تعقيب على المقدمة الفرنسية

عزيزي مسيو «دي مارينياك»!

إن إخفاق ثلاثين مؤلفًا، في مختلف العصور: منهم الوثني والمسيحي، ثم أخيرًا المسلم، أمام مأساة «أوديب»؛ لهو في ذاته مأساة! … وعلة هذا الإخفاق تحتاج هي أيضًا إلى دراسة! … وعلى الرغم من الحيطة، التي اتخذتها حتى لا أمسَّ بسوء «تراجيديا سوفوكل» في قوتها الدرامية؛ فإن شيئًا قد فاتنا هو بلا ريب، في غير متناول أيدينا … ذلك راجع — كما قلت — إلى موضوع «أوديب» نفسه، وهو موضوع القدر القاسي المحتوم، الذي لا اختيار فيه ولا مردَّ له، يجثم بكل وطأة ثقله على امرئ من قبل ميلاده …! ها هنا سر القوة في مأساة «سوفوكل» …

من ارتضى هذه الفكرة، ومضى بها لا يلوي عل شيء آخر، فقد سلم إلى حدٍّ ما، على شريطة أن يكون بها مؤمنًا؛ إيمان الإغريق الأقدمين … ذلك أن كارثة المؤلف، الذي يتصدى ﻟ «أوديب»، هي أنه لا يريد أن يقبل هذه الفكرة، أو يتخذها قاعدة لعمله … فإن المسيحي المتدين لن يقبلها، على صورتها العنيفة، والمسيحي المتحرر لن يقبل غير الإنسان متحكمًا في مصيره … وكلهم مع ذلك لا بُدَّ لهم من أن يواجهوا الخرافة في قصة «أوديب»؛ إذ بغير هذه الخرافة، لا توجد القصة على الإطلاق! … تلك الخرافة التي قضَت على «أوديب» — من قبل ميلاده — أن يتلقى ضربة القدر المحتومة … وهكذا واجه المؤلفون — هم أيضًا — نوعًا من «أبي الهول»، يقطع عليهم الطريق: هو ذلك «التناقض» الذي يقعون فيه؛ كما تقول: فهم لا يستطيعون قبول الخرافة كما هي، ولا يستطيعون في عين الوقت تناول قصة «أوديب» بغير الخرافة.

أما فيما يتصل بي باعتباري مسلمًا، فإن عقيدتي الدينية ترفض فكرة الله، المدبر لأذى الإنسان تدبيرًا سابقًا دون مقتضًى أو جريرة … بل إن فكرة التدبير السابق، لما سينزل بالإنسان من أحداث، لا توجد قبولًا عند أهم الفلاسفة من المسلمين!

ﻓ «ابن رشد» يقول عن الله: «إنه مريد لكون الشيء في وقت كونه، وغير مريد لكونه في غير وقت كونه … فأما أن يقال إنه مريد للأمور المحدثة بإرادة قديمة فبدعة! …»

فإذا رجعنا إلى فقهاء الدين، وجدنا أن «أبا حنيفة» يرفض الانحياز إلى «الجهمية»، وأصحاب «المذهب الجبري»، ولا يسلم كذلك بإرادة الإنسان المطلقة، ولكنه يقف من هذه المشكلة العويصة، الموقف الذي أردت أنا أن أتبعه فيه، عند تناولي «أوديب»! … قال أبو حنيفة: «إني أقول قولًا متوسطًا: لا جبر، ولا تفويض، ولا تسليط … والله تعالى لا يكلف العباد بما لا يطيقون، ولا أراد منهم ما لا يعملون، ولا عاقبهم بما لم يعملوا، ولا سألهم عما لم يعملوا، ولا رضي لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم، والله يعلم بما نحن فيه! …»

هذه الحقائق عن الإسلام يبدو لي أنها مجهولة في الغرب … فالغربيون ما زالوا يعتقدون أن فكرة القدر عند المسلمين مقبولة على النحو، الذي كان معروفًا عند قدماء اليونان الوثنيين … ولقد عُدت إلى معجم «فلا ماريون» ثم إلى معجم «لاروس»، أنقِّب تحت كلمة «قدر»؛ فعجبت إذ وجدت هذين المعجمين ينصان على أن القدر المطلق المحتوم، هو عقيدة اليونان والمسلمين … وأدركت من ورود كلمة «مكتوب» في معجم «فلا ماريون» أن هذه الفكرة الخاطئة دخلت أوروبا عن طريق التسرب العامي، لا عن طريق التثبت العلمي!

إذا استبعدت هذه الفكرة الخاطئة الشائعة، واستحضرت قولَ أبي حنيفة «… ولا عاقبهم بما لم يعملوا … ولا رضي لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم … إلخ». فإن من السهل أن تفهم تصرف «أوديب» عندي … فهو قد ترك «كورنت» باحثًا عن الحقيقة، خائضًا فيما ليس له به علم، فجرته رغبته في العلم بالحقيقة إلى ما جرَّه العلم الحديث على الإنسان الحديث، ممثلًا في «فرويد»، عندما طفق يحفر في أعماق الإنسان إلى أن وجد أنه عاشق في الباطن لأمه!

