقهي طويل عريض يُقنن حدودًا وعقوبات هي على النقيض التام من الحريات في الدولة الحديثة، ودون أن يعلن مراجعة هذا الفقه ورده أو نقضه أو رفض بعضه على الأقل، فهو يريده كله كما هو أساسًا للشريعة الإسلامية، التي يصرون على أنها الغاية الأساسية والنهائية والعليا من طلبهم إقامة دولة إسلامية.
يبقى على المهندس أن يقدم لنا تفسيرًا يتناسب مع حرية الاعتقاد لآيات قرآنية من قبيل: أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (آل عمران: ٨٣)، ومثل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران: ٨٥)، ومثلها أيضًا: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (آل عمران: ١٩).

وحق الأمن في الإسلام حق خاص بعضو جماعة المسلمين وحدهم دون غيرهم من غير المسلمين، وينطبق عليه ذات الاختلاف بين الفِرق الإسلامية وما يترتب عليه، فكل فرقة لا ترى الأمن حقًّا مشاعًا عامًّا بل هو حق للفرقة وحدها، مع التذكير بأن هذا الأمن لم يحصل عليه أئمة المذاهب الأربعة في زمن الشريعة، فعُذبوا وسُجنوا زمن سيادة الإمبراطورية الإسلامية، ولم يحصل عليه عثمان خليفة المسلمين الراشد فقتله المسلمون الصحابة وأبناء الصحابة والتابعون بإحسان، ولم يحصل عليه آل بيت النبي الذين تم حصدهم وإبادتهم في مجزرة تاريخية مخزية، بل هي العار نفسه، بل ولم تتمتع مدينة رسول الله بهذا الأمن رغم قدسيتها التي لم تمنع المسلمين عن استباحة فروج نسائها، وهن الصحابيات وبنات الصحابيات — في غزوة الحرة — ثلاث ليالٍ، في حالة جنس جماعي وحشي علني فاحش فاجر، حتى حبلت ألف عذراء من بنات مدينة رسول الله.

بالشريعة والصحابة وقدسية المكان والزمان وآل البيت النبوي الكرام لم تعرف يثرب الأمن، بل ولا حَفِظَ هذا الأمنُ بيتَ الرب نفسه في مكة من الضرب بالمنجنيق والحرق، على يد الصحابة وأبناء الصحابة والتابعين بإحسان إلى يوم الدين. ووجد كلٌّ من هؤلاء في الدين سندًا له لسلب المخالفين أمنهم وقتلهم شر قتلة.

وكذلك حرية الرأي كانت هي آخر ما يعرفه تاريخنا الإسلامي، فلم تحصل عليها فِرق بكاملها انتهت من التاريخ وأُبيدت، كما حدث مع الفِرق الكلامية المتفلسفة التي لم ترفع سيفًا على أحد كالمعتزلة مثلًا.

وحرية الملكية والتجارة والصناعة لم يحصل عليها المسلمون الموالي في البلاد المفتوحة، فقد كانت من حق الفاتح العربي المسلم وحده، ولم تعرفها بلادنا إلا بعد ما كفلتها الدولة الحديثة للجميع مسلم وغير مسلم بعد انهيار الخلافة المقبورة.

وحرية الاجتماع وتكوين النقابات والأحزاب كلها حريات لا وجود لها في الشريعة، ولا تعرفها أرض الإسلام نفسه في السعودية حتى الآن، ولا في الدول الإسلامية النموذجية من طالبان إلى السودان.

وحرية المسكن غير متاحة في بلاد المسلمين، فهي مقيدة بالجنسية رغم أنه مصطلح غربي يرتبط بالدولة الحديثة، ولا علاقة له بالدولة الإسلامية. حتى إن العاملين المسلمين في السعودية من غير السعوديين يحظر عليهم التنقل داخل المملكة، فإقامتهم محددة، ناهيك عن جماعات البدون في كل دول الخليج الذين هم من أبناء تلك البلدان لكنهم لا يحملون الجنسية.

وسرية المراسلات وحرية التعبير هي مرفوضة بوجود الرقابة الأزهرية، حيث يقف على أبوابها زبانية أشداء غلاظ، يراقبون المسلسلات والأفلام والمجلات والكتب التي تصدر داخل سجننا الكبير مصر، وهو حال جميع الدول الإسلامية، فهي معتقلات كبيرة يقف على أبوابها رجال دين جلاوزة، بسيوف إفتاء وتحريمات جاهزة لقص أي لسان، فالكلام غير مباح لغيرهم، وهم فقط الذين يعرفون ما يقال، وما يجب ألا يقال وما هو صحيح، وما هو غير صحيح.

كذلك بالنسبة لتكوين الجمعيات في بلادنا يُشترط عدم الحديث في الدين أو في الجنس أو في السياسة، هكذا ينص قانون تكوين الجمعيات، ومن ثَم لا يبقى لأحد حق تكوين هذه الجمعيات إلا للإسلاميين لأنهم أهل الدين المسموح لهم وحدهم بالكلام فيه، يتكلمون في السياسة بزعم الدولة الإسلامية، ويتكلمون في الدين بحسبانهم أهل الدين ورعاته، ويتكلمون في الجنس من باب لا حياء في الدين، ويشكلون في مجموعهم ما يمكن تسميته: جمعيات الاستيلاء على السلطة. أما بالنسبة لحرية العقيدة، فإن من يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الدنيا من المطاردين المنبوذين، وفي الآخرة من الخاسرين، وتقف دونه وهذه الحريةَ عقوبةُ حد الرِّدة.

اللطيف في أمر المهندس جعفر أنه بعد سرده كل تلك الحريات والحقوق المعاصرة، وأنها مطلب لدولته الإسلامية، وهي حريات وحقوق لم يسبق لها أن كانت في مخزوننا المعرفي والتراثي إطلاقًا، إنما هي كشف غربي تطوري مائة بالمائة، وهو على ما وصل إليه اليوم ابن زماننا مائة بالمائة، وفيما يبدو أن شعور الدكتور أن كل الحريات التي يريدها لدولته هي كشف أوروبي تم تطبيقه بالفعل في أرض الواقع، وأنه يأخذ عنهم هذه المفاهيم دون أن يكون بيديه شيء في المقابل، لذلك قرر رد النقوط للخواجات بنوعين جديدين من الحريات من اكتشاف المسلمين، هما حرية الدعاء وحق الاستجابة وهو نوع فريد في بابه من الحريات، فقد نفهم أهمية الدعاء للمؤمن الفطري البسيط في شئونه الشخصية وحدها فهو يعطيه الصبر والأمل، أما في سياسة الدول ودساتيرها الحقوقية فهذا كلام يبدو من قبيل الطفولية الساذجة للإيمان، ولن يفيد البشرية في شيء كما أفادتها الحرية التي نادى بها أهل الغرب ولبى العالم كله نداءهم، فعام الرمادة في خلافة عمر لم تستجب السماء لدعاء الصحابة ولم تفتح أبوابها بماء منهمر، إنما من استجاب هو مصر، وفتحت أبوابها على الجزيرة بخير عميم قضى على المجاعة. ولو كان للدعاء جدوى لكان المفترض أن يصلي عمر استسقاء، ولكان المفترض أن يستجيب الله في نموذج واقعي لفتح أبواب السماء بماء منهمر، وتصبح واقعة تاريخية أثبتتها التجربة لنستند إليها. لو كان للدعاء جدوى لصارت جزيرة العرب لكثرة ما صلوا استسقاء، جنات وارفة، غَناء، لا أن تكون بلاد الغرب الكافر هي الممطرة التي تجري من تحتها الأنهار طوال العام. إن الدعاء هو للكسالى والمكسحين والعاجزين عن حل مشاكلهم بأيديهم. إن حرية الدعاء المكفولة منذ عام ١٩٤٨م على إسرائيل عقب كل صلاة، وفي كل مناسبة دينية، وفي جميع الأماكن المقدسة، وفي كل بلاد الإسلام، بكل أقطاب المسلمين من إخوان وشيعة وسُنة، لم تؤدِّ إلا لمزيد من ضعف المسلمين والمزيد من قوة إسرائيل.

وهكذا فإن طرح المهندس جعفر لمثل هذه الحريات مأخوذًا من النظم الحديثة للدولة المعاصرة، إما أنه نوع من الفم الكبير الذي يقول ما لا يعنيه أبدًا، وإما أنه ينكر معلومًا من الدين بالضرورة، وإما أنه يزين لشباب اليوم دولته الإسلامية المرتقبة، حتى لو خالف بما يزينه لهم معلومًا من الدين بالضرورة، ولكن الرجل يبدو، فيما كتب ويكتب، رجلًا مسلمًا ملتزمًا، وداعية للدولة الدينية وللخلافة، وهو ما يعني من البدء أنه يمارس لونًا رديئًا من التلفيق والتدليس والتلبيس على وطنه وعلى المسلمين، خاصةً عندما يكون عارفًا وعالمًا أن القرآن الكريم لم يعرف معنى كلمة «حرية» المعاصر بمفهومها وحقوقها المدنية المعلومة اليوم، وعندما يكون عارفًا وعالمًا أن كل ما كانت تعنيه الكلمة في ذلك الزمان في جزيرة العرب هو الحرية التي هي مقابل العبودية، فأن تكون حرًّا هو أن تكون غير مستعبَد لأحد فلا تُباع ولا تُشترى كالماعز. ولأن المهندس جعفر يعلم ذلك بدوره، فقد قام يقدم لنا موضوعه هذا ليكتشف لنا في القرآن ما لم نكن نعلم، وما لم يكن زمن الصحابة يعلمه، وما لم يقصد إليه القرآن، ليكتشف أن الحرية لم تأتِ باسمها ومعناها الواضح في آياته، بقدر ما كانت مستبطنة فيه تحتاج من يبحث عنها ويُنقب عنها حتى يجدها، وأن هذا الباحث المنقب الذي عثر على الكنز يتمثل في شخص جعفر تحديدًا، وهو يقدم لنا هنا كشفه التاريخي الإسلامي.

