الفصل الثاني

مسار الأمم في ضوء الحكمة الشعرية

(١) المسار الأول للأمم

الحكمة الشعرية هي عنوان الكتاب الثاني من العلم الجديد، وهو الجزء الذي أفرده فيكو لمناقشة كيف أن مؤسسي الشعوب والنظم البشرية كانوا في الأصل شعراء مثل هوميروس، وحكماء كالمشرعين الذين أسَّسوا المدن الإغريقية مثل إسبرطة، ولا يشكُّ فيكو في أن هؤلاء المؤسِّسين كانوا شعراء وحكماء بشكلٍ ما، ولكن أي نوع من الحكمة كان عند هؤلاء الأقدمين؟ لقد كانت حكمتهم عملية جعلَتْهم يوجدون النظم الاجتماعية البشرية، وهذا هو مفتاح العلم الجديد الذي اكتشفه فيكو والذي حاول أن يُثبت فيه أن حكمة القدماء كانت شعبية ولم تكن فلسفية، شعرية لا عقلية، عملية لا نظرية. كان الأولون من شعوب الأمم الأممية أبناء الجنس البشري يخلقون أشياء مطابقةً لأفكارهم، ولكن هذا الخلق يختلف عن الخلق الإلهي اختلافًا متناهيًا لأن الخلق البشري كان بالخيال المادي.

كانت الحكمة الشعرية هي البداية الفجة للعلوم والفنون كما كانت أيضًا أصل جميع العلوم والفنون. ويؤكد العلم الجديد أن الأمم الأممية كانوا شعراء يتحدثون برموز شعرية، ويُعرِّف فيكو الحكمة بأنها استعدادٌ طبيعي أو مَلَكةٌ عقلية تُهيمن على كل ألوان المعرفة التي تؤلف ما يُسمَّى بالإنسانية؛ فالإنسان بما هو إنسانٌ يتألَّف من عقلٍ وروحٍ أي عقل وإرادة. ووظيفة الحكمة أن تحقِّق هذين الجانبين في الإنسان؛ فالعقل يهتدي إلى معرفة التنظيمات العليا، وعن طريق هذا العقل تختار الروح أفضل هذه التنظيمات. وأسمى التنظيمات هي التي تكشف عن عظمة الله وتحرص على خير الجنس البشري؛ فالنظم الأولى هي النظم الدينية، والثانية هي النظم الدنيوية، والحكمة تعلمنا معرفة التنظيمات الدينية لكي ترشد التنظيمات الدنيوية للخير الأسمى للبشر. بدأت الحكمة لدى الشعوب الأولى بالتنبؤ؛ فالحكمة القديمة كانت حكمة الكهان والعرافين، والحكماء الأوائل للشعوب القديمة كانوا شعراء لاهوتيين، وجدير بالذكر أن فيكو يميز بين ثلاثة أنواع من اللاهوت: «لاهوت شعري للشعراء اللاهوتيين، وهو بمثابة لاهوت مدني في كل الشعوب الأولى»؛ «ولاهوت طبيعي أو ميتافيزيقي ويرجع للفلاسفة»؛ «ولاهوت مسيحي وهو مزيج من اللاهوت المدني واللاهوت الطبيعي».

