مصر بين الماء والنسيم

بين النسيمِ وبين الماءِ أسرارُ
راحت تبوحُ بها لِلناسِ أشعارُ
إذ بينما النيل يومًا نائمًا تَعِبًا
يجْرِي بِأحلامِه لِلبحرِ تَيَّار
نشوانَ يذكرُ أفراحًا عرائسُها
عيْنٌ له قِدَمًا تُهْدَى وأبكارُ
مَرَّ النسيمُ بهِ صبحًا فأَيْقَظه
ولِلطيورِ تَسابيحٌ وأذْكار
والوقتُ قُبْلَةُ صَبٍّ ثغرَ فاتنةٍ
وليس إلَّا عيونَ الزهرِ أبصارُ
والشمسُ أعجبُ ما راعتكَ بازغةً
كأنَّها في يدِ المسكينِ دينار

•••

قال النسيم أَفِقْ يا نيلُ ما اكْتحلَتْ
بِالغمضِ عينٌ لها في المجد أوطارُ
هاكَ الغزالةُ قد ألْقتْ أَشِعَّتَها
على النَّدَى تحتَسِي منه وتشتار
فقُمْ وارضعْ سُهولًا أنت والدُها
فَنَومُ مُرضِعةٍ عن طفلها عارُ

•••

فأَجْفَلَ النيلُ من أَحلامِهِ وجرَى
جرْيَ الجوادِ له من مصرَ مِضْمارُ
وصفَّقَتْ نَفَحاتُ الصُّبحِ لُجَّتَهُ
فالرِّيحُ تَعْزِفُ والأمواجُ أوتار
يا حسنَه وهو يجري في أَعِنَّتِه
وحولَهُ مِلْءُ عينِ الخصبِ أشجار
يا ليْتَ شعريَ هل مصرٌ لها شَبَهٌ
بينَ الممالكِ أو كالنيل أنهار؟
بل لا يقوم بِفذٍّ من محاسِنِها
ممالكٌ تَنظِمُ الدنيا وأقطار
كم سُورةٍ في كتاب الله مُحْكَمَةٍ
لِمصرَ أثناءَها ذِكرٌ وأخبار

•••

ذَرْنِي أَرَى ما أرى إنِّي أرى شَجَنًا
دارًا تشوقُ وما بالدارِ دَيَّار
وأُمَّةً في ربوع النيل جامدةً
وفوقَها ركنُ صرْحِ المجدِ ينهار
أم كيف ينفعُنا مَشيٌ على مَهَل
والناسُ مِنْ فوقِنا في الجوِّ قد طاروا

•••

ويا ابنَ مصرٍ ربوعُ النيل عاطلةٌ
مِن حَلْيِها وحُلَى الأمصار أسفارُ
مُدُّو إلى العلمِ أقلامًا تُعرِّبُهُ
عن أَهله عَدَلُوا في القَصْدِ أَمْ جاروا
دَعْ الخمورَ ولا تنزِلْ بساحتِها
فليس يهدِيكَ للعلياء خَمَّارُ
ولا تُطِعْ كلَّ ذي كأسٍ يغازِلُها
فإنه جاهلٌ بالسوء أمَّارُ
رَبُّوا النساءَ فما في الجهلِ مفخرةٌ
يدعو إليها سفيهُ الحِلمِ مِهذار
هَبْها لنا جارةً ليستْ بِوالدةٍ
أليسَ في الجهل يؤذي جارَه الجار؟
وكيف نرضى لَهنَّ الجهل مَنزلةً
وَهُنَّ حول حِمَى الأوطان أسوار
مَن يُلْبِسِ الطفلَ روحَ الحزم من صِغَرٍ
حتى يُرَى وهو ماضي العزمِ مِغْوار؟

•••

دَعْني أَقُصُّ عليهم ذكرَ والدةٍ
مضَى على قولِهَا المأثورِ أعمارُ
(أسماءُ) إذْ جاء (عبد الله) يسألها
وقد تحاماه في الهَيْجاءِ أَنصار
أُمَّاهُ جيشي وأشبالي وحاشيتي
قد سَلَّمُوا لِلعِدا والدهرُ غدَّار
والقومُ لي شَرَطوا سُؤْلي مصالحةً
فهل أسلِّمُ أم في القتل إعذار؟
قالت ألستَ على حقٍّ تُقارِعُهم
فَادفَعْ عن الحقِّ لا تُثْنيكَ أخطار
هم خَيَّروا بين عيش لا بهاءَ لهُ
وبين قتلٍ وأنت القتل تختار
ما هذه الدِّرْعُ؟ فانْزَعْها وكنْ رجلًا
يابنَ الزبيرِ كَفَى يُمناكَ بَتَّار
فمات مِيتَةَ مِقدامٍ شجاعتُهُ
لَها على الدهرِ إعظامٌ وإكبار

•••

كَتلكَ كان بناتُ الشرقِ يومَ له
في جَنَّةِ المجدِ أزهارٌ وأثمارُ
واليومَ بُشرَى لِأهل الشرق أحْمِلُها
بدا لها من خدودِ الغيدِ أنوارُ
سَلْ مَيَّ أو سَل هُدى عنها وغيرَهما
ما لاح في ظُلُماتِ الجهلِ أقمارُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