يقول سيادته: «لم ترد كلمة الحرية في القرآن الكريم، إنما الذي ورد هو مشتقات منها، مثل: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (النساء: ٩٢). وإِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا (آل عمران: ٣٥). وكُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى (البقرة: ١٧٨).» ثم يلفت نظرنا إلى أن القرآن قد «ضرب مثلًا في سورة النحل يُعبر عن الأهمية القصوى لقيمة الحرية: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (النحل: ٧٥).» «وهناك من يزعم عدم ورود كلمة الحرية في القرآن الكريم، وأن الذي ورد فحسب مشتقاتها مثل كلمة تحرير رقبة، وهو دليل على أن الإسلام لم يعرف للإنسان حقوقًا، بل فرض عليه واجبات وكلفه بتكليفات فقط.»
ولا تفهم هنا كيف عبرت سورة النحل عن القيمة القصوى للحرية، فهي تقول إن العبد لا يقدر على الوصول إلى رُتبة الغني، حتى في التعبير عن حبه وعِرفانه لربه والتقرب إليه؛ لأن العبد لا يملك ما يقدمه لربه من قرابين مالًا أو ذبيحة أو صدقة أو زكاة، بينما الغني لديه من المال ما ينفق منه في سبيل الله تقربًا إليه سرًّا وعلانية، فيحصل على المقابل رضًا إلهيًّا دنيويًّا وحسنات تُضاف إلى رصيده في الآخرة، بينما العبد لا يستطيع الحصول على هذا الرضا ولا تلك الحسنات الأخروية؛ لأنه لا يملك ما ينفق في سبيل الله! أي قيمة قصوى هنا للحرية؟! بينما الآيات نفسها تؤكد أن من قرر المصير على كليهما هو الله نفسه، فقد رزق الحر الغني رزقًا حسنًا من عنده، فقام الغني يرد لله الفضل في شكل صدقات أو زكوات. ومن المبهر هنا أن يحدثنا المهندس عن الحرية ليستشهد لها بالنص القرآني: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ (النساء: ٩٢). إن الآية هنا تُحدثنا عن استمرار العبودية وليس إيقافها، وأن تحرير رقبة من هؤلاء العبيد المسلمين كفارة يمين يستلزم أمرين: وجود الرقبة، ووجود القتيل، يعني كي تفك رقبة لازم يكون عندك رقبة، ولازم تصور قتيل. المهندس هنا وصل مرحلة الكذب والتزوير، لأن عتق الرقبة ككفارة إنما كان تحفيزًا للمؤمنين للحرص على عبيدهم، فهي عقوبة تقع على مرتكب الجريمة لضمان عدم تكرارها. كما لا بد أن نلاحظ بشدة أن الآيات تشير إلى مسلمين مؤمنين يفكون رقابًا مسلمة، أما غير المسلمين فلا يندرجون تحت هذا اللون من العتق. ولا بد مع علمنا أن أقوى جريمة هي القتل، فإن كفارتها تحمل أقوى عقوبة وهي تحرير عبد مسلم. إن الآية توعية للمسلمين كي يحتفظوا بعبيدهم، وما أبعد ذلك كله عن معنى الحرية.

مع الملاحظة أن جريمة القتل أصناف؛ فهي تُصنف حسب قيمة الشخص المقتول: هل هو مسلم؟ أم ذمي؟ أم من الموالي؟ أم عربي؟ أم حر؟ أم عبد؟ فالنفوس في فقهنا رُتب وأصناف، حتى في الموت. وقد ظلت بلاد المسلمين تعمل بنظام العبودية حتى تم إلغاؤه تحت ضغوط دولية أممية، فكان تحرير العبيد إنجازًا غربيًّا وليس إسلاميًّا، وتم فرضه على المسلمين رغم أنوفهم، وجاء تحريرًا إنسانيًّا وليس كفارة تأديبية. فكان أن نسخت الأمم المتحدة ثلاثًا وعشرين آية تتحدث عن ملك اليمين، وفقهًا كاملًا للعبيد يدرسه أبناؤنا حتى اليوم في أبواب الفقه الطوال بمدارس الأزهر وكلياته، ولا تعلم لماذا؟!

ولقد قام المجتمع الغربي في أمريكا وأوروبا بتحرير جميع الرقاب بصرف النظر عن أديان أصحابها، وليس تكفيرًا عن جرائم قتل بالخطأ أو بالعمد، بدافع إنساني بحت، وهو الإلغاء الذي جعل من المتعذِّر بل من المستحيل تنفيذ أحكام الآيات الكريمة، وهي آيات محكمة غير منسوخة، حتى وقَّعت السعودية واليمن عام ١٩٦٢م على اتفاقية تجريم الرق الدولية، فوافقت دولة مهبط الوحي وبزعامة خادم الحرمين الشريفين على نسخ الآيات المحكمة دون وجود ناسخ سماوي. وفي معظم الدول الإسلامية، وخضوعًا للأوامر الدولية، تم نسخ حكم الرجم، وتعطيل حد السرقة والحرابة، حتى الدول الإسلامية المتشددة وتحكمها حكومات تعلن أنها إسلامية، لم تجرؤ على الانحياز إلى الشريعة في مثل هذه الشئون.

ومع إخواننا المتأسلمين سنجدهم يخلطون بين معاني الحرية عمدًا، بقصد نهائي هو حرمان المسلمين من حقوقهم السياسية، مع إخضاعهم لسلطة رجال الدين. فمن الآيات التي أوردها نفهم أن هناك عبدًا مملوكًا يُباع ويُشترى، مقابل الإنسان الحر السيد الذي لا يُباع ولا يُشترى، بل هو من يملك العبد، وكلاهما — العبد المملوك والسيد الحر — عبدان لله، لأنهما سيكونان أمام موازين حسابه سواء. هناك إذن نوعان من الحرية: حرية سياسية وحرية مدنية، فالفرد الحر مدنيًّا هو من لا يُباع ولا يُشترى ولم يكن أسيرًا أو سبِيَّة أو أَمَة، هذا الحر مدنيًّا ليس حرًّا اجتماعيًّا ولا حتى سياسيًّا، ففي عالمنا الإسلامي والعربي نعيش أحرارًا لا يملكنا أحد، لكننا فاقدو الحرية السياسية والاجتماعية والفكرية، حتى جسدنا لسنا أحرارًا في التصرف به، حتى عقلنا لا نملكه لأنه تابع للأوامر والنواهي والخطوط الحمراء وثوابت الأمة.

وللتفرقة بين نوعي الحرية علينا العودة إلى أصولها عند أهلها، فكلمة Freedom تعني الحرية بمعناها الواسع الشامل، تعني حقوقًا كاملة مثل: حرية القول والفكر والديانة والعبادة والعمل والإبداع والنقد والتنقل والتجمع، أما الحرية بمعنى إلغاء البيع والشراء فهي Emancipation، وهذه هي الحرية المقصودة بالآيات الكريمة لا كلمة Freedom؛ لأن كلمة فريدم تحمل معاني جديدة وأفكارًا ومفاهيم لم تكن موجودة قبل عصر التنوير والحداثة، لم تكن معلومة قبل الثورات الأوروبية مثل الفرنسية والإنجليزية والروسية والأمريكية.
إن حقوق الإنسان والمرأة والطفل والعمل وحق التفكير والاختلاف وحرية العقيدة والرأي هي المكون الرئيسي لكلمة فريدم، ولا علاقة لها بكلمة Emancipation، والمعلوم أن المتأسلمين في بلادنا، على كافة صنوفهم، لا يتفقون ولا يوافقون على ما تتضمنه كلمة Freedom من مكونات وما تحمله من دلالات.

إن حرية عدم التعرض للبيع والشراء أو الحرية المدنية لا تعني أن صاحبها حُر بمعاني اليوم، ما دام لم يحصل على حقوقه السياسية وحقوقه كإنسان.

الطريف هنا أن كلا النوعين من الحرية هو منتج غربي أوروبي لم تعرفه ثقافتنا ولم يكن في مخزوننا التراثي، وما مطالب الإصلاح في بلادنا اليوم إلا محاولات ابتدائية من أجل إعطاء المواطن بعض حقوقه، المقصود تحريره إنسانيًّا وسياسيًّا بعد تحريره مدنيًّا بإلغاء العبودية منذ زمن إبراهام لنكولن.