انعكست الحكمة الشعرية على كل علوم البشر، وظل معنى الحكمة هو معرفة الأشياء الطبيعية والإلهية أي الميتافيزيقا. وعلى هذا فالميتافيزيقا كانَت لصالح الجنس البشري الذي تتوقَّف المحافظة عليه على الإيمان بإلهٍ يُعنى بالبشر. وقد كانت الحكمة عند هوميروس هي معرفة الخير والشر، ثم كانت الحكمة عند العبرانيين والمسيحيين بعد ذلك هي العلم بالأشياء الأبدية التي يُوحي بها الله، وهذا المعنى متصل بالمعنى القديم للألوهية أي يتصل بالتنبؤ، وانعكست الحكمة الشعرية كذلك على كل علوم البشر، فلما كانت الميتافيزيقا هي العلم الأسمى الذي تتفرع منه العلوم الثانوية الأخرى، وكانت حكمة القدماء هي حكمة الشعراء اللاهوتيين الذين كانوا الحكماء الأوائل للشعوب القديمة، وكانت الأصول الأولى للأشياء بحكم طبيعتها أصولًا فطرية فجة، فلا بد لكل هذه الأسباب أن نُرجع بداياتِ الحكمة الشعرية إلى نوعٍ فطريٍّ من الميتافيزيقا؛ فالحكمة الشعرية نشأت من الميتافيزيقا الفجة، ومن جذر هذه الميتافيزيقا الفطرية نشأ فرع يحمل علوم المنطق والأخلاق والاقتصاد والسياسة، كما نشأ فرع آخر يحمل علم الفيزياء وهي أم علم وصف الكون وعلم الفلك. وهذا الأخير يُضفي اليقين على علمَيْن آخرَيْن نشآ عنه هما علم التاريخ وعلم الجغرافيا، وغنيٌّ عن الذكر أن العلوم السابقة كلها تتصف في تلك المرحلة بالصفة الشعرية.

ومن هنا نرى بوضوحٍ كيف تصوَّر مؤسِّسو النزعة الإنسانية للشعوب الأولى، كيف تصوَّروا الآلهة عن طريق الميتافيزيقا أي اللاهوت الطبيعي، وكيف اخترعوا اللغات عن طريق منطقهم، وكيف خلقوا أبطالهم عن طريق تصورهم لعلم الأخلاق، وكيف أسَّسوا الأسر عن طريق تصورهم للاقتصاد، ومدنهم عن طريق مفهومهم للسياسة، وكيف تصوروا بدايات الأشياء جميعًا على أنها بداياتٌ إلهية عن طريق مفهومهم لعلم الطبيعة، كما تصوروا أنفسهم كبشرٍ من خلال تصورهم لعلم طبيعة الإنسان وأوجدوا لأنفسهم عالمًا بأسره من الآلهة عن طريق تصورهم للكون، ثم كيف أثر عليهم مفهومهم عن علم الفلك بحيث جعلهم ينقلون الكواكب من الأرض إلى السماء، ويحدِّدون البدايات الزمنية عن طريق ما سموه بعلم التأريخ، وأخيرًا كيف وصف الإغريق، على سبيل المثال، العالَم كله وكأنه يقع داخل بلادهم مما يدل على تأثير مفهوم الجغرافيا على هذا التصور. بهذا يصبح العلم الجديد تاريخًا لأفكار البشر وعاداتهم وأعمالهم، ومن هذه العناصر الثلاثة تكوَّنَت مبادئ التاريخ البشري التي هي مبادئ التاريخ العالمي التي يعتقد فيكو أنها كانت مفتقدةً حتى اكتشفها بنفسه.

ويقدم فيكو في كتابه لوحة تاريخية لأهم وقائع التاريخ منذ خُلِق العالم معتمدًا على التوراة؛ فقد انحدر مؤسِّسو الشعوب الأولى من سلالة حام ويافث وسام الذين رفضوا ديانة نوح الحقة فضلُّوا في الأرض وعاشوا حياة حيوانية في الغابات الواسعة الكثيفة التي غطَّت الأرض بعد الطوفان. وتضخمت أجسامهم فأصبحوا عمالقة، وهؤلاء العمالقة كانوا على نوعين؛ بعضهم شعر بالخوف من الظواهر الجوية كالبرق والرعد واعتبروها غضبًا من الإله على حياتهم البهيمية، فبدءوا يستقرُّون في كهوفٍ ويحترفون الزراعة ويمتلكون الأرض، وبذلك كوَّنوا طبقة الأبطال الذين سُمي عصر العمالقة على اسمهم؛ وظل البعض الآخر على تشرُّده وحين أسرهم أسياد الأرض كانوا بمثابة عبيدٍ للأرض يَفلَحونها، بينما احتفظ العبرانيون الذين قبلوا دين نوحٍ بقوامهم البشري السوي الذي ارتد إليه أبناء العمالقة بالتدريج.

