مقدمة

فلسفة التاريخ مبحثٌ هامٌّ من المباحث الفلسفية الحديثة العهد في الفكر الفلسفي، فلم تتضح كعلمٍ مستقلٍّ إلَّا في القرن السابع عشر، ثم تحدَّدت معالمها في القرن الثامن عشر الذي شهد العديد من فلاسفة التاريخ أمثال فيكو ومونتسكيو وتورجو وفولتير وكوندورسيه وهردر وغيرهم. وبلغ الاهتمام بالدراسات التاريخية ذروته في القرن التاسع عشر — حتى ليمكن أن نطلق عليه اسم «عصر التاريخ» — على يد أعلامِ هذا القرن أمثال هيجل وكونت وماركس. وترجع أهمية فلسفة التاريخ إلى حيوية موضوعها حيث تتناول بالدراسة حركة المجتمعات البشرية وتطورها وأسباب انهيارها وسقوطها في مرحلةٍ معينةٍ من تاريخها، والقوانين التي تحكم حركة التاريخ وتطوره.

ولا تُذكر فلسفة التاريخ إلا ويُذكر معها اسم فيكو. وهو فيلسوف إيطاليٌّ وُلد وعاش في نابولي وعانى الفقر وتجاهُل معاصريه ولم يبدأ الاهتمام الحقيقي به إلا منذ عهد قريب، وعلى الرغم من هذا التجاهل الذي استمر طويلًا فهو يعدُّ المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ في الفكر الفلسفي الغربي. ويمكن القول إن مكانته في التراث الغربي تُماثل مكانة ابن خلدون في التراث العربي. حقًّا لقد ذكره بعض فلاسفة القرن الثامن عشر وربما اطَّلعوا على شيءٍ من إنتاجه، وخاصة على بعض أجزاء من العلم الجديد، ولكنه لم يُكتشف اكتشافًا حقيقيًّا إلا عندما تُرجم إلى اللغة الألمانية لأول مرة عام ١٨٢٢م، ثم عندما ترجم «ميشليه» مختارات من العلم الجديد عام ١٨٢٥م مع مقدمة كان لها أثرها في توجيه الأنظار إلى أهمية أفكاره وأصالتها، والتفت إليه أبناء بلده بعد أن أغفلوه طويلًا وخاصة مع حركة البعث القومي الإيطالي، إلى أن جاء فيلسوف إيطاليا الأكبر بندتو كروتشه فأحيا فكرَه من جديدٍ وأفرد له كتابًا مستقلًّا. ثم توالَت الدراسات العلمية الدقيقة التي سلَّطت الأضواء على جوانب فكره المختلفة سواء في فلسفة التاريخ بوجهٍ عام أو فقه اللغة والقانون الروماني أو نظريته في اكتشاف حقيقة هوميروس. والواقع أن فيكو ليس مجهولًا في حياتنا العقلية والعلمية؛ فقد اهتم به بعض الأساتذة الذين يستحقُّون كل التقدير والعرفان، فكتب عنه المرحوم الدكتور عبد العزيز عزت فصلًا في كتابه «فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع»،١ وحاول أن يقدِّمه كمفكرٍ اجتماعيٍّ قبل كل شيء، ثم قدَّم الدكتور أحمد حمدي محمود عرضًا موجزًا لحياته وكتابه الأساسي «العلم الجديد» في مجلة «تراث الإنسانية»،٢ وخصَّص المرحوم الأستاذ الدكتور محمد فتحي الشنيطي فصلًا عنه في كتابه «دراسات في الفلسفة الحديثة»،٣ كما كتب عنه الأستاذ الدكتور أحمد محمود صبحي فصلًا قيمًا في كتابه «فلسفة التاريخ»٤ أبرز فيه بإيجازٍ منهج فيكو ومذهبه ونظريته في التعاقب الدوري للحضارات. وكان آخر هذه الجهود مقال الأستاذ الدكتور حسن حنفي في مجلة الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة فاس،٥ وقد قدم فيه عرضًا وافيًا — إلى حدٍّ كبيرٍ — للعلم الجديد ختمه بتقييمٍ شاملٍ لتفكير فيكو وبيان حدوده وجوانب القصور فيه.

وعلى الرغم من أهمية هذه البحوث إلا أنها لم تستقصِ كل جوانب فلسفة فيكو ولم تقدم نظريته في التاريخ بصورة وافية، ومع اعترافنا بقيمة هذه الدراسات فإن المكتبة العربية كانت وما تزال في أشد الحاجة إلى بحوثٍ متخصصةٍ في فلسفة فيكو؛ ولهذا حاولنا في هذا البحث أن نقدمَ صورةً واضحةً عن هذا الفيلسوف معتمدين في المقام الأول على نصوصه نفسها. والواقع أن هذا لم يكن أمرًا سهلًا بسبب كثافة المادة التاريخية التي تناولها مما أعجزه عن تنظيمها والسيطرة عليها؛ فقد كان ينتقل من موضوعٍ إلى آخر — ربما دون أن يدريَ هو نفسه بهذا الانتقال — بحيث يصعب الفصل بين هذه الموضوعات، ومما زاد من صعوبة البحث أن فيكو لم يُشِر إلى هوامش ولم يقم بعمل إحالات للنصوص، بل حشد في النص الأصلي ما كان يجب أن يُشير إليه في الهامش مما جعل العثور على الأفكار الأساسية أمرًا شاقًّا في خضم التفصيلات الجزئية الكثيرة والمتشابكة.

