رأس ضخم

نسب المتنبي وهجرته

«مالئ الدنيا وشاغل الناس» كلمة قِيلَت في أبي الطيب فسارت مع الدهر، ثم انقضى ألف عام والناس — كما كانوا في عهده — رجلان: واحد عليه، وآخر معه.

قتلوه بحثًا وتمحيصًا وما انكشفت لهم صفحته، وكانت ذكراه الألفية منذ أعوام، فاشترك في تمجيدها من يعنون بالأدب العربي في الشرق والغرب، فصدرت كتب عديدة أضخمها كتاب للأستاذ طه حسين — دكتور في الآداب — عنوانه: «مع المتنبي»، تربي صفحاته على السبعمائة، وهو خمسة فصول وإن شئت فخمسة كتب كما سماها الأستاذ، افتتح المؤلف الكتاب الأول بفصل يقع في ثماني صفحات مآلها أن طه قال كارهًا لصاحبه أن يصطحب المتنبي، ثم خبرنا كيف أخذ ذاك الصاحب يعبِّئ الكتب والدفاتر والكراريس ويرزمها، وكيف نهاه أو تقدم إليه في أن يكتفي بأيسر طبعة من طبعات المتنبي، إلى غير ذلك من أحاديث تعوَّد طه أن يسد بها الفراغ ويملأ الصفحات.

ثم يقول لقارئه في الصفحة السابعة: «وقل إنه كلام يمليه رجل يفكر بما يقول، وقل إنه كلام يهذي به صاحبه هذيانًا.» فقلنا إنه كلام بَيْنَ بَيْنَ، يغلب فيه الهذيان على التفكير، فهو كالليمون اليافيِّ قشرُه أكثر من لبِّه. وهذا شأن الدكتور في أكثر ما يكتب، يمغِّط الكلام ويمطه كالعلكة، فطَوْرًا تراك أمام حسناء فلا تتكره ولا تتقزز، وتارة تجدك أمام عجوز تكره محضرها، وتسأل الله الفرج.

إن طه في صناعة الكلام أقدر المعاصرين على التخمير، فعجينه يرفخ ويطفطف فتحسب المعجن يمون البيت شهرًا حتى إذا مُدت الأيدي إلى الزاد عرفت أن هذا العيش هش «ككرابيج حلب».

ابتدأ عميد كلية الآداب بتشريح المتنبي حلة ونسبًا، فأنكر أباه وجده، ثم سلَّم أخيرًا أن للمتنبي أبًا وجدًّا، فحمدنا الله وقلنا: استرحنا. كما قال البهاء زهير في الشيخ الإمام … ولكنه عاد إلى «عبدان السقاء» والد المتنبي وشرع يتنقل على شجر نسب الشاعر يفلت غصنًا ليتعلق بآخر، حتى تمسك بكلمة «الكذاب» ولم يفلتها إلا بعد جهد:

إن الكذاب الذي أكاد به
أهون عندي من الذي نقله

فظن أن هذا «الكذاب» يتصل بنسب المتنبي، وهذا شأن طه في «أكبر ظنونه» كلها كما سترى، ثم ترك أبا المتنبي ليفتش عن أمه، «ولكن الخطب في أم المتنبي أعظم من الخطب بأبيه، فالمتنبي يسكت عنها كما يسكت عن أبيه، والرواة لم يذكروها.»

حقًّا؛ إنها مصيبة كبيرة امتُحِن بها الأدب العربي أجيالًا وحقبًا، فجاء طه اليوم يكشفها عنه، جزاه الله خير الجزاء! كيف لم يذكر المتنبي أمه؟! هذه بدعة! إذن المتنبي لا أُمَّ له! ثم انتقل إلى المرحوم جدِّه، فوقف عند هذا البيت؛ ليشُكَّ وليشُكَّ فقط:

ولو لم تكوني بنت أكرم والد
لكان أباك الضخم كونك لي أما

فاستنتج أن المتنبي يشكك في نسب جدَّته بعض التشكيك؛ لأنه قال هذا البيت «الذي أملاه الغرور وصاغته الكبرياء.» ثم قعد يطالبه بذكر أبي جدته الذي كان أكرم الناس، فمن هو هذا؟ وما اسمه؟ ولماذا لم يسمِّه لنا؟ إلى غير ذلك من تساؤل بارد.

مسكين أبو الطيب، فهو من طه في جهد جهيد! إن يقل عيَّره بالغرور والكبرياء وإن سكت أحرجه، ولكن المتنبي كالجاحظ عنده ألف جواب مُسْكِت، متى كان الشعر موطن التراجم يا ترى؟! إن «متَّى» وحده كتب إنجيل السلسلة، وكثيرًا ما تضحكنا قراءته، فهل مثل هذا ما يطلبه طه من المتنبي؟! وهل كنا نصبر عليه لو نظم لنا سيرة تلك المستورة؟! أما ضقت به يا دكتور لأنه ذكر جده، وتساءلت مَن هو هذا الذي كان أكرم الناس؟!

وهكذا يسوِّد طه عشرات الصفحات مفتشًا عن لا شيء، ثم لا يظفر بشيء إلا الشذوذ الذي رآه في حياة المتنبي فعزاه إلى ضعف أسرته. نحن مثلًا نرى في حياة طه شذوذًا — ومن تخلو حياته من شذوذ؟! — فلماذا لا نعزوه إلى شيء من هذا؟! ولماذا لا نطالبه باسم أمه وقد ورد ذكرها مئات المرات في «الأيام»؟! لماذا لا نسأله عن اسم ضيعته؟! لماذا لا نسأله عن اسم أبيه — ذكره مرة — بل لماذا لا نسأله عن اسم جده البغيض إليه، ذاك الجد الذي «صلى ونسك حين اضطرته الحياة إلى الصلاة والنسك»؟! فهل في هذه الأسماء ما يستحي منه؟ وهل لنا أن نسأله هذا السؤال البليد؟! ثم هل يكتب المتنبي «الأيام» ليخبرنا أيضًا أنه كان له عم يغضب وينهره ويلح عليه في تكبير اللقمة؟! (الأيام: ص١٩). يُستظرَف هذا في كتاب كالأيام، ولكنه يقبح في الشعر، والمتنبي شاعر ما ينبغي أن يفوته هذا. ليست القصائد مثل «مكاتيب المهاجرين» لا ينسى صاحبها واحدًا من الضيعة لئلا يعتب عليه؛ ولذلك يسلِّم على الجميع.

أما هذا «الكذاب» الذي شغل بال الدكتور، فما الذي يدل على أنه يتصل بالنسب؟ ولماذا لا يكون شيئًا من تلك الوشايات التي كانت تغمر قصور الأمراء؟ ففي أعقاب هذا البيت ما يشير إلى ذلك. وأكبر ظني — كما يعبر طه — أن المتنبي يتيم الأم فهو يتألم من هذا اليتم ويذكره ويتوعد الناس به:

كأن بنيهم عالمون بأنني
جلوب إليهم من معادنه اليتما

وأكبر ظني أيضًا أن المتنبي لم يترك الكوفة لضعة نسبه أو لغمزة فيه، بل أراه صبيًّا نجيبًا طماحًا، هاجَرَ ككثيرين من شعراء العرب، تاركًا في الكوفة تلك الجدة التي كانت له جدة وأمًّا، فرافقته ذكراها في هجرته ولم يذكر أمه لأنه لم يعرفها. أما هجرته فكهجرة طه نفسه من الريف إلى العاصمة، أما نكباته فسببتها له نفسه الوثابة، وعند طه من ذلك كل الخبر، فلماذا يتلمس هذه الأسباب؟! أليدرس المتنبي على ضوئها؟! فلندع «تين» مستريحًا في قبره.

يطلب طه اليوم من المتنبي أن يكون نسَّابة كخلف الأحمر، كما طلب أمس من امرئ القيس أن يكون جغرافيًّا كابن بطوطة، وإذ لم يفعل محا ذكره. فلو كان امرؤ القيس وصف القسطنطينية كما أراد طه فمن كان يروي لنا هذا الشعر والرجل مات في الطريق؟! ثم أهو خلي ليقول شعرًا في وصف القصور؟!

هكذا يتمنطق طه وهكذا يصدر أحكامه، ولولا أنه يضلل القراء ويشغلهم في تعابيره التي يركب بعضها بعضًا كالجراد، لما قلنا شيئًا، ولما نظرنا في كتابه «مع المتنبي» فحظه الفني فيه ضئيل جدًّا.

يقف بنا طه عند ميمية المتنبي في رثاء جدته ويسألنا أن نقرأها «قراءة المستأني المتمهل الذي لا يمر بالشعر مرًّا، والذي يشغله الجمال الفني عن التماس نفس الشاعر.»

فقرأتها مطيعًا، ثم وقفت لأسمع ما يقول فإذا به ينشغل بهذا البيت:

هبيني أخذت الثأر فيك من العدى
فكيف بأخذ الثأر فيك من الحُمَّى؟!

يتساءل عن هؤلاء الأعداء من هم؟! وعن تلك المساءة ما عسى أن تكون؟! ويمضي في البحث على سننه كما ورد في قرآن المتنبي متوهمًا أن هناك أعداء معلومين للشاعر، مع أن هؤلاء العدى وهميون كأعداء طه عينه في «الأيام»، فهو يقول لكريمته (ص١٣٣): «وكيف استطاع أبوك أن يثير في نفوس كثير من الناس ما يثير من حسد وحقد وضغينة؟» فهل يقول لي طه من هم هؤلاء لأقول له بدوري من هم أعداء المتنبي؟! الشماتة مفروضة عند العرب، فإذا تذكر الدكتور أن معاوية قال لأصحابه في مرض الموت: حنُّوني وأصلحوا من هندامي؛ لئلا يشمت العُوَّاد بي. أدرك أن هؤلاء «العدى» هم هم في كل زمان ومكان، فما أعداء المتنبي إلا كالأعداء في كل قرية، أكثرهم يا دكتور كذلك الشيخ الذي غاظه انتخاب أخيك الأزهري خليفة يوم عيد المولد، فإذا أردت أن تقول شيئًا فهاتِ غير هذه البضاعة؛ إننا نرجو منك شيئًا يلامس فن المتنبي، معه وعليه، فقرِّبنا من جوه على الأقل، أما هذا اللف والدوران فيدوِّخ ويقتل، ونخشى أن ينتهي بالقيء!

ويشغل طه نفسه بغربة المتنبي، فيقول: «وهو تغرَّب لأنه لم يكن يقبل حكمًا إلا لخالقه، وما معنى هذا؟ معناه في أكبر الظن أنه تغرَّب منكرًا للحياة الكوفية.»

الله أكبر يا أستاذ! معناه كما تغربت أنا وأنت، لا أكثر ولا أقل. إنني عاتب عليك أكثر من عتبك على المتنبي، ولكنني لا أسألك عن حسبك ونسبك، فهذا لا أشك فيه، ولكن لماذا لم تسمِّ لنا تلك الضيعة؟! فقد يقوم — بعد العمر الطويل — من يتساءل تساؤلك؟! أما قول المتنبي:

ولا قابل إلا لخالقه حكمًا

فلا يعني أن هناك من لا يقبل حكمهم، بل هذا كقول القائل: أنا لا أخضع إلا لربي. خفف عنك فقد صح بك قول المتنبي:

إذا رأى غير شيء ظنه رجلًا

ولكن إذا كانت الكتب تُباع بالحجم فاحشُها ما شئت وما عليك من حرج.

أما أن المتنبي ضيِّق بالحكم المستقر بالكوفة راغب في تغييره فهذا لا نشك فيه، هذا شأن كل نابغة، أما ضقت أنت بأنظمة الأزهر وغيرها؟!

ليس المتنبي ثائرًا على نظم الكوفة فقط، بل على نظم الدنيا كلها. إننا نسلم أن صِبَا المتنبي لم يكن عاديًّا، أما الطفولة فلا أدري أنها تكون عادية وغير عادية، مألوفة وغير مألوفة كما قلت عن طفولة المتنبي، بل لا أستطيع أن أفهم أن بين الطفولات اختلافًا إلا إذا كانت كطفولة عيسى الذي كلم الناس في المهد، أو أن تكون عثرت على أسطورة كالتي لهوميروس وغيره.

ويعود طه مرة أخرى إلى «الكذاب» وربما عاد إليها مرات، أما أنا فقد فرغت منها، وسأضرب عنها صفحًا لئلا أبلوك بتكرار كالذي ننعاه على طه.

وينتقل طه إلى رقم ٤ فيصف الحياة العراقية ويبين فسادها، ثم يستنتج: «وأكبر الظن أن مولده — المتنبي — كان أثرًا من آثار هذا الفساد العظيم أو أنه لم يخلُ من تأثر به على كل حال.» فمن يقول لنا كيف يكون — وفي أكبر الظن أيضًا — مولد طفل أثرًا من آثار الفساد؟! فهذا لا أفهمه كما لم أفهم الاختلاف في الطفولة، ولكنني فهمت جيدًا أن الدكتور يسعى في أطفال الحاجات …

ويرافق طه المتنبي إلى المكتب، فيرى أنه تلقَّى فيه أصول الدين وفروعه على مذهب الشيعة العلويين — وهذا ما رواه الأقدمون — وقد قال طه كلمة لو أمعن فيها لما طالب المتنبي برثاء أمه. قال: «إن اختلاف المتنبي إلى المدرسة العلوية لا يدل عندي على امتياز ولا استثناء، إنما يدل على الاتجاه الديني الذي وُجِّه إليه، ويدل على أن الذين كانوا يكفلون الصبي كانوا من الشيعة العلويين.»

فهذه «الكفالة» التي زعمها تنفي أن يكون مولده أثرًا من آثار ذاك الفساد العباسي، كما أن تلك الجدة النبيلة التي قال فيها أبو الحسن محمد بن علي العلوي: «وكانت جدة المتنبي همذانية صحيحة النسب لا أشك فيها، وكانت جارتنا، وكانت من صلحاء النساء الكوفيات.» إن هذه الجدة تخلع على أبي الطيب شرفًا، وهو لا يسقط من عيني إذا فقد هذا الشرف، وتمَّ لطه ما لم يجرؤ على التصريح به.

إن حياةً فَجْرُها فَقْدُ الأم وضُحاها مَوْتُ الأب، تربد آفاقها ويسخط صاحبها على الناس، فيراهم كأنهم أساءوا إليه، ومن فَقَدَ حنو الأم فَقَدَ شيئًا كثيرًا. إلى الغرائز وإلى هذا نعزو شذوذ المتنبي.

هذا تمهيد طه لدرس شعر المتنبي في صباه، وبحذر عظيم منحه العروبة، مع أن الأميركان يمنحون جنسيتهم مهاجرًا عربيًّا قضى خمس سنوات في بلادهم، وقد يكون هذا معازًا! أما ماذا ظهر للأستاذ بعد هذا البحث؟ فثلاث خصال: (١) الصبي مقلد في الفن الشعري. (٢) إن شعره شعر صبي متشيع للعلويين. (٣) إن هذا الشعر شعر صبي لم يكن بعيدًا كل البعد عن أمور القرامطة. ثم أضاف خصلة رابعة، وهي أن هذا الصبي كان طويل اللسان شيئًا ما، مستعدًّا استعدادًا حسنًا للسخرية ثم للهجاء. وهنا يتفضل عليه طه بشيء من الثناء، فيقول: «وكل هذه الخصال تدلنا على أن الصبي قد كان ممتازًا حقًّا، فليس قليلًا على صبي لم يكن يتجاوز العاشرة أن يقول شعرًا يُروَى.»

إني أعجب للدكتور كيف مر بهذه «السن» مطمئنًّا، ولكن طه بك يشك ساعة يستحلي، ويصدِّق ساعة يريد. أما شعر المتنبي — في هذا الدور — فشعر نغل، يدل على أن «الصبي» يصير شاعرًا، وأنه دارسة كتب، حفظ شعرًا كثيرًا طبع على غراره، فلا تشيع الآن ولا قرمطة بل تلك أخلاق صبياننا المتمرنين أنمتها روح شعرائنا القدماء الذين رأوا الموت على الفراش عارًا وسبة، وأما مدح المتنبي قرمطيًّا أو علويًّا فلا يعني أنه تقرمط، ولكننا سنماشي طه، وشرط المرافقة الموافقة.

شعر الصبي

تناول طه البيتين اللذين افتتح بهما ديوان المتنبي:

بأبي من وددته فافترقنا
وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولًا ولما التقينا
كان تسليمه عليَّ وداعا

وأغرق في شرحهما فسوَّد صفحة ليشرح فكرة الصبي، وأخرى لينتقد تعبيره، واستنتج بعد إجهاد الفكرة «أن الصبي أراد أن يقول «أحببته» فلم يستقم له الوزن، والتمس … فلم يجد إلا «وددته» هذه.»

قلت: لو سمع المتنبي لقال للدكتور ما قاله لابن خالويه في ذلك الزمان: اسكت، ليس هذا من علمك. أستغفر الله! فطه لا يجهل العروض ولكنه نسيه! أما قال في «الأيام» إنه نظم؟! أليس له في القصر المسحور منظومة على الشين؟! قل هذه غلطة، وجلَّ من لا يغلط.

والذي عندي أن أبا الطيب لم يقل «أحببته» — وهي لا ترجح الميزان لو وضعها — خوفًا من أن يُحصَى في رعية أبو نواس … وهو يربأ بنفسه أن يرعى مع أولئك، رأى «وددته» أحسن حالًا ففضلها وزالت الشبهة، أما لماذا أحبَّ طه هذين البيتين، فللناس فيما يعشقون مذاهب! وهذا لا يعنينا. ثم انتقل إلى الأبيات الثلاثة:

أبلى الهوى أسفًا يوم النوى بدني
فقال فيها ما قاله في البيتين الأولين، واعترض على «أسفًا» زاعمًا أنها كلمة أتت لتقيم الوزن ليس إلا؛ فرد عليه صديقه العقاد وأرشدنا إلى معرفة الكلمة النابية، فقال — نفعنا الله «بضوابطه» التي كنا نقرأ مثلها في كتب الحساب العتيقة:

وعندنا — أي عند عباس محمود العقاد — أن الطريقة المثلى لتحقيق الكلام الذي تجيء به ضرورة الوزن أن تحذف الكلمة وتنثر البيت وتنظر بعد ذلك إلى قوة المعنى أو قوة الأثر، فإن بقيت للمعنى قوته وبقي له أثر، فالكلمة المحذوفة حشو لا موجب له غير إقامة العروض، فهل «أسفًا» في الشطرة التي عابها الدكتور من الكلمات التي يصدق عليها هذا القياس؟ لا نظن.

هلال مارس ٥٤١

قلت: إن دل هذا الكلام على شيء فعلى إخراج العقاد خرائده الخالدات من خدرها، وعلى مقاييس النظم والفن عند الأستاذ الجليل … فهل «أسفًا» الزائدة الدودية لتحتاج إلى لجنة أطباء؟!

ويرى طه أن المتنبي وُفِّق إلى شيء من الموسيقى إذ جمع بين الهوى والنوى، قلت: لو قال المتنبي مثلًا: أبلى الهوى أسفًا يوم النوى شغفًا أو سففًا، ماذا كان فعل الدكتور؟! كان رقص بلا شك.

ثم تخطَّى إلى البيتين اللذين قالهما الشاعر في «وفرته»:

لا تحسن الوفرة حتى ترى
منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة
يعلها في كل وافي السبال

وينشغل طه في هذا الكلام «الملتهب شوقًا إلى الحروب ورؤية الدم المسفوك» ثم يتساءل: أفهل كانت الوفرة التي استحسنت له وفرته هو؟! أو هل كانت الوفرة وفرة ترب من أترابه في المكتب؟! وبما أنه ترك لنا حق الفهم نقول: إن الوفرة وفرة المتنبي لا غيرها، والشطر الأخير موجه إلى شيخه الذي استحسنها، وفوق كل ذي علم عليم … ثم وقف طه عند هذين البيتين ليقيمهما دليلًا على القرمطة ويشتمَّ فيهما ريحها، ولكن هذا بعيد.

وانتقل إلى أبياته في «الجرذ المستغير» فرأى — وقد أصاب — أن في هذه الأبيات الأربعة سخرًا لاذعًا، وخصوصًا في البيت الأخير:

وأيُّكما كان من خلفه
فإن به عضة في الذنب؟!

أما أن المتنبي يلوِّح فيها إلى أحوال القرامطة كما توهم الدكتور فهذا بعيد جدًّا. وأقر طه للمتنبي بالسخر، فقال: «فلن ترى سخرية ألذع من هذه السخرية، ولا هجاء أمضَّ من هذا الهجاء.» ثم أنكر عليه السخر في مصر لا لشيء إلا مخالفة الأقدمين. ونظر في هجو المتنبي للقاضي الذهبي، فرأى أن هذا البيت:

سُمِّيتَ بالذهبي اليوم تسمية
مشتقة من ذهاب العقل لا الذهب

مطبوع على غرار أبي تمام:

والحرب مشتقة المعنى من الحرب

وإن الصبي يتجه بعض الاتجاه إلى مذهب أبي تمام، وهذا ما سنعرض له جملة لا تفاريق؛ لأن الأستاذ حوم حوله كثيرًا.

أما خروج المتنبي إلى البادية فلا يدري طه «أرحل يستفيد علمًا وصحة أم ارتحل إليها التماسًا لهذه البيئة القرمطية؟!» ثم لا يقطع بشيء ويرى «أن رحلته أفادته من الناحيتين: ربا جسمه ونما عقله وفصح لسانه، وتعلم أصول القرامطة وعرف مذاهبهم النظرية والعملية معًا.» إننا ننكر تعلمه أصول القرامطة، ونسلم بمعرفته مذاهبهم كما يعلم الطلاب العصريون ما يعلمون عن باريس، فما خرج المتنبي إلى البادية إلا ليتسنى له القول:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرَّاها ويختصم

وحتى يقول فيه أبو علي الفارسي ما قاله. واستدل طه على قرمطة المتنبي بقوله:

إلى أيِّ حين أنت في زي محرم؟!
وحتى متى في شقوة وإلى كم؟!
وإلا تمت تحت السيوف مكرمًا
تمت وتقاس الذل غير مكرم
فثب واثقًا بالله وثبة ماجد
يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم

فقلَّبتُ هذه الأبيات ظهرًا لبطن لأظفر منها بدليل على هذه القرمطة المزعومة فما فتح الله عليَّ بشيء! ما إخال المتنبي قرمطيًّا إلا في مشيته … فإن رضي طه بهذا فقط اتفقنا. أما هذه الأبيات التي نفت من رأسه كل شك فما أرتني أنا إلا شاعرًا يمدح رجلًا بما يحب أن يُمدَح به، فقال له:

يا أيها الملك المصفَّى جوهرًا
من ذات ذي الملكوت أسمى من سما
نور تظاهر فيك لاهوتيه
فتكاد تعلم علم ما لن يعلما

وهذا في نظري كقول ابن هانئ لواحد من هذه النحلة:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار

فماذا نفعل بهؤلاء القرامطة؟! هكذا يعتقدون! كلهم آلهة تمشي على الأرض! أما إلحاد المتنبي في هذه الأبيات وغيرها فلا شبهة فيه، وقد أصاب الدكتور بقوله: «وهذا الكلام وحده صريح في انحراف المتنبي عن الجادَّة الدينية، واندفاعه إلى هذا اللون من ألوان الفلسفة التي هي إلى الإلحاد أقرب منها إلى أي شيء آخر.»

إن شعر المتنبي، في كل طور من أطوار حياته، يدلنا على شكوكه، ولكن هذا غير القرمطة. المتنبي صبا إلى ما هو أبعد منها، فلماذا نضيق عليه؟! هب أننا اكتشفنا هذه القرمطية فهي لا تسوى قرشًا سوريًّا يا دكتور؛ المتنبي أُوتِي عقلًا حرًّا طليقًا وعرف مذهب ديكارت قبل وضعه، وقبل اعتناقك له في الأدب. المتنبي مشكك وليس الشك للعوام، تدرج تدرجًا فدغدغ العقائد في داليته وسينيته، والإلحاد لا يضير الشعر كما قال صاحب يتيمة الدهر، منذ ألف عام، ثم وقف في البائية موقف المنافق، فقال: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم إلخ … وأخيرًا صرح من بعد تهدار، فقال:

تبخل أيدينا بأرواحنا
على زمان هن من كسبه
فهذه الأرواح من جوِّه
وهذه الأجسام من تربه

فقل معي: يرحم الله سليمان الحكيم القائل قبله: من رأى روح الإنسان صاعدة إلى فوق، ومن رأى روح البهيمة نازلة إلى تحت، باطلة الأباطيل وكل شيء باطل. وعلى القرمطية السلام.

إن الجزء الذي يستهلكه الضمير من عقولنا يبقى سالمًا عند النوابغ، وهو الذي يُقوِّي تآليفهم، والمتنبي من هذا الضرب فليكن هذا النور هادينا في درسه. أما إذا صح مذهب فاليري في النصوص، والدكتور يخمع وراء هؤلاء، كان طه على حق، وكان المتنبي قرمطيًّا، علويًّا، إسماعيليًّا …

يرى فاليري «النص أشبه بآلة التصوير، يستطيع كل واحد أن يستعملها حسب ذوقه وحسب طرقه.» ولكن لا تنسَ أن فاليري أبو الأغاليط، وأن هذا المذهب قد ينطبق على شعره، ثم على شعر مقلِّديه من الرمزيين المنحطين الذين صيَّروا الشعر كالطبل … أما عندنا فلسطيح وشق أنمار أكبر حظ من مذهبه هذا. وكأني بالمتنبي كان «فاليريًّا» يوم سُئِل كيف تقول:

بادٍ هواك صبرت أو لم تصبرا

فأجاب: اسألوا الشارح؛ أي ابن جني.

ويعود طه القهقرى ليتناول «أهلًا بدار سباك أغيدها» والذي يقوله فيها كأكثر ما سيقوله في شعر الصبي، وهو يُلخَّص بكلمتين: طباق، مبالغة. وإن زاد على هذا فتنافر الحروف الذي يعبِّر عنه بالفأفأة، والقفقفة، والدأدأة … وقس البواقي، كما يقول النحاة. لا يخرج في كل هذا عن الدائرة التي رسمها الجرجاني صاحب الوساطة بقوله: «وأنا أرى لك إن كنت متوخيًا العدل مؤثرًا للإنصاف أن تُقسِّم شعره — المتنبي — فتجعله في الصدر تابعًا لأبي تمام، و… إلخ.» ثم يؤيد ابن الأثير هذا الرأي، فيقول في مثله السائر: «أراد المتنبي أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه.» وعلى هذه الطريق المعبَّدة تمشَّى طه حتى جعل الطباق قريبًا وبعيدًا (ص١٠٨).

قال المتنبي في هذه القصيدة واصفًا نعله:

لا ناقتي تقبل الرديف ولا
بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها ومشفرها
زمامها والشسوع مقودها

فيرى طه كما رأى الثعالبي فالعكبري أن هذا من قول أبي نواس:

إليك أبا العباس من دون من مشى
عليها امتطينا الحضرمي الملسنا

ولم يدرِ الثعالبي والعكبري — وطه في آخر الزمان — أنه لا أخذ هنا؛ فكلنا نمشي وكلنا ننتعل، وشتَّان ما بين القولين! فحذاء أبي نواس جورب نبيل، حضرميٌّ مُلسَّن كالخُفِّ الأحمر الذي كان يلبسه المشايخ، وكان سبب ثورة كسروان سنة ١٨٥٨، أما نعل المتنبي فمُداس مُقطَّع. وإذا فرغنا من أمر هذا المداس نرى أن وصفه انجلى عن حقيقة تاريخية عرفها طه، وهي أن المتنبي جاء بغداد ماشيًا … والعهد بطه أخرجه من الكوفة داعية قرمطيًّا، كأنني أسمع أبا الطيب يحتج علينا قائلًا:

قفا قليلًا بها عليَّ فلا
أقل من جحشة أزودها

وإذا كان الاستنتاج كما رأينا، فلماذا لا يستنتج الأستاذ من هذا البيت:

أشد عصف الرياح يسبقه
تحتي من خطوها تأودها

أن المتنبي يقلد الشنفرى ويسرقه وهو يريد أن يُحصَى في العدائين والصعاليك؟!