ولأن المتأسلمين يجعلون الدين والطائفة هي المرجعية التأسيسية فإن المعاني والدلالات التي تحملها كلمة Freedom تظل مستهجَنة وغير مقبولة في بلادنا، لأنها هي حقوق متساوية لكل إنسان ولكل لون ولكل جنس ولكل دين ولكل مذهب ولكل ملة، لكل إنسان ولكل وطن. لكن موروثنا يلغي أساس هذه الحرية بإلغاء مفهوم مساواة الجميع الذي هو الأساس المتين لكلمة Freedom.
على أية حال وحتى لا يضيع منا أصل الموضوع نكمل الاستماع للمهندس الذي رأى أن الإسلام لا يقر الحرية كمجرد حق للإنسان، لا، بل إنه ارتفع بها إلى مستوى التكليفات فكلفه بهذه الحرية وأمره بها، أو كما قال: «إن الارتفاع بالقيم الإنسانية الأساسية، وعلى رأسها الحرية، من مستوى حقوق الإنسان إلى مستوى التكليف أو الالتزام أو الشرط لاكتمال إنسانية الإنسان، يدحض هذا الزعم [أي زعم أن الإسلام لم يعرف معنى الحرية بمفهومها المعاصر]، بل يجعل الحرية من أبرز مقاصد الإسلام.»
ورغم هذا الذي يقول المهندس فيبدو أن الصحابة لم يعرفوا به، فقد كانت الحرية بالمعنى السياسي والديني؛ كحرية اختيار المواطن لمن يحكمه، أو حريته في التعبير والنقد والمعارضة، أو حريته في العمل والاعتقاد، كانت هي الحريات الغائبة بالمطلق في تاريخنا الإسلامي في ذلك الزمان، وعبر القرون الطوال من بعده وحتى يومنا هذا. أيضًا لا يشير المهندس إلى أن كل الآيات التي كانت تحمل مضمون الحرية دون لفظها كما يزعم، قد نسختها جميعًا آية السيف، فهل توجد حرية تحت حد السيف؟ كما لا يشرح لنا: إذا كانت الحرية تكليفًا إسلاميًّا، فلماذا مات النبي والمبشرون بالجنة وأصحاب بدر وكل الصحابة، وعندهم عبيدهم وجواريهم وسراريهم. ولماذا استمر العمل بنظام الرقيق وتجارته وفق نظم أسسها علم الفقه، نُدرسها لأبنائنا في مناهج الأزهر حتى تاريخه، مع أصول السبي وتوزيع الغنائم في شريعة الحرب حتى القرن العشرين؟ فهل غفل هؤلاء المسلمون عبر هذا التاريخ الطويل عن تكليف الحرية عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان؟ ثم ألا يعيب قولُه هذا نبيَّ الإسلام وصحابته الذين لم يُعرِّفوا الناس بدينهم وتكليفاته، وقصروا في إبلاغهم بتكليف الحرية، بل ولم يمارسوه معهم؟ بينما النبي وصحابته كانوا هم المصدر الذي سار عليه المسلمون من بعدُ طوال القرون الماضية؟ لذلك اختلت الحقائق بين يدي المهندس لتختلط بوهمه الذي يريد إثباته تكليفًا إسلاميًّا، فيرى أن الحرية كتكليف تشريعي تأخرت عن الزمن المكي إلى الزمن المدني، بينما لو أراد الصدق لاستند إلى آيات الزمن المكي التي كانت تُترك للناس فيه فرصة الاختيار بين ما جاء به الإسلام وبين غيره، لأن آيات الزمن المدني قد نسخت الآيات المكية بما فيها ممكنات الاختيار الحر بين البدائل وقضت تمامًا على فكرة حرية الاعتقاد، تعالوا نستمع إليه يقول: «إن الآيات المكية في القرآن هي الآيات التي تخدم البناء العقائدي والإنساني والحضاري، بينما تأخرت تلك التشريعات إلى المرحلة المدنية؛ وذلك لأن الحكم التشريعي إنما يجيء ثمرة للوجود والبناء الذاتي الإسلامي، فالحكم التشريعي لا ينشئ المجتمع المسلم إنما ينظمه ويحميه، ولعل ذلك كان سبب تأخر الآيات التشريعية إلى الفترة المدنية لتكون ثمرة لوجود فرد وجماعة وأمة وحضارة، أما لو كان الحكم التشريعي هو الأول فعلى من سيتنزل؟ ومن سيطبقه بغية العدل والقسطاس إذا غاب الشهداء على الناس.»
وما يمكن فهمه هنا أن الإسلام بدأ أولًا بإنشاء المجتمع المسلم ثم قام يضع له تشريعاته من بعد، وأنه ضمن تلك التشريعات كان التكليف بالحرية. ولو سألناه أين كانت هذه الحرية إذن ولماذا لم تكن واضحة للسلف الصالح كما هي واضحة لدى المهندس اليوم، أجاب بقوله: «إن الفكر الوارد إلينا من خلال التاريخ الإسلامي قد شابَهُ القصور الشديد في اتجاه التنظير للحرية نتيجة لأسباب؛ على رأسها الاستبداد السياسي الطويل الذي بدأ بمقتل الخليفة علي بن أبي طالب [كما لو كان معنى الحرية مفهومًا لمن كان قبل علي بن أبي طالب]. وقد دفع هذا الاستبداد معظم العلماء إلى صرف جهودهم في استنباط الحكم التشريعي من الآيات، دون الوقوف عند الأهداف الكثيرة التي جاءت من أجلها الآيات، فجعلوا الآيات موضوع الدراسة هي آيات الأحكام حتى يتم حفظ الدين للأمة في معاشها، دون صرف جهد كافٍ لآيات السُّنن وشروط الحضارة ومقومات القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني.»

وهكذا يرى المهندس أن الفقهاء القدامى جميعهم قد قصروا، وأنه هو من سيستكمل هذا التقصير، كلهم كانوا مغفلين وغير شجعان في مواجهة الاستبداد، فلم يعملوا لنا فقه الدين والدولة، والباشمهندس هو من سيعمله لنا. الحكام كانوا يضطهدون الفقهاء لذلك لم يعمل الفقهاء للمسلمين فقهًا سياسيًّا ودستوريًّا، وهو ما يعني أن الباشمهندس يعيش الآن في ظرف غير استبدادي، بدليل إقدامه على ما أحجم عنه فقهاء الإسلام الكبار التاريخيون، أو على الأقل أن حالنا السياسي الآن أفضل بكثير من حال المسلمين تحت ظل الخلافة عبر تاريخها … المصيبة أنه يريد استعادة هذه الخلافة؟!

وإذا كان قوله صحيحًا فإن السؤال سيكون: لماذا إذن لم يظهر فقه سياسي دستوري على يد ابن عبد الوهاب المجدد للمذهب الحنبلي حسبما يصفونه، وكان ابن عبد الوهاب حليفًا سياسيًّا لابن سعود وأسرته حتى تربعوا على عرش الجزيرة معًا؟

أين هذا الفقه في تجديد ابن عبد الوهاب في زمن أصبح فيه فقه السياسة وحقوق الإنسان والديموقراطية كحريات إنسانية معلومًا في العالم أجمع ومطبقًا في نصف الدنيا؟ لا نجد سببًا واحدًا لصمت ابن عبد الوهاب سوى يقينه الداخلي أن الإسلام هو دين فقط وليس دولة.

يقول المهندس نشأت جعفر إذن إن الاستبداد السياسي من بعد الراشدين كان هو السبب وراء اختفاء معاني الحرية كتكليف إلهي للمسلم، وقبل ذلك كانت تلك الحريات موجودة بدليل يتيم يقدمه في قوله: «رغم غياب كلمة الحرية من مفردات القرآن فإن هذا المفهوم كان غاية في الوضوح في ذهن الرعيل الأول للمسلمين، كما يظهر ذلك في مقصد عمر بن الخطاب مع عمرو بن العاص، في قول عمر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»

والقصة كما وردت تجدها في أكثر المصادر وهنًا وخفة، تُروى فيها من باب اللطائف ونوادر الطرائف، لأنها حكاية مستغربة على زمانها وليست من الأقوال المعتادة، لذلك تم تدوينها وتخليدها، فالتاريخ لم يُدوِّن لنا مشاهدته للخليفة عمر يصلي، ولم يخبرنا أن عمرو بن العاص كان يصوم، فهذه عاديات ومفترضات. أما هذه العبارة العمرية فقد أصبحت تروى كلون نادر وضنين من الزخرفة للقول والدعاية له، وإلا ما استمرت العبودية قائمة في بلاد المسلمين حتى النصف الثاني من القرن العشرين.

إن العبارة ظلت عبارة دون العمل بها لتكون مُعينًا ومُعاونًا للفِرق التي تطالب اليوم بحكمنا بالإسلام وبالحرية، رغم أن الرواية ذاتها مفككة ليس لديها يقين بمن هو بين أبناء عمرو بن العاص الذي خاض السباق وضرب المصري؟! فهي قصة لشخص مجهول، وهذا المجهول هو نجم الرواية وبطل القصة، هو ابن الأكرمين الذي تم التمثيل به في حفل بانورامي بيد ابن الأسفلين أو ابن الأذلين، والبطل والنجم الثاني للدراما (أي ابن الأسفلين) لا نعرف له بدوره اسمًا ولا قبيلة، في مشهد حضره الصحابة وبرعاية من الخليفة نفسه.

والقصة — كما أوردها الأبشيهي في كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، ص١١٨» — تحكي حكايتها فتقول: «بينما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب — رضي الله عنه — قاعد، إذ جاءه رجل من أهل مصر [لاحظ أن البطل الأول في القصة هنا مجهول فهو رجل من أهل مصر فقط]، فقال: يا أمير المؤمنين هذا مقام العائذ بك. فقال عمر — رضي الله عنه: لقد عُذت بمجير، فما شأنك؟ فقال: سابقت بفرسي ابنًا لعمرو بن العاص [مجهول بدوره فهو مجرد ابن عمرو]، وهو يومئذٍ أمير على مصر، فجعل يقمعني بسوطه ويقول: أنا ابن الأكرمين، فبلغ ذلك عمرًا أباه فخشي أن آتيك فحبسني في السجن، فانفلتُّ منه، فهذا الحين أتيتك. فكتب إلى عمرو بن العاص: إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت وولدك فلان [لاحظ ولده فلان]، وقال للمصري: أقِم حتى يأتيك. فأقام حتى قدم عمرٌو وشهد موسم الحج، فلما قضى عمر الحج وهو قاعد بين الناس وعمرو بن العاص وابنه إلى جانبه، قام المصري، فرمى إليه عمر بالدِّرَّة. قال أنس: فلقد ضربه ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين، ثم أقبل على عمرو بن العاص وقال: يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ فجعل عمرٌو يعتذر إليه ويقول إني لم أشعر بهذا.»

وعلى هذه الرواية ملحوظات:

  • أولًا: أنه رغم كون قائلها هو الإمبراطور والحاكم في خلافة عظيمة، فإنها لم تجد طريقها إلى التنفيذ، فلم يتم بموجب ذلك أي إعلان أو قرار بإطلاق سراح عبيد الإمبراطور، ولا حتى العبيد المسلمون منهم، لأنهم لم يولدوا أحرارًا، هنا الحر مقابل العبد، ولم يتم تحرير العبيد بقولة عمر المشهورة؛ لأن تطبيق القول يعني نسخ آيات قرآنية غير منسوخة تُشرِّع العبودية وملك اليمين ووطء السبايا، فماذا سيكون مصير وحال آية عتق الرقبة ككفارة لليمين لو طبق عمر عبارته اللطيفة؟
  • ثانيًا: إن العبارة تخص شكوى لعربي ممن احتلوا مصر احتلالًا استيطانيًّا، واعتادت كتبنا التراثية على تسميتهم بالمصريين، وبأهل مصر، أي أصحابها الحقيقيين دون قبطها، والقبط هو الاسم الذي كان يُستخدم في حال الدلالة على مصري من أهل مصر التاريخيين ومواطنيها الأصلاء، وهو ما يتكرر في جميع الروايات الإسلامية، ولعل أبرزها قول التاريخ الإسلامي بثورة المصريين على الخليفة عثمان وسفرهم إلى عاصمة الإمبراطورية يثرب حيث قتلوا الخليفة، بينما كان القتلة الذين يستطيعون الذهاب إلى يثرب وتنفيذ ما يريدون، هم فقط صحابة وأبناء صحابة وتابعون ممن احتلوا مصر، ولم يكونوا مصريين أو قبطًا حقًّا.

