المجتمعات الوسط

لشعبنا خاصية غريبة لم أكن أتصورها، كنت أناقش ذات يوم في لندن إخصائيًّا كبيرًا في اختبارات الذكاء بمستشفى «هامر سميث» حيث كان طفل مصري يُفحص من إصابة، وحين أُجريت عليه اختبارات الذكاء كانت نسبة درجاته أعلى بكثير من المعتاد في هذه السن، حسبت الطفل نابغة أو فلتة، ولكن فُوجئت بالإخصائي يقول إن هذا ليس أول طفل من بلادكم أُجري له الاختبار، هذا في الواقع الطفل العاشر، وهو ليس أول الحاصلين على هذه النسبة، إنه السابع … واعتمادًا على خبرتي أستطيع أن أقول إن هذه ربما أعلى نسبة للذكاء بين أطفال العالم.

وأحسست بفرحة حقيقية، كان كلامه كالخبر المفرح المفاجئ، وقبل أن أعلق كان هو يهز رأسه آسفًا ليقول: ولكن الغريب أن أطفالكم يظلون كذلك إلى حوالي الخامسة ثم تبدأ نسبة ذكائهم في الهبوط، بينما تأخذ نسبة قرنائهم الإنجليز أو غيرهم في الارتفاع بحيث يتفوقون عليهم بمراحل.

وتراجعت فرحتي واحترت، واحتار معي هو الآخر، ولكنا بالنقاش وصلنا إلى ما يمكن أن يكون السبب؛ فحتى هذه السن يكون ذكاء الطفل مستمَدًّا من مخزونه الوراثي من الذكاء، ولكنه بعدها يعتمد ذكاؤه على مدى تفاعل ذكائه الموروث مع بيئته وعلى مدى أثر البيئة في تنمية الذكاء، تمامًا كأي عضلة تُولد بقوة معينة ولكن قوتها تبدأ تعتمد على التدريب والتمارين التي تزاولها.

أنحن إذن نُولد أذكى؟

هذه حقيقة.

الحقيقة الأخرى لمستها في تجوالي بين حضارات آسيا، كثيرًا ما سمعت ذلك التعبير يرنُّ في أذني: ألا تعرف أنك من مصر موطن أول الحضارات؟

وهذه حقيقة أخرى.

والمسألة أبدًا بعد هذا ليست صدفة، وليس معنى زوال الحضارة عن شعبٍ وتسليمها لشعب آخر أنه يرتد إلى الوراء مثلًا أو يبدأ يصبح أقل حضارة. إن زوال معالم الحضارة عن البلاد لا يعني أبدًا زوالها من الإنسان نفسه، وإذا كان الذكاء المصري هو الذي أحدث في العالم القديم ما يشبه ثورة الصناعة والتكنولوجيا في العصر الحديث باكتشافه لأول ثورة في العالم وأول تكنولوجيا: الزراعة وآلات الزراعة، إذا كان ذكاؤنا هو أول من بدأ يعمل الذكاء البشري، فمعنى هذا أنه الآن أعرق ذكاءً وأخصبه وأطوله عمرًا.

كل ما في الأمر أن الذكاء كي يصبح فعالًا لا يكفي أن يكون صفة موروثة أو مكتسبة، إنما التحضر والتقدم يصنعه الذكاء الجماعي لا التفوق الفردي.

نحن إذن أول «مجتمع» ذكي عرفه الإنسان، كل ما في الأمر أن عمر هذا المجتمع الذكي لم يدم طويلًا، وما لبث النظام الذي كان يتيح استثمار الذكاء جماعيًّا أن توقف عن التطور وانفرط عقده، وأصبحنا ومنذ تلك اللحظة وإلى الآن أفرادًا أذكياءً تمامًا في مجتمع لم ينجح في تجميع هذا الذكاء واستثماره، أو بالأصح في مجتمع غبي متخلف، أطفالنا يُولدون عباقرة بالقياس إلى أطفال العالم، ومفروض أن يتسلمهم نظام حياة ينمي هذا الذكاء الفردي ويربيه على تكوين مجتمع ذكي يعمل طول الوقت، ويطور نفسه بحيث يستطيع باستمرار أن يستوعب ذكاء أفراده، وبذكائهم الجماعي يحيا ويتقدم وينتج، ولكن لأن عكس هذا ربما هو الذي يحدث، بحيث يجد الفرد الذكي نفسه في حالة صدام مع مجتمع قاصر عن استيعاب ذكائهم، بحيث يتحول بذكائه لخدمة ذاته أو بالأصح الدفاع عن ذاته وهكذا.