والقصيدة بوجه عام في نظر طه كشعر القدماء في التفكير، وكأبي تمام في التعبير، فأصاب في الرمية الأولى وأخطأ في الثانية. ورأى أيضًا أن القصيدة «تنحدر انحدارًا يوشك أن يكون عنيفًا، والسبب هذا البحر الذي تظهر فيه السرعة والانحدار، ثم القافية الدالية وهي قوية متينة، والهاء المطلقة تصور الرحب والسعة.» نعم؛ إن هذه الهاء تُصوِّر شيئًا من ذلك وتقتضينا فتح فَم كما قال الخليل لبنته، ولكنها كثيرًا ما أتت معلقة بالبيت كما تتعلق بعض الهنات بذَنَب الهر فتركضه. جعل طه كل وكده في هذه القصيدة فأدرك ما أدرك، لم يَفُتْه إلا الذي تعمَّده فيها المتنبي وهو ريح البداوة، فهذه الألفاظ: خرعوبة، وقردد، وربحلة، وجحجاح، وغيرها من بضاعة البادية، يعرضها الشاعر إظهارًا لعلمه وفنه، وما عليه لو خبط فيها قبل أن يبلغ الشام ويمتلك الذوق — لا تنسَ هذه الكلمة.

واستدل طه على شيء آخر له قيمته التاريخية «فالشاعر لم يمدح رجلًا من رجال الحكم وإنما مدح رجلًا علويًّا، وأنه محتفظ بمذهبه السياسي، أي القرمطة.» أرأيت هذا البرهان؟ لا أدري كيف يصل هذا الشاب إلى رجال الحكم ليمدحهم؟ أما رأينا الشعراء قبله يقفون سنين بباب الأمير ولا يدخلون القصر؟ ولكن توهم القرمطة لبس على الأستاذ مسالكه وكأنه لو وجدها ملك البصرة. إن العناد الأدبي يضلل الأستاذ كثيرًا، وربك يهدي من يشاء. وبعد هنيهة ينسى الأستاذ ذاك المذهب السياسي فيرجح خلافًا لما ظن بلاشير أن إقامة المتنبي في بغداد لم تَطُلْ، وأنه لم يمدح العلوي إلا ليستعين بنائله على الرحيل، والدليل عنده على قصر الإقامة أن المتنبي لم يصف «المشاهد التي شهدها في دار السلام.»

كثيرًا ما يتوكأ الأستاذ على هذه الحجة في مهامه الإنكار، ولكنها خيزرانة لا تصلح إلا للهش. إن بضاعة الوصف لم تُنفَق في ذلك العصر، وللمتنبي هدف، فهو لا يدنو إلا مما يصلح مستندًا له، ثم يرى أن المتنبي كان شاعرًا دوَّارًا لا ينقصه إلا رباب، يمدح حتى الأوساط والفقراء. أوحى إلى الأستاذ بهذا قول صاحب اليتيمة: «يمدح القريب والغريب، ويصطاد ما بين الكركي والعندليب.» وليس هذا مضمون كلام الثعالبي. ثم يرى — وهذا أغرب الآراء — أن الشاعر كان يجعل هذا المدح وسيلة لتبين استعدادهم للقرمطة، وهو يعيش في الحالين بما يأخذه منهم أجرًا.

ويبلغ الشاعر سوريا، حافيًا أو منتعلًا أو راكبًا لا أدري، فلم يُوحَ إلى الأستاذ بشيء من هذا، ولكنه عدد لنا مَن مَدَحهم؛ ليقول: إن المتنبي لم يذكر البحتري، حين مدح الطائيين أحفاده؛ لأنه يمعن في قراءة شعر المحدثين وأدب البلغاء، ويدعي مع ذلك أنه لا يقرؤها ولا يحسن العلم بها، حتى افتضح في ذلك كما جاء في الصبح المنبي. الجواب على هذا: من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.

وبلغ مدح مساور، فقال: «ويرى الأستاذ بلاشير والدكتور عزام أنه لم يمدح مساورًا إلا في وقت متأخر بعد موت محمد بن رائق، والذالية تؤيد هذا الرأي، ولكنني مع ذلك أميل إلى ترجيح ما قدمته ولعله مدحه مرتين» (ص١٠٤).

قال أبو علقمة: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف رجحون. فقيل له: إن يوسف لم يأكله الذئب، وإنما كذبوا على الذئب؛ ولذلك قال الله عز وجل: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ. قال: فهذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف! فطه يريد أن يكون له «قول» ولو مثل قول أبي علقمة الجاحظ.

ها قد أشرفنا على قصيدة قتلها القدماء درسًا وشرحًا ومطلعها:

أحيا وأيسر ما لاقيت ما قتلا
والبين جار على ضعفي وما عدلا

قال طه في أول كتابه: إنه أخذ معه أبسط نسخة من ديوان المتنبي، وأنا أزعم له أن شيخنا العكبري زار في «المعية» جبال الألب؛ فأكثر الأشياء التي رأيتها في «مع المتنبي» تثبت ذلك، فهل أحرج إن شككت؟! أليس طه يبيح الشك ويريدنا عليه؟! فهذا الاتفاق أكد لي أن طه هيأ الرفيق قبل الطريق؛ ولهذا رأيته في كتابه هذا مكبرًا فوتوغرافيًّا، أو رسامًا — بالقلم الرصاصي — أخذ في نقد المتنبي بأقوال العرب، وفي تاريخه يقول بلاشير وجبريلي. أما النقد الذي حاوله شخصيًّا فما صح منه نادر، إلا الذي من باب الطباق وتنافر الحروف والمبالغة وغيره من الهينات … إليك مثلًا قوله في «أحيا وأيسر إلخ.» قال: «دار المتنبي حول هذا المعنى ولم يستطع أن يؤديه إلا في شيء من التكلف، فاصطنع هذا الفعل — أحيا — في أول البيت.» فماذا يضر الابتداء بهذا الفعل؟! أنكِرَة هو؟! ولا يجوز الابتداء بالنكرة … أم قيل لهذه اللغة الدرب الدرب فلا نحيد عنها؟! أنريد تعابيرنا كالحدود؟! فالحدود، وهي من وحي الله، تغيرت بتغير الزمان والمكان، فإذا كان الأستاذ يحظر الابتداء بهذا الفعل فليفترض الهمزة كما افترض القرمطية. أتسقط السماء على الأرض لو أسقط المتنبي هذه الهمزة؟! وينتقل طه إلى الشطر الثاني «والبين جار على ضعفي ما عدلا» فينتقد القافية ويرى أنها «عتلت إلى مكانها عتلًا.» إننا نحيله على العكبري ففيه كلام من تمثل لها بقوله تعالى: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ. لماذا ينقل طه الطعن ويترك البراءة؟! ويصل إلى «شيب الكبد» وإلى «الطفل الذي ما سعلا» فيكرر أقوال الموتى في هذه الأبيات التي هي من الخمس الدون من شعر المتنبي. وقبل أن أدع هذه القصيدة أحب أن أعرض عليك نموذجين من نقد طه الفني.

قال المتنبي:

بما بجفنيك من سحر صلي دنفًا
يهوى الحياة وأما إن صددت فلا

قال طه: «فستنكر هذا الاستحلاف الذي يفجأك بهذه الباء تليها باء أخرى لا يفصل بينهما إلا هذا الموصول، وهو حاجز غير حصين، كما يقول النحاة. ثم اقرأ البيت فسترى قصورًا في الأداء لم يستطع الشاعر أن يخلص منه، فاضطر إلى الحذف وإلى الإضمار، فهو يريد أن يقول لصاحبته: صلي دنفًا يهوى الحياة ما وصلته، فأما إن صددت عنه فلا يهواها.»

ألا تعجب معي لهذا الذوق ولهذا العلم، بل لشيخ أزهري كالأستاذ قبل أن تدكتر؟! ألم يقل العرب: خير الكلام ما قل ودل؟! أليس الإيجاز خصلة عربية بدوية في الملبس والمسكن والمأكل والمشرب والكلام؟! فكيف لا يرى هذا «الاكتفاء» الذي عدُّوه من ضروب البديع، ثم يرى السجع، وهو آخرها، فيستحسنه ويسمع موسيقى ساحرة حيث يلائم المتنبي بين كلاب وتراب وجناب؟

ويقول المتنبي:

لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

فيحتج طه على الإضمار قبل الذكر، ثم يقول: «وأنا أعلم أن هذا ليس خطأ ولست أذكره لذلك، وإنما أذكره لأضع يدك على الجهد الذي يبديه الصبي في إقامة شعره.»

وهناك أمر آخر أنا أذكره لك بالنيابة عن الدكتور وهو زيادة صفحة في الكتاب، وآية ذلك قوله بعد أن بيَّض إحدى عشرة صفحة في نقد قصيدة هي من رديء المتنبي: «نحن لا نخرج من هذه القصيدة بشيء ذي غناء.» قلت: ما دامت هذه حالها، فلماذا نفشها هذا النفش؟! ألينتقم من قرائه يا ترى؟!

وانتهى إلى «أرق على أرق» فمضى فيها حتى بلغ قوله:

أبني أبينا نحن أهل منازل
أبدًا غراب البين فيها ينعق

فظن أن الشاعر يعني بني أبينا قومه القحطانيين — وهذا آخر الآراء في العكبري — فأكد هو أن المتنبي يعني ذلك؛ لأن الهجرة من طبعهم والغربة معروضة عليهم. وهكذا قضى على القرمطية التي جعلها سبب هجرة الصبي! عظَّم الله أجر طه في هذه القرمطية التي أقضَّت مضجعه، والذي عندي أن مرام المتنبي هو الوعظ، فكلنا أبناء آدم، ولكنه وعظ بليد. ولا يكفُّ طه عن الطباق، والطباق في كل كلام الناس، فلو قلت: أكل وشرب، ونام وقعد، وطلع ونزل. لا يبعد أن يراك طه تُقلِّد أبا تمام؛ ولهذا نترك الطباق وطه وشأنه فيه …

واستغرب طه كيف يبكي المتنبي على شباب لم يفارقه حيث قال:

ولقد بكيت على الشباب ولمتي
مسودة ولماء وجهي رونق
حذرًا عليه قبل يوم فراقه
حتى لكدت بماء جفني أشرق

فقال: «وأكبر ظني أن الشاعر يتكلف التعليل هنا كما تكلفه حين ذكر لومه للعاشقين واعتذاره بعد ذلك عنهم.»

قلت: لا أكبر ولا أصغر يا أستاذ، هذا ضرب في الرمل … فبكيت هنا لا تؤدي أكثر من حسرة تمر كثيرًا في رءوسنا فتؤلمنا كنكزة عارضة في الشرايين، هذا الذي لمحه الشاعر العظيم فسجَّله، وقرائح الشعراء الكبار كتلك العدسات التي تصور أبعد النجوم، وما أقل الشعراء الذين يلمحون الشبهات!

وينتقل إلى السينية «هذي برزت لنا» فيبرز لها وتبرز له، فيرى فيها سفاسف أطفال، وكذلك هي، فالشعر الذي ينظر فيه طه حصرم فج. وينتقل إلى السينية الأخرى فيراها كأختها، ويستكين المتنبي قليلًا ويأكل، في طرابلس، حلوًا مصنوعًا طُرَفًا — يظهر أن السوريين يحسنون اصطناع هذه الحلاوة وإهداءها من قديم — فيراه طه فارغًا لصغائر الأمور؛ لأنه وصف هذه الطرف الحلوة. قد تكون أول مرة لقي فيها المتنبي ضيافة سابغة، وأُطعِم شيئًا حلوًا، فأية كبيرة ارتكب أن قال شعرًا في ذلك؟! ولماذا نتشدق في إطراء شعر ابن الرومي حين يقول شيئًا من هذا؟!

ونمر عجالًا فنصل إلى رثاء التنوخي أولًا وثانيًا وثالثًا، فيقف بنا طه عند هذا البيت:

أليس عجيبًا أن بين بني أب
لنجل يهودي تدب العقارب

وإنما وقف عنده — كما قال — ليضع بإزائه هذا البيت:

فلا تسمعن من الكاشحين
ولا تعبأن بمحك اليهود

فيتساءل طه عن هذا اليهودي كأن هناك يهوديًّا حقيقيًّا … وترافقه الفكرة في الكتاب فيعمل من الحبة قبة، كعادته، ثم لا يجزم بشيء، وهذا شأنه في دراساته، فهو يبني ويهدم كما كنا نفعل صغارًا في بناء العلالي والقصور حول بيوتنا.

أما هذا اليهودي الذي يسأل عنه فلا يبعد أن يكون ذلك «التائه» الذي لقطه أوجين سو، فيما بعد، فأقضَّ خياله مضجع الآباء اليسوعيين؛ فليسترح بال الأستاذ ليريحنا من مشاكل عديدة كهذه، فأقل ما يقال فيها أنها توافه …

طه بين بلاشير وماسينيون

ويبلغ طه بالمتنبي باب التنوخيين فيذكر أنه مدح أحدهم عليًّا بثلاث قصائد مطلع أولاها:

أُحاد أم سُداس في أُحاد
لييلتنا المنوطة بالتنادي

ويسأل القارئ ألا يقف عند مطلعها السخيف الغامض، ويحشي كتابه لينبئنا باكتشاف جديد في علمي الحساب والفلك … وهو أن العالم ماسينيون فسَّر هذا «الجفر» الذي حير المتقدمين والمتأخرين، فرأى — نفعنا الله بعلمه — أن حاصل أحاد أم سداس في أحاد سبعة، وقد فسره المتنبي في البيت الذي يليه:

كأن بنات نعش في دُجاها
خرائد سافرات في حداد
فهذا العدد — كما حدثنا طه عن ماسينيون — رمز لبنات نعش. ويقول طه في اكتشاف ماسينيون هذا: وهو رأي أقل ما يقال فيه إنه طريف (ص: ١٤٥). قلت: فلنضم إذن هذا الطريف إلى تليد ميراثنا الأدبي، ونعلم فتياننا أن يتوغلوا هكذا في مجاهل التفكير مقتفين آثار جهابذة العرب والعجم … فيا ليت شعري إذا كانت هذه طرافة، فمن يقول لي كيف تكون السماجة والبلادة؟! إننا نعوذ من هذا الهذر بشيخنا الشدياق فالجواب عنده. وقد رأى قبلنا غرائب المتمشرقين وعجائبهم في تفسير أدبنا العربي فنبه إليه منذ قرون؛ قال رحمه الله:

لما حان الذهاب إلى برستول مررت بأكسفورد وقصدت أن أرى خزانة الكتب فيها، فسألت بوَّاب المدرسة عن شيخ العربية ليهديني لها … ثم بعد طول بحث ومعالجة اهتديت إلى دار الشيخ — الأستاذ — فقابلته، وسألته أن يريني المكتبة تفضلًا وتكرمًا، فأجاب إلى ذلك وسرنا معًا. وأول كتاب فتحه كان بالخط الكوفي، وإذا في أول الصفحة «أَلَا» فقرأها «ألَّا» وفسَّرها الله، فتعجبت كيف انخدع فهمه لسمعه؛ لأنهم جميعًا يلفظون اسم الجلالة مرققًا هكذا. وسألني مرة أستاذ آخر: أتعرف لماذا دلت «في» على الظرفية؟ فقلت: لا. قال: لأنها مشتقة من الفم الذي أصله فوه. وهكذا يخمِّنون ويخرِّصون على معاني المفردات والمركبات في لغتنا.

وهاك مثلًا على علم هؤلاء الأساتيذ وعلى شرحهم كتبنا تطفلًا، فتصور مثلًا شرح أستاذ أكسفورد لبيت أبي تمام:

همة تنطح النجوم وجد
آلف للحضيض فهو حضيض

فيقول الشيخ بلغته: النطاح مختص بالحيوانات التي لها قرون كالثور والتيس والوعل ونحوها، وقد ذُكِر في التوراة مرات كثيرة، ويمكن أيضًا أن يُنسَب إلى ما ليس له قرن؛ فقد روى ليناوس — الذي قسَّم جنس الحيوان إلى سبعة أقسام — أن الحيوانات الجماء تتناطح بجباهها، وقد أطلقت العرب اسم الكبش على آلة من آلات الحرب؛ لأنها تنطح الجدار. و«النجوم» معروفة، وقد كانت العرب تهتدي بها في أسفارهم قبل أن عرفت خاصية إبرة المغنطيس، ولما كانوا مشتغلين بالعلوم الفلكية والطبية لم يكن في أوروبا من يشم لها رائحة — وهنا نترك تلخيص أستاذ أكسفورد لتاريخ الأندلس في هذه المناسبة — وينتقل إلى «أل» التعريف في النجوم، فيشرحها في اللغات الأخرى، ويتناول النون في النجوم حيث اختفت «أل» التعريف مع الحرف الشمسي، فيخبر عن ناموس وتاريخ نيوتن — اقرأ كشف المخبا ص١٢٦ إذا أحببت التفكهة تامة فأنا لا أنقل هنا إلا ما يمس موضوعي — ثم يقول: أما قوله: جد آلف للحضيض. الحضيض هنا معناه الأرض من تسمية الكل باسم الجزء، ووروده في التوراة كثير. وفحوى البيت أنه — أي الممدوح — ذو عناية بالأرض أي بحرثها وإحيائها، وإنشاء المدن فيها وتسوية الأحكام بين أهلها؛ لأن الأرض كثيرًا ما تُذكَر ويُراد بها سكانها، وذلك أيضًا مستفيض في التوراة حتى إن الممدوح صار خصبًا وأرضًا لقاصده. هذا إذا لم يفهم الحضيض الحديد، فيكون التفسير غير هذا.

ويختم الشدياق كلمته بقوله: «وهكذا يمشي على انعكاس البيت بهذا القصد هو وتلامذته. وبعد انقضاء ساعة ونصف على تأويله يقومون وهم سامدو الرءوس، عجبًا وفخرًا، ويظنون أن شيوخ الجامع الأزهر والأموي والزيتونة هم دون هذا النحرير.» ا.ﻫ.

قلت: وكذلك هي حالنا اليوم — في النصوص — مع أكثر علماء الغرب، فإنهم ينطحون جدران أدبنا متوهمين أنهم أتوها من الأبواب. لا ننكر أنهم صاروا أحسن مما كانوا في عصر شيخنا الشدياق، ولكنه ينقصهم فت خبز كثير حتى تشتد سواعدهم ويرموا صائبًا في هذه المواقف التي قصرت فيها فحول العرب.

وإن رأى طه — وهو الأستاذ الكبير — سفساف ماسينيون شيئًا طريفًا، ولم يجرؤ على تسفيهه، فسترى منه أكثر، فاصبر وانتظر، ها هو ينتقل إلى القصيدة الثانية التي مطلعها:

مُلِثَّ القطر أعْطِشْها ربوعا
وإلا فاسقها السم النقيعا

ثم إلى الثالثة، ومطلعها:

أحق عافٍ بدمعك الهمم
أحدث شيء عهدًا بها القدم

فلا يرى في هذا الشعر إلا «جزالة اللفظ ورصانته، وصحة المبنى واستقامته، واعتدال الأسلوب وحسن انسجامه» (ص١٤٤). أما الخطوة الواسعة التي جراها الشاعر فما تحسسها طه. لم يشعر قط أن المتنبي يثور بالأقدمين ولا يزال في صفوفهم، وهو يتهيأ للانفصال عنهم حين تواتيه الفرصة، انشغل طه عن كل هذا بمذهب الشاعر السياسي، فرآها هنا «أعم من القرمطية والتشيع»، فقلنا اهتدى الأستاذ! ولكن شيطان القرمطية المريد يعود فيوسوس له، فيقول: «وأنا أعتقد أن الفتى أخفى قرمطيته بعد انهزام القرامطة» (ص١٥٥). وتعاود النوبة الأستاذ حين يصل إلى الدالية «كم قتيل كما قتلت شهيد» فيرى أن المتنبي يسخر ويستهزئ حين يقول «هنَّ فيه أحلى من التوحيد» وأنه قد أثم في هذه القصيدة، أما أنا فأزعم لطه أنه هو الساخر الهازئ هنا لا المتنبي.

ويبلغ طه «ضيف ألم برأسي غير محتشم» فيجد فيها ضالته بشياتها وسماتها، فيحسب أن المتنبي قرمطي؛ لأنه يقول:

شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة
ويستحل دم الحجاج في الحرم

فهذا ما يفعله القرامطة، فهم لا يصلون وقد ذبحوا الحجاج في الحرام؛ إذن المتنبي قرمطي!

لقد حان أن نودِّع هذه القرمطية الوداع الأخير، ونرمي آخر حجر في قفاها. زعم بلاشير أن المتنبي عارف بأصول القرامطة، واستدل على زعمه بهذا البيت: شيخ يرى … إلخ. فجاء طه الذي اعتمد على بلاشير في تاريخ الشاعر، فقال: إن المتنبي قرمطي لا شك فيه، وهذا حق. أما هكذا تنمو القصص وتكبر حين تتناقلها ألسن الرواة؟! وإذا لم يزد طه على بلاشير فماذا يكون فعل؟! أيترجم فقط؟!

أما أنا فأعجب لهذين الأستاذين بلاشير وطه حسين، كيف عالجا المتنبي ولم تظهر لهما شخصيته، فعللاها بأبسط الأشياء كالقرمطية مثلًا.

يقول طه: «ولكن إقامة المتنبي في طبرية قد كشفت عن ناحية من نواحي ملكته الشعرية لم تظهر في شعره السابق، وهي قدرته على الوصف وبراعته في تصوير الطبيعة.» ثم يسرد عشرة أبيات من «أحق عافٍ» في وصف بحيرة طبرية، منها:

والموج مثل الفحول مزبدة
تهدر فيها وما بها قطم
والطير فوق الحباب تحسبها
فرسان بلق تخونها اللجم
كأنها والرياح تضربها
جيشا وغى هازم ومنهزم
يشينها جريها على بلد
تشينه الأدعياء والقزم

كان يجب أن يفهم طه — إذا لم يفهم بلاشير وماسينيون — من شعر المتنبي كله، ومن هذه الأبيات التي وقف عندها، أن للمتنبي هدفًا ظهر في شعره منذ صبوته فلا يعلله بهذا الغرض السخيف: القرمطية.

للشاعر فكرة تسيطر على كل شعره، صبيًّا وشابًّا ومكتهلًا، لا تحول ولا تزول، فكأنها الله الذي علمني جدي أنه موجود في كل مكان حتى في جهنم؛ هذه الفكرة تظهر في شعر المتنبي كله حتى في غزله ورثائه وذكر الخمر. خذ أية قصيدة شئت، وراقب أية منظومة تقع أمام عينيك، فإن لم تجد ما قلت لك فأنا أقطع يميني.

فأي دليل على القرمطة في شيخ يرى الصلوات إلخ؟! أهناك غير ذلك الحادث التاريخي؟! ولماذا لا يكون المتنبي نفسه هذا الشيخ؟! أهذا بعيد عن لحيته؟! أتعصمه تقواه؟! … إن المتنبي يستغل كل شيء ويستخدم كل فكرة مهما سمت وقدسها البشر ليخضعها لفنه، ليس يعنيني أأحسن أم أساء، فخطيَّته برقبته وإثمه على نفسه، إنما العجب من اثنين مسرف ومقتصد: طه، وبلاشير. كيف يتنازعان دليلًا أوهى من شعرة معاوية؟! رحم الله الجاحظ، أليس هذا الزعم أشبه «بأنبياء النحل» صلوات الله عليهم؟!

خبرنا أبو عثمان قال: «زعم ابن حائك وناس من جهال الصوفية أن في النحل أنبياء؛ لقوله عز وجل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وزعموا أن الحواريين كانوا أنبياء؛ لقوله عز وجل: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ وما خالف أن يكون في النحل أنبياء بل يجب أن تكون النحل كلها أنبياء؛ لقوله عز وجل على المخرج العام: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ولم يخص الأمهات والملوك واليعاسيب بل أطلق القول إطلاقًا إلخ.»

إننا نرفع هذه النكتة الجاحظية إلى مقام عميد كلية الآداب ولا نعلق عليها شيئًا ولكننا نتمثل في مملكتنا الأدبية بقول أبي الطيب في السياسة:

وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم

فلنتقِ الظلع خلف هؤلاء المستعربين لئلا تضرب علينا المسكنة في الأدب والسياسة معًا.

هوس وعبقرية

ويبلغ الأستاذ قول المتنبي:

أي محل أرتقي؟!
أي عظيم أتقي؟!
وكل ما قد خلق
الله وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي

فيقف عنده ليقول: «إن الشاعر تجاوز كل حد ممكن، وإن الخلفاء والأمراء حبسوا غير شاعر في القرون الأولى لأمور أيسر جدًّا من هذه، وإن الأثينيين قتلوا سقراط لأمور ليست أشد مما تورط فيه المتنبي.» يقول هذا ليذهب مذهب أعمى المعرة الذي ينفي دعوى النبوَّة عن «الشاعر» زاعمًا لنا أنه أخذ بهذا الإلحاد، أما أنا فما رأيت أبياتًا كهذه تفتح باب السجن في دولة تتفكك وتنتثر كأعضاء الأبرص. ولكن حماقات المتنبي مجتمعة إذ يرى نفسه كالمسيح وصالح ثمود، وهذه الثورة الصاخبة كالتنور المسجور تغري الحاكم بتأديبه خوفًا على الكرسي لا على السدرة …

ما رأيت المتنبي في «أي محل أرتقي» إلا محمومًا حرارته فوق الأربعين أو كالمصروع في الهلة، ولكنه جنون كالعقل يُستملَح ويُستحَب لهذا الإطار الفني، وكم صورة يجمِّلها إطارها. في دماغ المتنبي ظلمات مدلهمة لها عندنا ألف يد تخبر أن المانوية تكذب، ولأجل هذه الأشعة المنفلتة، لأجل هذه الأبيات المجنونة وأشباهها أكاد أجزم أن في دماغ أبي الطيب ناحية خربة، بل أتصور دماغه دنيا فيها العامر والغامر، وفيها الربع الخالي والحرَّات، فهو تارة ينزلنا بوادٍ غير ذي زرع، وأخرى عند جنات تجري من تحتها الأنهار، وفيها من كل فاكهة أزواج … أتصور دماغه كقرص عسل فيه نخاريب مقطنة، ونخاريب عامرة فيها دواء للناس. وقد يكون هذا النقص الذي عبَّرنا عنه بالجنون — ولا نعني جنون ذاك الذي يراشق بالحجارة — سببًا للكمال الفني الذي جلس المتنبي على عرشه يُمثِّل المهازل، وكم في المهازل من عظة وحكمة …

ألا يلذ لك صراع هذا الشاعر المهوس مع «الدهر»؟! فهو غريمه لا الناس، ألم تره كيف يمثل الدهر بشرًا سويًّا ليطالبه بدينه، ويركب كتفيه، فهو يجدُّ في أبشع هوسه، ويستعدي عليه كافورًا بقوله:

ويا آخذًا من دهره حق نفسه
ومثلك يُعطَى حقه ويهاب
لنا عند هذا الدهر حق يلطه
وقد قل إعتاب وطال عتاب

أرأيت كيف تموج الحياة تحت قلم الفنان؟ ألا ترى المتنبي يتحدث كأنه جاد فتكاد تقول معه: آهًا منك يا دهر، يا أكَّال الحقوق! … يا كافور احجز متاعه، وسلط عليه أبا الطيب يتصرف به تصرف المالك المطلق … إن حماقات المتنبي الكثيرة مكنت منه حساده وأعداءه فادعوا عليه ما شاءوا، ولو لم ترافق دعواه الشبهات لظل ناعم البال يحمق ويبتهر. لا إخال المتنبي يحب مملكة الروح، فهو لا يؤمن بغير مملكة اللحم والدم، ولا يؤلِّه غير العقل، وبهذه الأداة حاول أن يسود فحبطت مساعيه وكان الأدب أسعد حظًّا. لم ينط به كافور ضيعة أو ولاية، فشكرًا لأبي البيضاء وعاش المخصي فقد أسدى إلينا جميلًا عجزت عنه الفحول البيض …

ما لنا وللنبوة؟! فهي حكاية لا تنفع ولا تضر، وقلَّما تلامس فن الشاعر، وهو غير باكٍ عليها، فما آلمه إلا الخيبة، إلا هذا الدهر القليل الدين، فقد ماطله جدًّا وأكل أخيرًا حقه … فعاش ومات منحوس الطالع كما قال:

أبدًا أقطع البلاد ونجمي
في نحوس وهمتي في سعود

أما اليأس فما عرف إلى نفس شاعرنا سبيلًا، فكأنه المصارع لا يسقط حتى يقوم، يعالج هذا الحرمان بهذا الشعر المزرق اللهب، فينفس عن ذاك الوعاء المسلح فلا ينصدع ولا ينفجر، بل يقول:

كذا أنا يا دنيا فإن شئت فاذهبي
ويا نفس زيدي في كرائهها قدما

وكأن وهمه يتحقق في آخر الأيام فيرى الدهر شخصًا يتنفس مثله، وأنه هو شجا في حلقه، فيهتف:

ما أجدر الأيام والليالي
بأن تقول ما له وما لي؟!