وتتمثل الحكمة الشعرية في أساطير كل أمة، والشعر هو لغة التعبير عن هذه الحكمة؛ لأن الشعوب الأولى ذات طبيعة شاعرية. لقد بدأ تاريخ كل الشعوب بداية خرافية؛ فنجد أن الحكماء لدى اليونان هم الشعراء اللاهوتيون. ثم جاء الفلاسفة وجعلوا من تاريخ آلهتهم فلسفة. مثلما حوَّل مانيتو كل التاريخ الخرافي في مصر إلى لاهوت طبيعي سامي، وكان ذلك نتيجة أسباب خمسة لدى الإغريق والمصريين القدماء: إجلال الدين الذي تأسَّست عليه كل الشعوب القديمة. أن هذا العالم المدني قد نُظِّم تنظيمًا حكيمًا بحيث لا يمكن أن يقوم إلا على حكمةٍ تفوق حكمة البشر. أن هذه الخرافات الدينية التي يدعمها احترام الدين والحكمة الإلهية؛ يسَّرت للفلاسفة أن يبحثوا في أمور متعالية. تمكُّن الفلاسفة من شرح أفكارهم باستخدام التعبيرات التي تلقوها عن الشعراء، ووجد الفلاسفة في هذه الخرافات الدينية ما دعم تأملاتهم، أي أنهم استمدوا من السلطة الدينية تأييدًا لأفكارهم. ومما سبق يتضح أن ما أحس به الشعراء إحساسًا ساذجًا وعبَّروا عنه بالحكمة الشعبية قد فهمه الفلاسفة وعبَّروا عنه بالحكمة المستورة أو السرية بحيث يمكن القول إن الشعراء يعبِّرون عن حواس الجنس البشري بينما كان الفلاسفة يمثِّلون١ عقله. وهذا يُثبت ما قاله أرسطو في كتاب «النفس» عن الإنسان الفرد ويمكن أن يصدق على الجنس البشري كله «لا شيء في العقل إلا وسبقه وجودٌ في الحس.» أي أن العقل البشري لا يفهم أي شيءٍ ما لم يكن لديه انطباعٌ حسيٌّ سابقٌ عنه.

إن السمة الأساسية في تفكير فيكو هي بغير شك ذلك الجهد الذي بذله لإثبات أن كل العلاقات الاجتماعية كانت في أحد العصور قائمة على معتقدات ترجع إلى الخيال، وكذلك محاولته لإثبات أن هذا يدل على وجود قانون إلهي لولاه لما تمكَّنت البشرية حتى من البقاء على قيد الحياة؛ لأن الخوف الذي يُثيره الخيال القوي الذي أوجد عالم الآلهة يمكنه أن يكبح عنف الشهوات؛ فالعقل عند البشر مرحلة متأخرة في مسار تطورهم.