«فالموجب» لكارثة «أوديب» عندي لا يمكن أن يكون حقد الآلهة، المنطوي على الكيد والشر … ولا يمكن كذلك أن أكون قد أردت إسقاط المسألة؛ لتعارضها مع عقيدتي، ولكني — كما ترى — قد جعلت الموجب للكارثة طبيعة «أوديب» ذاتها، طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء، الممعنة في الجري خلف الحقيقة.

على أن كارثة «أوديب» لها عندي موجب آخر … هو عمل «ترسياس»؛ وتدخُّله في الأمور السائرة في مجراها!

إن كثيرًا من الانقلابات التاريخية والمحن البشرية، يرجع في أغلب الأحيان إلى إرادة رأس كبير، وتمرد بصيرة عمياء! … إن هنالك شراكًا إلهية بدون ريب، قد نصبها الله، لا لإنسان بعينه؛ بل لأي إنسان يخرج على النواميس! … شأنها شأن تلك الفخاخ، التي ينصبها صاحب الحقل لاقتناص الثعالب، التي تفسد الكروم! … إنه لا يقصد بها ثعلبًا بالذات، نعم، إن الله يمكر ويسخر، من الماكرين والعابثين! … متى يفعل ذلك؟ … متى تكون السخرية الإلهية؟ … أكانت منذ الأزل، حين وضع الله الناموس، وجعل إلى جانبه مصيدة … متوقعًا لها ضحية في وقت من الأوقات، لا يعنيه اسمها ولا شخصها؟ … أم أن المخالفة تقع أولًا. فيطرح الإله بعدئذٍ على مرتكبها الشبكة في حينها؟ … هذا مجال ليس لنا أن نخوض فيه!

كل ما أردت أن أقول هو أن الصراع عندي في «أوديب» لم يكن بين آلهة عتاة، يبطشون ببريء يتعقبونه لذاته، ولكنه صراع بين إرادة الإله وإرادة الإنسان!

على أن ذلك كله لا يخلينا من صعوبة المشكلة … ولقد رأيت أنت جانبًا واحدًا، من جوانب هذه الصعوبة … هو محاولتي استخدام الخرافة القديمة، التي لا تقبل في صراحتها لَبسًا ولا غموضًا، في أغراض تتعارض مع صميم الخرافة!

ولكن هنالك جوانب أخرى من الصعوبة منها اضطراري إلى التعرض لمسألة «الجبرية» و«القدرية» في حدود لا يمكن أن تتسع لها «التراجيديا» دون أن تفقد روعتها الفنية … وهي مسألة تحطمت على صخرتها أدمغة الفلاسفة، وفقهاء الدين، في مختلف العقائد! … وانتقلت في العصور الحديثة، من ميدان الدين والفلسفة، إلى ميدان العلم؛ فقضية «الجبرية» و«القدرية» أصبحت اليوم قضية علماء «البيولوجيا» و«الطبيعة» و«الكيمياء»!

وإنهم الآن ليتساءلون إلى أي حدٍّ تكمن في النطفة، من صفات الوراثة، ما يجعل الأبناء مسيرين مجبرين، مقيدين: بصفات وشخصيات، صنعت لهم صنعًا؟ … وإلى أي مدًى يعتبر الجسم الإنساني آلة دقيقة، يسير كل شيء فيها بحساب مرقوم، وفي اتجاه محتوم؟

والخلاف في ذلك شديد بين العلماء؛ كما كان بين الفلاسفة! … على أن المعروف اليوم أن هناك مقدارًا من الجبر، ومقدارًا من الحرية، يسيطران على تصرفات الأحياء والجمادات؛ فحتى في عالم الغازات، يوجد شيء من الحرية والانفلات، خارج نطاق قوانينها الصارمة … ذلك أن وجود القانون … يستلزم وجود الخروج على القانون … وهذا يستلزم أيضًا نوعًا من العقاب … ليس في اختلال النتائج وحدها … بل في إعادة الخلل إلى النظام، ورد المتمرد إلى موضعه!

ففي كل ذرة أو خلية ناموسها، وإلى هذا الناموس شراكه الساخرة، التي يقع فيها الخارج عليه، فترده إلى مكانه من النظام العام! … كل هذا داخل ضمن القانون الأزلي، الذي يسير عليه الكون!

ورُوح الإسلام يتمشى مع هذه النظرة … لذلك كان لا بد لي أن أخضع قصة «أوديب» لهذا التفكير، وإذا كنت قد لاحظت أني جردت «أوديب» من عظمته الأسطورية؛ لأضفي عليه عظمة أخرى، صادرة عن فضيلته البشرية؛ فإن ذلك راجع أيضًا إلى رُوح الدين الإسلامي، الذي يفاخر بأن نبيه العظيم بشر!