وكفى الله المؤمنين القتال. ما رأيت المتنبي إلا ربابًا — وأجل قدره عن الطبل وإن كان التشبيه أنسب — تزيدك أنينًا وأنغامًا ما زدتها مسًّا وجسًّا، فهو ومنيته كبولس الرسول القائل: لا حبس، ولا اضطهاد، ولا جوع، ولا عري، ولا ملوك، ولا سلاطين، ولا قتل، ولا موت تفصلني عن محبة المسيح. أو كما قال ابن القدوس:

والشيخ لا يترك أخلاقه
حتى يُوارى في ثرى رمسه

فإنه لم يترك هذا الحمق الذي نغبنه إذا قومناه بالشيع والبدع، فلولاه ما كان لنا هذا الفنان المهوس، ما كان لنا شاعر ضج من طول عمره الأبد …

ويصف طه حيرة المتنبي بعد الحبس فيجيد، ولكنه يلتهي بزبرج الكلام، فينقض ما زعمه سابقًا عن أسباب خروج الصبي من الكوفة، فيقول: «وفيما يعود إلى الكوفة بائسًا معدمًا وقد خرج منها يبتغي الأمل والغنى.» ثم تهجس القرمطية في صدر الدكتور فيقول فيها ما يقول، أما نحن فقد طلقناها ثلاثًا. ويأتينا ببرهانه على وحشة المتنبي ومناجاته الأسود حين قال: «أجارك يا أسد الفراديس مكرم» فينبئنا أنه متأثر بامرئ القيس والفرزدق؛ لأنه خاطب هذه الأسد كما خاطبا الذئب. ويسأل طه أسئلة لذيذة! كقوله: أسمعت الأسود لغناء هذا الشاعر الحزين؟! لست أدري، ولكن المحقق أنها لم تحفل به إلخ (ص١٩١).

ويطل على «دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا» التي ختمها المتنبي ببيت يدلنا على أنه ما لان ولن يلين كما توهَّم طه:

فالموت أعذر لي والصبر أجمل بي
والبر أوسع والدنيا لمن غلبا

فيشتغل طه بتاريخها ليرى غير ما رأى بلاشير، ويمر على «فؤاد ما تسليه المدام» كالبرق الخاطف فلا يلم بتطور الشاعر فيها وفي أختها «أفاضل الناس أغراض لدى الزمن» بل يهرول إلى «لك يا منازل» وغيرها حتى يبلغ «أركائب الأحباب إن الأدمعا» فيقول في هذه ما قاله في غيرها، أي إنها «مدح متصل متشابه معاد لا تجديد فيه ولا تغيير، وإن الشاعر ينهج نهج أبي تمام، وإذا ظهرت شخصيته من حين إلى آخر فإنما تظهر في أوقات العنف الذي ليس بعده عنف.» وإنما قال: «ليس بعده عنف» ليوهمنا أن المتنبي لا يأبى الضيم. ولكن طه أدرك الآن بعض ما كان يجب أن يدركه، ويضع يد القارئ عليه، ويستغني عن تلك الجمل المرصوفة التي لا تغني شيئًا.

لا شك أن الشخصية كالحياة الكامنة في البراعم، فهي لا تتفتح إلا إذا احتضنتها أمنا العظمى؛ فهذا العنف أو هذا الاستفزاز هو أبو الشعر الخالد، وبالقدح تُبعَث النار.

ثم يتساءل طه عما ينقص المتنبي لينبغ، فيرى أنه ينقصه شيئان: عيشة راضية، وبيئة مثقفة. أما أنا فأراه قال أحسن شعره في حالتي الأمل والألم — لا أدري إذا كان الأستاذ يتهمني بجناس أبي تمام — فلا البيئة المثقفة ولا العيشة الراضية قوَّلتاه شعرًا. قوله الشعر الرائع هذان الصاحبان — الأمل والألم — اللذان لم يفارقاه ساعة. أما البيئة فقد فعلت كثيرًا في شعره، وسنؤدي حسابها جملة للأستاذ الجليل؛ لأنه يعرض لها بشيء من المكر، وما أحلى التمثل بقول عبد الملك للأخطل: ما أخرج هذا منك يا أبا مالك، إلا خطة في رأسك!

ويخرج طه مع المتنبي إلى طبرية فيرى أنه وجد عند بدر بن عمار الحياة الهادئة — ومن يقول إن هذا الإعصار يحب الهدوء؟! — والبيئة المثقفة التي لم يجدها في سوريا … فوثب فنه.

ثم تناول بنقده المعهود «أمن ازديارك في الدجى الرقباء» فمغط شرحها ما أطاق وأطاقت، ورأى ريح الصوفية تعبق من أردانها، وأعجبته «الطعنة النجلاء» وتهلل لإشراك الشاعر ناقته والليل في التفكير والعمل، ولكني لا أدري كيف نسي أن يقول إن المتنبي يقلد عنترة في هذا؟! ويبلغ طه هذا البيت:

فتبيت تسئد مسئدًا في نيها
إسآدها في المهمه الإنضاء

فيرتمي فوقه كما يقع صبي على لقطة، ولا حاجة في نفس طه إلا الدلالة على التكرار. وقد دُهِشت لغفلته عن الطباق في هذا البيت:

أنساعها ممغوطة وخفافها
منكوحة وطريقها عذراء

أفلا يجد ذاك الطباق — البعيد على الأقل — بين منكوحة وعذراء؟! قد يكون انشغل عنه بالمبالغة، ولكنه أنصف الشاعر ولم يُخفِ إعجابه ببعض هذه القصيدة.

وهنا يطلع علينا طه ببدعة جديدة في تقويم الفن، وهذا شأنه كلما سمع شعرًا خفيف الخطى، أو رأى تصريعًا كما سترى، فإنه يتأول تآويل مضحكة. رأى في «أحلمًا نرى أم زمانًا جديدًا» أن الشاعر باصطناعه هذا البحر المتقارب كأنما هو عجل يريد أن يغلب الأمير على التفكير والروية فهو يرميه رميًا سريعًا جدًّا، ولكنه إن غلب الأمير فلن يغلب طه كما يقول! ثم يغالط الدكتور نفسه ليرينا المتنبي ذليلًا، فيعكس على المتنبي معناه بقوله لبدر:

طلبنا رضاه بترك الذي
رضينا له فتركنا السجودا

فيقول: «ولو أن بدرًا طغى على نفسه وعلى الناس وخرج عن طوره، ورضي من المتنبي وأشباهه أن يسجدوا له لما تردد المتنبي فيما أرى.»

إن شعر المتنبي وأخباره المأثورة تنفي ما قال وسيقول طه في هذا الصدد، وإني أرى الدكتور فهم السجود بمعناه الكبير، وليس هذا الذي يفعله الشعراء للأمراء، ولكن المتنبي يأباه في حالتيه، وما رأيته هنا إلا ممتنعًا عنه، فتغدى الأمير قبل أن يتعشاه، وكان لبقًا كيسًا … أما ما عقبه طه على هذه القصيدة فلا يتعدى المبالغة والطباق.

وهنا لا بد لي من كلمة جاء وقتها وإلا فما عذري عند قرائي؟! إن في شعر المتنبي لعشاق المبالغة وتراكب الحروف مرعى لا يجف، ومعينًا لا ينضب. وفيه للعبقرية سماء ما طاولتها سماء — اللهم في الشعر — فالمتنبي كالصبي النابغة يدهشك ذكاؤه وفهمه، ثم لا تلبث أن تراه يتمرغ بالتراب إرضاء لصبوته. هو كالمنجم تبر وحصى — كما نظم حافظ قول هيغو عن نفسه — إنه ظلمة كثيفة كلَيْل امرئ القيس، ولكنه كعارض الأعشى في حافاته شغل.

ونصل إلى لامية الأسد فيعجب بها الأستاذ ويعدها آية، غير أنه ينعى على الشاعر الانحراف الديني؛ لقوله:

لو كان علمك بالإله مقسمًا
في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فيهم ما أنزل الـْ
ـقرآن والتوراة والإنجيلا

وهذا النعي نقبله من غير طه، إلا إذا كان يريد الاحتكار «فليست الديانة — كما قال الثعالبي بعد الأخطل — عيارًا على الشعراء ولا سوء المعتقد سببًا لتأخر الشاعر.» ولكن طه تجاوز عن هذا السخف للشاعر، والعفو حلو عند المقدرة، في سبيل الوصف الرائع للأسد. وقد سرده بيتًا بيتًا، وأثنى عليه بقوله: «هذا كلام يمكن أن تنظر فيه نظرًا سريعًا لتحس ما فيه من جمال وروعة وترى فيه فتوة وقوة ما أرى إلا أن الشاعر قد استعارهما من نفسه وخلعهما على ممدوحه» (ص٢٢٩) — لا تنسَ هذه الكلمة فساعتها قريبة — وهنا أحس طه بمقدرة الشاعر الفنية إذ رآه يجمع الوصف المادي والمعنوي للبث، والحكم والأمثال، فحمدنا الله على ذلك.

وعرض طه لسخط بدر على الشاعر، واستعطاف المتنبي له، فما شرد هذه المرة ولا ند بل لم يتمحل لذلك أسباب عجيبة، فعزا ذلك إلى كيد القصور وإلى جهل الشاعر مصطلحاتها وآداب الملوك، واستعلائه على أصحابه عند الأمير.

ويفر المتنبي إلى جرش ويقول فيها قصيدته الخالدة «لا افتخار إلا لمن لا يضام» فيحسن الدكتور كل الإحسان تحليل الساعات التي حبلت بها وأنتجتها، ولكنه ضلَّ ضلالًا بعيدًا بل فهم بالمقلوب؛ إذ ظن المتنبي يقولها لأنه ذل، فها هو يترك «بدرًا» وسوف يترك بعده الشمس والليل … ففي قوله: لا افتخار إلا لمن لا يضام، فخر امرئ ما رأى فوق نفسه من مزيد، وإدلال رجل واحد على العالمين، ومعاذ الله أن يقر المتنبي الذل في نفسه وأن يعنيها بقوله — كما توهم طه:

من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام

وفي قوله بعد هذا جلاء الشك والريب:

أقرارًا ألذُّ فوق شرار
ومرامًا أبغي وظلمي يرام؟!
دون أن يشرق الحجاز ونجد
والعراقان بالقنا والشام

يلذ لي أن أقرئك ما علقه العكبري على شرح هذا البيت الأخير، قال: «المعنى» يقول: «لا ألذ قرارًا دون أن تشرق هذه المواضع بالرماح وأن أملأ البلاد بالخيل والرجل وأقاتل الملوك وآخذ بلادهم، ولعلها كانت لآبائه فاغتصبت منهم، وهذا من حماقته المعروفة، ولا بد له في كل قصيدة من هذا.»

ولست أقول شيئًا في الأسلوب الرومنطيقي الذي اصطنعه الأستاذ ليحدثنا عن الشاعر وشيطانه، فاقرأْ تعلم أن طه يعبث كما أنذر في أول كتابه، ثم يعرض لاتصال الشاعر بالإخشيد أو بعامله فيخالف بلاشير ويبزه، وهذه جسارة نشكرها له ونعرفها به، إنما على غير الإفرنج، فرأي طه هنا أمثل من زعم بلاشير «ولو قد لقي المتنبي الإخشيد — كما يقول الدكتور — لما قصر في ذكر ذلك والافتخار به، والموازنة بين الإخشيد وبين مولاه كافور ولا سيما حين غضب على كافور» (ص٢٧٠).

ويتصل المتنبي بابن طغج في الرملة ويمدحه بقصيدته:

أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم
علمت بما بي بين تلك المعالم

فيعترض الأستاذ على ألف «أنا» بقوله: «فانظر إلى هذه الألف التي أثبتها في الضمير أول البيت ليقيم الوزن.» قلت: هذه الألف يجوز حذفها وما جاز حذفه لا يمتنع إثباته. ثم يعود بنا إلى المجانسة بين لائم واللوائم، أما نحن فقد فرغنا منها ومللنا عرض هذه البضاعة في سوقنا، ويتخطى إلى نقد حذف المضاف، فيقول: «كان عليه أن يقول: إن كنت وقت لوم اللوائم.» فليعرني الأستاذ سمعه دقيقة لا غير: إن طبع المتنبي وعلمه يأبيان عليه حشر المضاف والمضاف إليه في هذا المضيق وهما من لفظ واحد، فاكتفى بهذا الظرف الذي ينجده على الإضافة. ولمثل هذا أوجب النحويون حذف اسم لات وما أشبهه؛ فأنا أحمد لأبي الطيب هذه الفطنة والجرأة، وأود أن يظل باب الاجتهاد مفتوحًا فتقاس الأشياء على أشباهها؛ فهذا الحذف يدل على علم وذوق معًا يستحق لأجله المتنبي أجزل الشكر.

ثم يذكر طه هذين البيتين:

حسان التثني ينقش الوشي مثله
إذا مسن في أجسامهن النواعم
ويبسمن عن در تقلدن مثله
كأن التراقي وشحت بالمباسم

فيقول: «قد وجدا من يُعجَب بهما إعجابًا شديدًا، أما أنا فلا أرى هذا التشبيه إلا إغرابًا ينتهي إلى السماجة.» قد نكون على رأي الدكتور فيهما، ولكن: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

ويرى طه أن المتنبي قد صقل بعد ترك «بدر» وثقفته الحوادث فصلح للمنادمة ومعاشرة الملوك والأمراء، غير أنه انتقد عليه شعرًا «يغضب الله ويغض من المروءة، ويصور لنا استهانته بالدين وتلوُّنه.» لقوله:

وأوضح آيات التهامي أنه
أبوكم وأجدى ما لكم من مناقب

قال طه: «وواضح أن أبهر آيات النبي التهامي إنما هو القرآن لا أبوته للعلويين.» أفلا يغتفر لي طه إساءة الظن؟! إن نضاله عن الله، عز وجل، ورسله عليهم أشرف الصلاة والسلام، يريبني جدًّا.

وأخيرًا بعد كتابة ثلاثمائة صفحة أدرك طه — أو كاد — أن المذاهب السياسية عند المتنبي وسيلة لا غاية، قلنا إن المتنبي بشر مثلنا رغم أنفه، وشعرة مفرقه تلك …

وأناخ الدكتور بكلكله على القصيدة التي على الزاي وليس فينا من يستخف قافيتها وتطربه موسيقاها، وإن آخذنا الأستاذ فلأنه لم يذكر أولها بخير، وهو وصف فذ للسيف لم نقرأ مثله في الشعر العربي، أفنلهو دائمًا بالجراز والعكاز والوجوه والأعجاز لنذكر الطباق؟! أنكون في نقدنا كالمرض لا يصب سخطه إلا على العضو الضعيف؟! فليس المتنبي كهؤلاء الذين ننقدهم ونتمنى أن نرى لهم حسنة ننوه بها؛ فحسانه — والحمد لفنه — ملء السهل والجبل، فليته انتقد واحدة منها لنستطعم حديثه الفني! أما هذه الضعيفات الهزيلات فقد نسل صوفها لكثرة ما رازتها أيدي النقاد متقدمين ومتأخرين، فأين الأستاذ من خرائد أبي الطيب يدخل خدرها ويهتك ستورها؟! فهي لن تقول له «انزل» ولو مال الغبيط … أفلا يدلنا على ومضة من بوارق أبي الطيب؟!

وعلى ذكر هذه «الزائية» يطالعنا برأيه في الشعراء والقوافي، فيقول: «إن فيكتور هيغو كان يجمع قوافيه ويهيئها قبل أن ينظم شعره …» إلى أن يقول: «وما أظن إلا أن الشعراء جميعًا يستعرضون ما قد يتهيأ لهم من القوافي ليختاروا منها لا ليحكِّموها في أنفسهم وفي أذواق الناس» (ص٢٩١).

لا هذا ولا ذاك يا أستاذ، فالشاعر لا يركض وراء قافيته كما يركض المعَّاز خلف عنزته الشاردة، بل هي تأتيه ليحلها محلها، وكل قافية يرغمها الشاعر على مقعدها تقف كالمظلوم صاخبة داعية أبد الدهر.

ويمدح المتنبي فارسيًّا ويثني على قومه، قبل الإسلام، وفي ظله، فيُخيَّل إلى طه أنه شعوبي. إن هذا كقولنا بشعوبية البحتري لأجل وصفه الإيوان، وكقولهم بشعوبية أبي نواس الهازئ المستهتر؛ لأنه قال: لا در درك قل لي من بنو أسد ومن تميم ومن قيس؟! … وعند طه أن الشاعر «لم يستطع أن يرقى بفنه … وهو لم يستطع أن يعيش عيشة الشاعر المنتج المرتقي بفنه شيئًا فشيئًا إلا في كنف الأشراف والسادة والأمراء كأنه النبت الطفيلي لا ينمو ولا يزهر إلا في ظل الشجر الضخام المرتفعة في السماء.»

لقد تخيلها أعظم من «نبعة» الأخطل وأطول من سلم يعقوب، فركب من مراكب الغلو ما لم يُسخَّر لأمين أبي نواس. وبعد، فماذا تطلب من شاعر في ذلك العهد؟! وماذا تريد أن يفعل؟! فما رأيت المتنبي يسمو في مصرع أسد طبرية؛ لأنه بلغ رجلًا منظورًا يلي الحكم، بل لأن للفن ساعات وأوقاتًا، وإن شئت فقل للفن فلتات، قد يحلق الشاعر ويسف في موضوعين متشابهين، وقد يُؤتَى سحر البيان في ليلة تعقبها شهور وأعوام تعقم فيها القريحة، وإن أنتجت فلا تنجب.

وأية فعلة فعلها المتنبي إذا وصل أو حاول الوصول إلى أمير كبير؟! وهل يبلغ إلى ذلك غير النبوغ؟! أنعيره بمدحه الرعاع الطغام حتى إذا بلغ القصر وصار أميرًا كالأمير نقول إنه طفيلي؟! ما كان القصر في ذلك الزمان غير وظيفة، ومن يعير رجلًا بوظيفته وإنتاجه في ظل قصر؟! أفلا يعيبنا الناس إذا قلنا، مثلًا: لم ينتج طه حسين إلا في ظل الجامعة المصرية حيث كان له جراية فأمن واطمأن؟!

وقبل أن يبلغ أبو الطيب قصر سيف الدولة يمدح ابن عمه أبا العشائر بقصيدة على الشين، وهاك ما قاله طه في وصفها لتدرك ما يضمره للشاعر من بغض، فكأنه قاتل أبيه:

وكأنه في ذلك الوقت كان مشغوفًا بشوارد القوافي فآثر لقصيدته قافية الشين، وخضع لمثل ما خضع له في زائيته من الذل والصغار أمام تحكم القافية الصعبة.» فهل رأيت نقادة يلصق الذل والصغار بشاعر؛ لأنه ركب القافية الصعبة؟ وهل للشاعر في هذا اختيار؟ لا أظن. يذكرني هذا الذل والصغار قول دعبل الخزاعي في أبي تمام: ولعله سرقه …

وينبري طه لهذه الشينية المسكينة فيحدثنا عن الشأشأة والحأحأة ليس غير، وما أكثر هذا — كما قلنا سابقًا — في رديء أبي الطيب وقد فرغ منه الصاحب وغيره من أحباب شاعرنا … وهذا ما نمرن عليه اليوم طلاب الفصاحة فلا ينبغي أن يهم أستاذًا كبيرًا كالدكتور.

وينتقل إلى «أتراها لكثرة العشاق» فيقفز قفز السيارة اعترض طريقها خط حديدي، وما فعل هذا إلا ليدلنا على أشياء تعوَّد أن يحسها ولا يمل تكرارها، ثم يعود إلى اللامية التي اتخذ أبياتها برهانًا على إظلام نسب المتنبي، وهذا قد فندناه سابقًا.

السيفيات والشعر القصصي

ها قد بلغنا حلب فخبرنا الدكتور «أن للمتنبي في سيف الدولة ديوانًا خاصًّا يمكن أن يستقل بنفسه، وهو إن جُمِع في سفر مستقل لم يكن من أجمل شعر المتنبي وأروعه وأحقه بالبقاء، بل من أجمل الشعر العربي كله وأروعه وأحقه بالبقاء.»

فلو ترك طه هذه «المن» كان أقرب للتقوى؛ فالطيُّب من شعر المتنبي لا مثيل له في ديوان العرب، وإن شئت أن تعبِّر كالمجترين فلك أن تقول: نسيج وحده … ثم نظر طه في انقطاع المتنبي إلى سيف الدولة، فقال: «فلنلاحظ هذه الظاهرة في نفسها والقياس إلى شخصية المتنبي … إلخ.» ثم خرج من هذه الملاحظة يرى «في هذا الانقطاع تناقضًا غريبًا بين رأي المتنبي في نفسه وسيرته بين الناس؛ إذ كان ينزل عن نفسه لكل أمير اتصل به.» وأخيرًا تطوَّح في هذه الصحراء، فقال: «وأغرب من هذا أن سيف الدولة لم يشغل المتنبي عن غيره من الأمراء والملوك فحسب، بل شغله عن الشعر الخالص.»

أما التناقض بين رأي المتنبي في نفسه وسيرته بين الناس فقد لمسناه في كل قافية قالها فلا حاجة إلى التَّخْمِين، وبحسبنا بيته المشهور: ومن نكد الدنيا على الحر … ولكن هذا لا يعني ما يريده طه، فليس في ديوان المتنبي برهان واحد على نسيانه نفسه وبيعها من الدلال، وهو لو فعل لاستراح وأراح الدهر. ولكن الطبع غلب التطبع، فمات المتنبي شهيد نفسه، وقيل فيه: كان من نفسه الكبيرة في جيش …

ويضرب الدكتور مثلًا على انشغال المتنبي عن الشعر الخالص أبا نواس الذي اتصل بالأمين وظل يقول الشعر في الخمر والوصف والهجاء. يا سبحان الله! كأن قصيدة المتنبي لم تحوِ شيئًا غير المدح، وكأنما النفوس سواء؛ لنقابل بين سكير مستهتر رعديد وبين بطل زميت عرفه الليل والخيل والبيداء … ثم ما هو الشعر الخالص؟ وكيف يكون «هذا الشعر من أروع الشعر وأحقه بالبقاء» ولا يكون شعرًا خالصًا؟ لا أدري. أعلى الشاعر أن يقول في كل غرض؟! وهل لم يقل أبو الطيب في كل غرض؟! فماذا يضير هذا الشعر إن كان ذيله مدحًا؟! بل لماذا لا يكون المدح شعرًا خالصًا إذا كان كمدح المتنبي لسيف الدولة؟! إن كتاب طه هذا كُتِب «عن سابق تصور وتصميم» كما يعبِّر رجال العدل، وطبقًا لهذه المادة سنحكم إن شاء الله.

فكل ما رأيت من الأغاليط يتوسل بها طه؛ ليقول: «فهذا كله يدلنا على أن المتنبي كان يتخذ الشعر وسيلة لا غاية، وعلى أنه كان عبدًا للطمع والمال لا للجمال والفن.» المال يغري ليس في ذلك شك، ولكن أكل من يكتب ويقبض يكون عبدًا للمال؟! أكل من انحاز إلى حزب فعاضده يكون عبد ما وُظِّف له من رزق لا عبد الجمال والفن؟! … فأحرِ بالمتنبي إذا كان عبدًا للمال أن ينام على الضيم عند من أنعل أفراسه بنعماه عسجدًا، وألا يقول للأسود: إذا لم تهبني ضيعة أو ولاية … ولو كان لا ذمة له لما رعى عهد أميره الأول وحنَّ إليه بقوله: خُلِقت ألوفًا …

وكأني بعظام أبي الطيب تتحرك صارخة:

كَمْ تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم
ويَكْره اللهُ ما تأتون والكَرَمُ
ما أَبْعَدَ العَيْبَ والنقصانَ مِنْ شَرَفي
أنا الثُّريَّا وذَانِ الشَّيْبُ والهرمُ

لست أعني إلا هذا العيب الذي يريد الدكتور أن يلصقه بالشاعر ذاهبًا مذهب مبغضيه في الأمس الدابر، لا تلك الشأشأة والفأفأة التي أعرض عنها المحدثون، فجاء طه يلهو بها ويلعب، أو — كما يعبِّر القدماء — يعيدها جذعة، فينقد بعض قصائد لا تثبت على المحك.

وسرعان ما يرجع طه عما قال — وهذه مصيبتي به في هذا الكتاب فكأنه لا يهتم إلا بنفخه كما يفعل الزيات بالزق — فينقض ما أُبرِم بقوله: «فما نفقده من حريَّة المتنبي في فنِّه تعوِّضه علينا عبودية المتنبي لسيف الدولة، إن صح هذا التعبير.» لا، لم يصح، فالعبودية لا تصلح للمتنبي بحال، فمن لم يكن عبد ربه لا يستعبده بشر.

ويصل إلى وصف المتنبي للجهاد بين الروم والمسلمين، فيحدثنا كأننا نجهل «أن المتنبي لم يخترع هذا الباب، فقد قال فيه أبو تمام والبحتري ولكنه أنماه وقوَّاه.» ثم يُثني على شعر المتنبي ويميزه من شعر صاحبيه تمييزًا صحيحًا، حتى يقول: «ونحن نستطيع أن نفهم عجز الأستاذ بلاشير عن أن يذوق جمال هذا الفن من شعر المتنبي؛ فجنسية الأستاذ واختلاف مزاجه وطبعه، وأخشى أن أذكر دينه أيضًا، كل هذا يجعل تأثره بهذا النحو من شعر المتنبي قليلًا ضئيلًا.»

قلت: للجنس والطبع تأثيرهما، أما الدين في هذا الزمان فما أراه يفعل ما يخشاه الدكتور، وإننا لنقرأ قول المتنبي:

وبنى السفين له من الصلبان

فلا نثور كبطرس الناسك … ونمر بقوله:

وأذل دينك سائر الأديان

معجبين بشاعر يحمس الأمير وجنوده وشعبه. أما ما أجحده صراحة، الآن وكل أوان، فهو فهم هؤلاء المتمشرقين لنصوص الأدب العربي فهمًا كاملًا، وخصوصًا هذه التي شرحها أربعون عالمًا منا.

أما الدكتور عزَّام الذي قدَّم هذا الفن من شعر المتنبي على الشعر القصصي القديم كله، فقد لا يخلو من غلو. قال عزام في كتابه الرصين «ذكر أبي الطيب» (ص١١١):

وقصائد الحروب كلها وهي ثماني عشرة قصيدة في واحد وسبعين وسبعمائة بيت، يبلغ فيها المتنبي الغاية التي ليس بعدها متقدم لشاعر أو ناثر … إن هذا المقدار من الشعر الحماسي البليغ في ديوان الشاعر العربي لا نظير له في الإلياذة والشاهنامة، وأحسبه منقطع النظير في الأنياذ الرومانية، والمهايهوتا والرميانا الهنديتين. وهي — يعود الضمير إلى الثماني عشرة قصيدة ولو بعدت — أروع شعر حماسي.

إذا مزجنا رأي عزام برأي حسين كان لنا رأي معتدل، وفي كل حال إن لم يكن المتنبي فوق هؤلاء فهو مثلهم، وهذا لا يُسلِّم به طه ولو أعطيته ملء الأرض ذهبًا، فالأجنبي عنده خير من البلدي: ولكن لا ننسَ أن لعزام حق الحكم في الأدب الفارسي فهو من اختصاصه، أما يونانية طه فأتخيلها كيونانية الخوري بسترس، وفوق كل ذي علم عليم …

ويقابل طه بين المتنبي وأبي فراس، فيجيد كل الإجادة في تمييز هذا من ذاك، ويعزو فتور شعر أبي فراس إلى قصر منبج. والذي عندي أنها النفس، فهي التي جعلت شعر أبي فراس ينوس نوسًا كرقاص الساعة.