ميزة الذكاء الآسيوي

ولم ألمس هذه الحقيقة الغريبة بقدر ما لمستها في آسيا.

إن الفرد المصري أو العربي أذكى، ولكن ميزة الذكاء الآسيوي المتوسط أنه موجود في مجتمع ذكي، مجتمع يعرف قيمة الذكاء، ويهيئ له كل السبب ويعرف كيف يخلق النظام الذي يتيح لأذكياء كثيرين أن يعملوا معًا؛ أن يحدث هذا التعاون الذكائي الكامل، ذلك الذي يصنع في الحقيقة أي حضارة أو صناعة أو حتى فن، وبالتالي يصنع الإنسان ويدربه ليكون أذكى، بحيث يعوض بالإرادة ما افتقده بالوراثة، بحيث يصبح ذكاء المرء محسوبًا له، وليس كالحال هنا محسوبًا عليه، بحيث يُكتشف في كل فرد مَكْمَن طاقته وتفرده وقدراته، وفي مكانها الصحيح يجيد استخدامها.

•••

ذلك في رأيي سر أي مجتمع ناجح، سر أي تقدم علمي أو صناعي أو حضاري أو ثقافي وفني، خاصةً ونحن لم نعد في عصر الفلتات الفردية، نحن في عصر المجتمعات الذكية، وكما بدأ العالم ينقسم إلى أغنياء وفقراء، فكذلك بدأ ينقسم إلى مجتمعات أذكى ومجتمعات أقل ذكاءً أو أغبى، والهوة بينهما أيضًا تتسع؛ فالذكاء ثروة ذكاء، حتى القوة الفيصل فيها هو الذكاء، والجيش الأقوى اليوم هو الجيش الأذكى.

بل إن التعليم ذاته لا يحل المشكلة.

وجيش الفيتناميين مكون من فلاحين بعضهم أمي، ومع ذلك ولأنه الأذكى فإن فرق الجيش الأمريكي الأكثر تعليمًا تتساقط في كمائنه كما يتساقط الذباب.

ولكن الذكاء وحده ليس كل شيء …

فبجانب الذكاء لا بُدَّ من أشياء أخرى.

فلكي تلوي عنق التاريخ لا بُدَّ من عمل شاق.

والتصدي للعمل الشاق طموح إنساني مشروع.

ولكن الطموح في حاجة إلى قوة وقدرة ورصيد.

•••

أنا لم أكن بالطبع أنوي اكتشاف قارة، أو حتى اكتشاف طريقة مختلفة للحياة، كان كل طموحي أن أنجح في اكتشاف سر الإنسان يلوي عنق التاريخ ويقاوم، والأنظمة في آسيا تختلف من الشيوعية — وهي في قمتها في الصين مثلًا — إلى الرأسمالية في أوجها في اليابان، ولكن مقاومة الإنسان لا ترتبط بالنظام الذي يعيش في ظله؛ إذ إنه إذا أراد المقاومة يقاوم سواء قاوم النظام الذي يحيا في ظله ليعيش أو تضامن مع النظام ليقاوم شرًّا خارجيًّا يهدد بقاءه، إن الأصل من الإنسان، صحيح أن للنظام الأثر الأكبر في نتيجة مقاومته، ولكن ما فائدة النظام إذا قاوم الإنسان وحده بلا إنسان؟

الأصل هو الإنسان.