كل هذه المقاصد لا توصِّلنا إلى شيء، ما دمنا قد أفقنا في استخراجها من صميم الخرافة القديمة، التي قامت عليها مأساة «أوديب»! … ولست أدري إلى أي مدًى كان إخفاقي أنا بالذات، بالنسبة إلى التسعة والعشرين السابقين؟ … ذلك أن مهمتي أعسر من مهمتهم!

فهُم بحكم ثقافتهم اللاتينية واليونانية، لا يجدون هذا العمل غريبًا عليهم، ولا على آدابهم، القائمة على آداب الإغريق واللاتين! … في حين أحاول أنا اليوم، أن أرسي هذا الفن الجديد في آدابنا العربية، على قواعده اليونانية. وهو العمل الذي كان يجب أن يصنع لدينا منذ قرون!

لقد أنفقت أعوامًا أربعة في هذه المحاولة … أدرس بغير عجلة كل موقف، وكل شخصية، وكل قضية! … وأُعنى بتفصيلات ودقائق، تحتاج إلى تعليل جديد، ترضاه عقولنا العربية الإسلامية!

هذا الوحي الذي ذهب إليه «كريون» في معبد «دلف»! … كيف يستطيع أن يعلم بمقتل «لايوس»؟! … ثم هذا الطعن الذي أنزله «أوديب» بعينيه؟ … أكان إمعانًا في الكبرياء؛ كما ذهب «جيد»؟ … أم رغبة في أن يبلغ «أوديب» أوج الشقاء، كما بلغ أوج المجد، كما ذهب «كوكتو»؟

في رأيي أن ذلك كله، من قبيل التفسيرات الأدبية الذهنية! … ولكن «أوديب» عندي كان شديد التعلق بأسرته، عميق الحب ﻟ «جوكاستا»! … وكانت فجيعته فيها، وهو يراها على هذه الميتة البشعة أشد مما احتمل!

كانت لحظة جنون طارئة، عصفت برأسه من غير شك، فلم يشعر فيها بنفسه، وهو يضرب عينيه، ويصيح بالملكة:

«لن أبكيك إلا بدموع من دم!»

هذا تفسير لم أستطع أن أقبل غيره! … و«سوفوكل» لم يوضح لنا ذلك؛ لأن الخرافة التي ارتكز عليها — في كل قوتها وعنفها — تعفيه من أي إيضاح! … فشعور «أوديب» أنه تلقَّى هذه الضربة، من الآلهة العاتية، ومن «أبولون» على الأخص، ذلك الحاقد عليه؛ جعله يرى الحادث لعنة حقيقية، لم يجد لدفعها سبيلًا، إلا أن ينزل بنفسه تلك الفظاعة، التي قد تستدر عطف السماء!

ولكن «أوديب» عندي لم يستطع التسليم لحظة، بأن ما حدث أقوى من حبه ﻟ «جوكاستا»! … ما من شيء عنده أقوى من حبه لها؛ فهو قد فعل بنفسه ما فعل من أجلها وحدها!

وغير ذلك دقائق كثيرة، وتفصيلات جمة، يستطيع الباحث الدءوب أن يستشف منها عقبات وصعوبات، وقفت في وجه كل من حاول التصدي لمأساة «سوفوكل»!

وما أعتقد أن أحدًا من هؤلاء، مرت بخاطره — برهة واحدة — فكرة التحليق إلى مستوى النموذج اليوناني! … فإن كماله الفني يرجع — فضلًا عن عبقرية «سوفوكل» — إلى قوة الخرافة، في جوهرها الوثني الأصيل، وإيمان الشاعر بها، واستخراجه كل المأساة وحدها!

وما جادل أحد قط في أن «أوديب» «سوفوكل»، بلغت من الكمال الفني أوجا، هو مفخرة للذهن البشري! … ولعل «شكسبير» أدرك ذلك بسليقته الفنية، فلم يقربها على ما في موضوعها من إغراء، وهو الذي استعار موضوعات آثاره من القصص: الدانمركية، والإيطالية، واللاتينية، واليونانية!

أراه خشي أن ينازل «سوفوكل» في عرينه؟ … لو أنه فعل، لكان تاريخ الآداب الأوربية اليوم ذاخرًا بفصول، لا تُحصى في وصف هذا النزال المخيف!

إن محاكاة القديم هي مشكلة صعبة حقًّا … بل إنها تكاد تكون مستحيلة، في بعض الأحوال؛ كما لو كنا نريد بعنب جديد أن نصنع للتو خمرة معتقة! … هنالك ولا شك سرٌّ خفيٌّ في تركيب ذلك الخمر القديم، يجعل له مذاقًا لا يضاهى!

أما بعد، فحسبنا أن حاولنا الصعب من الأمور، ونحن نعلم كل العلم أن الذي ينتظرنا في نهاية الطريق هو الإخفاق … إن أجزل الأجر هو أحيانًا العمل نفسه، لا نتيجته! … وما أعظم الأجر الذي نلته، والثمر الذي تساقط عليَّ، بمجرد مكثي بضع سنين، في ظلال تلك الشجرة القديمة، الدائمة الاخضرار والإثمار: «تراجيديا سوفوكليس»! …

ت ا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