ولو كانت الشكاية في الرواية مقدمة من قبطي لقالتها المصادر، لكن ذلك كان هو المستحيل عينه، لأنه من الأصل لا يسوغ أن يسمح ابن عمرو بن العاص لنفسه بمسابقة مصري قبطي فهو عبد من عبيده، وهو ما لا يتفق مع تقسيم العرب للناس إلى منازل ودرجات وطبقات. ناهيك عن لغة الشاكي العربية الفصيحة، وعن استقبال الخليفة له والاستماع إليه، لأن الخليفة والجزيرة كلها لم تستقبل أحدًا من أهالي البلاد المفتوحة إلا كأسرى عبيد أو سبايا من النساء، إضافة إلى كون عهد الذمة العمري لا يسمح لأهل الذمة بركوب الخيل، لأنها مَركَبٌ كريم شريف جليل عُقِدَ بنواصيها الخير، ولو فعل ابن العاص ذلك مع مصري قبطي لعوقب لمخالفته بنود عهد الذمة، الذي لم يكن يسمح لأهالي البلاد المفتوحة بالركوب أصلًا، وإن ركب فلا يركب ما هو أبعد من الحمار، وإن ركبه يركبه دون سَرج، بل على الأُكُف الخشنة الليفية، وأن يُعرِّف عن نفسه ويعلن عن طبقته الواطية بالركوب من جانب واحد.

والرواية إذ تشير إلى ظلم لَحِقَ بعربي فاتح من عربي فاتح لتفاوت الرُّتب والمنازل والدرجات الطبقية بين الفاتحين، فهذا قرشي والآخر — والحال كذلك — يَمَنيٌّ على الأرجح، وكيف استطال هذا الظلم الفادح واستفحل بسبب لعبة سباق وليس بسبب شأن سياسي خطير أو اجتماعي أو تشريعي، وكيف حبس الصحابي عمرو بن العاص ذلك اليمني المظلوم المضروب خشية بلوغ الرواية للخليفة، ثم كيف كذب الصحابي عمرو بن العاص وأجاب الخليفة بأنه ما عَلِم شيئًا من الأمر.

تُرى ما كان شأن بقية البشر في البلاد المفتوحة تحت حكم العرب في دولة الخلافة؟!

الأهم أن الشهادة التي يستدعيها المهندس لا تسعفه ولا تقف في صفه، لأن كلمة «حر» في عبارة الخليفة تشير إلى معنًى واحد كان مفهومًا زمانَها، وهو أن الحر هو من لا يُقرع بالعصا لأنه حر بالميلاد، والعبد وحده هو من يُقرع بالعصا، الحر هو من ولدته أمه حرًّا ولم تلده عبدًا مشترًى. المشكلة حسبما يريد المهندس، ولو سرنا على نهجه في التأصيل والعودة للسلف والتاريخ الإسلامي الأول، ولا بد أن يفهم هو نفسه، أنه كمصري من أهل مصر الأصلاء، بمعنى المسلمين الموالي من الأقباط، هو عبد ضمن عبيد الإمبراطورية، لأن كل أهل البلاد المفتوحة كانوا عبيدًا مُخارَجين، يدفعون ضريبة مخارَجتهم خراجًا للسيد العربي المالك، ولو سابق المهندس ابن عمرو بن العاص، حتى لو كان المهندس من المسلمين الموالي (المسلمين من غير العرب)، فلربما كان حكم الخليفة وقوله قد تغيرا، أما لو كان قبطيًّا، فلا شك أنه ما كان قادرًا على الوصول إلى الخليفة إلا كأسير يُقرع بالعصا.

وهكذا جعل المهندس الجهاد وسيلة لتحرير البلاد والعباد حول جزيرة العرب، رغم أن الآيات قالت: جاهدوا الكفار والمنافقين، ولم تقل: حرروا البلاد، ولا خطر لها أن ما تفعله هو تحرير، قالت: قاتلوا الكافرين كافة، مما يعني أن غرض الجهاد هو إسقاط الحكومات وليس الدعوة للدين أو الحرية، وإنما أخذ مكان هذه الحكومات.

المهندس يريد تغيير مسار الجهاد المقدس الذي كان نشرًا للدعوة بشعار الراشدين: الإسلام أو الجزية أو الحرب، ليصبح إسقاط حكومات من أجل إقامة حرية وديموقراطية محلها، يعني أن بلادنا هي التي عرفت الحرية والديموقراطية بعدما جاهدها وفتحها العرب، رغم أن من يؤمن بالحرية والديموقراطية يؤمن بالضرورة أن الحكم لا يتم تغييره بالعنف.

المهم … يتابع المهندس فيغالي ويبالغ في الدعاية لكنزه الثمين عن الحرية كتكليف والذي اكتشفه لنا أخيرًا مستنبطًا داخل الإسلام، فيقول: «ومن واجب الإنسان المكلف ليس فقط السعي للحصول على الحرية والمحافظة عليها والدفاع عنها، ولا يسمح لنفسه أو لغيره بالافتئات عليها، بل إن عليه أيضًا إلزامًا وواجبًا بالدفاع عن حق الآخر في الحصول على الفرصة العادلة للتعرف على ملامح الحرية، وأن يوفر له المناخ المناسب لممارستها وتذوق نتائجها وآثارها. وما فُرض الجهاد إلا لذلك الهدف؛ تحرير الإنسان من الهيمنة على العقول والمقادير من قِبَل سلطات باغية مستبدة، ثم مِن بعدها من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.»

إن هؤلاء القوم يصرون على تخويفنا منهم وعدم الاطمئنان لهم ولا لِلَحظة، لكثرة ما يكذبون ويزورون على المسلمين، فالرجل لا يلحظ أبدًا أن مفهوم التكليف الذي يفاخر به، ولو كذبًا، يتعارض معنًى ومبنًى مع مفهوم الحرية، لأن التكليف أمر تتبعه طاعة وانصياع من المكلف، ثم يقول هنا إنه ما تم فرض الجهاد إلا لهدف واحد هو تحريرنا من الهيمنة على عقولنا وعلى مقاديرنا من سلطات باغية مستبدة كانت تحتل بلادنا، وهكذا فالفتوح التي حدثت لبلادنا كانت تضحية نبيلة من الفاتحين سالت فيها دماؤهم في حروب استمرت خمس سنوات منذ دخولهم العريش حتى وصولهم مدينة الإسكندرية، من أجل تحريرنا من الهيمنة الثقافية الرومية التي هيمنت على عقولنا، ومن الاستبداد الروماني السياسي والعسكري الذي هيمن على مقاديرنا. ومن بعدها من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؟ تُرى هل أسقط الفاتحون الجزية من شريعة الحرب الإسلامية على من لم يؤمن وأمنوهم على حرية اختيارهم، دون ضغط وإكراه يتنافى مع كلمة حرية أو اختيار حتى نؤمن أو نكفر؟ لقد كان شعار الفتوح هو الإسلام أو الجزية أو الحرب، فأين هو التحرير الذي يتحدث عنه، والحرية التي يُغنيها علينا؟

لقد ضحى العرب علشان خاطر عيوننا يا خلق! هذا ما يقوله لنا واحد ممن يريدون حكمنا!

بعد كل ما حدث من إرهاب، وسلب، ونهب، وسبي، وهتك أعراض، وخطف نساء وأطفال، وحرق، وجز، وسلخ، وانهيار لحضارة بكاملها، والقضاء على اللغة التي كانت تحملها، واستيطان العرب مصر بعد الاحتلال وعدم خروجهم منها بعد تبليغنا بالإسلام، بعد كل هذا طلعنا في الآخر مديونين للعرب! تأمل يا مؤمن!

إن المهندس يخرج بالجهاد عن هدفه الذي حدده الله سبحانه وتعالى، وهو الوظيفة الدينية لنشر دعوته بقتال المشركين والكافرين. وقد لخص الراشدون ذلك في شعارهم التاريخي المعلوم للكافة: الإسلام أو الجزية أو الحرب، والآيات القرآنية بهذا الشأن صريحة ومحكمة الحُكم، فهذه آية السيف، وهي الخامسة من سورة التوبة، تعلن الأمر الإلهي بوضوح: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ (التوبة: ٧٣)، كذلك قال تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (التوبة: ٢٩).

أما المهندس فيدعو إلى جهاد لم يقل به القرآن ولم يذكره تصريحًا ولا تلميحًا، مع غضه الطرف بالكامل عن الجهاد كما هو في القرآن الكريم؛ وهو مجاهدة الذين لا يؤمنون بالإسلام، وقام بإلغاء شعار الجهاد لنشر الدين ليستبدله بشعار إسقاط الحكومات، وتولي الحكم بدلًا منها بادعاء أنها حكومات باغية غير مسلمة، ليستخدمه ضد الحكومات الحاكمة القائمة في العالم الإسلامي اليوم، وهو أمر لا يعرفه إسلامنا، وبخاصة السُّني منه الذي أمرهم أن يطيعوا الأمير حتى لو كان فاسقًا، وحتى لو ضرب ظهورهم وأخذ مالهم في أحاديث واضحات صحاح.

إن دعوة المهندس هي دعوة لفتنة كبرى جديدة؛ حيث ادعى كل فريق أن الآخر هو الفئة الباغية، مستخدمًا الناس وسيلة للقضاء على السلطة الباغية، ليُحِلوا هم محلها فريقًا أشد بغيًا وظلمًا واستبدادًا حسبما ينطق به التاريخ الإسلامي كله.

إن من يسعى إلى الحكم بالعنف فقط هي العصابات الإجرامية والمافيات التي لا تخدم ديموقراطيات ولا حرية، فليس من الديموقراطية الغدر بالحكومات القائمة للجلوس محلها على العرش.

أم تُرى المهندس لا يرضى عما حدث في تاريخ السلف الصالح من فتوح تحت شعار الإسلام أو الجزية، وما ترتب عليه من زيادة عدد العبيد باستعباد شعوب كانت حرة قبل الفتح؟ أم تُراه يلبس ثوب الحريات الديموقراطية مؤقتًا حتى يجلس على العرش ليعيدنا إلى صحيح الدين من بعدُ، بإعادتنا عبيدًا للخلافة؟

إن المهندس يجعل العرب أول أمناء على الحرية في التاريخ، رغم أن مقدسهم لا يعرف لها معنى سوى أن تكون غير عبد، وأنهم ألزموا أنفسهم لذلك بواجب الدفاع عن حقنا في التعرف على ملامح الحرية، لذلك جاءوا إلى بلادنا، واستباحوا أي قرية كانت ترفع راية المقاومة، وتَحَول الناس فيها إلى عبيد رسميًّا يُباعون في الأسواق، وأعْفَوا قرًى أخرى من الإبادة والاستعباد لأنها أعلنت الإسلام، أو الاستسلام لكن بشرط دفع الجزية والتي ضاعفها ابن العاص عن جزية الروم مرتين. وهكذا كان الهدف تحرير الإنسان في بلادنا من الهيمنة الرومانية على عقلنا ومقاديرنا!