وآسيا بلاد شاسعة وأهلها كثيرون، وليس كل شعب فيها يلوي عنق التاريخ ويقاوم، ويعيش كل نظام فيها متحالف مع الإنسان في مقاومته.

ولكن الشيء الذي لا يمكن إنكاره أن المقاومة هناك معدية، وأنها تتكاثر، وأنها خطيرة إلى درجة أننا سنجد أمريكا بعد قليل إذا أرادت أن تستمر تعمل ضد الإنسان الآسيوي فعليها أن تجند الشعب الأمريكي كله وتسخر إمكانياتها الصناعية كلها وترصد كل مخزونها من الرأسمال.

والإنسان لا يولد يقاوم، إنه يولد كالصفحة البيضاء التي يتولى المجتمع ملأها بالمضمون، وحسب المجتمع يصبح الإنسان، فإذا وُلد في مجتمع يقاوم نشأ مقاومًا، وإذا وُلد في مجتمع راضخ نشأ كذلك، المجتمع القوي المقاوم إذن هو ذلك الذي يستطيع أن يصنع من أفراده مجتمعًا قويًّا مقاومًا مثلما يصنع المجتمع الذكي بأذكيائه.

وهذا هو سر آسيا الأكبر! إنها قارة المجتمعات، مجتمعات متباينة متأرجحة بين القمة والسفح ولكنها باستمرار، حتى التفرد والفردية ليست وليدة انفصال عن المجتمع بقدر ما هي وليدة استخدام واستعمال لهذا المجتمع.

وإنسانها جاد لأن مجتمعاتها جادة.

والهند خير مثال على هذا.

فالهند ليست دولة واحدة، إنها قارة بمفردها، وليس هناك ما يمكن أن يُسمى بالمجتمع الهندي، فهو مجتمع مكون من عديد من المجتمعات، كل لغة تكون مجتمعًا، كل دين يكون آخر، كل طائفة، كل وحدة جغرافية، كل درجة من درجات الفقر أو الغنى. إن الهند على عكسنا تمامًا هنا، فإذا كان مجتمعنا ومجتمع التوحد والتوحيد، فمجتمع الهند هو مجتمع التعدد والاختلاف.

وقد يظن البعض أن التعدد يؤدي إلى مجتمع ضعيف، وأن التوحيد يؤدي إلى مجتمع واحد قوي، ربما العكس هو الصحيح؛ إن التوحيد التام يؤدي إلى فقدان الخصائص المتفردة، نفس الخصائص التي يؤدي وجودها وتأكيدها إلى قوة المجتمع الأكبر، في حين أن إلغاءها في سبيل التوحيد يؤدي إلى طمس معالم التفرد والامتياز، وبالتالي إلى وحدة كوحدة المتشابهين، كوحدة الأصفار.

•••

ولهذا فالمجتمع الذكي لا بُدَّ أن يكون نابعًا من وحدات أصغر ومن مجتمعات صغيرة كثيرة ذكية، كذلك المجتمع المقاوم هو أيضًا مكون من مجتمعات كثيرة صغيرة مقاومة.

ودائمًا يكمن عيب أي مجتمع في هذه النقطة البسيطة المحددة.

تلك المجتمعات الصغيرة التي منها ينشأ الفرد الواحد ومنها أيضًا وبتلاحمها ينشأ المجتمع الكبير.

وهنا في بلادنا تستطيع أن تضع يدَيْك على الداء بسهولة، في قرانا نحن نكون المجتمعات الصغرى هذه وننشأ منها، وبها ننشئ المجتمع الأكبر.

كذلك كانت مدننا في العصور الوسطى مكونة من أزقة وحوار تكوِّن حيًّا، والأحياء مدينة، والمدن تكوِّن دولة، في العصر الحديث وحين حدثت الهجرة الهائلة من القرية إلى المدينة، ومن الزراعة والتجارة إلى الصناعة، فقد إنساننا القادم قدرته على تكوين المجتمعات الأصغر، امتلأت مدننا بآلاف العائلات أو حتى الأفراد الذين لا يربطهم رابط ولا يُسألون أمام مجموعة ولا يحسون بالانتماء، ومن السهل أن يبدأ الإنسان يفقد كثيرًا من خصائصه الأصلية حين ينفرط عقده ويصبح وحده يفكر، ووحده يصنع لنفسه القيم التي تلائمه. إن من يفقد الانتماء يفقد الأصالة، والفرد حين يفقد خصائص مجتمعه الأصغر يفقد تمامًا خصائص المجتمع الأكبر.