ويخشى طه أن يخدع القارئون لهذا الفن من فنون المتنبي عن أنفسهم بعض الشيء فيظنوا أن هذا الفن هو القصص كما نجده في الإلياذة وأشباهها من آيات الشعر القصصي القديم والحديث، وقد خدع الأستاذ بلاشير نفس عن هذا الشعر، وعن الشعر الحماسي كله؛ فسماه قصصًا.

إن طه لا يرضى ولو قال ألف بلاشير ومليون عزام، أما قال هو: ليس في الأدب العربي شعر قصصي. فكيف يكون الآن؟! وإليك حجة طه: «إن المتنبي لا ينسى نفسه لحظة ولا بعض لحظة — تذكَّر قوله إنه باعها — وإنما هو يذكرها دائمًا حين يغرق في وصف سيف الدولة.»

قد يفتك أحدنا بثعلب يا أستاذ، فيصوره للناس غولًا أنيابه زرق، ويظل يحدث الناس عن فتكته تلك حتى يلاقي ربه، فكيف تريد من شاعر بطل كالمتنبي يُعمِل سيفه في رقاب الأعداء ويشاطر أميره مُرَّ الجهاد وحلوه أن ينسى نفسه؟! أرأيت أنه ليس عبدًا كما توهمت؟! فمن فمك أدينك. إن العبد هو ذاك الأمير — أبو فراس — الذي قال في وصف إحدى هذه الوقعات:

دعانا والأسنة مشرعات
فكنا عند دعوته الجوابا
وكنا كالسهام إذا أصابت
مراميها فراميها أصابا

وهنا لا بد من كلمة هذه ساعتها، حول الشعر القصصي. يقول طه: «وأخص ما يمتاز به الشعر الغنائي من الشعر القصصي هو هذا العنصر بالضبط، هذا العنصر الذي يمثل الشاعر أمامك في كل لحظة ويقنعك بأن الشاعر لا يصف وإنما يتغنى … فليس شعر المتنبي في وصف الجهاد بين المسلمين والروم قصصًا وإن اشتمل على كثير من مميزات القصص، ولكنه غناء؛ لأنه يشتمل على أخص مميزات الغناء.» أما أنا فأرى أن الفن لا يعرف القيود، وأن بين الشعراء فروقًا، فلا يلزمنا تطبيق فننا على شعر هوميروس والفردوسي وغيرهما ليرضى طه حسين. إن شخصية المتنبي غير شخصية هوميروس، ولا يستوي الأعمى والبصير والسامع والرائي، وإنني أرى العرب أبصر بمواطن الشعر — وقد يكون للوزن والقافية يد في ذلك — فهم يأنفون أن يكون شعرهم كالبو، فلم يحشوه بالأعلام والأرقام بل كانوا يُهرَعون إلى النثر حيث لا يصلح الشعر؛ ولهذا لم يخضعوا شعرهم لملحمة ما. أما تحطمت شاعرية سليمان البستاني، وهو الشاعر البصير، حين نطحت تلك الجدران التاريخية في الإلياذة؟! وهل يحيا الشعر إذا لم ننفخ فيه من روحنا كما نفخ الله مرة ثانية فكانت كلمته المتجسدة؟! وهل نطلب من أعمى كهوميروس أن يكون في شعره فحيح المتنبي ذاك الحية الذكر؟! وهل يؤمن طه أن شاعر الإلياذة ما ظهر قط في أبطاله، فمن أحياهم يا ترى؟ أأنا وهو؟

ويا ليت شعر قلمي كيف يستطيع شاعر كالمتنبي خاض الحرب، فشرى وباع، أن يخفي عاطفته وينكر وجوده ليقوم واحد مثلي في آخر الدهر ويقول: هذا شعر قصصي.

إن طه لا يسمح للمتنبي أن يقول:

ورعن «بنا» قلب الفرات كأنما
تخر عليه بالرجال سيول
تمل الحصون الشم طول «نزالنا»
فتلقي «إلينا» أهلها وتزول

يريد طه أن ينكر المتنبي وجوده، فيقول: ورعن به قلب الفرات … أو: تمل الحصون الشم طول نزاله؛ ليصير شعره قصصيًّا.

إن المتنبي لا ينزل عن «نا» حتى ينفخ في الصور، ويلقى المعري أباه عند الحوض. نريد أن يكون لنا شعر قصصي وطه لا يريد ما لم ينسَ المتنبي نفسه، وعود العجل إلى بطن أمه صعب، فأمرنا لله بين هذين العنيدين …

لم يحسب المتنبي للناس حسابًا فأرضى نفسه وفنَّه وأميره. والفن الفذ لا يعرف الحدود والمقاييس، فالفنان كهؤلاء الجبابرة الذين يقلبون الدنيا، ويكبون نظمها، كما كبَّ أمير المؤمنين كنانته حين رمى العراق بالحجاج، والفن الذي لا يكون هكذا لا يعيش. إن الفنان يخلق فنه ويلقيه في أحضان القوابل يقمطنه وينادي:

إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق
أراه غباري ثم قال له الحقِ

وبعد، فليس على المتنبي أن يحذو حذو هوميروس، فهوميروس حكاء وصاف لما سمع كما تخيل، فمن أين تأتيه العاطفة المشبوبة التي لأبي الطيب؟! أما شاعرنا وهو أبو النهضة العربية الواثبة اليوم، فوصف شيئًا خالط لحمه ودمه وشيَّب رأسه، فكيف يخبئ الزمَّار ذقنه؟! فليطوِ طه بركاره ومتره، وليضع زاويته في صندوقته فليس الفن مثلثات ومسدسات وموشورات وأهرامًا، أليس لحبة الثلج ألف شكل؟! … لقد طال لغو الأستاذ حول الشعر العربي، فهو يحدثنا أبدًا عن هذا الشعر اليوناني القصصي كأنه كان قبل أثينا وحارب مع أشيل في طروادة، أو هندس الأكروبول ورضع مع هوميروس شهدًا، وسمع معه في المهد تلك الأنغام …

وخلاصة ما أقول ليس للفن أقيسة، فالفن يخلق خلقًا، ولو وصف شاعر كهوميروس حروبًا شهدها بنفسه كالمتنبي، لاضطر أديب موقر كالأستاذ طه أن يحاول وضع هذه الأغلال في رقبة الفن، ولكن الفن كسبع لافونتين يموت من الجوع ولا يلبس الطوق الذهبي.

فليخلق الفنان فنه، وكل فن غير بكر ليس عندي بفن ولو أشبه الذكر الحكيم، ومعاذ الله أن يُؤتَى بسورة من مثله! فليس وصف المتنبي لما رأى إلا أروع الفن القصصي، ولطه أن يحكم كما يريد.

إقليمنا وشعر المتنبي

سيقولون: إقليمية، أدب إقليمي، عصبية أدبية. أما نحن فنجيب: الإقليمية باب الأدب العالمي فادخلوها بسلام آمنين.

وإذا قلنا الإقليمية فلا نعني الخروج على سيبويه، فمن يتمرد حتى على الأخفش وثعلب ويونس تفك رقبته، ومن يتطاول على الخليل بل على أقل أعرابي نجعله عبرة للعالمين. إننا ندعو إلى أدب مرغوب فيه، إلى أدب طازج، فقد سئمنا أكل القديد. ندعو إلى أدب يصور أمصارنا تصويرًا صحيحًا، فإقليمية كهذه تنفع ولا تضر، فليعفنا أحباؤنا — عفا الله عنا وعنهم — من الزندقة، فليس من يستعبده القديم مؤمنًا مخلصًا، ولا من يكدح لتضخم ثروة أمته الأدبية كافرًا مرتدًّا؛ فالعربية لساننا، ولنا فيها الطريف والتليد، فكيف نجحدها؟!

لست أعد الأدب الروسي إلا إقليميًّا، وغيره مثله، وإن لم يقم فينا مبدعون يصوِّرون أقاليمهم بألوان لسان العرب يظل أدبنا فاترًا مزًّا، تقرأ واحدًا من أدبائنا فتستغني عنهم أجمعين.

فليكتب الشامي والحجازي واليمني والعراقي والمصري بلغة العرب ولا جناح عليه إن استوحى بلاده واستلهم محيطه.

وعدت الدكتور أنني أؤدي له حساب البيئة جملة، وها هو ذا الدين يستحق، فلنقل كلمتنا في البيئات الثلاث: الشامية، والمصرية، والجليلية. التي أشار إليها الدكتور فقال:

كان ينقصه — المتنبي — شيئان: حياة راضية … وبيئة مثقفة … قوية الثقافة، رشيدة بصيرة بالأدب، قادرة على النقد، عالمة بألوان الكلام، وهذه البيئة لم تُتَح للمتنبي أثناء إقامته الأولى والثانية في شمال الشام» (ص٢٠٠) «ولم يكن للبيئة العربية في الشام في ذلك الوقت حظ ممتاز من الثقافة الأدبية والعلمية، وإنما كان المتنبي محتاجًا إلى البيئة المصرية التي نشأ فيها فن أبي تمام، وإلى البيئة العراقية التي نضج فيها فن أبي تمام. أما المتنبي فقد نشأ شعره في العراق وحاول أن ينضج في الشام، فأدركه البطء ودبَّ إليه الكثير من الفساد، وظهر فيه تكلف يمقته الذوق العربي الصريح» (ص٢٠١) «ولست أشك في أن المتنبي لو أقام في العراق وجه حياته لأسرع إلى النبوغ ولاتخذ شعره لونًا آخر، ولبرئ من كثير من العيوب التي أُنكِرت عليه، ولاجتنب كثيرًا من فساد اللفظ، ولارتفع عن هذه المبالغات السخيفة التي سيُعاب بها شعره أبد الدهر» (ص٢٠٢) «والأمر لا يقف عند المتنبي، وحده، فقد أصبح المتنبي كما تعلم، إمامًا للشعراء فأخذ الناس عنه فنه بما فيه من خير وشر، وكذلك كان استقبال المتنبي شبابه في الشام مصدرًا لكثير من الضعف الذي ألمَّ بشعره هو ثم بشعر الذين قلدوه» (ص٢٠٣).

يُوطِّئ بهذا الكلام لقوله: «فترك شمال الشام وانتهى إلى طبرية، واتصل ببدر بن عمار، فوجد البيئة المثقفة الناقدة، فوثب فنه في أشهر قليلة» (ص٢٠٤).

ثم يعود طه إلى البيئة مرة ثانية، فيقول: «وأنا أعلم أن هذه النهضة العقلية والأدبية لم تكن طبيعية ولا متوطنة في سوريا الشمالية، وأن البيئة العربية في شمال سوريا كانت جاهلة في شباب المتنبي، وأن جهلها قد أثر في شعر المتنبي آثارًا ظاهرة نكاد نلمسها بأيدينا، إنما طرأت هذه النهضة طروءًا وظهرت فيها فجأة حين نهض فيها هذا الفتى العربي — سيف الدولة — فلقي شاعرنا في حلب بيئة لم يلقَ مثلها من قبل، فيها غذاء لعقله وإرهاف لحسه وتقوية لشعوره، وفيها قبل كل شيء وبعد كل شيء، ملاحظة متصلة ونقد مستمر وحسد وكيد؛ فتأثر عقله وشعوره وذوقه بهذه البيئة الجديدة، وظهرت آثار هذا كله في شعره الذي قاله في هذا الطور» (ص٣٣٦ و٣٣٧).

ثم يذكرها مرة ثالثة بمناسبة بلوغ المتنبي الفسطاط، فيثني على مجد تلك البيئة الأثيل وشرفها الأصيل، بكلام مغلق مبهم، فهو لا يستطيع أن يسمي لنا واحدًا، فيخبرنا عن العلم والعلماء — وهذا لا يُنكَر — ويمغمغ إذ يتحدث عن الأدب والفن؛ لأن هذه البضاعة لم تكن في ذلك البندر، بل كانت تُصدَّر إليهم من العراق والشام، يعرضها أصحابها على أمراء مصر فلا تُنفَق عندهم، فيعودون هاجين متذمرين كما عاد أبو نواس والمتنبي وغيرهما؛ لذلك يحدثنا طه عن هذه البيئة الثالثة المصرية حديثًا عامًّا مطاطًا؛ كقوله: إن البيئة المصرية تالدة لا طارفة أو لم تكن عارضة ولا طارئة، وإنها لم تَزُل بزوال أمير كما حدث في الشام. ولست أغلو إن قلت إن شعر المتنبي في مصر أقل سقطًا من شعره في حلب؛ لأن المتنبي — فيما يظهر — كان يقدر العلماء والمثقفين المصريين أكثر مما كان يقدر العلماء الذين كان يلقاهم في قصر الحمدانيين (ص٥٤٧).

هذا الذي ظهر لطه، أما الذي ظهر لي أنا فهو أننا أرسلنا المتنبي إلى مصر ناضجًا كل النضج بعد أن قضى في محيطنا سنين أنمت ذوقه وصيَّرت بسره رطبًا وتمرًا، وأذهبت كثيرًا من جفاء طبعه ولسانه الذي حمله إلينا من البوادي؛ فاللهجة الشامية التي هي أصح لهجات العرب، والتي تكاد تكون حتى اليوم فصيحة، هي التي أسبغت على أسلوب الشاعر العظيم هذه الروعة وهذا الأسلوب البعيد عن الكلفة والعجمة، بل هذه التعابير الدمثة التي يفوح من أردانها عرف المدنية وأريج الحضارة، لا كتلك الرواسم والقوالب التي تأبطها شعراء العرب أجيالًا فرددوها جيلًا بعد جيل، وقد حملها إلينا المتنبي حين «شرَّف» أرضنا.

كان المتنبي أبصر من زرقاء اليمامة، فترك تلك «القوالب» القديمة حين قال الشعر عندنا، تحضَّر فصار كالملبس على اللوز، أساس عربي متين وزخرف فني اكتسبه من لسان الشام، فلو أخذنا ديوان أبي الطيب وقرأنا الشعر الذي قاله في حلب ومصر رأينا أن اللهجة الشامية شائعة فيه، وهي التي صارت للمتنبي فنًّا تحيَّر الناس في فهم أسراره. ومن يقف اليوم وقفة مدقق يتحقق أن اللهجة الشامية أقرب الكلام إلى فصيح العرب لا تدانيها لهجة الحجاز ومصر والعراق فصاحة وصحة تركيب.

إننا لا ننطق عن الهوى، فخذ الكتاب الكريم وقابل بين آياته الخالدة وتعابيرنا تجدنا اليوم ننطق بالكثير منها. وخذ شعر المتنبي في سيف الدولة فصاعدًا ترَ أيضًا ما قلت لك، والأسلوب الشامي الذي ينعى علينا أبناء عمنا المصريون استعماله هو هذا الذي يدور على ألسنتنا، ولا يحتاج إلا إلى تهذيب قليل ليصير فصيحًا.

فالذي يلوح لي أن هذه البيئة التي عدَّها طه جاهلة لم تُسعِف المتنبي على وثوب فنه لهي التي خلع لسانها ولهجتها على أبي الطيب بردة الخلود. لم يكن المتنبي من الشعراء الذين تُخلَق معانيهم من ألفاظهم كالبحتري حتى يفتش عن قوالب معلومة، بل كان يفصِّل الألفاظ أثوابًا للمعاني، وقد وجد النسيج المطلوب في مخزننا الشامي، ففصَّل منه ذخائر وطرفًا للأدب الخالد.

قال طه: إن فن المتنبي وثب حين اتصل ببيئة سيف الدولة، ولكنني رأيته جاءهم وهو أعلم منهم فلم يثبتوا له في ميدان من الميادين، لا في اللغة ولا في غيرها، فاستفحل عليهم وما كانوا من رجاله؛ فهو إذن لا يحتاج لغة ونحوًا بل يحتاج ذوقًا وفنًّا، وهذا ما خلقه إقليمنا فيه، فماذا أفادت الشاعر بيئة أبي علي الفارسي وقد سمعناه يقول له في أول ساعة: اسكت، هذا فوق علمك؟!

ويا ليت شعر طه! أين كان يتعلم الشعراء — في ذلك الزمان — اللغة والتعبير؟! أفي السوربون حيث درس هو الآداب، أم في البوادي والحواضر التي كانت لهم كأكسفورد وكمبردج؟! ولو كانت تلك «الحلقات» التي يسميها طه بيئات تعلم الأدب والفن لما قال صاحب اليتيمة في شعراء القطر الشامي — وأولهم المتنبي:

«والسبب في تبريز القوم قديمًا وحديثًا على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم، ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة البداوة وحلاوة الحضارة.»

خص الثعالبي أهل العراق بالذكر؛ لأن الشعر كان ملقيًا بحمله عندهم، ولم يذكر مصر؛ لأنه لم يكن لها حساب جارٍ في متجر الأدب، أما البيئة المصرية التي يتبجح طه بمدحها ويمتنُّ على المتنبي فعدت إلى تاريخها وأنصت إلى تلك الحقبة فما سمعت إلا دجاجات تقوقي وضفادع تنق — شعر علماء — فهناك علماء ليس لهم في الأدب خل ولا خمر؛ فلا ديك يصيح حتى ولا طماطم تهذي كما قال أبو الطيب في بيئة حلب الحمدانية التي يكبرها طه تضليلًا، ثم ماذا تكون عملت البيئة المصرية للشاعر؟ وأية خواصه تعزى إليها؟ فهل من يدلني على واحدة وله الأجر والثواب؟!

هل من يدلني على أثر واحد وله الشكر؟! أما لونه الشامي فصارخ، وهذا ما أسخط شيوخ ابن خلدون …

لم يشأ الشاعر أن يكون مجترًّا فجاء بتعابير رأوها هم حدثًا عجيبًا، ورأى غيرهم فيها المتنبي مبدعًا، إنه لم يتأثر بتلك العبارات المهيأة التي اقتتل عليها الشعراء قبله وبعده، بل لم يعبأ بكلمتهم المأثورة: ليست على مجرى الكتابة. وهل الأساليب أنهر لا تجري إلا في مسيلها؟! …

فمحيطنا وحده كان مدرسة الشعر والشعراء لا تلك البيئات التي هي جماع من ها هنا ومن ها هنا كما تتجمع الأغربة، والدليل على ذلك قول الثعالبي أيضًا:

«وأخبرني جماعة من أصحاب الصاحب بن عبَّاد أنه كان يُعجَب بطريقتهم المثلى … ويستملي الطارئين عليه من تلك البلاد حتى كتب دفترًا ضخم الحجم، وكان لا يفارق مجلسه ولا يملأ أحد منه عينه غيره» (اليتيمة، جزء ١ ص٦ و٧).

وهذا صاحب وفيات الأعيان يؤيدنا بقوله: وفي بلاد الشام خرج المتنبي إلى البادية فشافَهَ الأعراب — الذين سماهم طه جهلة (ص٢٠٢) — وبلغ غايته من البيان، وكانت اللغة يومئذ لا تزال صحيحة في البادية، وكان علماء اللغة يغتنمون قدوم الفصحاء من أهلها ليحاوروهم في أساليبها ويستأنسوا بسليقتهم في تقرير قواعدها واستبانة الصواب فيما استَبْهَمَ من مسائلها (معجم الأدباء ٥: ٢٨).

فنحن كنا مع صاحبنا المتنبي كدنياه التي قال فيها:

فلما دهتني لم تزدني بها علمًا

قد نكون لم نزده علمًا ولكننا رققنا حواشيه واستهوته لهجتنا ففصلها حللًا للشعر الرائع، وقد ظهر ذلك أبرع ما يكون في مدائح كافور وأهاجيه، فخلب ألباب ذوي الأذواق السليمة ولم يسخط إلا المتقعرين.

وسنتحدث طويلًا عن هذا الأسلوب الشامي في أثناء بحثنا القصة اللبنانية ونبيِّن محاسنه وما فيه من قوة وضعف، وهذا الأسلوب سبب الخلفة بيننا وبين أبناء عمنا المصريين، فهم يريدون منا أن نعبِّر بما لا نحس، ونحن نرى في بيتنا ما يغنينا عن الالتجاء إلى غيره، فنمشي في سبيلنا ولا نجعل كلامنا على القوالب المعلومة وخرطها.

إن المتنبي مدين للبيئة الشامية في أكثر خواصه الأدبية، وهذا الذي تمنى بلاشير أن يتذوقه كما جاء في (المكشوف عدد ٨٥ ص١١).

قال بلاشير: «إن العقاد والمازني إلخ يطلعوننا بدقة على الأهواء الوطنية والقومية التي يغتبطون بإيجادها في أقوال مادح سيف الدولة، وهم بخلاف ذلك عاجزون عن بسط الأسباب «الأدبية» الخاصة بهم، والتي تجعلهم يتحمسون لبعض أبيات المتنبي، لا نقول هذا لأنهم أهملوا ذلك في مؤلفاتهم، بل لأنهم عندما يبحثون أسلوب أبي الطيب يكتفون غالبًا بنقل أحكام النقد القديم.

فبالنسبة إلينا — أي إلى المتمشرقين — لا يزال سر بعض الأبيات التي يُؤخَذ بها الشرقيون كما هو، لا من حيث الفكرة التي تعبِّر عنها، ولا من حيث الفن الذي تتجلى فيه، ولا من حيث الإيقاع الذي تتصف به، بل من حيث تمازجات مؤتلفة بين الأحرف الصوتية والساكنة، لا تستطيع أذننا تذوق سحرها.»

قلت: لقد طلب الأستاذ بلاشير أمرًا صعبًا، فهو يريد أن يتذوق موسيقانا الشعرية المنبثقة من تمازجات مؤتلفة بين الأحرف الصوتية والساكنة، فكأني بالأستاذ يتحدث عن لغته لا عن لغتنا، ثم ليس الحق علينا بل الحق كله على من خلق بلاشير هكذا! فعسى أن يخلقه خلقًا ثانيًا ليدرك هذا ويتذوقه! فهل يفهم مولانا بلاشير خصائص حروفنا فهمًا صحيحًا ليطرب لها طرب العربي؟! بل هل يستطيع التلفظ بها تلفظًا كاملًا، ولا أقول صحيحًا؟! فهبنا دللناه على ذلك، فهل نستطيع أن نعمل عجيبة، فنخلق بلعومًا وخياشيم جديدة تحسن إخراج العين والغين والحاء والخاء وغيرها من فمه؟! رحم الله المطران جرمانوس فرحات القائل:

كأني حرف الحلق والدهر إفرنجي

فالذي لا يستسيغ الحروف ولا يحسن التلفظ بها لا يحس موسيقاها.

ويقول الأستاذ بلاشير: إن الطلبة المراكشيين سمعوا منه شرح ثلاث قصائد فضحكوا لمعانيها، أما أنا فراجح عندي أنهم إنما ضحكوا لمنطق الأستاذ بلاشير … أما الأسباب «الأدبية» التي يطلب بلاشير إيضاحها عند نقاد العرب فلا يجدها، ويسعى وراءها عند المتمشرقين، فلا يظفر بشيء. فلعلنا نعود إليها في آخر هذه الفصول فنتحدث عن فن المتنبي، وتأثيره في العقل العربي، أما الآن فنقول للأستاذ بلاشير: على من يريد تذوق أدب أمة تذوقًا تامًّا أن يدرك أسرار تلك اللغة ليفهم ما يقرأ فهمًا غير منقوص. فبلاشير وزملاؤه المتمشرقون يتلهون بقشور لغتنا، والذي يبلغ اللب منهم قليل وجوده، وبرهاني على ما أزعم عمل بلاشير نفسه، فقد فتحت عَرَضًا كتابًا ألَّفه بلاشير لبني جنسه الراغبين في تعلم العربية، فرأيته يترجم لهم «مضى لسبيله» Il continua son chemin (راجع ص٣٥٢ من كتاب بلاشير المطبوع في بيروت).

إن فهمًا كهذا لأسرار اللغة العربية لا يمكِّن صاحبه من تفهم البهاء زهير، فكيف بشاعر ضخم كالمتنبي حيَّر الشراح العرب؟!

في حلب

نحن في الشهباء، والدكتور يعرض علينا شعر المتنبي في سيف الدولة من «وفاؤكما كالربع أشفاه طاسمه»، إلى «فهمت الكتاب أبر الكتب»، ويبادرنا بشرح لا يغذي ولكنه يملأ الكرش … يوسوس في صدره شيطان النقد، فيريه اختلافًا بين الميمية التي يستقبل بها الشاعر سيف الدولة، وبين الدالية التي استقبل بها بدر بن عمار — أحلمًا نرى أم زمانًا جديدًا — فيقول: كان المتنبي في مدح بدر مندفعًا شديد الاندفاع يكاد لا يملك نفسه، وكان يلائم بين شعوره وشعره، فيصطنع البحر المتقارب الذي يصور إسراعه إلى الأمير — بدر بن عمار — أما ميميته في سيف الدولة فلا تصور إسراعًا ولا اندفاعًا إنما تصور أناة ومهلًا. وأنا أقدِّر أن المتنبي كان في الخامسة والعشرين حين اتصل ببدر، وكان في الرابعة والثلاثين حين اتصل بسيف الدولة، وأنا أقدِّر أثر الشباب في ذلك الاندفاع وأثر الكهولة في هذه الأناة (ص٣٤٦).

هذا ما قدَّره طه، أما أنا فأقدِّر أن طه أمسى يحسب قُرَّاءه همجًا، فينثر عليهم مثل هذه المزاعم ولا يستحي. يحدِّثهم عن الاندفاع «البحري» كأنه حقيقة لا شك فيها حتى يعزو مثل هذا السخف إلى بحور الشعر، ثم يصدق نفسه فيلتمس لذلك الأعذار؛ فيحتج للبحر الطويل بالكهولة، وللبحر المتقارب بالشباب! فهل يقول لنا طه لماذا اصطنع المتنبي البحر المتقارب، قبل موته بعام، حين أجاب سيف الدولة على كتابه الأخير؟! أليظهر له إسراعه إليه، أم تراه استغاث بالدكتور فورونوف فأرجع الشيخ إلى صباه موجع القلب باكيًا؟! …

إنها رحلة سندبادية قام بها طه لأجل الفن ولكنه ضاع حيث تناطح البحران … إن ضرات هذه السفاسف كثيرات عند طه؛ رأى تصريعًا في شعر المتنبي الأخير فخاله ضربًا من التجديد، وترجَّى حدثًا عظيمًا لو عاش الشاعر، ولكن العقاد صديق الدكتور أدرك هذا الشطط فنبهه إليه وأسقط عنا هذه المئونة. وهناك افتراضات غير هذه يحاول بها فك طلسم البحر الطويل والقافية الميمية، فهما في نظره أشد خطرًا من تلك العقد التي نفثتها هند لابن أبي ربيعة … فيتساءل: لماذا اصطنع المتنبي كلمة الطاسم وعدل عن الكلمة المألوفة وهي الطامس؟ ثم لماذا أخر الجار والمجرور عمدًا … إلخ؟!

ولو فعل المتنبي كما شاء الأستاذ لقال بلا شك: ما أثقلها قافية! انظروا إلى هذه السأسأة. وبعد دوران ولف طويلين ينتقل إلى البيت الثاني:

وما أنا إلا عاشق كل عاشق
أعق خليليه الصفيين لائمه

فيرى فيه — وهذا إغراب القدماء — فصلًا تعمَّده الشاعر ليثير استطلاع النحويين. إن في وسع طه — لو اختار الوصل — تقدير الواو، وهذا ورد عن القدماء؛ كقول الحطيئة:

إن امرأ رهطه بالشام منزله
برمل يبرين جار شد ما اغتربا

والمتنبي لا يرى في الإغراب بدعًا، ولا في الجري على خطة القدماء حرجًا، وهناك وجه آخر غير هذا لم يقله القدماء أيضًا، وهو عندي خير الوجوه، فما علينا إن جعلنا «كل» نعتًا لعاشق؟ وهذا كثير في كلام العرب؛ كقول الشاعر:

وإن الذي حانت بطلح دماؤهم
هم القوم كل القوم يا أم خالد

ما أرى المتنبي يُلْحِنُ، وأنصح لمن يُخطِّئه أن يقرأ عشر ليالٍ قبل أن يفعل، فما رأينا أحدًا ساوره وبزَّه، بل لم نرَ حرفًا في كلامه إلا قد جرى على لسان العرب، وما إخال المتنبي في شأشأته وفأفأته ومأمأته … إلخ، إلا فاعلًا ذلك لأمر ما، لا لجهل وقلة ذوق.