الرجل حوَّل الحرية إلى تكليف يتم بموجبه احتلال بلاد الآخرين احتلالًا استيطانيًّا وإحلاليًّا. وكل ما حدث كان هو حرية العرب في احتلالنا. بينما كان الفاتحون لا يعرفون أيًّا من تلك المعاني التي يطرحها علينا الباشمهندس هنا، وقالوها بصريح العبارة: هي غزوات تبغي الغنائم، وأن هذه الغنائم قد أحلها القرآن فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا واعتبرها طيبات، «وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي» (حديث نبوي)، وأن «من قتل قتيلًا فله سَلَبه [أي سلب ما يملك] ومن أسر أسيرًا فهو له» (حديث نبوي)؛ أي يتصرف فيه بأن يفتديه بمال أو يستعبده أو يبيعه عبدًا لغيره.

هذا رغم أن المهندس لا شك يعرف أن آية «من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» لا تدل على السماحة الحرة التي يريد تسريبها لنا، بل هي تهديد ووعيد كما ذهبت التفاسير الكبار وليست أمرًا، ناهيك عن كونها منسوخة ضمن كل المنسوخ بآية السيف؛ فآيات حرية الإيمان من الكفر وأن لكم دينكم ولي دين، ليست اعترافًا للآخرين بأديانهم، بل هي إفادة خبرية تحمل التهديد والوعيد كما ذهب المفسرون، وأن آية السيف هي السارية.

يقول فقهنا وأعلامه الكبار حول الآيات: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا قد نسخها قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (الإنسان: ٣٠). وقال بذلك هبة الله بن سلامة في كتابه ص٨٨، وهبة الله البارزي في كتابه ص٣٩-٤٠، والإمام أبو عبد الله محمد بن حزم. وقد رد ابن الجوزي بقوله: وهذا تخليط في الكلام، إنما هو وعيد وتهديد وليس بأمر (ص١٩٢)، وزاد المسير (ج٥، ص١٣٤).
ومثلها أيضًا الآيات: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة: ٢٥٦)، هي من الآيات المنسوخة حكمًا، وقال بذلك ابن حزم وهبة الله بن سلامة (ص٤٤) وهبة الله البارزي (ص٢٣)، وقال القرطبي: «اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أقوال …» ويذكر القول الثاني أنها «ليست بمنسوخة، وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة، أنهم لا يُكرَهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين نزل فيهم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ (التوبة: ٧٣).» وهو ما يعني أن حرية العبادة لأهل الكتاب مشروطة بدفع الجزية وغير متاحة لغيرهم، وهو ما يخالف معنى الحرية بالكلية أو كما يقدمه لنا المهندس جعفر.
وإزاء عدم وجود كلمة حرية بدلالتها التي نفهمها منها اليوم في المقدس الإسلامي، وإزاء عدم وجودها في أي مبحث إسلامي فقهي، فإن المهندس يلقي لنا الكلام إلقاء معيبًا في إنشاءٍ لفظي هو نوع من شِعر الفخر بما لا يملك، على عادة العربي البدوي، استمع إليه يقول: «على الرغم من عدم ذِكر الحرية بلفظها في القرآن الكريم فإن الباحث بين جنباته ومن خلال آياته سوف يجد الحظ الوفير الذي أخذته من دلالات ومعاني الحرية بأطيافها المختلفة. يجب أولًا أن نحدد أصناف وأنواع الحريات التي أجمعت الخبرة الإنسانية المتراكمة على أنها مطلوبة وضرورية للإنسان. فإذا وضعنا أمامنا أصناف الحرية وتقسيماتها التي انتهى إليها إعمال العقل البشري، والتي تطورت كحصيلة للتجارب الإنسانية المتراكمة، أمكننا استخراج الآيات على أنها مطلوبة وضرورية للإنسان؛ الآيات التي تشير أو تدعم أو توضح أو تضيف أو حتى تخالف هذه الأصناف من الحرية وتراها مخالفة لمقصود الإنسانية.»

هنا لن نستطيع أن نفهم كيف أن موضوعًا ما للبشرية جميعًا وهو سر كرامة الإنسان مثل موضوع الحرية لا تنص عليه الآيات صراحة، خاصةً أن موضوعًا بهذه الأهمية لو كان شاغلًا للدين لاستحق تنزيل سورة من السور الطوال باسم سورة الحرية التي لا شك أنها أهم من البقرة، تأكيدًا وترسيخًا لها. لا نفهم مع دلالات معنى الكلمة اليوم أن نستسيغ دعوة المهندس لنا بالبحث بين جنبات القرآن حتى التمكن من تتبع آياته لنكتسب ممكنات استخراج الآيات المطلوبة اليوم. أي أنه كان على الإنسان أن ينتظر هذه الأزمان الطوال من زمن الدعوة الإسلامية إلى اليوم، حتى يكتشف الحرية بنفسه ثم يعود يبحث عنها في قرآنه، بعد أن تم حرمان المسلمين منها طوال تلك العهود، لأن المهندس لم يكن قد وصل بعدُ ليدلهم على الحرية وكيف نجدها في القرآن. بدلًا من أن يحسم القرآن ذلك الشأن الهام والأخطر بشكل واضح لا يقبل لسًّا ولا فحصًا ولا بحثًا ولا تدقيقًا في جنبات الآيات وممكنات استخراج ما نريد.

هذا ما كان عن عدم وجود معنى الحرية بدلالات اليوم في القرآن، أما عن عدم وجودها في كل علوم الفقه التي تملأ أرفف المكتبة الإسلامية حتى تنوء بها، فإن المهندس يشرح الأسباب في قوله: «إن قبول الأمر الواقع دفع الفقهاء إلى مزيد من الانكباب والاستفاضة في شروح العبادات والمعاملات على النحو الذي وصَلَنا. ولهذا نجد هذا الثراء والغنى في فقه العبادات والمعاملات، ولكن في المقابل ضمورٌ وضعف في الفقه السياسي والدستوري باستثناء كتابات معدودة.»

إن المهندس وهو يبحث عن مبررات لعدم الاهتمام بمبحث الحرية في فقهنا يتعثر في تفسيرات تورده هو نفسه موارد التهلكة، لأن قوله هذا إنما يعيب نبي الله صلوات الله وسلامه عليه، ويعيب كل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، لأنهم المصدر الأصلي المستقى منه هذا الواقع الذي يُحيلنا إليه المهندس، كسبب لعدم اهتمام فقهنا بمفهوم الحرية، وهو واقع كان يخلو من أي فقه سياسي أو دستوري لأن تلك أمور لم تكن ضمن اهتمامات الإسلام حتى تلقى عنايته وقوله فيها، لأن الإسلام دين فقط ولا علاقة له بالدولة وسياستها ونظمها الحاكمة والدستورية وقوانينها وأنظمتها الاقتصادية. ثم إنه من المستنكَر المستنكَف القول إن المسلمين ظلوا مخدوعين لا يعرفون شيئًا اسمه الحرية حتى جاء المهندس جعفر ليفهمها ويشرحها لهم. بينما حقيقة ما حدث هو أن هناك جديدًا علينا لم نكن نعرفه هو الحرية، وأنها كشف إنساني عالمي فرض نفسه على عالمنا اليوم كقيمة عظمى، مما اضطر المهندس وفريقه إلى كتابة ما يكتبونه لنا.

ويستمر كاتبنا الإسلامي في شرح أسباب عدم الاهتمام بمعاني الحرية في تراثنا، مفترضًا أنها لا بد كانت موجودة هناك في مكان ما من كتبنا ومقدساتنا وفقهنا فيقول: «ولا يعني ذلك أن المفكرين المسلمين لم ينشغلوا بعلاقة الحاكم والمحكوم، فالواقع أنها شغلتهم دائمًا، وإنما من خلال مفهوم آخر هو مفهوم العدالة. فالحاكم مُخوَّل بالحكم بشرط أن يكون عادلًا في حكمه، ومن هنا شعار «العدل أساس المُلك»، لكن الوجه الآخر هو تمتع الناس بالحرية، ودفاعهم عن حقهم فيها، وهو ما قيده الفقهاء خشية انفراط عِقد الأمة وحدوث الفتنة، فكانت فتنة الاستبداد أم الفتن التي وقع فيها المسلمون، فأجهضت نهضتهم وأثمرت تدهور حضاراتهم وأنجحت مؤامرات عدوهم.»

اعتراف الرجل هنا شديد الوطأة، فلم يتم السماح للناس بالحرية ولا بطلب حقوقهم الإنسانية وفق مفهوم العدل الإسلامي، مما أدى إلى ترك الحكم عدلًا أو ظلمًا شأنًا مطلقًا للحاكم وحده دون مساءلة، والسبب في ذلك هو فقهنا الذي قيَّد هذه الحرية خشية انفراط عِقد الأمة في فتن تمزقها. والرجل هنا صادق مائة بالمائة، لأن أمة تقوم على الدين أو المذهب سبيلًا للانتماء والهوية لا بد أن ينفرط عِقدها بين أديان ومذاهب ومِلل ونِحَل شتى، إذا ما أخذت هذه الفئوية والطائفية حريتها.

وكان هذا واقع تاريخنا وفقهنا لأنه كان لا يعرف معنى الوطن والمواطنة، فالبدوي في هجرته التي لم تكن تتوقف وراء الماء والكلأ، لم تترك له تلك البداوة فرصة الثبات والاستقرار في مكان مدة زمنية تسمح بظهور معنى الوطن والمواطنة. لم يكن العربي يعرف هذا المعنى ولم يكن ضمن قاموسه. لذلك لا يعرف تاريخنا الذي كتبه العرب والمسلمون المتخصصون معنى الوطن والمواطنة، وكذلك لا يعرف فقهنا ماذا يعني الفقه الدستوري أو السياسي، لأن دعوة الإسلام لم تكن معنية بشأن السياسة والحكم والدولة. أما المعيب بشدة في قوله ما قال من هنيهة، فهو أننا كنا مخدوعين في قدرة علمائنا التاريخيين على فهم روح الإسلام (الحرية) لأربعة عشر قرنًا، حتى أتى المتفيقهون المعاصرون ليعيدوا اكتشافها لنا وفقًا لمدلولات العصر والأوان.