وقد حاولت أن ألتزم بالنصوص وأن أقدِّمها تقديمًا وافيًا منظمًا مع الحرص على عدم إغفال أية نقطةٍ جوهريةٍ في الكتاب كله، وقد كانت قراءة النص وحدها مسألةً شائكةً لأنه يفترض إلمام القارئ بالثقافة الكلاسيكية (الثقافة اليونانية والرومانية) إلمامًا تامًّا، وكذلك معرفة تاريخ القانون الروماني، كما يستلزم قدرًا كافيًا من الإلمام باللغة اللاتينية بوجهٍ خاص والقدرة على تتبُّع المؤلف في تحليلاته الاشتقاقية المرهقة التي جعل لها أهميةً كبرى في تتبُّع تطور التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية من خلال التطوُّر اللغوي.

والمنهج المتبع في البحث هو المنهج التحليلي النقدي؛ فقد توخَّيْنا عرض النصوص عرضًا أمينًا بحيث لا نغفل شيئًا هامًّا منها مع الحرص على ترتيب وتنسيق ما وجدناه محتاجًا إلى الترتيب والتنسيق، وعلى سبيل المثال وجدنا أنه من الضروري تصنيف المسلَّمات إلى مجموعات رئيسية حسب موضوعاتها ووضع عناوين مناسبة لها؛ إذ إن فيكو وضع مائة وأربع عشرة مسلَّمةً في موضوعات متعددة وتركها بغير تصنيف أو تنسيق، ومن الطبيعي أن عرض النصوص وحده لا يكفي، فكان لا بد من تحليلها وتقييمها بعد ذلك. كما اتبعنا المنهج المقارن لبيان أثر فيكو على بعض فلاسفة التاريخ في القرنَيْن الثامن عشر والتاسع عشر.

وقد اعتمدْنا على نصوص فيكو من خلال مؤلَّفاته الأصلية، وخاصة أهم مؤلفاته «العلم الجديد في الطبيعة المشتركة للأمم»، وهو الذي شمل فلسفته بأكملها وفلسفته التاريخية بصفة خاصة بجانبيها النظري الميتافيزيقي والتطبيقي التجريبي، كما اعتمدنا على الترجمة الإنجليزية ﻟ «العلم الجديد» التي قام بترجمتها العالمان Fisch وBergin عن الطبعة الثالثة للنسخة الإيطالية الصادرة عام ١٧٤٤م، أما عن بقية مؤلَّفاته فقد كانت بمثابة إرهاصات لفلسفته التي تبلوَرَتْ في النهاية في المؤلَّف الكبير «العلم الجديد» الذي عكف على تأليفه وتعديله وتنقيحه أكثر من ربع قرنٍ من حياته، ومع ذلك فقد رجعنا إلى ما توفر من بقية مؤلفاته مترجمًا للغة الإنجليزية ومن أهمها «السيرة الذاتية» و«مناهج الدراسة في عصرنا» الذي عارض فيه بوضوحٍ نظرية المعرفة الديكارتية. وأما عن مؤلَّفه «الحكمة الإيطالية القديمة» فقد تعذَّر الحصول على ترجمةٍ له بالإنجليزية هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى فإن موضوع هذا المؤلَّف لا يتعلق بالقضايا الأساسية التي تناولناها في هذا البحث. أضِف إلى هذا أن مضمون مؤلَّفات فيكو كلها — التي كتبها باللغة اللاتينية قبل أن يتحوَّل إلى اللغة الإيطالية في العلم الجديد — متضمنةٌ في آخر مؤلَّفاته وأهمها وهو «العلم الجديد»، فبعد اكتشافه علمَه الجديد كرَّس البقية الباقية من حياتِه لتنقيحه وإضافة فصولٍ جديدةٍ له؛ ولهذا اعتمد البحث في المقام الأول على النصوص الأصلية.

وقد قسمنا البحث إلى ثلاثة أبوابٍ مترابطة يؤدي كلٌّ منها إلى الآخر؛ عرضنا في الباب الأول أصول العلم الجديد، وحاولنا في الفصل الأول منه تتبُّع نشأة العلم الجديد وتبلوره في ذهن مؤلِّفه، وكان لزامًا علينا أن نعرض للظروف التاريخية والثقافية التي عاش في ظلِّها وأثَّرت على تفكيره؛ فقد عاصر سيطرة الفلسفة الديكارتية العقلانية، وكان له موقفٌ محددٌ منها جعله يميل إلى تغليب منهج بيكون الاستقرائي، وإن كان في النهاية قد جمع بين الاثنين دون أن يشعر، ويقدم الفصل الثاني أصول العلم الجديد ومبادئه ومنهجه.