أما تعليل طه لقوله:

كئيبًا توقاني العواذل في الهوى
كما يتوقَّى ريض الخيل حازمه

فقد طبق فيه المفصل كما يعبِّر القدماء، فالمتنبي شموس حرون حتى في هواه، وبيته هذا بلاغ وإنذار للأمير … ويصف الشاعر تصاوير على السرادق المنصوب لسيف الدولة، فيقول طه: والخطأ كل الخطأ أن يظن قارئو هذا الوصف لما كان على الخيمة من تصاوير أن المتنبي قد ارتجل هذا الوصف ارتجالًا، والخطأ كل الخطأ أيضًا أن يظن ظان أن المتنبي قد ابتكر هذا الوصف وجاء به من عند نفسه (ص٣٦٠). ويذكرنا بوصف أبي نواس للكئوس ووصف البحتري للإيوان، ويظن أن المتنبي قرأه وانتفع به.

ليس فينا من يظن أن المتنبي لم يقرأ وصف القدماء، ولكنه قرأه ليتحاماه ويبز قائليه «فشخصية المتنبي لا تضعف ولا تتضاءل أمام الفحول الذين سبقوه، ولكنها تثبت لهم وتقوى عليهم.» وهذا ما يعترف به.

وبعد أن يشبع هذه الميمية عركًا وعرقًا يقول: «إن المتنبي قد بهر وراع، وملأ القلوب والأسماع.» بهذه القصيدة ولكنه يحتاج إلى شيء آخر وهو «الذلة والملق»، ويؤيد زعمه هذا بقول الشاعر لأميره من قصيدة:

ليت أنَّا إذا ارتحلت لك الخيـ
ـل وأنا إذا نزلت الخيام

ثم يسأل القارئ: «وما رأيك في هذا الشاعر العظيم الذي يفاخر الشعراء ويستعلي عليهم ويسرف في الكبرياء ثم يتمنى أن يكون فرسًا يحمل الأمير إذا سار؟» قلت: الجواب عند المتنبي، أَوَلم يقل لأميره:

ومن ركب الثور بعد الجوا
دِ أنكر أظلافه والغبب

هذه بهذه يا أستاذ، فشاعرنا دنيا، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

وينظر في المراثي فيقرر أن المتنبي لم يكن يصدر فيها عن العاطفة بل عن العقل والفن، ويعرض علينا رثاءه أم سيف الدولة قائلًا: وما أظن إلا أنك ستوافقني على أن الشاعر اعتمد على فنه أكثر مما اعتمد على أي شيء آخر (ص٣٧٩). وفتشت عن هذا «الشيء الآخر» فرأيت أن رثاء النساء المحصنات صعب جدًّا، وشكرت لأبي الطيب هذه الكياسة التي أزر بها في هذه المخارم. ويمضي بنا الدكتور إلى قول الشاعر:

يدفن بعضنا بعضًا ويمشي
أواخرنا على هام الأوالي

فتخطر له الفلسفة العلائية فيخبرنا هنا، وفي مواطن شتى، أن هذا الشعر كان نواة فلسفة المعري. قد زعم حقًّا، ولكن النواة لا تؤدي المعني تامًّا؛ فالمعري — في نظري — شارح لكليات قررها أبو الطيب في شعره ومضى كما يفعل الشاعر؛ فجاء هذا الضرير يُكبِّرها فأفقدها الكثير من روعتها الفنية.

ويقول المتنبي لسيف الدولة في هذه القصيدة:

وإن تُفِقِ الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال

فيقابله طه بقول المتنبي من ذي قبل:

وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام

ثم يقول: «والمتنبي حر أن يسرق نفسه.» فهذه «اليسرق» شاهد عدل على حكومة طه ونزاهتها … ويرى القافية الشهيرة — يا أخت خير أخ يا بنت خير أب — التي أحرقت قلب ابن عباد أجمل ما قاله المتنبي في الرثاء لسيف الدولة، ولكنه يتعجب كيف يشرق الدمع بالمتنبي، ثم يناقش الأستاذ محمود شاكر الذي زعم أن المتنبي أحب خولة المرثية بهذه القصيدة، فلا «يرى فيها ما يدل على صلة أو شبه صلة قريبة أو بعيدة بين المتنبي والفقيدة.»

قلت: إن هذا الجزم القاطع المانع لا يُقبَل من طه وهو الذي تبنى مذهب ديكارت وبشر به، ولا سيما أن في هذه القصيدة شبهة تدعم ظن الأستاذ محمود؛ فما حدث بين المتنبي وسيف الدولة وابني عمه يثير شكًّا قويًّا، ومِمَّ يخاف الشاعر ليعقِّب على قوله:

يظن أن فؤادي غير ملتهب
وأن دمع جفوني غير منسكب

بقوله:

ولا ذكرت جميلًا من صنائعها
إلا بكيت ولا ود بلا سبب

فمثل هذا التبسط، بل مثل هذا التعليل لا يُطلَب من الشعراء؛ إنها عاطفة حاول الشاعر إخفاءها فأبت إلا أن تمد أذنيها، وتظهر بصور لا تخفى على متأمل لا هوى له.

ثم بماذا نعلل هذا الحنين الدائم إلى سيف الدولة وهو مصطبغ بألوان الحب أشد اصطباغ:

رحلت فكم باكٍ بأجفان شادن
عليَّ وكم باكٍ بأجفان ضيغم
ولو أن ما بي من حبيب مقنع
عذرت ولكن من حبيب معمم
رمَى واتقى رميي ومن دون ما اتقى
هوى كاسر كفي وقوسي وأسهمي

وما معنى ذلك الائتمار بقتل الشاعر العظيم وقد تشاركت فيه الأسرة الحمدانية من أنطاكية إلى حلب ومنبج؟! أتبرئه الأسباب «الأدبية» التي رواها المؤرخون؟! ولماذا دعا الأمير شاعره بعد موت خولة، ولم يستدعه حين كتب إليه أول مرة؟ كل هذا يقرِّب زعم محمود من الحقيقة، فليشُكَّ شاكر فليس الشك ملك طه وحده.

وبعدُ، فلماذا لا تحب «ست الناس» أشعر الناس؟ فهو نجي أخيها وناموسه ولسانه وسميره، لقد أمسى عديله وإن صاهره فما يصاهر امرأ سوء؛ فها هما دون الناس على فرسيهما في ساحة حلب، وأمير القلم ينشد:

لكل امرئ من دهره ما تعوَّدا

وماذا تريد خولة بعد؟ ليت الحظ أسعد أخت أمير السيف بزفافها إلى أمير القلم لنبارك لها بهذا العريس الفذ، ولكن إن أراد سيف الدولة فأبو فراس الحسود وأبو العشائر الكنود لا يريدان، وما قُدِّر كان.

وبعد، فكاد سيف الحمداني يستريح في قرابه، وكاد صدى «الطائر المحكي» ينبتُّ، والأستاذ الجليل ما انفكَّ يعبث بالروائع الفنية كما تفعل الأطفال بالدمى، يؤدي لنا خطة لو نهجناها فيما كتب من «الشعر الجاهلي» إلى «مع المتنبي» لما بقي لدكتورنا الجليل شيء يعتز به، وأصابه ما أصاب ذلك المسكين الذي قيل فيه: لو قال الحاكم: فليقف كل في عقاره؛ لوقف على السكة.

لا تؤاخذني أيها القارئ قبل أن تقرأ، فهي غضبة للحق أولًا ولطه ثانيًا. قد رأيته يدرز درز القاضي الجرجاني وأضرابه، ويفعل كأبي فراس الحسود في نقد «واحرَّ قلباه»، وإذا طغى هذا النقد أصبح الفن لعبة صبيان. إن الألفاظ والمعاني مشاع كما أن المقلع ملك المثَّال، والصباغ ملك المصوِّر، ومن يحسن فحظه ذكر باقٍ، ومن أساء فموت ونسيان.

ويحمل الأستاذ فانوسه العجيب ثاني مرة ويحلل على ضوء «الاندفاع البحري» قصيدة «إلامَ طماعية العاذل»، فيرى «هذا المتقارب يلائم اندفاع الخيل في طلب العدوِّ، وما يكون بينها وبينه من كر وفر، ويلائم كذلك إسراع الأمير إلى نجدة ابن عمه.» ترى لو كان قالها المتنبي على المتدارك ماذا كان يفعل طه؟! لا شك أنه ينط قامتين، ويرى فيها ما لم يره أبو نواس في الخمرة. لست أذكر لك ما حاك طه حول القصيدة من أساطير، وما خمَّن وزعم، فارجع إلى ذلك في مكانه لتعلم أن في يد الدكتور مقلاعًا فنيًّا دونه مقلاع داود، ولكنه لا يصيب إلا واحدة من ألف. وما تأوَّله من خير في المتقارب يتوسمه أيضًا في الوافر، فيراه لا يقل بهلوانية عن ذاك فهو «يسير سهل سريع يكاد لا يتأتى فيه الوقوف، وليس أقل من المتقارب ملائمة للسير السريع اليسير في الفضاء الواسع السهل» (ص٤٠٨)، وهكذا يترك «بغيرك راعيًا عبث الذئاب» مطمئن القلب يحسب أنه قال فيها شيئًا كثيرًا.

ولكن المتنبي نظم أيضًا آخر قافية على هذا البحر، وفيها يقول:

وأنَّى شئت يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكا

فهل يظن طه أن الشاعر «اصطنع» الوافر أيضًا؛ لأنه مستعجل ليلاقي الموت الذي ينتظره عند دير العاقول … من يدري؟! قد يكون المتنبي نبيًّا وآياته هذه البحور التي تتكشف عن مخبآت الغيب على يد طه.

وهنا، وهي أول مرة، يذكر الدكتور المتنبي بخصلة كريمة وإن مازج قوله الشك: «فلست أستبعد أن يكون المتنبي قد وفى لهؤلاء الناس — بني كلاب — وعرف إحسانهم إليه وبرهم به؛ فجزى خيرًا بخير وإحسانًا بإحسان.»

وتخف خطوات الأستاذ في تأريخ سيفيات المتنبي بعد أن سار سيرًا رويدًا صدقنا لأجله «ما للجمال مشيها وئيدًا»، ثم وقف بنا حينًا على «غيري بأكثر هذا الناس ينخدع» وشرحها شرحًا وافيًا، وإن سمعت نصيحتي تقرؤه في محله من الجزء الثاني، ولا يخامرك شك في أن النقد إعلان مسبوب صاحبه غير مأجور.

ثم ينتقل بنا إلى «لياليَّ بعد الظاعنين شكول» وهي عنده — وعند كل لبيب مثله — آية من آيات أبي الطيب، وكأني بطه قد تخيل الراقص على الحبل عند نيتشه؛ فشرح على نمطه حركتها وخفتها ورشاقتها بصورة رومنطيقية لا بأس بها.

وإذا كان لا بد من قول شيء فاسمع ما قاله فيها: «صاغ الشاعر هذه القصيدة على مثال لامية السموأل … فاصطنع نفس الوزن، ونفس القافية، ونفس اللغة أيضًا — يريد أن يقول الوزن نفسه إلخ — بل هو استعار من هذه القصيدة طائفة من الألفاظ والمعاني والأساليب، ولكنه لم يصنع ذلك تقليدًا ولا احتذاء، وإنما أعجبه هذا المذهب الشعري فعارض السموأل ولم يتخذه أمامًا.»

حُلَّ لنا طلاسم طه إن كنت تضرب في الرمل، وأحضر لنا المتنبي لنسأله كيف فعل، إن كنت كعرافة شاول! أصدقت قولهم: عش رجبًا ترَ عجبًا؟! فأية قصيدة في الأدب العربي لا تجمعها أواصر قربى الوزن والقافية واللفظ بأخوات لها؟!

وهكذا تنطوي سيفيات المتنبي ولا يدلنا الدكتور في الآداب على شيء من عناصر فن الشاعر، ولكنه يرافق بلاشير فيؤرخ كالعلماء، ويمشي وحده، فينقد كالناشئين … لعنها الله رحلة، تغرينا لنأكل الكباب فاشتهينا المرقة. وإذا شئت صحنًا من عصيدته فخذ: «وستمضي أنت في قراءة هذه القصيدة كما مضى المتنبي في اتباع سيف الدولة مندفعًا من بيت إلى بيت، منتقلًا من مقام إلى مقام، صاعدًا مع الجيش حين يصعد، ومنحدرًا مع الجيش حين ينحدر، ودائرًا مع الجيش حين يدور حول العدو، ثم هاجمًا مع الجيش حين يهجم على العدو (ص٤٤١). فالشاعر مغن، والشاعر مادح، والشاعر قاص، والشاعر هاجٍ، والشاعر مفاخر متحمس، والشاعر يجمع أكثر فنون الشعر في هذه القصيدة التي لم تسرف في الطول» (ص٤٤٣).

وأخيرًا يراها أروع ما قال المتنبي لسيف الدولة، فيقف ونقف معه أمامها وقفة ابن السبيل أمام القافلة، فلا يدري ولا ندري ما في حمولتها … ثم يسألك أن تقرأ معه بعض أبياتها لترى أنه ليس مسرفًا ويعرض عليك كوكبة منها. وتبرئةً لذمتي أخبرك أن طه رأى، في مطلع القصيدة والبيتين اللذين بعده، كما جاء في قانون الإيمان: ما يرى وما لا يرى — أظن هذه العبارة ذكرتك أديبًا فذًّا هو المرحوم إسكندر العازار، إن كنت ممن يقرءون ولا يمرون كبعضهم مرور البقرة على قبر صاحبها — ويعتذر عن هذا الفهم المغلق برأي شعراء أوروبا الرمزيين فيقول: «وإنما أريد من الشاعر البارع كما أريد من الموسيقي الماهر أن يفتح لي أبوابًا من الحس والشعور، ومن التفكير والجمال، وما أشك أن المتنبي قد وُفِّق إلى هذا التوفيق كله في هذه الأبيات.»

وفي غيرها أيضًا، وهذا ما كنا نتمناه. تمنينا أن تحس ولو مرة لئلا نشك فيك، أما وقد فعلت فلنتلُ ترنيمة الشكر …

ويختم هذا الفصل معتذرًا عن ترك درس قصائد أخرى، وينصح للقارئ أن يتدبَّر مثله قصائد أخرى سماها له مثل: «على قدر أهل العزم تأتي العزائم»، «أراع كذا كل الأنام همام»، «ذي المعالي فليعلون من تعالى»، «الرأي قبل شجاعة الشجعان». ولكنها محاولة تفلق، فعندي ألا يُجرِّبها أحد.

وينظر طه نظر المؤرخ البصير إلى الأبيات التي يراها تتصل بحياة أبي الطيب السياسية في مصر والعراق، تلك التي كان يُعرِّض فيها بمنافسي سيف الدولة ككافور والخليفة نفسه، فيصيب كثيرًا ويخطئ قليلًا؛ أخطأ حين ظن أن المتنبي قصد إلى معز الدولة بقوله:

فواعجبًا من دائل أنت سيفه
أما يتوقَّى شفرتي ما تقلدا؟!

فيرى الشاعر يهاجم الخليفة تصريحًا لا تلميحًا ويرسل إليه نذيرًا لا لبس فيه، وما هذا إلا صورة شعرية أعجبت الشاعر فما نزل عنها ولا بالى بعواقبها.

ويقول في هذا البيت:

إذا كان بعض الناس سيفًا لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول

غير الذي قاله ابن عباد، ويراه مع روائع المتنبي، وللناس فيما يعشقون مذاهب.

ويمر الأستاذ بشعر المناسبات فيرذله أي رذل ويكيل له ولقائله الاحتقار بالمد، وهذا أقل ما يستحق وإن كان قائله المتنبي، أما هذا الشعر الذي يقوله البلداء في هذا الزمن فعليه لعنات يوم أيوب ألف دهر.

وقد أحسن الدكتور جدًّا إذ دل على شعر المناسبات المتنبئي؛ فقد ظن سواد الأدباء أن شعر أبي الطيب كله شعر مناسبات، ولو تأملوا قليلًا بعيون أنفسهم لميزوا هذا من ذاك.

وبعد أن يشبع من ازدراء هذا الشعر ينتقل إلى النظر في إنذار المتنبي لأميره بالذهاب عنه فيجيد التحليل والتقدير، وما أحسن وصفه نفسية المتنبي بعد إنشاده: «واحرَّ قلباه» فهو يصورها أحسن تصوير بقوله: وقد خرج المتنبي من هذا المجلس آمنًا كالخائف وخائفًا كالآمن. ومثل هذا في الحسن قوله من قبل في هذا البيت:

فلا يتهمني الكاشحون فإنني
رعيت الردى حتى حلت لي علاقمه

«فلست أدري لماذا وجدت فيه حلاوة مرة لا آخر لها.»

ليته يشعر دائمًا مثل هذا الشعور، وسواء عندنا أدرى أم لم يدرِ. ويختم الكلام على المتنبي في حلب بقوله: «والغريب أن افتراق هذين الصديقين كان شرًّا عليهما جميعًا.»

أَبعِد اللهم عنا هذا الشر لندخل أرض مصر آمنين ونزور الفسطاط، ونرى ذلك البحر الذي أزاره الشاعر حياته وهواه، فأبصر الوجه الذي كان إليه تائقًا، ولقي المرورى والشناخيب دونه، اللهم آمين.

عند الشمس السوداء

أقبل الشاعر على الفسطاط بعدما تغمرت خيله من النيل، واستذرت بظل المقطم، فإذا بالمرعى عابس لا يُحرِّك شهوة؛ فاستعاذ بشيطانه الرجيم، فألهمه: كفى بك داء أن ترى الموت شافيًا … هذا الشطر، وحده، يستوعب وحشة الشاعر في الوادي، وما ألقته سحنة كافور من الرعب في نفسه. كأني به توقع قبحًا مقبولًا، فإذا به يرى بشاعة عبقرية فاضلة على الكفاية، فنكدت عيشه النظرة الأولى، وعلم أنه استبدل بغزاله قردًا، فأدمى شفتيه ندامة وصاح ساخرًا من نفسه ومن ممدوحه:

أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقًا
إليه وذا اليوم الذي كنت راجيا

واستقر في مصر على مضض يرثي نفسه وأميره المحبوب، ويهزأ بممدوحه البغيض، وكأني به قد عناه، قبل أن يراه، حين قال:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بد

وعُنِيَ طه بدرس مقام الشاعر الجديد الذي كان يتهدَّد به سيف الدولة حين قال: لئن تركنا ضميرًا عن ميامننا … فإذا بالندم قد أكل قلب الشاعر قبلُ قلب الأمير. قد فرَّق طه أحسن تفريق بين المقامين، في حلب والفسطاط، وأجاد في الفصلين الأولين من الكتاب الرابع، وزبدة ما مخضه أن البطالة والخمود يشغلان أبا الطيب في نفسه. ولطه آراء طريفة حين يؤرخ فيمشي مشية صاحبة المنخل، أما إذا جاءت نوبة النقد فيذكرك أبا مرقال.

دلته حياة المتنبي الجديدة على سذاجة لأنه انخدع، ورأى في كافور الذي عبر عنه بالمصريين سياسيًّا لبقًا لأنه خدع؛ فالمتنبي «كان شاعرًا كغيره من الشعراء ورجلًا كغيره من الناس، ظن نفسه حرًّا ولم يكن إلا عبدًا للمال، وظن نفسه صاحب رأي ومذهب ولم يكن إلا صاحب تهالك على المنافع العاجلة» (ص٥٣٧). ثم يقابل بينه وبين المعري الذي أنكر الملوك والأمراء وزهد في التقرب إليهم، حتى قال كالجازم: «ولم يكن أقل شاعرية من المتنبي.»

أما إعراض المعري عن السلاطين فأسبابه معلومة؛ قد رأيناه يدغدغ أم دفر في العراق فتعرض عنه مجفلة ويرجع من بغداد رجعة مشئومة تنكر على طه قوله … أما تقويم شاعرية أبي العلاء فليس هنا محله، وقد سعرناها مرارًا، «وكفاك من القلادة ما أحاط بالعنق.» كما يعبِّر القدماء، وإذا كان الحب يُعمِي عن المساوئ فالبغض يُعمِي عن المحاسن والحقائق كما قال الجاحظ، وحسبنا من طه اعترافه أن هذه العصا من تلك العصية.

ويتمخض طه ويتوجع ليرسلها صرخة داوية تزعج الحي — لا أدري إذا كانت الأخيرة — فيقول: «ولكن الغريب أن المتنبي لم يخدع نفسه وحدها، وإنما خدع معها كثيرًا جدًّا من الناس فظنوا به … وليس هو من هذا كله في شيء، إنما هو رجل من أهل زمانه ولم يمتز منهم بأخلاقه إنما امتاز منهم بلسانه» (ص٥٣٩).

وهل كان يظن أنه يمتاز منهم بأذنيه وذنبه؟! … ثم يراه: أقبل على كافور وضيعًا ذليلًا قد هان على نفسه فهانت نفسه على الناس، وأنه لم يصف أحدًا كما وصف نفسه حين قال:

وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الكر وحده والنزالا

أحشفًا وسوء كيلة يا أستاذ؟! لا أخلاق، ولا إباء، ولا شجاعة أيضًا، هذا بغي. أنسيت ما قلته؟! (ص٢٣٩). في وصفه لمصرع أسد بن عمار: «فهذا كلام يكفي أن تنظر إليه نظرًا سريعًا لتحس ما فيه من جمال وروعة وترى فيه فتوة وقوة، ما أرى إلا أن الشاعر قد استعارهما من نفسه وخلعهما على ممدوحه … إلخ.» ثم في (ص٣٢٠): «إن أبا تمام والبحتري لم يشتركا في الجهاد كما اشترك فيه المتنبي، ولم يشهدا مواقعه كما شهدها المتنبي.» فهل من يجاهد ويحارب؟ هل من يهاجم الأمير الحمداني في ديوانه المحبوك، ويخرج منه آمنًا كالخائف كما قلت، ثم يرتمي بين سواعد الجبال، وفي أحضان الفيافي والتنائف، لا تروعه الطريق المقنَّعة يفضل أزار لبنان الذي لا تُحَل حبوته إلا في تموز وآب؟ هل يكون هذا جبانًا يطلب الكر وحده والنزالا؟! … ثخينة يا دكتور. المتنبي أشجع من مشى عليها، وهو من المفارد الذين يُغيِّرون وجهها، وكان لو ساعد المقدور ينتصر … إن بني إسرائيل خرجوا من مصر سائرين في خفارة إلههم الدموي رب الجنود، فشق لهم البحر الأحمر فعبروا، وكان فرعون وقومه من المُغرَقين. وفجَّر الرب من الصخور ينابيع، وتَقَدَّمهم عمود الغمام نهارًا، وعمود النور ليلًا، ورزقهم المن والسلوى و… و… أأقص عليك التوراة، وما جاء في الزبور من تغني داود بهذا الظفر لتعذر المتنبي على مقصورته؟! … أما المتنبي فأراه أعظم من أمة كاملة، انصرف وحيدًا ما معه إلا الصبر، من وجه الذي:

يدبر الملك من مصر إلى عدن
إلى العراق فأرض الشام فالنوب

لا يعاونه رب ولا تؤازره معجزات، أتظنه فعل ذلك ليطلب الكر وحده والنزالا؟! فألف مرحى لهذا النقد … هذه غلطة بألف يا شاطر، إياك أن تعيدها …

ويلوي طه كجران العود على نفس الشاعر مناديًا متفجعًا كأنه ينعاه إلينا لنؤجر فيه: «ماتت نفس المتنبي … ماتت نفس المتنبي … ماتت نفس المتنبي، أو كادت تموت، ولم يبقَ منها إلا رمق ضئيل لم يكن خير ما بقي منها، إنما كان شر أجزاء نفسه وأهونها على الناس حين يلتمسون الخلق والفلسفة، وكان خير أجزاء نفسه وأكرمها على الناس حين يلتمسون الشعر والفن والغناء.»

ليس لك أن تسأل كيف كانت أمس فلسفة المتنبي أساس الفلسفة العلائية النبيلة، ولا كيف أمست الآن شر أجزاء نفس المتنبي؟ لا ولا أن تقول كيف يكون الأصل فاسدًا والفرع صالحًا؟ إن هذا لا يعنيني ولا يعنيك، فعميد كلية الآداب كسلاطين آل عثمان مقدس غير مسئول … ومن شاء فليؤمن.

ويلاحظ الأستاذ بلاشير أن كافورًا طلب إلى المتنبي وصف دار جديدة انتقل إليها فلم يزد أبو الطيب على وصف كافور، وتهنئته بهذه الدار؛ فتوحي كلمة بلاشير هذه إلى طه فصلًا كاملًا بحث فيه وصف الطبيعة في شعر المتنبي، فرآه معرضًا عنها لانشغاله بنفسه والناس. أما الذي لاحظته أنا بهذه المناسبة فهو أن طه يحسن جرَّ الخيط إذا استلمه، وأنه أبدًا في حاجة إلى من يسلمه إياه، وبلغة أوضح: إن طه فاعل ماهر في التمهيد والتعبيد، أما أن يخطط طريقًا فليس هذا شغله …

لا أدري كيف يكون وصف الطبيعة والعمران؟! أحين يقف أبو الطيب أمام الأهرام كما وقف إسماعيل صبري؟! أليقول قصيدة من طراز «دار البطيخ» كابن الرومي؟! شتان بين المزاجين والعقلين! المتنبي ابن الفلاة والعراء، وربيب الصحراء والبيداء، لا يستهويه من مشاهد الطبيعة ما يستهوي ذلك الموسوس المتطير، الذي يخشى الناس كالطفل النفور؛ فيهرب منهم ليغطي وجهه بذيل أمه …

إن تلك النظرات التي ألقاها المتنبي على الطبيعة عرضًا يزخر وجيزها بما لم تتحمله مطولات ابن الرومي، وهو لا يستفزه من مشاهدها إلا ما كان فذًّا كشعب بوان وجبال لبنان وغيرها من غرائب الكون وأعاجيبه، فتقع عليها قريحته وقوع النحلة على الزهرة تلثمها وتناجيها هنيهة وتنثني عنها بالشهد. أما ابن الرومي — وله قليل أحلَّه المحل الأول — فدودة ترعى، تلزق بالجذع وتنبطح على الورق ثم لا تتحلحل حتى تمتص الماوية وترعى اللحاء وتقرض القش. وإني لأعجب من عشاقه — في آخر هذا الزمان — كيف يخصونه بالتشخيص وقد سبقه إليه أبو تمام والبحتري وغيرهما كما ذكرنا … فابن الرومي «شاعر البيت» وشاعر الظل ينشده للطبيعة، وقد علمت أن ابن الرومي يطلب أن يُكفَى مئونة السفر وتأتيه الصلة إلى داره محلوقة منتوفة كما اقترح على أحمد بن ثوابة، وأدركت جزعه وبلادته ووقفت على سر غرامه بالطبيعة التي لا يراها إلا متبرجة …

أما أبو الطيب فركب شعره، في وصف الطبيعة، إلى ممدوحه فشانه كما تشين الجلال والقرب الخيول الكريمة، ولكنه في كل حال وصف الخوارق وصفًا رائعًا جدًّا، وقليله خير من كثير غيره عند من يقوِّم الأشياء ولا يزنها بموازين تأخذ وتعطي كموازين طه الأدبية.

وتروق طه الرقة والغناء في شعر المتنبي الكافوري، فيرى «أن شاعرنا يحب سيف الدولة ويرجو نائله، وأنه كان يبغض كافورًا أشد البغض ويحمل نفسه على ما لا تريد، فكان صادقًا أمام نفسه حين مدح سيف الدولة، وكان كاذبًا منافقًا أمام نفسه حين كان ينشئ المدح وينشده في كافور، فلا غرابة إن أجاد في مدح سيف الدولة، وإذا أُتِيحت له الإجادة في كافور فهذا هو الغريب العجيب» (ص٥٥٦).