هكذا نشأ لدينا المجتمع الغريب الفريد من نوعه، المكون من أفراد لا يجمعهم إلا العمل مرة، أو القهوة، أو أحيانًا السكن في مكان واحد.

ينجبون أبناءً، ينشئون أفرادًا هم الآخرون … والنتيجة أن الكتلة بدلًا من أن تكون بناءً قويًّا تتفتت وتتسطح، ويصبح في مكان البناء سطح من الرمال الصغيرة المتراكمة، بل حتى الأشكال الحديثة للمجتمع مثل النقابات والنوادي والجمعيات نشأت في ظل الاستعمار، لوثها عن عمد، وأخمد فيها الروح، وتحولت من مجتمعات جديدة مفروض أن تكون فيها الروح، وتحولت من مجتمعات جديدة مفروض أن تكون أداة الوجود والمقاومة، إلى أشكال من التجمع وظيفتها كبح جماح أفرادها واحتوائهم وتقييد حركتهم وشلها ليس إلا.

الداء واضح وظاهر

الداء واضح وظاهر، لا يمكن أن يوجد شعب وحدته الفرد، إن الشعب ليوجد — أي الشعب — وحدته مجتمع أصغر، وما لم يكن أفراده منظمين بطريقة أو بأخرى في هذه المجتمعات الأصغر، فالنتيجة أن شعبًا كهذا ممكن أن يكون تعداده مائة مليون، في حين أن حاصل قوته تقل بكثير جدًّا عن مجموعه، بينما شعب آخر تعداده عشرة ملايين من الأفراد يكونون مجتمعاتهم المختارة الأصغر لتكون بدورها المجتمع الواحد الأكبر، تكون حاصل قوته أكثر بكثير جدًّا من الملايين العشرة؛ فالعمل كمجتمع لا تكون نتيجته حاصل جمع مجهودات أفراده، ولكن العمل كجماعة يكاد يكون حاصل ضرب مجهود الواحد في الآخرين، وليس حاصل جمع أو أحيانًا قسمة، الداء واضح وظاهر. الدولة من المجتمعات الأخرى نشأت كظاهرة اجتماعية لتنظيم العلاقة بين المجتمعات الأصغر، الدولة عندما نشأت من الخارج، من المستعمر، من أصول لا علاقة لها بالشعب أو وحداته، نشأت لتفتت الشعب في الحقيقة وتكبته.

إن الروتين والقوانين واللوائح التي تحفل بها حياتنا ولا يوجد لها نظير في أي بلاد أخرى سببه أن الدول جاءت أجنبية، كما كان العرض أجنبيًّا. إنها تعامل الشعب كما لو كان عصابة من اللصوص وقطاع الطرق.

وقد كان هدفها على الدوام أيضًا أن تحول بين الشعب وبين تحوله إلى مجتمع، أي تحول دون قيام التنظيم والمجتمعات الأصغر، ليبقى الفرد من أبناء الشعب وحده بمفرده أمام جهاز الدولة الرهيب.

كيف بإمكان مجتمع كهذا أن تنفجر طاقاته ويعمل وينتج وينمو، والدولة تتولى بتر أي صلات تنشأ داخله لتحوله إلى جسد حي كبير منتج، وتضع ما شاء لها من قوانين كلها ليس فيها قانون واحد يحمي المواطنين، إنما كلها قوانين لحماية العقار أو الأرض أو الملكية أو السيادة، كلها قوانين ليس هدفها فقط تفتيت الشعب، إنما أيضًا إحالة أفراده إلى عبيد فرادى؟

ولكن تلك قصة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