(١-١) الميتافيزيقا الشعرية

إن الميتافيزيقا هي العلم الأسمى الذي تتفرَّع عنه العلوم الثانوية، ويأخذ فيكو على الفلاسفة وعلماء اللغة أنهم لم يبدءوا بحوثهم من حكمة الشعوب القديمة، وهو في هذا متسق مع مسلَّمته التي تقول بوجوب أن يبدأ الموضوع من حيث تبدأ المادة التي يتناولها، أي كان عليهم أن يبدءوا من الميتافيزيقا، ولا بد في رأيه أن تكون الحكمة الشعرية قد بدأت لا من ميتافيزيقا عقلية بل من ميتافيزيقا شعورية خيالية؛ حيث كان لدى البشر الأولين إحساسٌ قوي وخيال خصب واسع كما تمثل في الشعر، وهو مَلَكةٌ فطريةٌ وُلدت الشعوب الأولى مزوَّدة به، وكان شعرهم في البداية دينيًّا لأنهم كانوا ينسبون كل علل الأشياء التي يحسونها ويعجبون بها إلى كون العلل آلهة، وفي الوقت نفسه يُعطون للأشياء التي تُثير دهشتهم وجودًا ماديًّا يتلاءم مع أفكارهم تمامًا كما يفعل الأطفال فيضفون الحياة على أشياء غير حية. ثم يشرح فيكو كيف أن الشعوب الأولى خلقت الآلهة عن طريق الميتافيزيقا أو اللاهوت الطبيعي، وكيف تصوروا أول أسطورةٍ دينية، أن التفكير الأسطوري أمرٌ طبيعيٌّ في المراحل المبكرة من تطور المجتمعات، فعندما أبرقت السماء وأرعدت لأول مرة بعد الطوفان خاف العمالقة واندهشوا، وهم الذين ضلوا في الغابات الواسعة مع الوحوش الضارية ورفعوا أعينهم للسماء وشعروا بالخوف منها، ولما كان من طبيعة العقل البشري أن «يُسقط» ذاته على الأشياء التي يجهلها، وكان هؤلاء العمالقة بطبيعتهم مجرد أجساد قوية، فقد تصوروا السماء على شاكلتهم كجسد حي كبير ودعوها جوبيتر Jove (زيوس Zeus عند الإغريق) وهو الإله الأكبر الذي يُخبرهم بتعليماته وتحذيراته عن طريق رعده وصواعقه. ومن هنا بدأ حب الاستطلاع الطبيعي الذي هو ابن الجهل وأبو المعرفة والذي يُنير العقل البشري. ومن هنا أيضًا نشأت أول خرافة دينية لدى البشر الأولين، وتأسَّست الكهانة التي أطلق عليها الإغريق اسم اللاهوت أو لغة الآلهة، وبهذا يفسر فيكو ما سبق أن ذكره في أصول العلم الجديد، وهو أن الخوف أول من خلق الآلهة على الأرض. هكذا وُلد جوبيتر في الشعر كشخصيةٍ خيالية إلهية خلقها الشعراء اللاهوتيون بأنفسهم واعتقدوا فيها وخافوها ثم بجَّلوها وعبدوها ونسبوا إليها كل التكهنات والنبوءات؛ فالبشر الأولون الذين أسَّسوا الأمم الأممية الأولى كانوا يفكرون بالأحاسيس والخيال والأساطير؛ لأن عقولهم كانت عاجزةً عن التجريد، ومن هنا كان عجز القوى العقلية البشرية هو الأصل في نشأة شعرٍ أكثر رقيًّا وسموًّا من الذي أتى به الفلاسفة بعد ذلك، وهذا الاكتشاف لأصل الشعر كما يرى فيكو يفنِّد الرأي القائل بأن الحكمة الفذَّة للقدماء بدأَتْ مع الفلاسفة.

يحدِّد فيكو المعالم الرئيسية لعلمه الجديد على النحو التالي:

تعتبر العناية الإلهية هي الافتراض الذي يقوم عليه العلم الجديد؛ فقد اهتدى إليها البشر الأولون عندما يئس الإنسان البدائي من مساعدة الطبيعة فاتجه إلى قوى أسمى، وليس هناك ما هو أسمى من الله. لقد لاحظ هذا الإنسان أن العناية الإلهية تحرص على خير الجنس البشري. لذلك فإن هذا العلم الجديد هو لاهوت عقلي مدني يُبيِّن دور العناية الإلهية في حياة البشر. لقد حرص فيكو على تأكيد دور العناية الإلهية في كتابه «العلم الجديد»، بل لقد حرص على تذكير القارئ به حتى في المواضع التي لا تقتضي ذكرها، فهل فكرة العناية الإلهية فكرة ضرورية حقًّا في فَهْم العلم الجديد أم أن من الممكن طرحها والاستغناء عنها دون أن يتأثر هيكل هذا العلم ومضمونه؟ هذا ما سوف نناقشه في الباب الثالث من البحث.