قلت في مطلع هذا الفصل، وأقول أيضًا، فمجال القول ذو سعة: إن من يبرح أفخم نادٍ يزينه أمير أروع في عرنينه شمم ينفر ويشمئز؛ إذ يقبل على مثقوب المشفر والمنخر في حضرة فيها:

من كل رخو وكاء البطن منفتق
لا في الرجال ولا النسوان معدود

ولا دواء أدوأ لدائه من كظم عواطف البغض التي فتحت للفن منفذًا عجيبًا، يمده حقد الشاعر على صاحبه الحمداني، وانتقامه لنفسه ممن حذره وأنذره فما نفع، فأرسل الحمم والشرر؛ إنها رحلة كلها خير وبركة يا دكتور، فلو بقي المتنبي عند أمير حلب لنضب وجفَّ. ولا ينسَ الدكتور أن شاعرنا فلاح ماهر والأرض السوداء مغلال، فشخصية كافور كانت مرعى خصيبًا لقلم الشاعر العظيم فلم يسلم مغرز إبرة في جلد ذاك الأسود فجاء الوشم رائعًا … وألح على تلك الدمنة فلم يدع منها زنقة إلا استغلها. وفي هذا روعة الفن المتنبئي المصري، فعلينا أن نتقرَّاه على أشعة الفن خاصة، وأشدنا ضلالًا من يحسبه حقائق كله، فليس كافور في عقله كما صوَّره الشاعر حين رأى النهى كلها في الخصي، كما أن ذاك «الشعر» الذي رآه جرير من قبله، لم يكن: كعنفقة الفرزدق حين شابا …

أما الغناء في شعر أبي الطيب الفسطاطي الذي أدهش الدكتور فهو درس ينفعه إذا راجع «الأدب الجاهلي»، فمنه يتعلم أن الشاعر يلين ويشتد في القصيدة الواحدة فلا يتمسك في قابل بحبال المتمشرقين، وحجته الواهية أن كل شعر تقل كلماته عن الرطل الشامي وزنًا ليس بشعر جاهلي وصاحبه كالغول والعنقاء.

ويعد قصائد المتنبي في كافور ليقول لنا: «ومن الخطأ أن يُظَن أن المتنبي قد خص كافورًا بهذه المدائح.» فتحسب لهول ما طرق أذنيك أنك عثرت على حجر الفلسفة، فتتهيأ كالقادم على جليل، حتى إذا سمعت: «وإنما الصواب أنه جعلها قسمة بين ثلاثة أشخاص: سيف الدولة، والمتنبي، وكافور.» ضحكت وأرخيت ثوبك وشمرت عن ساقيك لتخبط مع طه في المهمه الواسع.

لست أدري ماذا أُسمِّي هذا في الأدب، أمفاجآت؟ ولكنها تافهة، وطه يكثر منها جدًّا، إنه يخلق ما لا يخطر لمخلوق ببال ليعارضه بشيء من عنده؛ فمن قرأ المتنبي مرة أو سمع به يعلم أنه يخص نفسه بكثير من نشيدته، وخصوصًا حين يكون الممدوح هزأة لا يحتشم محضره ككافور.

ويرى طه أبا الطيب معرِّضًا لا مصرِّحًا بقوله:

وغير كثير أن يزورك راجل
فيرجع ملكًا للعراقين واليا

أما كيف يكون التصريح فلا أدري! وهل يكتب الشاعر بالمساس؟! الله أعلم.

ويترك اليائية إلى البائية الرائعة: «من الجآذر في زي الأعاريب»، فيرى في غزلها رمزًا وإيماء، وينتهي إلى البيت الذي فتن القدماء:

أزورهم وسواد الليل يشفع بي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي

«فيحب أن يُعجَب به ولا يظفر بما يريد.» ويحدثنا عن الطباق الذي فيه كأنه مصدر لروعته، مع أن جمال البيت لا ينبثق من هذا الطباق المخمس الذي عظمه الثعالبي، ولأجله سُمِّي البيت أمير شعر المتنبي، أما أنا فأرى أن الطباق لم يخطر ببال الشاعر، والدليل على ذلك قعود كل لفظة في محلها بلا كلفة. وبعد الجدل المعهود، يقول طه: «وهذا الطباق نفسه قد يرضيني لولا أنني أجد في القافية انحدارًا ثقيلًا على السمع أشد الثقل.»

لو ترك الأستاذ «أشد الثقل» كان أعدل، فمثل هذا كثير في الشعر العربي حتى في الذي اختاروه للغناء مثل: قال لي أحمد ولم يدرِ ما بي. ولكن هذا لا يمنع أن يكون هناك بعض الثقل كما أحسَّ طه، والحكم للأذن في القافية لا للعين، وبإرشاد الأذن يهتدي الشعراء، فهنيئًا للرهيف الحس.

ثم ينظر في المدح فلا يرى المتنبي هازئًا بكافور ولا معرضًا به كما زعموا، ولكنه «صادق في الغرضين وكاذب في وقت واحد!» أما نحن فسيَّان عندنا صدقه وكذبه، فلسنا في موقف العرض ننظر في كتابه؛ فالذي يعني الفن من الصدق غير ما يعني اللاهوتيين والمجتهدين … إننا نُكبِر كذب هذا الفن إذ أشبه الصدق، ونحمد القَدَر الذي سلَّط هذا النسر على تلك الفريسة؛ فالمتنبي مصوِّر فذٌّ ظهر جبروت عبقريته في سحنة غريبة، أظفره بها جده الفني لا السياسي، فليست الأشخاص كلها تعين الفن والنبوغ.

أما السخر الذي يحاول طه إنكاره فظاهر كالعنزة البلقاء، وما خفي على كافور اللبيب، ولكنه تباله بالعرفان كصاحبات عمر، فمن يُصدِّق أن سيد مصر الفطن والعبد الداهية الذي سموه الحجر الأسود يحل من البلاهة منزلة لا يحس معها سخر الشاعر الذي يقول له:

تفضح الشمس كلما ذرت الشمـ
ـس بشمس منيرة سوداء
وما طربي لما رأيتك بدعة
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب
فدى لأبي المسك الكرام فإنها
سوابق خيل يهتدين بأدهم
أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقًا
إليه وذا اليوم الذي كنت راجيا

فلولا الشك في هذا المديح ما قال الشاعر لكافور:

وإن مديح الناس حق وباطل
ومدحك حق ليس فيه كذاب

وحسبنا شاهدًا على مقدرة الشاعر العظيم أن يخدع اليوم أستاذًا جليلًا كطه حسين، فيحسب ذاك الهزل جدًّا وتلك السخرية مديحًا، والفن الرائع خدَّاع …

ونظر طه في الدالية والميمية والبائيتين الأخريين فرأى بعد الجمع والطرح والضرب والقسمة أن «المتنبي لم يكن يستحق أكثر مما أخذ من مال الأمير.» حتى خِفْتُ أن يقترح إقامة الدعوى على تركة الشاعر … ولكنه رضي، والحمد لله، رأسًا برأس ولم يشغل الحكومة المصرية في هذه الأزمة!

ويصل إلى: «حسم الصلح ما اشتهته الأعادي»، فيحكِّم فيها عاطفته تحكيمًا أشعريًّا، ويصفع الفن في قفاه صفعة ملعونة، فيراها من أجمل شعر المتنبي وأصدقه في تصوير السياسة المصرية، فيقول: «ومن أبياتها ما يمكن إنشاده والتمثل به في هذا العصر الذي نعيش فيه في هذا الطور من أطوار تاريخنا الحديث» (ص٥٨٧).

حيَّرني هذا الحكم؛ فرحت أفتِّش عما أعلل به إعجاب طه وانشداهه، فوجدته في هذه القصيدة عينها، فداويته منها بها كمجنون عامر. قال المتنبي في حسم الصلح:

إنما تنجح المقالة في المر
ء إذا صادفت هوى في الفؤاد

فلو توافق كل قصائد المتنبي هوى طه السياسي البلدي لكان سيد الشعراء وأشرف الناس أخلاقًا وأسماهم فلسفة. لقد كاد يقضي لها بالتعليق على جدران الجامعة المصرية «لمطابقتها مقتضى الحال …» وما بهذه العواطف يُقاس الفن. إنني أُذكِّر الدكتور، وهو سيِّد العارفين، بمقال النقَّادة برينتيير وردِّ أناتول فرانس عليه (الحياة الأدبية، جزء ٢) فلعل فيه بعض الهداية.

حاشية: وبهذه المناسبة أسأل الدكتور: أعنك أخذ تلميذك الطاهر زكي مبارك هذه الهندازة؟! فقد خبَّرتنا جريدة المكشوف أن الصداقة من عيارات زكي الأدبية. فإذا قوَّمنا الأدب بما يحك لنا من جرب محلي وقدَّرنا فن الناس بما نحب وما نكره منهم، فيا خيبة الأدب! لقد أكبرنا فتحكم الجليل، وليس فينا من ينكره عليكم، ولكن احذروا التخييم في الشاطئ … فبوادره ظاهرة.

«حسم الصلح» قصيدة طيبة، ولكن في ديوان المتنبي أطيب منها كثيرًا ولم يعجبك؛ لأنه لم يوافق هواك ولا يلابس أحوالكم المصرية. إن هذه العلل العارضة — الهوى والصداقة — لا تصلح مثلًا للفن، وإن كان محلها منه كالتوابل من الطعام، فلنفتش عن كمية الغذاء قبل كل شيء.

إن شعر المتنبي ثلاثة أقسام: قسم مات وصار رمة، وقسم يلائم نفسية البلاد العربية وهذا يظل حيًّا ما دامت أرضها ملعبًا وملهى للدخيل، وقسم لا يموت أبدًا وهو الشعر الإنساني. وهناك شيء آخر في هذه الأقسام ثلاثتها يستيقظ كلما أيقظته، هو الفن المتنبئي الذي لا يموت؛ فكلما فتحت الديوان يبرز أمامك المتنبي بلحيته وكشرته، فيعيد حقبته جذعة، بكافورها وسيف دولتها وضبتها، وهذا هو الفن كيفما كان.

وإليك الآن نموذجًا من رديء استحسنه طه جدًّا؛ لأنه أحبه:

لا عدا الشر من بغى لكما الشرْ
رَ وخص الفساد أهل الفساد
أنتما ما اتفقتما الجسم والرو
ح فلا احتجتما إلى العواد
هذه دولة المكارم والرأ
فة والمجد والندى والأيادي
كسفت ساعة كما تكسف الشمـ
ـس وعادت ونورها في ازدياد

فيقرِّظها طه بقوله: «وانظر إلى هذه الأبيات التي يملأها الحنان، أرأيت أجمل من هذا الكلام وأبرع من هذا التصوير … إلخ» (ص٥٩١) مع أنها، كما رأيتها، أشبه بدعوات العجائز. لعل جدة المتنبي طلبت له ليلة القدر طلبة قُبِلت فأُعجِب طه بقصيدته هذه وخلا كلامه عنها من «لو» و«لكن»!

ويتناول قصيدة: «عدوك مذموم بكل لسان»، فيقف عند هذا البيت:

ولله سر في علاك وإنما
كلام العدى ضرب من الهذيان

فيخطِّئ آراء القدماء في هذا البيت ويراه مدحًا محضًا، ورأيه هنا أوجه وأمثل من آرائهم، فلو كان المتنبي يؤمن بالآخرة بعض إيمانه بالحظ لدخل الجنة بثيابه، أليس هو القائل:

هو الجد حتى تفخر العين أختها
وحتى يكون اليوم لليوم سيدا
أقل فعالي بله أكثره مجد
وذا الجد فيه نلت أم لم أنل جد

ثم انداحت دائرة هذا الإيمان بالحظ حتى قال للأسود:

أرد لي جميلًا جُدت أو لم تجد به
فإنك ما أحببت فيَّ أتاني

وينتقل الأستاذ إلى المتنبي السياسي، فيرى «إلمامه بالسياسة المصرية يسيرًا؛ لأنها لم تكن سياسة حرب وقتال — نسي أنه يطلب الكر وحده والنزالا — وإنما كانت سياسة مكر ودهاء.» ثم يصف لنا حياة المتنبي عند كافور وما فيها من قنوط ويأس، فيرينا الشاعر تاعسًا بائسًا.

ويشرح قصيدة الحمى «ملومكما يجل عن الملام»، فيراها فوق الفن: «لأن حزن هذا الشاعر العظيم قد تجاوز الفن وصار أعظم منه وأبعد مدى.» وتجيء نوبة: «صحب الناس قبلنا ذا الزمانا»، فيشرحها ويقول: إن الفلسفة العلائية انبثقت منها. ثم يذكر: «بمَ التعلل؟! لا أهل ولا وطن»، ويحب لك أن تقرأ هذه القصيدة وتقرأها؛ فهي من أبقى شعر المتنبي وأرقاه (ص٦١٠) فاقرأها إذن واقرأها … وإن كان لي شيء أقوله في هذه المرحلة من نقد طه؛ فهو أنه نظامي المذهب في — النقد — لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين …

وهنا، وهذا غريب، يعتقد طه كعجائز لبنان اللواتي يعللن موت غير الأبرار ومصائبهم بغضب الله؛ فيقول: إن الزمان يعاقب المتنبي على ما أظهر عند سيف الدولة من بغي وكفر للنعمة وجحود للجميل، فأقسم — أي الزمان — لينغصن عليه حياته في مصر تنغيصًا.

لست أدري كيف يكون الرجل باغيًا طاغية وتموت نفسه ذاك الموت الأسود كما نعاها إلينا طه؟! وهل ماتت نفس يدرسها الناس كل يوم ولا ينكشف لهم إلا القليل من سرائرها؟!

وينظر طه إلى هجو الشاعر كافورًا والمصريين ومصر فلا يراه شيئًا غريبًا، وهذه رحابة صدر ذكَّرتني المأمون حين جاءوه في قتل دعبل الخزاعي فخيَّبهم. لقد أنصف الأستاذ كل الإنصاف، فهذا الهجاء يُقرَأ كفنٍّ لا كذم لأمة كريمة، والمتنبي — في رأي طه — قد وُفِّق إلى إجادة الهجاء أكثر مما وُفِّق إلى إجادة المدح «وهو قد أضحك الناس من كافور، ولكنه قد غض من نفسه عند الناس؛ فالناس ينكرون الشاعر الذي أعطى ثم أخذ، ومنح ثم استرد، وقال ثم كذَّب نفسه، وهم حين يضحكون من هذا الشاعر لا يبخلون عليه بالإعجاب والإكبار، يُكبِرون فنه وبراعته، ولكنهم يُصغِّرون رأيه ويحقرون خلقه؛ فالمتنبي في قصته مع كافور كلها صغير حقًّا، صغير حين مدح وصغير حين هجا.»

قلت: إن غراب المتنبي كان أدهى من غراب لافونتين، فما ترك الجبنة للشاعر … وكثيرون فعلوا مثل المتنبي، شربوا من البئر ورموا فيها حجرًا، فلا تَلُمْهُ … فكافور كان أحقر وأخس؛ لأنه قَبِلَ هذا المدح المخزي، بل استعطاه وجزى عليه الشاعر كذبًا ووعودًا! وفي كل حال أرى صفقة كافور رابحة، فحسبه هذا الذكر؛ فلولا شعر المتنبي ما ذكره أحد بلسان … لم يطلب المتنبي مالًا من كافور، بل ولاية عشقها صغيرًا ومات على حبها، وكافور وعد ولم ينجز. إنني أميل جدًّا إلى الشك بسيب كافور ونائله، فليس المتنبي أول شاعر خاب في مصر وعاد هاجيًا.

ويتناول طه اليائية:

أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا

فيقول فيها بعض كلماته المعهودة: جميل، أو غير جميل، لا بأس به، إلخ. ثم يقول في هذا البيت:

وإنك لا تدري ألونك أسود
من الجهل أم قد صار أبيض صافيا

إنه «مبالغة سخيفة فلم يكن كافور يُظَن به الجهل إلى هذا الحد.» ونحن أيضًا لم نكن نظن أن الدكتور يفهم الشعر هذا الفهم! وهو لو تبصر قليلًا لأدرك أيضًا أن هذا ممكن، وتفكير المتنبي صحيح؛ فالمرء يألف قبحه، وقبح من يألفهم ويخالطهم …

وعند طه أن الميمية أجود هجاء قاله المتنبي في كافور، وقد سردها الدكتور كلها، أما نحن فنكتفي ببعض أبياتها لضيق المقام:

من أية الطرق يأتي مثلك الكرم؟!
أين المحاجر يا كافور والجلم؟!
جاز الألى ملكت كفاك قدرهم
فعرَّفوا بك أن الكلب فوقهم
لا شيء أقبح من فحل له ذكر
تقوده أمة ليست لها رحم
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم؟!

قلت: لو عاد المتنبي اليوم ووقف على طلول شواربنا فما تراه كان يقول؟! …

الفرار والنهاية

وفي يوم عرفة سنة ٣٥٠ﻫ جاش صدر المتنبي، فقال الدالية الشهيرة: «عيد بأية حال عدت يا عيد.» القصيدة من آيات المتنبي، وفيها ما يلائم هوى كل نفس وخصوصًا ذات الآلام الخفية، فما قُرئت على طه حتى هام بهذه الأبيات الأربعة هيام دانتي ببياتريس:

لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي
شيئًا تتيمه عين ولا جيد
يا ساقييَّ أَخَمْرٌ في كئوسكما
أم في كئوسكما هم وتسهيد؟!
أصخرة أنا؟! ما لي لا تحركني
هذي المدام ولا هذي الأغاريد؟!
إذا أردت كُمَيْت اللون صافية
وجدتها وحبيب القلب مفقود

وإليك ما قال في تقريظها: «لا أعرف أجمل منها ولا أصلح للغناء … أما أنا فمفتون بهذه الأبيات، وبالثلاثة الأخيرة منها خاصة، وما أعرف أني وجدت في كل ما قرأت من الشعر العربي ما يشبهها جمالًا وروعة ونفاذًا إلى القلب، وتأثيرًا في النفس. ومهما أحاول فلن أستطيع تصوير ما يملأ نفسي من الحزن حين أسمع تحدثه إلى ساقييه وسؤاله إياهما عما في كئوسهما: أخمر هو أم هم وتسهيد؟! ومهما أَقُلْ فلن أستطيع أن أصوِّر إعجابي بهذا البيت الذي يسأل فيه عن نفسه: ما له لا يطرب للخمرة ولا يطرب للغناء؟! وما أعرف بيتًا يصوِّر السكون وجمود النفس وموت القلب خيرًا من هذا البيت، وهو على تصويره الرائع للسكون والجمود والموت من أشد الشعر تحريكًا للنفوس وإثارة للطرب الحزين في القلوب» (ص٦٢٩).

ليس من الكياسة أن نقف حيال هذا الإعجاب الغريب لا نبدي ولا نعيد، فالمروءة الأدبية تقضي علينا أن نُعِين أخانا وننصره على حيرته، فلو حلَّل طه نفسه كما حلل نفس المتنبي لاستولى على ذلك السبب. لعن الله ذلك الحلاق الذي داواه صبيًّا فقد جَنَت يده الأثيمة على النبوغ والأدب! لقد آلمني حزن الأستاذ حتى وددت، وربي شهيد عليَّ، لو أستطيع أن أشاطره البلوى، فعين واحدة تكفي لقضاء نهار مالت شمسه. لقد صوَّر طه نفس الضرير وشعوره في الأعياد والمواسم من حيث لا يدري، فلست أشك أبدًا، وإن لم أَرَه، أن طربه حزين وابتسامته فاترة، وبهذه الحسرة يستقبل الأعياد، فلا يُحزِن الله الأستاذ الكبير فبصيرته النيِّرة خير من ألف عين.

وينفض طه عنه الكآبة إذ يبلغ قول أبي الطيب:

نامت نواطير مصر عن ثعالبها
وقد بشمن وما تفنى العناقيد

فيرى أن الشاعر أُلهِم البلاغة والحكمة حقًّا حين صوَّر مصر أصدق وأبرع تصوير … لست أذكر هنا «العاطفة البلدية»؛ فهذا البيت من وثبات المتنبي التي ينماز بها من شعراء العرب، ولا أبالغ أن أقل من شعراء الدنيا أجمعين. وبعد الثناء والحمد ينتقل إلى المقصورة الخالدة: «ألا كل ماشية الخيزلَى»، فيخص بالذكر هذا البيت العبقري:

وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا

ثم يسرد أبياتًا أخرى رائعة ويجمل الكلام قائلًا: «إن لمصر على المتنبي فضلين؛ فهي قد رقَّت غناه وعلمته الحزن الطويل العميق والتأمل الذي كاد يرقى به إلى الفلسفة، وهي قد علمته الهجاء اللاذع الممض الذي يبقى على الدهر ولا يخلو من نفع وموعظة» (ص٦٣٥).

ويلذ لي أن أذكر أيضًا صورة رائعة رسم بها طه حياة المتنبي في مصر، قال: «فلما انتهى إلى مصر واستقر في ظل كافور أُتِيح له السكون والهدوء ولم يعرض له أحد بكيد أو حسد ولم يضيق عليه في حياته المادية، وإنما وُضِع على نار هادئة من الوعد والإخلاف؛ فنضجت نفسه نضجًا بطيئًا ولكنه نضج صحيح.»

قلت: ونحن نأكل كل يوم هذا الشواء الشهي طعام اليدين الذي كان يسأل عنه حسان في أخريات العمر. إن المتنبي مدين بكثير لمصر، ولو بقي في حلب لم يزد على ما قال، فالشاعر الملهم كالمتنبي يخلق من محيطه الملائم عوالم عجيبة، وكلما تهيأت له الأسباب باض وفقص كالجرادة.

ويهرب أبو الطيب من مصر، فيتبعه طه ليحصي عليه أنفاسه ويحدثنا عن قتله عبده في الطريق؛ لأنه يسرق متاعه، «فيصور استهانته بالحياة الإنسانية واستباحته الدم الإنساني في سبيل متاع يُقوَّم بالدراهم والدنانير.» وقد فنَّد هذا الرأي الفطير الأستاذ العقاد، واعتذر عن فعلة الشاعر التي هي «خليقة — في شرع طه — أن تسبغ على الشاعر لونًا أحمر قانيًا.»

وتذكَّر طه «الاندفاع البحري» بمناسبة الكلام على هذه المقصورة، وروى أبياتًا من فخر المتنبي ليعقِّب عليها بهذا الطعن المر: «فهذا الفخر الرائع البديع كله ينحل إلى يسير، وهو أن الشاعر قد فر من مصر فرار اللص، واندفع في الصحراء اندفاع الصعلوك، وقتل في طريقه عبدًا؛ لأنه سرق بعض المتاع.»

هكذا يرى طه نجاة جواد أضر بجسمه طول الجمام، ولا هو في العليق ولا اللجام. الحرب في النظارات هينة … لقد جددت عهد قرقاش يا دكتورنا النزيه! أنسيت كم أكلت الصحاري من جماعات؟! أتجهل أنها لا تزال تزدرد قوافل النار والحديد؟! فأين كان عقلك حين أصدرت هذا الحكم الجزَّاري وسجلته على نفسك؟! لقد سبق تسفيه هذا الرأي، فليُراجَع.

ويحاول الدكتور معرفة أسباب اتجاه المتنبي لناحية دون أخرى، فليقرأ ذلك من تهمُّه معرفة هذه الأمور.

وأخيرًا يبلغ الشاعر حضرة ابن العميد ويقول في مدحه شعرًا كالشعر أحسن طه جدًّا في إجمال الكلام عنه بقوله: «إن المتنبي أخذ من ابن العميد أكثر مما أعطاه.»

فهذا الشعر الذي قاله أبو الطيب في مدح من ختمت به الكتَّاب — كما سجع القدماء — شعر ميت لا حياة فيه ولا نبض، فشاعرنا لا يبدع إلا حين يزجيه أمل واسع أو يحدوه غيظ صاخب.

وماذا عند ابن العميد؟ … أما شعره عند عضد الدولة فجيِّده كثير، وقد أدرك طه ذلك وحيَّرته كثرة الإنتاج. فلا يتعجب الأستاذ؛ فالسراج المحتضر يرسل لهبًا رائعًا ثم يشرق بنوره وينطفئ، وهكذا الشاعر ولا سيما إذا كان أخا خمسين مجتمعًا أشده.

وأُعجِب طه بوصف شعب بوان، وباللامية الطردية، وغيرهما فظن — ولكن ليس أكبر الظن — أن المتنبي لو أقام طويلًا في بلاد فارس لتغير مذهبه الشعري تغيرًا قويًّا، ولجاز أن يُحدِث في الشعر العربي فنًّا جديدًا، لم يُسبَق إليه (ص٦٩٤). وآية ذلك تصريع رآه الأستاذ في شعر أبي الطيب. وهو لا يقف عند هذا الحد بل يقول شيئًا كثيرًا في شعر المتنبي الشيرازي ولكنك تخرج منه كما قالت تلك البدوية في علكة لم تمضغها: ما فيها غير تعب الأضراس وخيبة الحنجرة … إنه يرى في هذا الشعر الشيرازي شيئًا غريبًا عجيبًا ولكنه لا يقول ما هو، و«يدهشه حقًّا ألا يكون النقاد — القدماء — قد التفتوا إلى ما يمتاز به شعر المتنبي في شيراز من سائر شعره، وأغرب من هذا — عنده — أن الأستاذ بلاشير لم يكد يشعر بهذا التطور العميق الذي أحدثته زيارة الشاعر القصيرة لفارس في شعره، مع أن الأستاذ بلاشير أوروبي وكان خليقًا أن يحس ما بين هذا القسم من شعر المتنبي وبين العقلية الأوروبية والفنية الأوروبية من تقارب ليس شديدًا ولكنه واضح كل الوضوح» (ص٦٩٤).

لا أدري لماذا يستغرب طه بهذه الدهشة قلة فهم الأستاذ بلاشير وضعف شعوره بهذا التطور الذي تراءى لطه، ألأنه أفهم للشعر العربي من القدماء؟! أم لأنه يدرك من أسرار اللغة ما لا يدركون ولا ندرك؟! فلو كان هناك بدع لأدركوه ولم يفتهم مهما دق وخفي.

أيُطلَب هذا عند من يعبِّرون عن المحصنات بالمهسنات، ويقولون في شرحها كان العرب يضعون نساءهم في حصون؟! ألم يبلغه أن «ألا جالا» هي «الله جعل» عند أساتذته السوربونيين؟! فكيف يطلب إدراك الفن العربي عند من يلفظون كمولى زياد الذي حدَّثنا عنه الجاحظ في بيانه، ويعظون كما روى الشدياق في فارياقه؟!

وبعدُ، فما لنا ولهؤلاء؟! فلنرجع إليك أنت يا دكتور، قلت: «وكم كنت أحب أن أطيل الوقوف عند هذا القسم من شعر المتنبي فهو من الناحية الفنية آثره عندي وأعجبه فيَّ وأحبه إليَّ، وهو خليق أن نقف عنده قصيدة قصيدة، وأن نفصِّله ونستخرج دقائقه ونضع أيدينا على موائد التطور فيه، ولكن هذا شيء لا نفرغ منه إن أخذنا فيه إلا بعد إطالة لم يبقَ يتحملها هذا الكتاب» (ص٦٩٥).

فلندع الهزل، أو الخلط — اختر لنفسك ما يحلو — وأجبني: أمطلوب في هذا الكتاب أن يكون صفحات معدودات؟! أتبيع الكتب مذارعة من الناشرين؛ ولذلك لا تكتب لهم إلا بمقدار؟! وإن كان هذا فلماذا لم تقتصر حيث فلقت الناس بالفأفأة والشأشأة والطباق والقرمطة … إلخ؟ لماذا أشغلتنا باللف والدوران كالغرانق عند البيات؟! لماذا أطلت الوقوف عند ما يفهمه أبسط ناشئ ثم قطعت الحديث عن هذا النجم المجوسي الجديد الذي اكتشفته في سماء فارس؟! إن الدلالة عليه لا تحتاج إلى أكثر من سطر أو سطرين، فلماذا لم تقل ماذا رأيت؟! أنحن في ألف ليلة وليلة ليدرك شهرزاد الصباح؟! … إنها لخيبة مُرَّة، ولكن عاقبتها يأس مريح … لقد صحَّ بك قول الشاعر القديم:

تقاتل الشيب ولما تفعل
في لجة أمسك فلانًا عن فُلِ

ليتك أذقتنا لقمة واحدة من هذا السماط الذي مدَّته لك آلهة الفن، وتركتنا نفتش عن أخواتها. إنني أقترح عليك أن تفعل — كما وعدت — وتدلنا على الشيء الذي لم يفهمه أحد من العرب حتى ولا بلاشير الأستاذ الأعظم في لغة الضاد، ولست أقترح عليك أن تضع يدي على هذا الشعر الشيرازي، فأنا مثل توما أكتفي بأن أضع إصبعي فقط لأؤمن بك وبقيامة فن المتنبي الجديد؛ فكل ما قلته في هذا الكتاب — ما عدا التاريخ — ليس فيه ما يغري.