ندخل الآن إلى صُلب فلسفة الحرية في الإسلام، حيث عدة نقلات تشكل الأعمدة الأساسية التي يقيم عليها المهندس جعفر عمله كله، فيدقق في النقلة الأولى لينتقي من القرآن الآيات التي سيتفحصها ليعرف منها معاني الحرية في الإسلام، فيَدلِف إلى الآيات: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا.
ويعقب قائلًا: «الآيات تدلنا على أن المقصود بالأمانة في الآية هو الحرية، فهي الحرية المتأسسة على تميز الإنسان بالعقل، والذي هو مناط التكليف.»

وهنا لا بد من التساؤل كيف يستقيم تفسير المهندس للأمانة بأنها الحرية التي حملها آدم منذ خُلق عند رب العزة، مع وجود آيات في القرآن تنظم وتقنن امتلاك العبيد والجواري والسبايا، مع فقه كامل يشرح ذلك ويُقَوْنِنه، أم أن تلك الأمانة عندما عُرضت على الإنسان كان عربيًّا قرشيًّا لأنه الوحيد الذي كان حرًّا وفق الشريعة، وهل آدم الذي فاز بالحرية دون أجرام الكون ليس من بين نسله عبيدُ البلاد المفتوحة وزنوجُ الإمبراطورية الإسلامية وإماؤها وجواريها وأسواق نخاستها؟

إن رب العزة بهذا المعنى قد عرض أمانة لا لزوم لها ولا فائدة منها ولا طائل من ورائها على السموات والجبال والأرض، بدليل أنهن رفضنها دون عقوبة تَرَتَّبت على هذا الرفض، ودون أن يؤثر هذا الرفض عليهن في شيء؟ وإذا قبلن ماذا كن سيكسِبن؟ لا يحيطنا مأثورنا بشأن ذلك شيئًا؟!

إن الفخاخ التي ينصبها لنا هؤلاء المشتغلون بالدين علينا، غالبًا ما يكونون هم أول من يقع فيها، فلو أخذنا بقوله إن الأمانة المقصودة في الآيات هي الحرية كما نفهمها اليوم، فيبدو أنها كانت شيئًا يصعب احتماله لمشقته حتى عجزت السموات والأرض والجبال عن قبول تحملها، وأعلنت عجزها عن ذلك، بينما الحرية الصادقة ليست مشقة، بل هي حقوق نتمتع بها ونشعر معها بآدميتنا وكرامتنا وسعادتنا. ثم كيف تُعرَض الحرية على من لا يشعر بها ولا يمارسها كالجبال والأرض والسموات؟ إن الحرية في المقام الأول شعور واعٍ بها مصحوب بالمتعة والنشوة والسعادة، وكلها مشاعر وأحاسيس تحتاج لكائن حي لا إلى كائنات جامدة لا تفهم ولا تعي ولا تحس ولا تشعر. ثم لو قلنا إن تلك الأمانة هي الحرية فإن المعنى لن يستقيم، لأن الإنسان عندما قَبِلَ هذا الحمل الثقيل لم يتحول إلى الأفضل، فلم يرتقِ مثلًا إلى رتبة الملائكة بل تحول إلى ظَلُوم جهول. فهل من يتحمل مسئولية الحرية ويرضى بها يصبح ظلومًا جهولًا؟ أم أن الظلوم الجهول هو من لا يرضى بها؟

أم أنه يجعل الآيات بهذا المعنى تربط بين الحرية وبين الجهل والظلم؟ وأن الإنسان الحر هو بالضرورة جاهل وظالم؟

ثم يعرض الدكتور قول مفسرينا بشأن الأمانة وماهيتها فيقول: «قال الزمخشري: يريد بالأمانة الطاعة، فعظَّم أمرها وضخَّم شأنها، وعرضها على الجمادات، وإباؤها وإشفاقها مجاز. إن ما كُلِّفَه الإنسان بلغ من عِظمه وثقله أنه عُرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواها وأشدها أن تتحمله وتستقل به، فأبت حمله أو الاستقلال به وأشفقت منه، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته، حيث حمل الأمانة ثم لم يفِ بها (الكشاف، ج٢، ص٤٤١). وقال الإمام ابن كثير: قال العوفي عن ابن عباس: يعني بالأمانة الطاعة عرضها الله عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها فقال لآدم: إني قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال: يا رب وما فيها؟ قال: إن أحسنْتَ جُزيتَ وإن أسأتَ عُوقِبْت، فأخذها آدم فتحملها. وقال علي بن طلحة عن ابن عباس: الأمانة هي الفرائض عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوْها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك، وأشفقوا منها، من غير معصية، ولكن تعظيمًا لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها. وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن البصري: إن الأمانة هي الفرائض. وتتلخص أقوال المفسرين في أن الأمانة هي: التكليف أو الطاعات أو الفرائض أو قبول الأوامر والنواهي بشروطها، وأن الإنسان قد ظلم نفسه بحمله هذه الأمانة، لأنه يحمل ما لا يطيق جهلًا منه بطاقته. ونلاحظ أن المفسرين خلطوا بين أساس التعاقد الذي هو التكليف، وبين شروط هذا التكليف وهو الطاعة، فأطلقوا اسم الطاعات على التكليف، فأصبح شرط التعاقد، وهو الطاعة، اسمًا لأساس التعاقد وهو التكليف، كما أنهم لم يذكروا الشرط الآخر، وهو الحرية، صراحةً بل ألمحوا إليه بالقول: إن أحسنت جُزيت وأن أسأت عُوقبت. لكن التكليف ليس بالأمر القابل للعرض ناهيك عن القبول أو الرفض من المخلوقات، حيث هو أساس خلق كل هذه الكائنات، فيمتنع لدينا تفسير الأمانة بأنها التكليف. ويكون المقبول أن الأمانة التي عُرضت على الكائنات هي قبول أو رفض شرطي التكليف وهما: الطاعة والحرية، وليس التكليف ذاته.
وحيث إن السموات والأرض كائنات جُبِلَت على الطاعة، بما يعني أنها مخلوقات لا تعرف إلا أن تكون طائعة لأنها مفطورة عليها، فيصبح عرض الأمانة بمعنى الطاعة لا محل له، فلا يبقى لنا إلا شرط الحرية؛ حرية الاختيار بين البدائل، وأن تملك القدرة على الفعل والترك، وأن تقوم بواجبات التكليف أو ترك هذه الواجبات. يقول الفخر الرازي: لم يكن إباؤهن كإباء إبليس في قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (الحجر: ٣١)، من وجهين؛ أحدهما: أن السجود كان فرضًا أما الأمانة فكانت عرضًا. وثانيهما: أن الإباء في السجود كان استكبارًا وها هنا استصغارًا لأنفسهن.»

ومن هنا لا يكون مقبولًا أن يقول الزمخشري في الكشاف إن الإنسان أخذ الأمانة ولم يفِ بها، فكيف لا يفي بالحرية؟ إن الحرية كسب رفيع وليست دَينًا ندين به لمانح، والحرية ليست عبئًا تعجز الجبال عن حملها، بل هي تخفيض للأعباء ورفع للعبودية والتسلط والسيطرة، فالحرية لا تؤلم الحر ولا تزعجه بقدر ما تزعج العبد الذي اعتاد عول سيده له، فإن منحته الحرية عجز عن تدبير أموره وكسب عيشه.

كذلك كان لا بد للمهندس من رفض تفسير الأمانة بأنها الطاعة، لأنه سيتنافى مع طبائع الخلق وقوانينه، فالجمادات أرضًا وجبالًا وأجرامًا كونية تلتزم الطاعة المطلقة لقوانين محكمة مخلوقة فيها يوم خُلقت، من جاذبية إلى طرد مركزي إلى سرعات دوران محددة حول المحور وحول المجموعة ثم حول مركز المجرة. كل ما نراه يشير إلى التزام الجمادات الكونية بالطاعة المطلقة للقوانين، فكيف نعرض الطاعة عليها بينما هي مجبولة على الطاعة وهي مكون من مكونات طبيعتها؟ وهو ما يعني أن الأمانة ليست هي الطاعة، لأن الله يعلم جيدًا أنه قد خلق أجرامه وفق قوانين لا تستطيع أن تخالفها.

وإزاء قبول الإنسان للحرية لا بد أن يتساءل العقل: إن آدم كان بحاجة إلى قدرة تحليل منطقي للوصول إلى قرار صائب ليقبل أو يرفض، والعدل يقتضي أن يكون قبوله للأمانة قد تم بعد فرزٍ وفحص وتحليل واختبار ثم اختيار، وهذه القدرات كلها لا تعني أكثر من الحرية، فيكون المعنى أننا نعرض على الإنسان شيئًا هو يملكه بالفعل سلفًا. أما لو قلنا إن الإنسان قَبِلَ الأمانة وهو لا يعلم ما هي، فهو ما يعني أن تفسير المهندس يحمل معنى التدليس والغش والخداع، وأن هذا المعنى يمارسه المهندس معنا، كما سبق ومارسه رب العزة مع مخلوقه الضعيف آدم، رغم معرفته بعجزه، وقام بتكليفه بما لا طاقة له به، بل بما لا طاقة للجبال والأرض والسموات باحتماله. وقد تم هذا التكليف في حين كان الإنسان غير مُدرك لأعباء ما هو مكلف به نتيجة لجهله، وهو ما لم يخلقه الإنسان في نفسه ولم يصنعه بيديه فهو مخلوق هكذا. وكان مفترضًا أن يُعفِي هذا الجهل آدم من المسئولية، إذ لا يجوز تكليف الجاهل بما يعجز عن أدائه وهو جهل لا يَدَ له فيه، والأسوأ أن يكون الآمر بالتكليف يعلم ذلك، لأن ذلك استغلال لجهل الجاهل وعجزه، وتكليفه بما هو فوق طاقة أدائه، ثم بعد ذلك تتم محاسبته؟! إن الأبله والقاصر والمجنون والجاهل لا يُكلَّفون، لأنهم سيعجزون عن الأداء ويقعون تحت طائلة العقاب، وهو ما ينافي الأمانة أولًا والعدالة ثانيًا، ويرسم بذلك صورة قبيحة لرب العزة. ثم كيف يكون الظلوم الجهول حرًّا؟! إن سادتنا فلاسفة الإسلام السياسي يقعون في متاهات من الشراك والفخاخ عندما يحاولون الدس في الإسلام ما ليس فيه.