ويتناول الباب الثاني قانون تطوُّر الأمم، وقد أفردنا الفصل الأول لقانون تطور الأمم وبَيَّنا كيف أنه قانون يحدِّد المراحل الثلاث التي مر بها تاريخ الأمم الأممية (وهي الأمم الوثنية)، ثم انتقلنا إلى الفصل الثاني وعرضْنَا تطبيق هذا القانون على المسار الأول للأمم الأممية في ضوء الحكمة الشعرية خاصَّةً في الحضارتَيْن اليونانية والرومانية، ثم تطبيقه على المسار الثاني للأمم في العصور الوسطى الأوروبية. وبنهاية الباب الثاني نكون قد عرضنا منهج فيكو ومذهبه عرضًا مستفيضًا، وتعاطفنا مع فكره إلى حدٍّ كبير، واقتربنا منه حتى يتسنَّى لنا فهم مذهبه فهمًا صحيحًا. وربما نكون بذلك قد عملْنا بنصيحة فيكو نفسه للباحثين في التاريخ بألَّا يُسقطوا ثقافة عصرهم على فكر العصور القديمة، واستجبْنا إلى دعوته لهم بالتعاطف الوجداني مع فكر القدماء لكي يفهموا ما كان يدور في عقولهم. وهذا ما حاولناه في البابَيْن الأول والثاني. وقد وجدْنا من الضروري أن نبتعد في الباب الثالث قليلًا عن هذا المذهب لنتمكن من تقييمه، ورأينا أن نُفرد هذا الباب لنظرية المعرفة التاريخية وأثرها، فقدَّمنا في الفصل الأول تقييمًا وتحليلًا لنظرية المعرفة التاريخية انطلاقًا من مبدأ فيكو الأساسي في المعرفة؛ وهو أن «الإنسان لا يعرف إلا ما يصنعه بنفسه.» وقد وقفنا عند هذه النظرية لإلقاء الضوء على جوانبها المختلفة ومضمونها الاجتماعي والتاريخي، وقد كان من الطبيعي أن نعرض لموقف فيكو من فلسفة عصر التنوير الذي عاش فيه، فأوضحنا أن مفهوم التقدُّم عنده يختلف إلى حدٍّ كبيرٍ عنه عند فلاسفة هذا العصر، ثم انتقلْنَا في الفصل الثاني من هذا الباب إلى بيان أثر نظرية المعرفة التاريخية على أهمِّ فلاسفة التاريخ الذين جاءوا بعده ومن أهمِّهم هردر وكونت وماركس. وأخيرًا بلوَرْنا الرؤية الكلية للبحث في خاتمة قدَّمنا فيها تقييمًا للأفكار الأساسية العامة في مذهب فيكو، وهي الأفكار التي وردَتْ في ثنايا البحث، أما عن بعض التفاصيل الجزئية فقد عقَّبنا عليها أثناء عرضها في ثنايا الفصول، ورأينا أن نتناولها في موضوعها حتى يكون التقييم النهائي للبحث منصبًّا على الأفكار الرئيسية واستخلاص أهم النتائج التي أمكننا التوصُّل إليها.

وأخيرًا نقول لعل أهمية فيكو تكمن في أنه يُعدُّ بحقٍّ أحد آباء الوعي التاريخي في وقتٍ كان فيه الضمير الأوروبي في حاجةٍ إلى هذا الوعي، ولما كنَّا، نحن العرب، نمرُّ بمرحلةٍ تشتدُّ فيها حاجاتُنا إلى الوعي التاريخي لإدراك دورنا في التاريخ المعاصر وتوجيه خُطانا من التمزُّق إلى الوحدة ومن الغيبوبة إلى الوعي، فما أحوج أُمَّتنا العربية — في مرحلتها الراهنة — إلى هذه الدراسات، وعسى أن يكون هذا البحث مساهمةً متواضعةً في إيقاظ وعينا التاريخي وتوجيه خُطانا نحو التقدُّم والمشاركة الفعَّالة في الحضارة الإنسانية.

١  د. عبد العزيز عزت، فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، الجمعية المصرية لعلم الاجتماع، ١٩٥١م، ص٧١–٩٨.
٢  د. أحمد حمدي محمود، مجلة تراث الإنسانية، المجلد السادس.
٣  د. محمد فتحي الشنيطي، دراسات في الفلسفة الحديثة.
٤  د. أحمد محمود صبحي، فلسفة التاريخ، مؤسسة الثقافة الجامعية، ص١٠٣–١٦٥.
٥  د. حسن حنفي، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، العدد السابع، ١٩٨٣-١٩٨٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