وما لي أعجب من هربك؟! أما عوَّدتنا من قبل ذاك؟! هكذا فعلت حين حدثت الناس عن أبي تمام — حديث الشعر والنثر — فأجَّلت درس فنه الشعري لضيق الوقت واعدًا أن تفعل في الكلام على البحتري، ولما تناولت البحتري رأيتك تسترشد بذوق أبي هلال العسكري فتأخذ قصيدتين أعجب هو بهما، وهكذا يضيق عنك ديوان البحتري فلا تجد فيه حاجتك الأدبية الفنية.

ويترك المتنبي عضد الدولة ساعيًا إلى حتفه، فيصدق طه كل ما رواه أبو نصر الجبلي عن مقتل الشاعر العظيم ناسيًا زعمه أن المتنبي لم يصوِّر إلا نفسه حين قال:

وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الكر وحده والنزالا

ويراجع طه وسواس القرمطية، فيحاول أن يجعل لها يدًا في مقتل الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

بعد الفراغ

ختم الدكتور طه حسين كتابه «مع المتنبي» بفصل عنوانه «بعد الفراغ» فرأيت أن أجعله عنوانًا لهذا المقال الأخير، واقتسمناه بالسوية فكانت حصة الأستاذ رأيه في كتابه، وحصتي رأيي المجمل فيه، فاسمع إذن ما يقوله الأستاذ في السبعمائة الصفحة التي سماها «مع المتنبي»:

إني حين أقبلت على صحبة المتنبي لم أكن جادًّا ولا صاحب بحث ولا تحقيق، وإنما كنت عابثًا أريد أن أداعب المتنبي أو أداعب خصومه وأصدقاءه جميعًا، ولكني لم أكد ألقى المتنبي وآخذ في الحديث معه أو الحديث عنه حتى صرفني عن اللهو العبث واضطرني إلى محاولة البحث والتحقيق … ودُفِعت في ذلك دفعًا عنيفًا حتى إذا انتهيت إلى حيث انتهيت وجدتني مكدودًا قد انتهى بي الإعياء إلى أقصاه، لم أقل للمتنبي أو لم أقل عن المتنبي كل ما كنت أريد أن أقول، فطويت الصحف وأرجأت الحديث حتى أعود إلى القاهرة، وكنت أريد أن استأنفه متى عدت فأفصِّل القول في فن المتنبي بعد أن فرغت من تفصيل القول في حياته، وأقف بنوع خاص عند أشياء لم أزد على أن ألممت بها إلمامًا … فما أكاد أبلغ القاهرة حتى تتلقاني الأعمال الجامعية فتستغرق أكثر جهدي ووقتي … فما أكثر ما بقي في نفسي من المتنبي! والله وحده يعلم أيُتاح لي أن أشفي من حديثه نفسي، أم تَحُول بيني وبين ذلك الحوائل والخطوب (ص٧٠٦).

إن هذا الكتاب إن صوَّر شيئًا فهو خليق أن يصوِّرني أنا — أي طه — بعض لحظات الحياة أثناء الصيف أكثر مما يصوِّر المتنبي، وإنه لمن الغرور أن يقرأ أحدنا شعر الشاعر أو نثر الناثر حتى إذا امتلأت نفسه بما قرأ فسجَّل هذا في كتاب ظن أنه صوَّر الشاعر كما كان، أو درسه كما ينبغي أن يُدرَس، على حين أنه لم يصوِّر إلا نفسه، ولم يعرض على الناس إلا ما اضطرب فيها من الخواطر والآراء.

فعنده أن شعر المتنبي لا يصوِّر المتنبي وإنما يصوِّر لحظات من حياة المتنبي لا أكثر ولا أقل، كما أن كتاب «مع المتنبي» وكل ما كتبه طه من كتب لا يصوِّره صورة صادقة تطابق الأصل وتوافقه؛ «فنقد الناقد إنما يصور لحظات من حياته قد شُغِل فيها بلحظات من حياة الشاعر أو الأديب الذي عُنِي بدرسه.

وقد تعجَّب طه من أنه قد انتظر هذه السن وهذا الطور من أطوار الحياة قبل أن يفطن لهذا الرأي ويطيل التفكير فيه.

قلت: فليقلَّ طه تعجبه ولوم نفسه؛ فليس هذا الرأي له، ولمثل هذا الزعم عنَّف برينتيير أناتول فرانس وجول لومتر منكرًا عيهما تحكيم الهوى في الآثار الأدبية، كما فعل الأستاذ في «مع المتنبي» فكان عاطفيًّا ذاتيًّا أكثر من فرانس. وكأني به قد أدرك هذا التقصير الفني، فاعتذر عنه بالأشغال الجامعية كما يعتذر بعض المؤلفين عن أغلاطهم بالتورك على الطبَّاع أو على صفَّاف الحروف. أما التماس صور الشعراء كاملة في دواوينهم فهذا لن نظفر به لأن الإنسان لا يستطيع أن يصور نفسه كما هي، وهو إن أفشى سرًّا من أسرارها بقيت أسرار يعز عليه إدراكها، ويفوته التعبير عنها؛ ولذلك جاءت دواوين الشعراء مختلفة في الدلالة، منها ما يدل كثيرًا ومنها ما يدل قليلًا، وديوان المتنبي أشدها دلالة على صاحبه. أما كتاب «مع المتنبي» فلست أقول فيه شيئًا بعدما أسمعتك رأي صاحبه فيه.

إن الأستاذ الجليل الدكتور طه حسين بك أَقْدَرُ على تأريخ الأدب منه على نقده، وقد يكون لنشأته ولتكوينه العلمي أبلغ أثر في هذا؛ فالرجل معذور غير محجوج كما تقول الجاحظية. قد نشأ نشأة مستمع قصَّاص، ومن نشأ هكذا كان في التأريخ أبرع منه في درس النصوص التي قد تحتاج إلى إطالة نظر، ففيها ما لا تلقاه أول وهلة؛ ولهذا رجحت كفة «مع المتنبي» التاريخية وشالت كفة النقد؛ فالكتاب تاريخ ممزوج بنقدات عجاف مكرورة. وفي التاريخ أيضًا ظلمات كثيفة تُحوِج قارئ «مع المتنبي» إلى الاستعانة بكتاب منظم ككتاب الدكتور عزام.

إن قارئ «مع المتنبي» كراكب الصعبة، فطه يعلو فيه ويسفل كالماء، ويروح ويجيء كحائك يسدِّي، ولا سيما حين ينقد أو يحاول اكتشاف خصلة أو نحلة كقرمطية المتنبي … تراه واقفًا للشاعر بالمرصاد ويشد عليه كمن يتعمد الفتك، وهو لو أخلص للحق والفن لكان أعظم فلاحًا، فبينا نراه في حديثه عن أبي تمام يصطنع أسلوب المُدافِع — حديث النثر والشعر — إذا به في «مع المتنبي» يفتش عن العيب بالسراج، وإذا وجده ضحَّى وعيَّد، وإذا رأى لومة عدَّها جناية وكانت فرحته راقصة وأسمعك الزفة في داره.

ينظر في الشعر ليتأوله على هواه، وكثيرًا ما يخمع خلف المتمشرقين كالجواد المشكول، أما تعبيره فواسع رحراح غير محدود، وهو يهز الألفاظ أكثر من المعاني، ومثل اللاعب بالسيف والترس يروعك ولا يؤذيك؛ فأنت تشعر — كما قال — أنك تقرأ طه لا المتنبي، فكأن الساعات التي قضاها معه لم تكن ساعات فأل! ولعله تعمَّد مخالفة ضرير المعرَّة فكتب ما كتب …

توقعنا أن نقرأ كتابًا يسد الفراغ فساء فألنا، فأستاذنا كالمتعتع يجادل نفسه ويفرض ما لا يخطر ببال مخلوق، وقد يزعم زعمًا ثم ينسى أنه زعمه!

أما حسنة كتابه الضخم فهي أنك تقرؤه لأنه لطه حسين، وتمل قراءته ولكنك تستنجد بالصبر وتتجلد وتقرأ لأنه لطه حسين، ثم تقرأ وتترجى متوكلًا على الله لأنه لرجل وجيه في قومه، وهكذا تقرؤه كله وإن لم تفز بما ينسيك التعب والعناء، فحسبك أنك قرأت كتابًا صفحاته سبعمائة ونيف، وغير قليل هذا المجد الأدبي.

أما إذا كانت الثرثرة والإغراق في الكلام أظهر صفات الأديب كما كتب طه — في هلال يناير — فيكون كتابه هذا خير أثر أدبي أخرجته المطبعة العربية في القرن العشرين، ولكنني أشك في ذلك. رأيت الناس لم يتحدثوا كثيرًا عن «مع المتنبي» فتناولته، ولست أزعم أني فلقت الحبة، ولكنني واثق أنني لم أجنف في أحكامي، وأعتقد أيضًا أنني وفيت الأستاذ حقه، وإن قصرت فعن غير قصد. ومهما يكن من شيء فالدكتور — أطال الله بقاه ووقاه الخطوب ليعود إلى المتنبي عودًا أحمد — من أفذاذ القرن العشرين غزارة قلم، فليس بالسهل إملاء كتاب صفحاته سبعمائة وأكثر، وخصوصًا في بلاد أجنبية كسالنش، وفي الصيف أيضًا … وإن نحن رأينا فيه معاظلة وتكرارًا فسببه انهماك الدكتور في أشغاله الجامعية، أخذ الله بيده، ومن يكفل لنا أن أحدًا يكتب كتابًا أحسن منه أو مثله؟ أما المخالفة الشائعة فيه فهي «علامة فارقة» للعميد يُدوِّنها له سجل نفوس أدباء هذا العصر.

وبعدُ، فإننا نعتذر إلى الدكتور عما بدر من لواذع، فهو قد مارس النقد وعرف لغته، فلا بد من التوابل حتى للحم الضأن، وخير الشراب ما كان مفلفلًا.

وأحق تقريظ لكتاب «مع المتنبي» هو ما قاله الدكتور فيه عن شعر المتنبي: «كلام كثير لا يخلو من روعة وقوة وجمال، ولكنه كلام لا أكثر ولا أقل» (ص٢٢٢).

فمن ذنبه خناقه كما يقول الرعيان.

نواحي شعر المتنبي

سيطر ابن الأثير على دواوين من استكتبوه من الملوك الصغار؛ فأراد أن يستبدَّ في «ديوان العرب». أصدر في كتابه النام عنوانه على خلق صاحبه أحكامًا فنية مبرمة تدل على أن الرجل كان ذا بصر نافذ إلى أعماق الكلمة، ولكن ادعاءه العنيف كشف للناس صفحته فكرهوه في الديوانين.

وإليك نص فقرته الحكمية على المتنبي بعد أن صال وجال في ميدان المقابلة بينه وبين الطائيين، قال: «وهو — أي المتنبي — وإن انفرد بطريق صار أبا عذره؛ فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره، وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء، ومهما وُصِف فهو فوق الوصف وفوق الإطراء، ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة:

لا تطلبن كريمًا بعد رؤيته
إن الكرام بأسخاهم يدًا خُتِموا
ولا تبالِ بشعر بعد شاعره
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم

ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى، وعين المعرفة التي ما ضلَّ صاحبها وما غوى، وجدته أقسامًا خمسة: خُمْسٌ في الغاية التي انفرد بها دون غيره، وخُمْسٌ من جَيِّد الشعر الذي يساويه فيه غيره، وخُمْسٌ من متوسط الشعر، وخُمْسٌ دون ذلك، وخُمْسٌ في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها، وعدمها خير من وجودها.»

كأني أراك، أيها القارئ العزيز، تحُكُّ رأسك مُعمِلًا فكرتك لعلك تتذكر أين رأيت مثل هذا. مهلًا، سأكفيك مئونة هذا العناء، قد قالته العرب شعرًا:

الشعراء فاعلمنَّ أربعَهْ
واحد يجري ولا يُجرَى معَهْ
وواحد يخوض وسط المعمعَهْ
وواحد لا تشتهي أن تسمعَهْ
وواحد لا تستحي أن تصفعَهْ

لقد أصاب ابن الأثير في تقسيمه؛ فالجو الذي حوَّم فيه المتنبي لم يبلغه أحد من نسور الشعر العربي؛ إن قلوبهم ورئاتهم لا تحتمل ذاك الفضاء فرأوه بأعينهم ولم يَلِجُوه، كما رأى موسى أرض الميعاد ولم يدخلها.

وبعدُ، فشعر المتنبي يُقسَّم أقسامًا أخرى؛ يُقسَّم من حيث الفن إلى أربعة أقسام: القسم الأول وفيه ينحو أبو الطيب نحو المتقدمين، فهو يُغرِب فيه ويعمله من الطراز الذي يحبه الأعراب؛ لأنه كان يحيا بينهم ويألف خيامهم، ويطمح إلى النبوَّة والإمامة …

والقسم الثاني وهو الذي قاله في «بَرِّ الشام» فقد صقله المران ولكنه ظل متينًا كالدِّمَقْس، ثم عدل صاحبه عن الزاد المعد، ولجأ إلى أسلوب أغضب شيوخ ابن خلدون فعدوه لأجله ساقطًا عن مقام الشعراء. وهل يرضى هؤلاء أن يقول الشاعر:

إلامَ طماعية العاذل
ولا رأي في الحب للعاقل؟!
خذوا ما أتاكم به واعذروا
فإن الغنيمة في العاجل
وإن كان أعجبكم عامكم
فعودوا إلى حمص في القابل
وإني لأعجب من آمل
قتالًا بكمٍّ على بازل
أقال له الله لا تلقَهم
بماضٍ على فرس حائل
إذا ما ضربت به هامة
براها وغناك في الكاهل
فهنأك النصر معطيكه
وأرضاه سعيك في الآجل
فذي الدار أخون من مومس
وأخدع من كفة الحابل
تفانى الرجال على حبها
وما يحصلون على طائل

والقسم الثالث وهو الشعر الكافوري، نهج الشاعر في أسلوبه نهجًا جديدًا، فقال شعرًا يُقرَأ في كل زمان ويصلح لكل آن. شعر انكشفت فيه شخصية جديدة لم تُدرَك من ذي قبل، فكان المتنبي فيها أبرع الساخرين وأمهرهم.

وأخيرًا الشعر الشيرازي وقد رقَّ هذا الشعر كأخيه الشعر الكافوري، التفت فيه المتنبي إلى الطبيعة، فانبعثت من شعره رائحة الأرض التي لم نشمها في شعر العرب.

ومن حيث التجديد في خطة القصيدة فشعر المتنبي أقسام أيضًا، ففي شعره الأول ينحو نحو المتقدمين، يتغزل ويُظهِر الوَجْد والهيام وقد يبكي على الطلول، ثم تضطرم نار الثورة في فكره فيثب الوثبة الأولى، يبكي على الربوع بكاء فيه طرافة وإغراب، فيقول:

مُلث القطر أعطِشْها ربوعًا
وإلا فاسْقِها السمَّ النقيعا
أسائلها عن المتديريها
فلا تدري ولا تُذري دموعا
لحاها الله إلا ماضييها
زمان اللهو والخود الشموعا

ولا تلبث هذه الفكرة المتمردة أن تنمو في دماغ الشاعر وتكبر، فيهتف بعد زمن وجيز:

أحقُّ عافٍ بدمعك الهمم
أحدث شيء عهدًا بها القدم
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم

ثم يتنكر العبقري لنواميس العادة وشرعاتها، فينكر أن تكون الطريق المعبدة هي الجادة المثلى للقريض، فيقول:

إذا كان مدح فالنسيب المقدَّم
أكل فصيح قال شعرًا متيم؟!
لَحُبُّ ابن عبد الله أولى فإنه
به يُبدَأ الذكر الجميل ويُختَم

وأخيرًا يريد المتنبي، والإرادة أُمُّ التجدد، فلا يتوسل إلى موضوعه بشيء ولا يُمهِّد له ولا يُوَطِّئ، فيقول:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
لكل امرئ من دهره ما تعوَّدا
وعادة سيف الدولة الطعن في العدى
بغيرك راعيًا عبث الذئاب
وغيرك صارمًا ثلم الضِّراب
دروع لملك الروم هذي الرسائل
يردُّ بها عن نفسه ويصاول
أعلى الممالك ما يُبنَى على الأسل
والطعن عند محبيهن كالقبل

وإذا نظرنا إلى شعر أبي الطيب من حيث البقاء والخلود فهو أقسام أيضًا؛ القسم الأول: وقد مضى وراح، هو ذلك المدح الزائل كأصحابه ويلحق به الغزل المصطنع، وقد يتبعهما شعره الملحمي، وإن كان في الذروة من الوصف؛ فالشعر الملحمي لا يخلد إلا إذا كان قوميًّا وظل يلامس حياة قارئيه، كشعر المتنبي الآخر الذي تهتز له نفس العربي اليوم؛ لأنه يصور موقفه الحاضر.

كانت بلاد العرب في عهد المتنبي دويلات، يحكمها فلول من الأمم والشعوب، أقطار متفرقة متشعبة، فثار أبو الطيب على تلك الحالة وحمل عليها حملات غاشمة كحملات أميره، فقال:

بكل أرض وطئتها أمم
ترعى بعبد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلمسه
وكان يُبرَى بظفره القلم

ويقول:

وما أعاشر من أملاكهم ملكًا
إلا أحق بضرب الرأس من وثن
أرانب غير أنهم ملوك
مفتحة عيونهم نيام
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى
لك الهبوات السود والعسكر المجر

وأخيرًا يرى كافورًا الإخشيدي؛ فينفجر ذلك البركان المتقد ويقذف الحمم، فيصرخ:

سادات كل أناس من نفوسهم
وسادة المسلمين الأعبد القزم
جاز الأولى ملكت كفاك قدرهم
فعرَّفوا بك أن الكلب فوقهم

لم يُعجِب المتنبي إلا صديقه سيف الدولة، رأى فيه رجل العروبة والإسلام اليقظ في درب الروم يحمي التخوم العربية، فغناه أصدق أغانيه المدحية.

إن هذا الشعر، الشعر الذي ينادي بالوحدة العربية، ويعنف العرب ويدفعهم إلى الثورة ليكونوا سادات أنفسهم، يظل حيًّا خالدًا، ما دمنا نشعر به في كل ساعة ومأزق، كما شعر المتنبي في شعب بوان مع أنه فتنه كل الفتنة، فقال:

مغاني الشعب طيبًا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان

إن شعر العروبة المتنبئي يبقى حيًّا ما بقيت الأقطار غير موحدة، فعسى أن يموت ولو خسر المتنبي عنصرًا طيبًا جدًّا من ديوانه.

ولكن إذا مات هذا القسم الذي يُبكِّتنا فيه ويُوبِّخنا فلا يموت شعره العربي الأسمى، شعر الطموح، شعر حب السيادة؛ فالعربي يأنف أن يُساد، وهذا ما يحثنا عليه المتنبي. قد كان في شعره وفي سيرته، في حله وفي ترحاله، أصدق نموذج عربي؛ فالمتنبي هو مثال الأنفة العربية، أبى أن ينام على ضيم، وأن يستقر في وطن يُسام فيه الخسف، وهو الذي قال:

… … … … …
وكل مكان ينبت العز طيب
ولا أقيم على مال أُذَلُّ به
ولا ألذ بما عرضي به دَرِنُ

وكم كان العاهل العربي العظيم الملك فيصل يستلذ هذه الأبيات ويرددها:

لا افتخار إلا لمن لا يضام
مدرك أو محارب لا ينام
واحتمال الأذى ورؤية جانيـ
ـه غذاء تضوى به الأجسام
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
كل حلم أتى بغير اقتدار
حجة لاجئ إليها اللئام
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام

مثل هذا الشعر يجب أن نعلم أبناءنا إذا كان التعليم غاية تربوية، أما إذا كنا نفهم العلم حشو أدمغة فلنعلمهم شعر القدماء والذين سبقوا أبا الطيب؛ فمثل هذا الشعر لا يموت أبدًا؛ لأنه الشعر الحي، شعر الخلود الذي لا تأخذ الأيام منه ثقل حبة خردل؛ فالمتنبي في حكمته يصدر عن النفس الإنسانية العزيزة الكبيرة، فيصوِّر لنا الأخلاق العربية الأصيلة. شاء أحدهم أن يشبهه بنيتشه فأخطأ؛ إن نيتشه يريد أن لا يبقي إلا الرجال الصالحين للحياة، أكبر همه الفلسفي انتقاء الناس واصطفاؤهم، أما نحن ففي غنى عن ذلك الاصطفاء؛ لأن المحيط القاسي نقَّانا واصطفانا، وأسلوب الحياة لم يُبقِ من العرب إلا العرق المتين، إن صورتنا الكاملة الخطوط التامة الملامح لا نجدها إلا في ديوان هذا الشاعر، ففلسفته العامة هي أيضًا فلسفتنا الخاصة:

لا يخدعنك من عدو دمعه
وارحم شبابك من عدو ترحم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تَجِدْ
ذا عفة فلِعِلَّةٍ لا يظلم

•••

من أطاق التماس شيء غلابًا
واغتصابًا لم يلتمسه سؤالا

•••

كلما أنبت الزمان قناة
ركب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أن
تتعادى فيه وأن تتفانى
غير أن الفتى يلاقي المنايا
كالحات ولا يلاقي الهوانا
ولو أن الحياة تبقى لحي
لعددنا أضلنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بد
فمن العجز أن تموت جبانا
كل ما لم يكن من الصعب في الأنـ
ـفس سهل فيها إذا هو كانا

فمن يقرأ مثل هذا الشعر ولا تتحرك فيه العزة والكرامة والإباء؟! فهذه هي الخلايا التي لا تموت من جسم الأدب العربي، فيظل متمتعًا بالشباب الخالد الذي ذكره أبو الطيب:

آلة العيش صحة وشباب
فإذا ولَّيا عن المرء ولَّى
وإذا الشيخ قال أف فما ملَّ
حياة، ولكن الضعف ملا

نعوذ بالله من الضعف ولا منينا به إن كان ذلك مستطاعًا.

قد قسمنا شعر المتنبي كما ترائى لنا فبقي علينا أن نقسم قصيدة الشاعر الأعظم؛ إنها أقسام أيضًا: قسم يرضي به ممدوحه، وقسم يرضي به ذاته التي غالى في محبتها والاعتداد بها، وقسم يرضي به الإنسانية جمعاء. لا نعني بالقسم الثالث غير تلك الكلمات الخالدة التي لا تخلو منها قصيدة من قصائد أبي الطيب، إن هذا القسم الأخير من الشعر المتنبئي قد تجاوز تخوم الأقاليم وخرج من منطقة الكتب والمدارس، فدخل الحياة العظمى. قد أطرب الناس جميعًا وهذا ما حبَّب المتنبي إلينا، أحببناه لأننا فهمناه، «لأنه أقرب بنا عهدًا، ونحن أشد به أنسًا، وكلامه أليق بطباعنا، وأشبه بعاداتنا، وإنما تألف النفس ما جانسها، وتقبل الأقرب فالأقرب اليها.» أما بلاشير الذي سألنا أن ندله على موطن الحسن فيه فسيظل جاهلًا ذلك ولو وضعنا إصبعه عليه؛ لأنه لا يشعر شعورنا حين يقرأ هذا الشاعر، ولا يدور كلامنا على لسانه، ناهيك أن للمتنبي فنًّا يختلف عن فن غيره من الشعراء، ونحن في بحثه ماضون.

منابع شاعريته

قال تورغنيف: «السعادة هي الراحة، والراحة لا تخلق شيئًا.» فالحمد والثناء لمن لم يمنح أبا الطيب يوم راحة، فلو ظل في حلب مستريحًا لاسترخت قريحته وترهلت، إن الركود يلائم شاعرًا كالبحتري إذا حضرت رحله الهموم يوجه إلى أبيض المدائن عنسه، فيتسلى عن الحظوظ، ويأسى لمحل من آل ساسان درس … ثم يعود مساءً إلى وكره.

أما المتنبي، وشعره منبثق من خاطر فوَّار، وعين تشاهد فتلتقط، وفكر لا يستقر على حال، فلا يلائمه الوقوف أمام قصر دارس؛ فهو لا يكسو قصائده ثيابًا معدَّة كالبحتري، بل يلبس لكل حالة لبوسها. إن ارتماء المتنبي في أحضان الصحاري والفيافي، وانتجاعه الحواضر والعواصم، غذَّى فكرته، ولوَّن شعره، وحمَّله رسالة عليا لم ينهض بأعبائها شاعر قبله؛ فلولا هذا التنقل لم يقل:

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
لولا العلى لم تجُبْ بي ما أجوب بها
وجناء حرف ولا جرداء قيدود
وتركك في الدنيا دويًّا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
أفاضل الناس أغراض لدى الزمن
يخلو من الهم أخلاهم من الفطن
لا أقتري بلدًا إلا على غرر
ولا أمرُّ بخلق غير مضطغن
وكلمة في طريق خفت أعربها
فيُهتدى لي فلم أقدر على اللحن
يقولون لي ما أنت في كل بلدة
وما تبتغي، ما ابتغي جل أن يسمى
وما الجمع بين الماء والنار في يدي
بأصعب من أن أجمع الجد والفهما
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

فهذه الأسفار، وقد سبقت لنا كلمة حولها، كانت موارد خفية لهذه العبقرية، كانت تجدد شعر المتنبي فينشط كلما تبلد، وقد أدرك المتنبي خطرها، فتهدد سيف الدولة قائلًا:

لئن تركنا ضميرًا عن ميامننا
ليحدثن لمن ودعتهم ندم

إن المتنبي من مجانين العظمة، ولكن هذا الجنون لم يفقده اتزانه، ولو قال:

أي محل أرتقي؟!
أي عدو أتقي؟!
وكل ما قد خلق
الله وما لم يخلق
محتقر في همتي
كشعرة في مفرقي

أما حاله مع «العظمة» التي عشقها وحن إليها، فكان أشبه بقول الشاعر:

جُننَّا بليلى وهي جُنَّت بغيرنا
… … … … …

أَنِف المتنبي السير على الطريق المعبدة فمشى وحده؛ فإذا طلبنا فن المتنبي فلنفتش عنه في أفكاره الثائرة، وخياله المولَّد، في لهجته التي هي لهجتنا، فهو يعبِّر لنا عن صوره الحية بألفاظ وأساليب مألوفة منا، ولكنها تسامت حين ألقى المتنبي عليها رداء بلاغته. لقد ابتعد هذا الشاعر العظيم عما لاكه الشعراء الذين سبقوه، فظلوا في وادٍ وسامعوهم في وادٍ، لجأ الشعراء إلى لغة خاصة بهم، أما المتنبي فما بالى بأساليبهم، ولم يتقيَّد بما فصَّلوه لأنفسهم من طراز وزيٍّ، وهذا شأن الفنان العظيم، فهو لا يتقيَّد بقيود البشر بل بقيود ذاته.

إن معظم البشر كقطيع المعزى يجمعهم «البطَّال» حول الجرن الآسن، يمزج المعَّاز الماء القذر بنقطة قطران من بطَّاله، فيعب القطيع منه الماء بعدما عافه. كذلك كان تهافت شعرائنا على جرن التقليد، فمضى هؤلاء المساكين ولم يقولوا شيئًا يبقى، أما أبو الطيب فحمَّل شعره رسالة خالدة فقاموا ينعون عليه غزوه اليونان، وهذا شأن كل مجدد، فقلما نجد تجديدًا غير منفعل بعوامل خارجية. وإذا كان كل موزون شعرًا فكل متكلم بالعربية شاعر، فكلهم قالوا الشعر، وإفراطهم في قوله وإرساله كيفما اتفق جعلهم يقولون «بيت القصيد» وأن يكتفوا بالبيت الرائع، أما المتنبي فلم يرد أن يقوله مثلهم.