هذا إضافة إلى أن رفض السموات والأرض والجبال لحمل الحرية (الأمانة)، هو دليل على وجود إرادة عند هذه الجمادات لتقبل وترفض، ودليل وجود عقل يفكر ويمايز ويختار بين البدائل ليقرر بعدها القبول أو الرفض، والمهندس يأخذنا بذلك إلى زمن بدائي أيام كان الإنسان يتصور أن للجمادات عقلًا وإرادة وتصرفًا، ولم يكن قد اكتشف بعدُ القوانين التي تدير هذا الكون قسرًا لا خيار فيه، فكان البدائي يتصور الكون يفعل ويتصرف كالبشر لجهله بقوانين ذلك الكون، فكان يعتقد أن الشمس إنما تطلع من الشرق طاعة لأمر الله، وأنها لن تطلع من المغرب لو أمرها فرعون بذلك، لأنها ذات فهم ووعي وتمييز وآذان وعقل واستطاعة.

إن الآيات حينذاك كانت تخاطب البشر على قدر عقولهم، لأن معنى ما يقول المهندس هو أن هذه الجمادات الكبرى عندما عرض الله عليها الأمانة، بحثت العرض وعرفت التفاصيل واختارت الرفض لأنها لا تتحمل هذه الأمانة، يعني الأمانة كانت شأنًا معلومًا لدى الجبال والأرض والسموات، وفقهاؤنا حتى اليوم لا يعرفون بالضبط ما هي هذه الأمانة: هل هي التكليف، أم هي الفروض، أم هي الطاعات، أم هي العقل؟ والمهندس جاءنا اليوم عارفًا أنها الحرية ليُعْلِمَنا باجتهاده، ليأخذ ثواب الاجتهاد دون يقين بصادق اجتهاده، بينما لم تتم إثابة الجبال ولا السموات ولا الأرض على اجتهادها وفهمها بيقين ما هي هذه الأمانة؟!

مع الملاحظة أن التكليفات لا تُقابَل بالحرية بل بالطاعة، وكان نبي الإسلام نموذجًا لذلك فكان يصدع بأمر ربه، ويبلِّغ فقط ما هو مأمور بتبليغه دون حرية التدخل بالقبول أو الرفض أو الاختيار، حتى إن مشاعره كالفرح والحزن لم يكن له حرية فيها، فقد لامه ربه لحزنه على عدم إيمان بعض الناس به.

هنا ندخل إلى النقلة الأساسية الثانية في عمل المهندس، فبعد أن اعتبر الأمانة في القرآن هي الحرية، يبدأ وضع القياس المنطقي التالي في خطوات تبدأ مع تساؤله: «إن المسئولية جسيمة فلِمَ حملها الإنسان؟ من سياق الآية إن الأمانة لم تُعرَض في الأساس على الإنسان، وهي نقطة تثير الانتباه والدهشة، وكأن الحق تبارك وتعالى يخبرنا أن الإنسان، ذلك الكائن المتفرد، قد تقدم من تلقاء نفسه من بين صفوف المخلوقات، طالبًا لها دون أن تُعرَض عليه، لذلك فقد استحقها وفاز بها. هل يمكن القول إن الإنسان مارس الحرية في الحصول على الحرية؟»

هنا لا بد من التأكيد على السؤال: هل المهندس أعلم بالإنسان من الذي خلقه، حتى إن ربنا تاه في العنوان وذهب يعرض الأمانة على من لا يريدها، من جبال وأرض وسموات، وترك الإنسان الذي يعرف قيمتها ويريدها؟ وهل لم يكن للإنسان عقل ليدرك ويترك ويرفض كما رفضت الجمادات، بينما كان لهذه الجمادات القدرة والعقل والتمييز والفرز؟ ولو رفض آدم كما رفضت الجمادات ما وقعت عليه عقوبة، مثله مثلهن. وماذا كان حال آدم قبل أن يأخذ الأمانة: سعيد أم تعيس؟ وماذا كان حال الجبال قبل عرض الأمانة وبعد رفضها؟ لأن هذه الأمانة ما دامت من عند الله فلا بد أن يكون لها قيمة، أم أن القبول والرفض بالنسبة للجبال كانا سواء لأنها عرفت أنها شيء بلا قيمة؟

أما بالنسبة لآدم ماذا كان سيفعل بالحرية التي ذهب يختارها وهو في جنة الخلد، وكان حرًّا دون أي قيود أو أي مسئولية سوى قيد واحد على ثمرة واحدة عجيبة؟

إن الحرية التزام بأمر ونهي فلو كان قد حصل على الأمانة/الحرية في الجنة، لكان التزم بالنهي ولم يأكل من الثمرة المحرمة، لكنه كان بلا حرية، وهذا الذي نقول إنما ينبني على مفهوم الحرية ومفهوم العبودية لأنهما وجهان لعُملة واحدة، يجمعهما معًا الالتزام المنشئ إما للعبودية أو لانضباط الحرية، فالإنسان حيوان اجتماعي بالغريزة، وهذا الاجتماع يحتاج لضوابط بعقد اجتماعي ليتمكن أفراده من العيش معًا بسلام، فتُوضع أوامرُ ونواهٍ يتم تربية الأطفال عليها، وكلما كَبِرَ زادت شروط الحرية حتى تتمايز تمامًا عن العبودية، فعندما تضع الدساتير في الدول المتقدمة أوامر ونواهي بعدم التعرض بالاضطهاد لدين من الأديان، فإنها تنشئ حرية عبادة، فتعود الفائدة على المجتمع كله، أما الأوامر والنواهي في العبودية فإن فائدتها تعود على مالك العبد وحده، فمتى تحققت الفائدة لكل أفراد وطوائف وأجناس وعروق وأديان المجتمع، فإن القواعد هنا تصنع حرية، أما إذا تحققت الفائدة لفرد أو لطائفة بذاتها دون غيرها فهي عبودية لهذا الغير.

ثم كيف يُوصف الإنسان الذي قرر أن يحمل شعلة الحرية — باختياره — في بداية الخليقة، بأنه ظالم لنفسه جاهل بطاقاته إزاء ما قَبِلَ تحمله؟ فقاده جهله إلى حمل ما لا يطيق! بينما الله هو القائل: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. فمناط التكليف هو مدى وسع الطاقة، وهو أحد شروط التعاقد وأهمها، ولا سبيل إلى الطاعة إلا من خلال الاستطاعة. فمن صِدق الإيمان أن نفهم أن التكاليف التي يفرضها الله على عباده لا يقصد بها قصم ظهورهم، ولا تسجيل العجز عليهم، ولا إرهاقهم بما لا يستطيعون، فيصبح الدين امتحانًا والعقيدة مصابًا، بينما صحيح الإيمان أن يكون الدين مصدرًا لسعادتنا وتثبيت أقدامنا على طريق الخير يُسرًا لا عُسرًا وقهرًا، والأخذ بيدنا في طريق التقدم والتطور وتحبيب الفضائل إلينا وتقبيح الرذائل في عيوننا.

لقد اختلف المفسرون إذن حول كلمة الأمانة ما بين العقل والتكليفات والطاعات والفرائض والأوامر والنواهي، ولم يعرف أحد على وجه اليقين ما هي تلك الأمانة بالضبط، لكن المهندس جعفرًا اختار لها معنى الحرية مجتهدًا بقصد الحصول على الثواب، ومع ذلك فإن الحرية في تاريخنا الإسلامي كانت نقيض الطاعات المحمودة طوال هذا التاريخ، بدليل أنه عندما اختار الفقهاء الأربعة الحرية في الاجتهاد اعتبرها ولي الأمر عدم طاعة، وعوقبوا على ذلك بالحبس والجلد والسم. أما المشكل في الأمر فهو أنه كما اتفقنا فإن الجاهل لا يُخيَّر، وبالتفسير الذي يقدمه المهندس فإنه يتهم رب العزة باستغلال جهل آدم بما لم تطقه السموات والأرض والجبال؟ يعني أنه صنع آدم ناقصًا ثم حمَّله مصيبة لا يدري عنها شيئًا، وكلفه بها وهو يعلم سلفًا أن عبده غير قادر على حملها. إنه بهذا المعنى إصرار وترصد من الرب الكريم إزاء عبده الضعيف المخلص، الذي يبدو، وفق هذا المعنى، أن هذا العبد المخلص قد تَقدَّم لطلب الأمانة رفعًا للحرج عن رب العزة، وهو يرى مخلوقاته الكبرى ترفض عرضه واحدة إثر الأخرى دونما حتى ملامة.

ثم تأتي النقلة الثالثة التي يفسر لنا فيها المهندس كيف أن الإنسان باختياره الحرية وتحركه بنفسه ليطلبها لنفسه بعدما رأى من موقف أعاظم المخلوقات ورفضها للأمانة، كان ظلومًا لنفسه جهولًا، فيقول: «فهل هناك من تفسير آخر لوصف الإنسان بأنه كان ظلومًا جهولًا غير الذي ساقته التفاسير السابق ذكرها؟ الجماد لا يُحرك نفسه والنبات يحرك نفسه لكن لا يعرف لماذا يتحرك، والإنسان هو الذي يعرف لماذا يتحرك؟ وما تأتى له ذلك إلا عن طريق الحرية والإرادة المختارة، وإذا سُلبت الإرادة الحرة من الإنسان نزل عن مرتبته وانحط في أسفل واعترى النقص ماهيته التي تميزه عن سائر الكائنات، فالحرية هي اكتمال النقص، والإرادة المختارة هي التي ميزت الإنسان عن بقية المخلوقات، وبدون هذه الإرادة يصبح الإنسان ناقصًا في المعنى والماهية. وهنا يمكن أن نفسر «ظلومًا جهولًا» بأنها «ناقصًا»، بدليل الآية: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا (الكهف: ٣٣)، فقبل أن يتحمل الإنسان أمانة الحرية كان ظلومًا جهولًا، أي ناقصًا في ماهيته الإنسانية، جاهلًا بالعلم اللازم له لممارسة هذه الحرية، وتحمُّل مسئوليتها.
وبتحمل أمانة الحرية اكتمل نقصه وأُعطِيَ العلم النافي للجهالة، وأصبح جديرًا بأن يكون سيدًا للكون.
بذلك التفسير لا يصبح التكليف عبئًا والحرية كمينًا للإيقاع بالإنسان الظالم الجاهل، إنما أصبحت تشريفًا واكتمالًا ورِفعة.»
إن القول بأن الإنسان قبل أن يتحمل أمانة الحرية كان ظلومًا جهولًا، أي كان ناقصًا في ماهية الإنسانية، هو قول ينفي عن هذا الإنسان القدرة على اختيار الحرية وتفضيلها أو حتى إدراك معناها ومميزاتها، ومن ثَم كان لا بد أن يعجز عن اختيارها. أو أن هذا المخلوق الأول الإنسان، كان معيب الخلقة بالخلقة، حتى جاءت ساعة عرض الأمانة على الأجرام الكونية، فتبدلت خلقة آدم وعرَف الحرية فاختارها لأنه لم يُولَد مُزودًا بها، حسب هذا الفهم. ويكون تحسين الإنسان إلى الصورة الأفضل (إنسان يعرف الحرية) قد تم نتيجة جهد مشترك من الرب بالعرض ومن الإنسان بالقبول، لأن العرض وحده لن يحسِّن حال الإنسان، فيكون اختيار الإنسان للأمانة/الحرية هو مساهمة منه في تطوير نفسه. إن مثل هذه الاختيارات التي يقدمها لنا فلاسفة الإسلام السياسي هي اتهام صريح لرب العزة، جلت قدرته وعظمته، بأنه خلق إنسانًا منقوصًا احتاج بعد ذلك إلى تحسين وتطوير وهو ما يتعارض مع قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. وقول المهندس «وبعد أن تحمَّل أمانة الحرية اكتمل نقصه» يجعل العقل يتساءل: منذ متى كان ذلك النقص موجودًا في الإنسان؟ لا بد بهذا المعنى أنه قد خُلق ناقصًا، ويكون المسئول عن هذا النقص في الصنعة هو صانعها. وهل لو لم يتقدم الإنسان لحمل هذه الأمانة، كان سيظل نموذجًا للنقص المعيب في الخلقة جاهلًا ظالمًا كما خُلق؟
ويدعم المهندس موقفه بتأكيده أن الإنسان لم يُخلق بالحرية، بل جاءت بعد أن تم خلقه مخلوقةً مثله، أو بقوله: «إن الحرية في هذا السياق مخلوقة حيث إن الله خالق كل شيء، فكيف بالحرية المخلوقة؟»

