مقدمة

بقلم منى حلمي

«نوال السعداوي … تحرضنا على التساؤل.»

ما أكثر «الكتابات» الخالية من فعل «الكتابة».

كتابات ممتلئة بالكلمات، وتعوزها «الكلمة» كتابات مُكدَّسة بالأفكار، وتفتقد «الفكر».

وفي هذا الكتاب تواجهنا «كتابة» ذات مذاقٍ مختلف.

نوال السعداوي، كاتبة، وأديبة، تؤمن أن «الكتابة»، فعلٌ ثوري، لا يعبر قدر ما يقتحم المحظور، ويخلق المحال. و«الكلمة» نغمة «نشاز» عن أغنية الواقع القانعة بالرتابة، وتصفيق الناس، وكلاهما ثمرة «فكر» متجاوز، طامح أبدًا إلى أفق الدهشة، والخطر، قناعتها أن الإبداع، هو ما يثير زوابع الغضب، وسوء الفهم.

هذه موضوعات، لا تعطينا إجابات جاهزة الصنع، يمكن استهلاكها كالأشياء، إنها شحنات تَحَدٍّ، تستفز عقولنا، تحرك بحيرات التساؤل الراكدة، تحرضنا على إعادة النظر، فيما اعتبرناه من البديهيات والمسلَّمات.

تكتب نوال السعداوي، عن أزمة الهوية، وتخوض معركة العقل ضد التيارات اللاعقلية، وتوضح قهر المرأة الجسدي، والنفسي المتستِّر وراء الفضيلة، وترفض النمط المستورد السطحي للثقافة، والفكر في كل المواقع، وهي لا تسرد، ولا تصف، بل يضرب قلمها في جذور المشكلة، يُعرِّي الجرح دون ترددٍ، أو هوادة. كامرأة اشتغلت بالطب، والجراحة تدرك خطورة الحقن بالمسكنات، وضرورة استئصال الداء من العمق.

ولأنها تواجهنا بما لم نألفه، أو نتوقعه، أو يريحنا، فإن هذه الموضوعات تصدمنا، تربكنا، وتجبرنا على هجر موقف الحياد واللامبالاة، والنزول إلى ساحة التفاعل الفكري.

إنه هذا التفاعل الذي يمنح نوال السعداوي، إحدى ميزاتها، قد نتفق، أو نختلف معها، لكن يبقى إنجازها المتفرد، إنها تثير الجدل، والشك، تستنفرنا لمواجهة أنفسنا من الداخل، دون أقنعة.

لا تطمح نوال السعداوي — كعادتها — إلى حلول، أو تصحيح، أو شن حملات. هي تريد أن تخلق منهجًا جديدًا في التفكير، وأن تشكِّل رؤًى مغايرة، لتذوق الحياة، وتغيير العالم، وهذا يبرر تنوع القضايا التي يتضمنها هذا الكتاب، لكنها جميعًا تنويعات على لحنٍ أساسي، يغني للحرية، والعدل بين البشر.

يدهشنا الحماس، والتوهج، والطزاجة، المطلة من بين السطور، والسبب لا يرجع إلى أنه كتاب يمسُّ قضايا شائكة، لها حساسيتها في واقعنا العربي، ولكن لأن نوال السعداوي، كاتبة، تعيش ما تكتبه، وتكتب ما تعيشه.

إن الْتحام الفكر بالحياة المعيشة، هو ما يعطي كتابات نوال السعداوي، نكهتها الفريدة، المفعمة بحرارة العقل والقلب، والجسد، دونما انفصال.

هي «متورطة» فيما تكتبه تورطًا حياتيًّا، عضويًّا.

ولذلك حين تدافع عن آرائها، لا تحمي «فكرها»، وإنما كل حياتها في وحدةٍ غير قابلة للتجزئة.

وهذا هو شرط أن تؤثر الكتابة في القراء، وأن يكون لها صدًى في المستقبل. فالكتابة التي عجزت عن تغيير كاتبها، والتأثير في حياته، تعجز عن تغيير الآخرين، والتأثير في حياتهم.

الأفكار عند نوال السعداوي، حيوات تُعاش.

الفكرة كائنٌ حيٌّ صعب المراس، لا يمنح أسراره الثرية، إلا بعناقٍ دائمٍ، متجدد.

نوال السعداوي، كامرأة، كإنسانة، وكأديبةٍ مبدعة، رفضت القهر على المستوى الشخصي، والعام، وما تاريخها إلا صراعٍ لا يهدأ، ضد القيود في جميع أشكالها.

لكنها تقول دومًا كلمتها، وتكتب؛ لأنها تؤمن أنه من الصعب أن يتحرر الإنسان، في عالمٍ لا تزدهر فيه من حوله حريات الآخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