الشعر يُقال للتنفيس عن النفس، أما عند الشعراء الذين بادوا فكان أُلْهِيَّة — حاشا المتنبي — فإنه قاله منفعلًا، فظل يُحدِث في نفوس قارئيه ما أحدثه في نفس قائله. إن الشعر هو المعمل الذي يصنع تعابير جديدة سامية، ويرسم الصور الخالدة، وفي هذا يتفرد المتنبي.

لقد وُهِب المتنبي خاصة لم تكن لشاعر عربي، ولو جارينا صاحب «الوساطة» وتعقبنا آثار المتنبي في ما يُسمُّونه سرقة أدبية لرأينا أن المتنبي لم يدع صورة رائعة من الصور الشعرية إلا حاول إخراجها بشكل جديد، تارة يخرجها لوحة رائعة، وطورًا يكبسها أيَّ كبس فتتلاز ذراتها فتقع في الذهن كالقنبلة.

إن تلاز الذرات مصدر الثقل، والمتنبي فاق العرب أجمعين بخاصية الإيجاز الذي هو التلاز بعينه، فجاء شعره مجمهرًا، والعرب مولعون بالإيجاز يتهافتون عليه، فرأوا في شاعرهم العظيم خواصهم مجتمعة؛ فأجمعوا على تعظيمه وإكباره. قابل بين قوله:

ولو يممتهم في الحشر تجدو
لأعطوك الذي صلوا وصاموا

وبين قول أبي تمام في هذا المعنى. ثم قابل قول المتنبي:

لا يَقْبِض الموتُ نفسًا من نفوسهم
إلا وفي يده من نتنها عود

بقول أبي تمام أيضًا؛ تدرك المدى البعيد بين الشاعرين في إجادة التصوير والإيجاز.

إن الفكر العربي قد أصبح سبائك مخزونة في هذا المستودع — ديوان المتنبي — وهذا هو الحرام الحلال؛ فما على العربي إلا أن يدخل هذا المخزن، فيكفيه مئونة اللف والدوران في الأسواق …

كم تمنيت على صديقي المصوِّر الفنان قيصر الجميل رسم بضعة مشاهد من ديوان شاعرنا العظيم؛ مثل:

تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم

ومثل: لا يقبض الموت … الذي مرَّ ذكره، ومثل:

من كل رخو عظيم البطن منتفخ
لا في الرجال ولا النسوان معدود

يضاف إليه:

وما طربي لما رأيتك بدعة
فقد كنت أرجو أن أراك فأطرب

ومثل هذا كثير في ديوان شاعرنا العظيم.

أما مصدر إيجاز المتنبي فاعتداده بنفسه، فهو لا يناقش ولا يعلل، فكأن قوله الفصل في كل قضية يلم بها. وغزارة أفكاره صرفته عن التعبير، بصور مختلفة، عن الفكرة الواحدة كما فعل غيره من الشعراء.

وإذا شئنا التفتيش عن فن المتنبي وجدناه في الضخامة؛ فأبو الطيب — إن صح ما رووه — كان يلبس طاقًا فوق طاق حتى السبعة ليبدو ملء العيون فاضلًا عنها … ومن يقابل بين «على قدر أهل العزم تأتي العزائم» وبين «السيف أصدق أنباء من الكتب» يلمح أن كل نفس تنضح بما فيها؛ فنفس أبي الطيب عاتية جبارة تستعين بالألفاظ الضخمة والحروف الآزة الداوية:

خميس بشرق الأرض والغرب زحفه
وفي أذن الجوزاء منه زمازم

إن القرابة شديدة بين أبي الطيب والأخطل حين يصفان الوقائع، فهما يشتركان في: التفكير، والألفاظ، والهزء الذي تَحْمَرُّ له الوجوه ولا تنبسط. قال الأخطل في فرار ابن بدر:

يسر إليها والرماح تنوشه
فدى لك أمي إن دأبت إلى العصر

وقال المتنبي في هرب الدمستق:

أفي كل يوم ذا الدمستق هارب
قفاه على الأقدام للوجه لائم

ناهيك أن للاثنين عينًا حادة تلتقط أدق ما تقع عليه؛ أدرك المتنبي أن للشعر موسيقى تُستخرَج من غير الوزن فتعمَّدها؛ فلغتنا العربية ليست كما توهم بلاشير تعتمد على الحروف الصوتية في موسيقاها، فللحروف الساكنة عمل كبير عندنا؛ فلكل مخرج حروف تختلف ضخامة، فمنها حروف تكاد لا تحس بها، ومنها حروف تملأ الفم ولا تخرج منه إلا ببذل طاقة شديدة، وهذا الذي كان يتوكأ عليه أبو الطيب في فنه الشعري.

إن المتنبي أحب فنه كثيرًا، فهو ينظم الشعر ليخلد به. قال طرفة:

ولولا ثلاث هن من لذة الفتى
وحقك لم أحفل متى قام عودي

وقال بول بورجه الكاتب الفرنسي: المضجر في الموت هو أن الإنسان لا يستطيع الكتابة بعده … ولو سُئِل المتنبي لقال: إنهم لا ينظمون الشعر. بيد أن المتنبي لم يحسب للموت أقل حساب؛ فالغريزة والفناء خطان متوازيان في خارطة المتنبي. إن فن المتنبي في معانيه، وصوره، وألفاظه التي لا يفهمها على حقها إلا العربي، وعلمه العميق بما تؤديه كل لفظة هوَّن عليه أحيانًا استعمال ألفاظ نابية؛ فآثر إخراج المعنى ناتئًا قويًّا على موسيقى لا تغني عنده غناء المعنى. وفي هذا قال:

وكم من عائب قولًا صحيحًا
وآفته من الفهم السقيم

وُجِد المتنبي في عصر مضعضع فحلم في فُتوَّته أحلامًا جامحة، فكانت الصدمة الأولى التي بعثرت أحلامه المبكرة. يقول من يُعبِّرون الأحلام: إن أحلام أول الليل لا تصدق. وكذلك كانت أحلام صبوة المتنبي وشبابه، فخلقت فيه هذا السخط العنيف، ولا سيما على الملوك والولاة، وكيف ينسى السجن وثقل القيود؟! ولذلك رأى أن الظلم من شيم النفوس، فما ذكر الرحمة فيما بعد، بل قال:

وارحم شبابك من عدو ترحم

ولم يحث على الإحسان إلى الفقراء والأرامل مثل ذاك الأرمل الذكر … جرير.

عاش المتنبي عمره كله مشبوب الشاعرية: توليد في الصور متتابع، تصوير رائع بأقل خطوط ممكنة، ولع بالمعاني يبحث عنها كعامل في منجم، بعد عن الصناعة اللفظية. فلغته وتفكيره وآراؤه وثقته بنفسه تتآزر وتتعاضد لتؤثر على أعصابك أيما تأثير، فتتبعه كما تتبع الشاة الذئب، أو النائم مَن نوَّمه. والمتنبي يتدفق في غرز قصائده كالشلال الغضبان، فقصائده موسيقى معارك لا مجالس لهو وطرب، تصلح للقُوَّاد الجبابرة لا للحُور والمخنثين، فإذا عرضت المتنبي على مقاييس القدماء غير ناظر إلى مراميه البعيدة؛ فأنت ظالمه …

قال سلفاؤنا: إن ابن الرومي شاعر مولد، وقد صدقوا، ولكن ابن الرومي يقع فراشة ويستحيل دودة، بخلاف المتنبي فإنه يقع عصفورًا ويستحيل نسرًا، فهو كالمغامرين الذين يكتشفون المجاهل ويتسلقون الجبال المستعصية، تطلَّب المعنى وجدَّ فأتاه من كل فج عميق، فوهل الناس بمعانيه وأفكاره وخصوصًا البصراء بقوي الكلام؛ فهو فرس الخيال الجموح السبوح، وإن شئت فقل: قيد الأوابد هيكل. فكما يتغير الماء إذ يصير ثلجًا كذلك تتحول اللفظة إذا بختت بمحل مناسب؛ فالمتنبي حاذق متمكِّن من صناعته كما قال عن نفسه:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم

فهو نموذج من نماذج العقل البشري الفطري، ويحق له أن يردد:

وإني على ما كان من عنجهيتي
ولوثة أعرابيتي لأديب

فهو أول من أخضع الشعر لقوالب جديدة وأعفاه من المحنطات. خذ مثلًا شعره في كافور وتأمل، فترى كأن البيت بأَسره كلمة واحدة وكأن الكلمة بأسرها حرف واحد.

إن الشعر كالقطيع يجب أن تكثر فيه الكبوش السِّمَان فلا يضره الهزيل إن كان هكذا؛ فأبهة الكبوش تلهيك وتغطي على الشويهات الهزيلات.

إن شعر المتنبي مرفق كبير ومعونة حاضرة للأديب العربي، فكأنه جاء ليقضي على عهد البضاعة اللفظية، وقد أخذ آياته معاصروه — الصاحب وغيره — فجعلوها تعاويذ لرسائلهم المنمقة، فكانوا كالصائغ يزركش الذهب ليضع فيه لؤلؤة، أو حبة من معدن كريم.

أما الذي لا يعنيه من الشعر غير الموسيقى الناعمة، فيصح فيه قول المتنبي في الخيل:

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
وأعضائها فالحسن عنك مغيب

وإذا شبهنا الشعراء العرب بأوتار العود كان المتنبي البَمَّ، وإن شبهنا الشعر بمعمل صائغ كان البوتقة، فهو كدول اليوم إذ تصب الذهب سبائك، وإذا لجأنا إلى علم البصريات الطبيعي رأينا المتنبي يحسن حصر النور في بؤرة العدسة فيحرق. لم يستطع أن يكون مسيطرًا في السياسة، فكان في الأدب. ليس المتنبي كالكأس البلورية يطن لأقل لمس ثم يختفي صوته، بل هو جرس قنطاري لا ينقطع رنينه إلا بعد حين، إذا قرأت وصفه أسد بدر بن عمار خِلْتَ أَسَدًا يصف أَسَدًا، بينا البحتري يصف أسد ابن خاقان وكأنه يخشى أن يفترسه. هذا أسده هر يداعب الأزهار المفضضة وهذاك أسد هصور يجمع نفسه في زوره:

ويدق بالصدر الحجار كأنه
يبغي إلى ما في الحضيض نزولا

ليس شعر المتنبي دواء يُؤخَذ بالفم بل بالدم، فهو حامل رسالة العروبة وهو شاعرها القومي الباقي، لم تكن نافذته مسدودة فأطل منها على الدنيا بأسرها، أما مخيلته فكانت كالرياح التي أرسلها الله لواقح. وبعدُ، فالمتنبي مُركَّب غريب عجيب، كأنه عنى نفسه حين قال:

كأنك من كل النفوس مركب

فيه جفاء الفرزدق، ورقة جرير، ووصف الأخطل، وتفكير الفلاسفة، وخيال الشعراء العظام، وهو الذي خطا بالشعر أعظم خطوة، فجعل لغته لغة الناس المألوفة، وإذا كان حد الشاعر والكاتب الكبير كما يقول فاكه: أي إنهم لا يكتبون بعده كما كانوا يكتبون قبله، فيكون هذا هو. فدع النقاد يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون.

إن تعدد البيئات كان من أهم الأسباب التي ساعدت على إظهار فن المتنبي، وقد رأيته يبذل جهدًا عنيفًا في القصيدة التي يستقبل بها محيطًا جديدًا ولم يُبقِ على الإجادة إلا عند سيف الدولة وكافور.

وإذا فتشنا عن ضريب لشاعرنا بين شعراء الفرنجة رأينا ما قيل في فكتور هيغو ينطبق على شاعرنا؛ فلا حد لإعجابه بنفسه، وهو يسعى أبدًا لإعجاب الناس به، يهتم دائمًا بوقع ما يكتب، لا يترك صغيرة إذا كانت تؤدي إلى إكباره، ولا يعبأ بالخوف والاستهزاء، حقود بلا شفقة، لا يعرف الحنو — راجع رثاءه لجدته — لا يرحم الذين يطعنون في شخصيته المتورمة الضخمة:

بأي لفظ يقول الشعر زعنفة
تجوز عندك لا عرب ولا عجم

رجل جد واجتهاد، شعبي على غلظة في طباعه ومزاجه، ابتهاجه ضخم، وألوانه خشنة، مفتون بالإغراب، يتفجَّر شتائم إذا أُثِير: ما أنصف القوم ضبه … قليل الإحساس، وإن أحس فإحساس المتغطرسين، يتكلم عن الحب بإزدراء ونزق عصبيين: وللخود عندي ساعة … يَسُره جدًّا — كهيغو — أن يرى المرأة ككلب تحت قدميه. أما عقيدته السياسية فالعروبة فوق الجميع. عصبي المزاج تسوءه أقل بادرة، يثور إذا قدر، ويكظم ويداري إذا ضعف:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوًّا له ما من صداقته بد

وأخيرًا يضيق صدره فيهرب … كانت نفسه حِملًا ثقيلًا عليه، وهمه بتضخيم شخصيته أتعبه جدًّا.

إن قوة نظره لا تُحَدُّ، يتخيل الأشياء كما تكون وإن لم يرها، الرؤى لا أثر لها عنده، يرى الأشياء الناتئة ولا يرى الألوان، لا تلهمه الطبيعة شيئًا روحيًّا كأن يتصور نفسه فيها، بل يصف أحوالها ويظل بعيدًا عنها. هو أمهر في تصوير أخلاق البشر منه في تصوير الطبيعة، قد لا تريك عدة قصائد صورة وقد يلهمك بيت واحد لوحة رائعة.

ديوانه مخزن مملوء مُثُلًا عليا للحياة وصورًا رائعة لأحداثها، وكلها صغيرة تستطيع أن تؤلف منها «ألبوم» لا نظير له. يوحي إليك في شطر من الشعر موضوع كتاب ضخم، وهو لا متحير ولا متردد كالمعري.

يجزم في آرائه حتى الغريبة منها، كأنه يسن شريعة. يكتفي بفكره ويعتمد عليه اعتماد البطل على سيفه ورمحه وفرسه.

ثقافته كاملة، ولكنها ثقافة في شخصية كأنها من الطور الحجري، شخصية خشنة لم تصقلها ثقافتها كما تصقل ألباب قارئيها.

أما آراؤه فتتجه في ديوانه اتجاهًا مستقيمًا، فكأنه يؤيد فكرة فيدعمها كلما انفسح له المجال، أو كأنه لا يُفكِّر إلا بها. يلوح لي أنه أحب أن يكون فيلسوفًا ومشترعًا، وإن لم يصرِّح:

وما الموت إلا سارق دق شخصه
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
إذا ما تأملت الزمان وصرفه
تيقنت أن الموت ضرب من القتل
وما الدهر أهل أن تُؤمَّل عنده
حياة وأن يُشتاق فيه إلى النسل

كأن اعتقاده بما وراء الطبيعة عمل منظم، باح بسِرِّه رويدًا رويدًا؛ لأنه غير قادر على التفكير المستطيل، أو أنه يلوذ بالتقية، والملسوع يخاف من جرة الحبل. ومع ذلك يجتهد أن يفكر ويعمل بكد وعجب، لم يحلَّ لنا القضية الكبرى حلًّا مرضيًا ولكنه أيقظ فينا الشك والقلق والرغبات للتطلع إلى ما وراء الطبيعة، كان له هدف، وهذا الهدف يستفزه فيوحي إليه في كل موضوع ويردُّه دائمًا إلى فكره الرئيسي.

تجنَّب المتنبي جفاف الشعر الجاهلي كما تجنَّب هيغو جفاف الشعر الكلاسيكي، وكلاهما لم يتقيَّد بما تقيَّد به الشعراء. كانت المرئيات توقظ شاعرية المتنبي ولم تكن تزعج خاطره قضايا عديدة. «المعالي» فقط … لم يخلق مبادئ جديدة ولكنه أخرجها في شعر رائع فملكها.

نقمة على الحظ، فالدهر خصمه الألد والحظ عدوه، ليس له أمل في الغد ليتعزى، فما بالى لأنه ما انتفع بأن يبالي، كان فنانًا مالكًا لأصول فنه رغم ما في مزاجه من عيب، فلم يخضع للنواميس الفنية بل عمل ما أراد، فكان له فنه الذي صار مقياسًا لمن جاءوا بعده.

كان واثقًا من لغته فلعب بتعبيره كما شاء، واعتداده بنفسه أبعده عن تقليد القدماء واتباع تقاليدهم، وقد اجتمع وهيغو في مثل هذا الضرب من الاستعارات:

في الخد إن عزم الخليط رحيلا
مطر تزيد به الخدود محولا
واحتمال الأذى ورؤية جانيه
غذاء تضوى به الأجسام

عناصر متنبئية

المتنبي مسلم قوميًّا، يدين بالعروبة وبما تحتوي من خصال، يؤمن بالقوة التي يؤيدها الحظ ويناصرها، في شعره حياة وقوة لا يجدهما العربي عند غيره.

في المتنبي عرق نزاز هو عرق الدم، فهو ظمآن إليه دائمًا. تحس في جميع ديوانه أنه في حاجة إلى إرواء غليله، ولكنه مات ولم يروِه، ومن حسن حظه أنه مات؛ لأنه قال ما أراد أن يقوله ولم يبقَ في جعبته شيء. ختم رسالته في شيراز، وإن قال:

وفي الجسم نفس لا تشيب لشيبه
ولو أن ما في الوجه منه حراب
لها ظفر إن كل ظفر أعده
وناب إذا لم يبقَ في الفم ناب
يغيِّر مني الدهر ما شاء غيرها
وأبلغ أقصى العمر وهي كعاب
لو كان يمكنني سفرت عن الصبي
فالشيب من قبل الأوان تلثم

ولكنه في كل حال قال خير ما عنده، ولا خير فيما تبقى له من العمر.

للمتنبي إباء العرب وجفاؤه وترفعهم، فهم عند أنفسهم أرفع الناس، والمتنبي في نظر نفسه أرفع العرب.

تَصْدُر كلمات شعراء العرب عن شفاههم وألسنتهم، أما كلام المتنبي فينبع من قلبه. ألفاظه جافية كخلقه، ومعانيه جبارة كآماله ومطامحه، كان فرجيل يقدِّس الرومان أما المتنبي فيقدِّس العرب في نفسه.

لم تصقله الحضارة فظل خشنًا جافيًا عاتيًا غليظ القلب، وهذا طبع لا يغلبه التطبع، وإن لان هنيهة فلا يلبث أن يعود كما كان:

غني عن الأوطان لا يستخفني
إلى بلد سافرت عنه إياب

مادي ليس للروح من شعره نصيب، لا يفهم العاطفة كما فهمها غيره، وإخاله لا يفهم الألفة البشرية وخصوصًا العائلية، كما نفهمها:

وللخود مني ساعة ثم بيننا
فلاة إلى غير اللقاء تجاب
وما العشق إلا غيرة وطماعة
يعرض قلب نفسه فيصاب
وغير فؤادي للغواني رمية
وغير بناني للزجاج ركاب
تركنا لأطراف القنا كل شهوة
فليس لنا إلا بهن لعاب
أعز مكان في الدنى سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب

لا يعرف القنوط واليأس، وإذا تذكر المرأة في إحدى غفلات الغريزة ويقظاتها تذكَّر سيفه ورمحه، تغزَّل ليقول غزلًا، أو لأنه مكبوت العاطفة ينفِّس عنها بهذا الحديث، فهو لا يصرِّح كبشار: نفِّسي يا عبد عني … المتنبي عفيف حقًّا بل هو أعف شعرائنا، حبه حب عربي أوَّلي لا يشذ عن التقاليد ولا يتعداها.

المتنبي رجل يعشق المجد ويحب الحرب ويعشق السلاح ويصبو إلى الدم، وقد يؤثر الجلوس أمام فرسه ولا يقول كابن الثمانين:

وفيهن ملهى للطيف ومنظر
أنيق لعين الناظر المتوسم

ابن بيداء وفلاة، يحلم بالسيادة، تصبيه المناظر المخوفة أكثر من المشاهد الأنيقة؛ ولهذا ترى تصويره يخيف كجهنم دانتي، وإذا صوَّر أهمل الخطوط التي لا تزيد صورته روعة، فيعطيك سيماء الشيء أو سحنته لا تفاصيله، كما وصف شعب بوان وجبال لبنان، يصف ما له علاقة بموضوعه، فلو عاش ابن الرومي مثله في حلب ما ترك أكلة إلا وصفها.

لا يُعنَى المتنبي بالذكريات بل ينعم بالحالة الحاضرة، وفي هذا قال:

خُلِقت ألوفًا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا

لا يتأسف على ما فات ولا يخشى ما هو آتٍ، إنه يسعى للخلود، والخلود في نظره كما قال:

ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته
ما قاته وفضول العيش أشغال

له في مطالعته الدائمة وأسفاره المتتابعة خير غذاء لمخيلته وقريحته، فهضم المتقدمين ولم يدع شيئًا للمتأخرين. ترك للأولين تعابيرهم ورواسمهم واعتمد على أسلوبه الخاص واتقاد شعوره، وعلى تأمله وقوة توليده، قد ذكر الجمال لا للإعجاب به والانشداه، بل لأنه طريف.

الدم يتكلم عند المتنبي، وما المال عنده إلا وسيلة لإدراك العظمة وإرضاء كبريائه، يطل المتنبي على دواوين الشعراء كزائر يعرف مخارم البيوت، لا كلصٍّ أو مستجير؛ فهو غازٍ فاتح اكتسح الأدب العربي كله، وبنى مملكة أدبية اسمها مملكة المتنبي. فلا يبحث ضعاف العقول عن سرقاته، فالدنيا كانت كلها لواحد … إن خارطة الأرض تتغير ولا يغيرها غير الجبابرة.

قد صبغ المتنبي دولته صبغة لا تحول ولا تزول، كثيرون حاولوا اجتياحها فتحطمت أمانيهم عند أسوارها المنيعة؛ فروح المتنبي تنتشر في كل قصيدة من قصائده، فهو منقذ الشعر العربي، أنقذه من عبودية التقليد ووجَّهه نحو تكوين الرجال وتربيتهم.

أحيا كثيرًا من موتى الشعراء، فلولاه ما ذُكِروا. ذكرهم نقاد المتنبي؛ إذ زعموا أنه سرق هذا أو ذاك المعنى منهم فعاشوا.

هو محيي الملوك والأمراء، وحسبه أنه استخرج الألماس من فحمة الفسطاط … تسود ديوان المتنبي فكرة شاملة، فهو إن مدح أو رثى أو وصف أو هجا، يريد خلق الرجل الأمثل، والرجل الأمثل عند أبي الطيب هو العربي النبيل.

فإذا اخترنا من شعراء العرب معلمًا لأولادنا فلا يصلح لهم إلا هذا الرجل، لا خوف على العذارى والفتيان من السير في خفارة المتنبي.

إنهم يلوذون بحصن منيع من الأخلاق السامية؛ فحيث كانوا في ديوان هذا الرجل العظيم يتلقون درسًا بليغًا لا يجدونه عند غيره. يهوِّن عليهم أصعب الأشياء ليخلق فيهم الشجاعة العظمى، فكيفما اتجهوا يروا رجلًا يزدري ما يخافه أشجع الناس:

إلف هذا الهواء أوقع في الأنـ
ـفس أن الحِمام مُرُّ المذاق
والأسى قبل فرقة الروح عجز
والأسى لا يكون بعد الفراق

فيا ليت شعري! لو عاد «الصاحب» اليوم أفلا يخجل من قوله: بُدئ الشعر بملك وخُتِم بملك؟! أما مات جميع الملوك وخلد المتنبي، الشاعر الحي في ضمير الإنسانية؟!

إن المتنبي، بَلْهَ أنه شاعر العرب الأعظم، هو رجل نضال، لشعره علاقة وثيقة بحياة كلها آمال وأماني؛ فالشخصية المتنبئية مرتبطة أشد ما يكون الارتباط بما قاله صاحبها من شعر، وازدادت هذه الشخصية نموًّا لا بل تضخمت جدًّا لكثرة التنقل والضرب في فضاء الله.

وهذا التنقل صيَّر تلك النواة التي أحس بها في «المكتب» دوحة وارفة الظل برغم أنف الجد العاثر والنجم الهاوي الذي يرافقها:

أبدًا أقطع البلاد ونجمي
في نحوس وهمتي في سعود

وهذه الشخصية الحالمة بالعظمة حسبت كما يحسب كل شاب أن ما تتخيله ممكن الحصول، حتى إذا أقبلت على الكهولة تراجعت رويدًا رويدًا، وأدركت أن «ما كل ما يتمنى المرء يدركه» فأقلت لومها وعتابها الزمان، ثم ما أحجمت عن انتحال الأعذار، فقالت:

أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

وبعد الطموح إلى الإمامة والنبوة رضي صاحبنا بولاية، ولكنه لم يحصل على ضيعة … فأبرق وأرعد، هو لا يدري أنه يؤدي رسالته التي بُعِث لها، أي رسالة الشعر الباقي.

ثم كانت المعركة الفاصلة بين المتنبي وغلامه وولده، وبين الدهر والحظ في دير العاقول، وأُرخِي الستار ليُفتَح عن فصل الختام الخالد، الفصل الذي لا ينتهي. في شخصية المتنبي خطان رئيسيان متوازيان يمتدان في ديوان أبي الطيب الذي هو صورة صادقة لنفسه؛ فالخط الأول وهو الإعجاب بالنفس والاعتداد بها، ابتدأ في أول شعر قاله:

إن أكن معجبًا فعجب عجيب
لا يرى فوق نفسه من مزيد

وانتهى في آخر شعر نظمه:

وأنى شئت يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكا
ولو سرنا وفي تشرين خمس
رأوني قبل أن يروا السماكا

ألست ترى أن هذا «الاعتداد» هو الذي قتل أبا الطيب، بعدما أنذره ابن نصر بالخطر الكامن؟!

والخط الثاني الذي يناوح هذا الخط الأصيل — وقد يكون هذا من ذاك — هو خط الشكوى من الدهر، والدهر في نظر هذا الشاعر أبو الحظوظ ومقسم الأرزاق. ترعرع المتنبي وشبَّ واكتهل ولم يفلت هذا الخيط أبدًا، حتى تخيَّل الدهر «غريمًا» من لحم ودم، فاستعدى عليه بحر الفسطاط. وكأن الشاعر أحس، ولكن بعد خراب البصرة، أنه يتجنى على هذا «الغريم» فيما ادعى عليه، فنزل عن كتفيه، وقال:

ما أجدر الأيام والليالي
بأن تقول ما له وما لي؟!

وهكذا تندحر تلك الشخصية الجموح بعد تخطي العمر.

ومن الخط الأول، خط الإعجاب بالنفس، يُشتَقُّ خط طويل عريض تزحف عليه قاطرات أبي الطيب مشحونة مواد سريعة الانفجار، فهو يزدري كل شيء حتى الموت والحياة … ويحتقر الناس جميعًا، كبارهم وصغارهم، ملوكًا وسوقة:

أذم إلى هذا الزمان أُهَيْلَه
فأعلمهم فَدْم وأحزمهم وَغْد
وأكرمهم كلب وأبصرهم عم
وأسهدهم فهد وأشجعهم قرد

فكل هذا منبعه الاعتداد بالنفس حتى الهوس والجنون.

وكأني بالمتنبي يحدق إلى شخصيته العجيبة بنظارة تضخم الشخوص جدًّا، فصورها لنا كما رآها هو، حتى إذا شمل مَن حوله بنظره العالي قلب «نظارته» تلك، فرأى «أهيل» زمانه كالذر والذبان.

ولست أدعي أنني أحطت بكل ما في ديوان الشاعر من خطوط، فهناك خطوط رئيسية أخرى، وكلها متفرعة من صميم «كبريائه»، فعلى من يدرسه بعدي أن يتتبعها فيتألف من ديوان الشاعر «وحدة» تجعله «كلًّا».

وسبحان الواهب بلا حساب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