وهو ما يؤدي إلى ارتباك أكثر في نظرية الحرية في الإسلام التي يقدمها لنا المهندس نشأت جعفر، لأن ذلك سيستدعي تساؤلات من نوع آخر، مثل: هل هذه الحرية المخلوقة قد خُلقت ذاتًا مستقلة بنفسها ثم مُزجت بالإنسان يوم اختيار الأمانة؟ فإذا كان ذلك كذلك فهل كانت العبودية بدورها مخلوقة؟ وكيف نفسر وجود العبيد والعبودية في شرع ديننا إذا كانت الحرية تكليفات لا حقوقًا؟ أم أن قبول الإنسان للحرية يعني أن عبيدَ وجواريَ كلِّ بيوت السادة العرب وقصور الخلافة في تاريخنا كانوا أحرارًا في الحقيقة، وهو ما يترتب عليه الحكم بأن استعبادهم يخالف إرادة الله، علمًا بأن النبي والعشرة المبشرين بالجنة وكبار الصحابة قد ماتوا ولديهم عبيدهم وجواريهم.

ويربط المهندس بين هذا المفصِل الثالث والمفصِل الثاني بعبارة لطيفة تقول: «إن السموات والأرض هي كائنات جُبلت على الطاعة لقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، وهو ما يعني أنها مخلوقات لا تعرف إلا أن تكون طائعة ولا تقدر إلا على فعل الطاعة، فيصبح عرض الأمانة بمعنى الطاعة لا محل له، حيث لا محل لأن تعرض اختيار أمر على من لا يملك أن يرفضه، ويصبح هنا من المفهوم أن السموات والأرض والجبال قد رفضن تحمُّل هذه المسئولية الجسيمة، وخفن من التبعات الهائلة المترتبة على القدرة على الاختيار بين البدائل، وكان لها ما أرادت.»

أترون فلاسفة الإسلام السياسي وهم يقومون بتحديث الإسلام وفق نظرية الصلاحية لكل زمان ومكان، فيتخبطون كمن يتخبط من المس، المهندس ببساطة شديدة وهو يقيم لنا بنيان الحرية في الإسلام يناقض ما يقول بشديد السرعة، ومن أول عبارة، مفترضًا أننا لا نملك عقولًا لها قدرات منطقية على الفهم، أو منزهًا نفسه مقدسًا قوله، حتى أنه لا يفترض اعتراضًا على ما يقول.

المهندس يقول: «إنها مخلوقات لا تعرف إلا أن تكون طائعة.» وفي نهاية العبارة يقول «إن السموات والأرض والجبال رفضن تحمُّل هذه المسئولية الجسيمة»؟! أمر المهندس غريب، فإذا كانت السموات والأرض لا تعرف أن تكون إلا طائعة، استنادًا للآية ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فكيف بهن يتمردن ويرفضن تحمُّل هذه المسئولية الجسيمة؟ هل للطائع الذي لا يعرف الرفض أن يأبى؟ ويأبى المعروض عليه من رب العزة؟ إن دس الإسلام ما ليس فيه لا يُنتِج إلا مثل هذا الخطاب.
وبناءً على ما تقدم، فإن اختيار آدم للحرية وفوزه بها دون الكيانات الوجودية الكبرى، يعني عند المهندس «أنه لا يستحق الحرية إلا من يتشوق إليها، ولا يفوز بها إلا من يعشقها ويرغب فيها ويطلبها».

يتحدث عن الحرية كما لو كانت طبق فاكهة، أو طبخة جميلة شهية، أو شُحنة أسمنت، بينما الإنسان لا يتشوق إلا لما يعلمه أو يعرفه ولا يعشق إلا ما يدركه. إن أحدًا منا لن يطلب شجرة الزقوم لأننا نعرف جميعًا مكانها ومقرها، وكل المسلمين سيطلبون لمس الحجر الأسود والطواف بالكعبة، لأنهم يعرفونهما ويدركون معناهما وعظمتهما، بينما لن يطلب ذلك البوذي ولا الهندوسي، لأنهم يجهلون قيمة هذه الأشياء، سيطلبون السجود لتمثال بوذا واحترام البقر.

إن الفأر يطلب قطعة جبن، والكلب يطلب عظمة، والقرضاوي والإخوان والمهندس نشأت يطلبون الخلافة. وهكذا كلٌّ يطلب ما يعرف، وكلٌّ ينأى بنفسه عن المجهول طلبًا للسلامة، ما دام ليس في حاجة لهذا المجهول. كلٌّ يعشق ما يعرف، فقَيسٌ عَشِقَ ليلى العامرية، وأنطونيو عَشِقَ كليوباترا، والنبات يعشق الشمس، والحيوانات الرمامة كالضباع تعشق الجيف، والنحل يعشق الزهور، فلا يُعقل والحال كذلك أن يعشق الإنسان الحرية قبل أن يعرفها، بل كان يلزمه أولًا أن يعرف الفلسفة والقانون، ليعرف الحقوق والواجبات والمسئولية، حتى يفهم معنى الحرية.

ومَثَل المهندس مَثَل بقية رفاقه، فبعد هذا التنقيب المجهِد بحثًا عن الحرية في الإسلام، فإن المهندس يعود إلى ذات القواعد والخطوط الحمراء وثوابت الأمة والفروض والأوامر والنواهي، فيقول لا فُضَّ فوه: «إذا كان الكون قد خُلق لغاية وليس عبثًا، والإنسان كائن مكلف، والعقل هو مناط التكليف، ومن شروط قبول الإنسان ذلك التكليف: الحرية والاستطاعة والطاعة، فلا يعني شرط الحرية هنا أن للإنسان أن يرفض التكليف أو يقبله ولا يتحمل تبعة الاختيار، لأن الإنسان قد سبق وأقر بالتوحيد حين شهد لله بالربوبية، بنص: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (الأعراف: ١٧٢-١٧٣). وبناءً على ذلك، وعلى شهادتنا لله بالألوهية، فإن علينا قبول تكليفاته لنا.» ولا تفهم هنا هل يقصد أن يقبل اليهود ما كلفهم به رب العزة عن طريق نبيه موسى، وأن يقبل المسيحيون ما كلفهم به — جل جلاله — عن طريق المسيح، وأن يقبل المسلمون ما كلفهم به الله — عز وعلا — عن طريق نبيه محمد؟ أم هو يقصد بذلك التكليف الإسلامي تحديدًا؟ فإذا كان ذلك هو المقصود فهل ستهلك ذرية من بعدهم بما فعل المبطلون؟ إذا كان المقصود بالتكليف هنا هو الإسلام فقط فهو ما يعني أن المسألة مسألة دين فقط، وتكاليف بالعبادات والطاعات، كلنا ينصاع لها حبًّا في دينه وكرامةً له، ولا يكون لهذا أي علاقة بالدولة ونظمها حرةً أو استبدادية، وقوانينها فيها حرية أم لا. وإذا قلنا إن المقصود هو التكليفات الإسلامية تحديدًا كما يبدو مقصد المهندس، فكيف سنقنع بتلك التكليفات من لا سلطان لنا عليهم في بقية المعمورة؟ أم سيلجأ هنا إلى الجهاد وفتح البلدان وخراب العمران وقتل الأبرياء؟

المشكلة أنهم مع كل حديثهم الكبير عن الحرية يجعلون مساحة الحرية أمام المسلم ما ترون في واقعكم، فقد اتسعت التكاليف ورَبَت، حتى ما عاد للمسلم حق اختيار ملابسه، أو زوجته، أو تفسير أحلامه، أو نوع طعامه، أو عمله في البنوك، أو الأماكن التي يشتري منها احتياجاته، أو حتى انتماؤه ذاته.

هذا، أهلي وناسي، ما يعرضه علينا الفقه السياسي الجديد لفِرق الإسلام السياسي، كما ترون! لا يستطيع أن يصلب قوامه وطوله أمام العين الفاحصة، ويفترضون أنهم قدموا حلولًا عبقرية لمشكلة ضرورة تذوقنا لكل ما هو غير إسلامي كما في مفاهيم ومعاني الحرية.

هنا أذكر رواية عن الإمام علي رضي الله عنه أنه دخل مسجدًا فرأى رجلًا يخوِّف الناس. فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يُذكِّر الناس. فقال: ليس برجل يُذكِّر الناس، ولكنه يقول: أنا فلان بن فلان فاعرفوني. فأرسل إليه وقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. فقال له: فاخرج من مسجدنا ولا تذكِّر فيه (٢٩، ابن الجوزي، نواسخ القرآن، دار الكتب العلمية، بيروت). ولا نجد إزاء ما يقدم لنا سادتنا هؤلاء؛ المهندس جعفرٌ وجماعته، سوى قول الإمام علي: اخرجوا من مساجدنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