ويواصل فيكو حديثه عن ثاني معالم هذا العلم فيؤكد أن السلطة كانت مرتبطةً منذ البداية بالملكية أو التملك؛ فالسلطة التي بدأت بدايةً دينيةً يأتي معناها الأصلي من الملكية (فكلمة authority في الإنجليزية ونظيراتها في اللغات الهندو أوروبية؛ مشتقَّة من الكلمة اللاتينية auctor وتعني صاحب حق أو مالكًا كما استُعملت بهذا المعنى في قانون الألواح الاثني عشر) وكانت تطلق على جوبيتر في البداية لتعني أنه مالك البشر والمتحكِّم فيهم بوصفه مالك الآلهة والبشر على السواء، وتبع هذه السلطة الإلهية سلطة بشرية تمثَّلَت في التمرُّس على حرية الإرادة البشرية في التحكُّم في حركات الجسد وتوجيهها للأفضل، ومثال ذلك تحول العمالقة من ذوي العادات الوحشية إلى عاداتٍ أفضل عندما استقروا داخل كهوف، والسلطة البشرية تبعها سلطة القانون الطبيعي عندما استقر العمالقة وأصبحوا مالكين للأرض ومن ثم حكامها.

ثم يتناول فيكو النقد الفلسفي الذي نما مع تاريخ الأفكار والذي يلقي الضوء على البحث في أصل الآلهة، فكما أكد فيكو في مسلَّماته أن عدد الآلهة في كل الأمم الأممية هو اثنا عشر إلهًا ابتداء من جوبيتر، وهذا يعني اثنتي عشرة دورة زمنية نشأت فيها الأساطير، فالثيوجونيا الطبيعية (تسلسل نسب الآلهة) تُعطينا لوحة زمنية عقلية للتاريخ الشعري لمدةٍ لا تقل عن تسعمائة عام قبل التاريخ الشعبي الذي جاء بعد المرحلة البطولية.

وينتقل إلى القانون الطبيعي للأمم وأصحابه جروسيوس وسيلدن وبافندروف الذين كان يجب أن يبدءوا من البدايات الأولى للأمم حيث يبدأ الموضوع الذي يعالجونه، ولكن الثلاثة — في رأي فيكو — وقعوا في الخطأ وبدءوا بالعصور المتأخرة لشعوبٍ متحضرةٍ نشأ فيها الفلاسفة كما بدءوا من الفكرة الكاملة للعدل؛ لذلك يعالج فيكو فكرة القانون من منطلق الاشتقاق اللغوي لهذه الكلمة التي تؤكد النشأة الدينية للقانون؛ فكلمة ius أي قانون مشتقة من كلمة ious وتعني جوبيتر في اللغة اللاتينية القديمة. وعندما نشأت فكرة جوبيتر في عقول مؤسسي الشعوب الأولى نشأ معها العلم الإلهي، وعلى أساسه نشأت التنظيمات الدينية التي تولَّدت عنها كل التنظيمات الدنيوية، ومن هذَيْن النوعَيْن من التنظيمات نشأ التشريع.
وأخيرًا ينتقل فيكو إلى مبادئ التاريخ العالمي الذي بدأ منذ اللحظة الأولى للتنظيمات البشرية لدى الشعوب مع أولى المراحل الثلاث في العالم وهي المرحلة الإلهية حيث الأساطير التي روى فيها الشعراء بصدقٍ عن الطوفان العام والعمالقة، وهذه الأساطير هي بدايات التاريخ العالمي الذي عجز الباحثون المتأخِّرون عن معرفته لعدم قدرتهم على الدخول في عقول مؤسسي الأمم الأممية وعدم فهم خيالهم وكيف كانوا يفكرون؛ ولذلك يعتقد فيكو أن التاريخ العالمي يفتقد إلى البداية لافتقاره إلى الزمن العقلي للتاريخ الشعري.٢

(١-٢) المنطق الشعري

من الطبيعي بعد كل ما قلناه أن يؤكد فيكو أهمية اللغة؛ فهي تعكس مظاهر الحياة الاجتماعية للشعوب وتكشف عن الحياة العقلية ونوعية الأفكار المنتشرة فيها. وإذا كانت الشعوب الأولى قد أوجدت عالم الآلهة من الميتافيزيقا أو اللاهوت الطبيعي وتصور الشعراء اللاهوتيون الأجسام بوصفها جواهر إلهية، فإنها قد اخترعت اللغات من المنطق الشعري. اهتم فيكو — كما رأينا على الصفحات السابقة — بالاشتقاقات اللغوية التي تكشف عن أصول الكلمات؛ فأصل كلمة منطق كانت Logos وكلمة Mythos في اليونانية تعني الأسطورة، والبشر في العصور الأولى، كما يؤكد أفلاطون، كان حديثهم الطبيعي والصادق هو الأسطورة، ثم تطور معنى كلمة الأسطورة لتعني الفكرة. وكان من خاصية العصور الدينية الأولى أن تعلق أهمية كبرى على التأمل والتفكير أكثر من الخطابة أو الحديث؛ لأن اللغة في أزمنة الصمت الأولى التي مرَّت بها الأمم كانت لغة خرساء أو كانت لغة الإشارات والإيماءات والأشياء الطبيعية التي لها علاقة بالأفكار التي يُعبر عنها، وهي اللغة التي قال عنها سترابو٣ إنها وُجدت قبل اللغة المنطوقة. وطبقًا للمسلَّمة التي تنصُّ على أن الخيال يزداد قوةً كلما ضعفت القدرة على التفكير، أضفى الشعراء الأوائل العاطفة والحس على أشياء غير حيةٍ عن طريق المجازات والرموز وأساليب البيان، وأوضح أشكال المجاز هي الاستعارة؛ فكل استعارةٍ هي حكاية خرافية مختصرة وهذا يدل على العصر الذي ظهرت فيه الاستعارات في اللغات، وظهور الاستعارة في اللغة يُتيح لنا الفرصة للحكم على هذا العصر، وقد وجد في كل اللغات أن الاستعارات مستمدةٌ من الجسد البشري وأجزائه ومن الأحاسيس والعواطف البشرية. فمثلًا ترمز الرأس للقمة والكتفان للثقل والفم للأشياء المفتوحة والقلب للمركز والجسد للأرض … إلخ. وهذا يُثبت مسلَّمة فيكو التي تقول: إن الإنسان عندما يضل في الجهل يجعل من نفسه مقياس كل شيء.
يفرق فيكو بين الميتافيزيقا العقلية التي تقول إن الإنسان يحصل على الأشياء ويستوعبها عن طريق فهمها، بينما تقول الميتافيزيقا الخيالية إن الإنسان عندما لا يفهم يُضفي نفسه على الأشياء ويُصبح هو الأشياء نفسها عن طريق اندماجه فيها. وفي رأي فيكو أن المنطق الشعري للشعوب الأولى نشأ من هذه الميتافيزيقا الخيالية وهو منطق المجاز والاستعارة، الذي نشأ عن عجز الشعراء الأول عن تجريد الأشكال والخصائص الأساسية في الأشياء، وتحوَّلت الصور المجازية إلى استعاراتٍ عندما رُفعت الجزئيات إلى مصاف الكليات، وكذلك لم ينشأ فن السخرية إلا في العصور العقلية المتأخرة لأنها نوعٌ من الكذب الذي يكتسي قناع الحقيقة. وهذا يدل على مبدأ هامٍّ من مبادئ التنظيمات البشرية يؤكد الأصل الشعري، وهو أن الأمميين الأوائل كانوا في بساطة الأطفال الذين هم صادقون بطبيعتهم، فلم تكن الخرافات الأولى تدعي الكذب، وكانوا يعتقدون أن حكاياتهم حكاياتٌ حقيقيةٌ وصادقة،٤ كذلك نشأ فن المسوخ والتحولات الشعرية من هذه الطبيعة البشرية الأولى وهي عدم القدرة على تجريد الصور والخصائص الشعرية من الموضوعات. هكذا كانت كل المجازات أشكالًا ضروريةً للتعبير عند الشعوب الشاعرية الأولى، ثم أصبحت رمزية عندما نَمَت القدرة على التجريد مع تطوُّر العقل البشري، أي عندما اختُرعت الكلمات التي تدل على أشكال مجردة بمقارنة علاقة أجزائها وكلياتها. ويؤكد فيكو خطأ اللغويين الأول في زعمهم أن النثر حديثٌ طبيعي والشعر غير طبيعي، وأن النثر أسبق في الوجود من الشعر. وهو يُعارض هذا الرأي — كما سنرى في السطور التالية — ويُحاول إثبات أن الشعوب الأولى كانت شعوبًا شاعرية وبالتالي بدأت اللغة بداية شعرية، بل ذهب إلى أبعد من هذا فوضع نظرية في نشأة اللغات والحروف.

إن مسألة البحث في أصل اللغات غير مطروحةٍ في العصر الحديث لأنها أصبحت مسألةً ميتافيزيقيةً انتهى العلماء إلى صعوبة حسمها بصورةٍ نهائية، وقد اجتهد فيكو نفسه في إثبات أن اللغة بدأت شعرًا وأثَّر هذا على آراء الرومانتيكيين في القرن التاسع عشر، وبالرغم من أن نظريته يُشك الآن في قيمتها العلمية إلا أنها أثرت فترةً طويلةً على بحوث العلماء عن أصل اللغة، وهي تستحق على كل حالٍ أن نذكرها بشيءٍ من التفصيل؛ لأنها جزءٌ هامٌّ من تطبيقه لقانون تطور الأمم في ثلاث مراحل، وأيًّا كان الرأي في القيمة العلمية لنظرية فيكو عن أصل اللغات والحروف فلا يمكن إنكار قيمتها التاريخية.

يقدِّم فيكو نظريته في نشأة اللغات ويعارض الباحثين الذين يقولون إن أصل الحروف منفصلٌ عن أصل اللغات؛ فهو يرى أن الحروف واللغات مرتبطان بالطبيعة، فإذا كانت الحروف قد تشكَّلت لتعبِّر عن الأصوات المنطوقة بدلًا من الإشارات فقد وجدت عند كل الشعوب، ولكن إخفاق الباحثين وجهلهم ببداية اللغات والحروف جعلهم يخفقون أيضًا في معرفة الطبيعة الشعرية للشعوب الأولى، وكيف تحدثوا بالأساطير وكتبوا بالكتابة السرية والرمزية الهيروغليفية. ويرى فيكو أن الفلسفة يجب أن تتبنى هذه المبادئ في دراستها للأفكار الإنسانية. كما يجب أيضًا أن تكون مبادئ علم اللغة في دراسته للكلمات البشرية؛ لذلك يجب التسليم بهذه المبادئ التي يراها فيكو ضروريةً لفَهْم هذه الشعوب الموغلة في القدم، وهي أن البشر الأولين في الأمم الأممية يتصورون الأفكار بتخيُّل أن لها جواهر حيَّة وصامتة، وأنهم يعبِّرون عن أنفسهم بلغة مشتقة من البيئة الطبيعة أي البيئة الجغرافية التي لها تأثيرٌ قويٌّ على لغات الشعوب وعاداتهم.

ننتقل إلى نشأة المراحل الثلاث للغات فنجد فيكو يطبق فكرته الرئيسية التي أخذها عن المصريين القدماء عن مرور العالم بثلاثة عصور وارتباط هذه العصور بثلاثة أنواعٍ من اللغات هي الهيروغليفية (أي الإلهية المقدسة وهي خاصة بالعصر الإلهي) ثم اللغة البطولية (وهي اللغة الرمزية التي توافق عصر الأبطال) وأخيرًا لغة الرسائل (التي استخدمها البشر فيما بينهم لقضاء حاجاتهم). ويُثبت فيكو أن هذه اللغات الثلاث كانت موجودةً أيضًا في الفكر اليوناني، ويستشهد بنصوصٍ من هوميروس في ملحمتَيْه الإلياذة والأوديسة، فهناك نصٌّ في الإلياذة يؤكد أن «نسطور» عاش ثلاثة أجيالٍ من البشر تحدثوا بثلاث لغات.٥ واللغة الإلهية المقدسة (الهيروغليفية) تحدثت بها كل الشعوب القديمة. ويورد فيكو بعض الأمثلة لشعوبٍ تحدثَتْ بها قديمًا مثل المصريين والأثيوبيين في أفريقيا والكلدانيين والسكيثيين في الشرق … إلخ وبعض الشعوب ما زال يتحدث بها حتى الآن مثل الصين. ويعارض فيكو بهذا رأيًا ينسبه للمصريين القدماء بأن الهيروغليفية لغة اخترعها الفلاسفة ليُخفوا فيها غموض حكمتهم السرية المقتصرة على فئةٍ قليلة، ويدلِّل فيكو على صدق رأيه بنصوصٍ من الإلياذة والأوديسة يؤكد فيها هوميروس أن هناك لغةً أقدمَ من لغته (التي كانت بلا شكٍّ لغة بطولية) دعاها لغة الآلهة. هذه اللغة الإلهية سواء عند اليونان أو الرومان تُطابق اللغة الهيروغليفية عند المصريين، والنوع الثاني من الحديث الذي يُطابق المرحلة البطولية كان حديثًا رمزيًّا يستخدم ما أطلق عليه هوميروس Sémata٦ (أي العلامات والرموز)، ففي المرحلة الإلهية كانت الشعوب الأولى تتكلَّم بالرموز، ثم تتابعت الاستعارات والمجازات وكل وسائل التعبير الشعري التي مرَّ بها الحديث المنطوق إلى أن كان حديث الرسائل الذي نشأ بين العامة في الشعوب البطولية وهي لغة خاصة بالعصر البشري.

أما عن نشأة الحروف الشعبية فيرجعها فيكو إلى الرموز الرياضية والفلكية للكلدانيين، وقد استعمل الفينيقيون هذه الرموز الكلدانية كرموزٍ للأعمال التجارية، ثم انتقلَتْ إلى الإغريق عن طريق الشواطئ الإغريقية قبل عصر هوميروس، وأخذ الإغريق هذه الأشكال الهندسية لتمثل الأصوات المنطوقة المختلفة ثم شكلوها إلى حروفٍ ذات طابعٍ شعبي وأتموها، وقد تبنَّاها الإغريق لتشابهها مع حروفهم اليونانية القديمة، كما يؤكد تاسيتوس ذلك، والدليل على هذا أن اليونان استعملوا — لفترة طويلة — الحروف الكبيرة لتعبر عن الأعداد. واختلاف اللغات الشعبية باختلاف الشعوب يرجع لحقيقةٍ أساسيةٍ هي اختلاف مناخ الشعوب مما نشأ عنه اختلافٌ في العادات. ومن اختلاف الطبيعة والعادات نشأت لغات مختلفة، فكل شعبٍ نظر إلى ضرورات الحياة البشرية من وجهة نظر مختلفة؛ لذلك نشأت عادات عالمية وظهر هذا كمثالٍ واضح في الأمثال والحكم الشعبية التي عبرت عن مضمونٍ واحدٍ بأساليب مختلفةٍ لدى شعوبٍ مختلفة.

يواصل فيكو نظريته في نشأة اللغات والحروف ويفسِّر كيف تشكَّلت ثلاثة أنواعٍ من اللغات والحروف في ضوء مبدأ هامٍّ هو أن الآلهة والأبطال والبشر بدءوا في آنٍ واحدٍ (لأنهم كانوا بشرًا تخيلوا الآلهة واعتقدوا أن طبيعتهم البطولية مزيجٌ من الطبيعة الإلهية والبشرية) لذلك بدأت اللغات الثلاث في آنٍ واحد، وكان في كلٍّ منها حروفٌ تطوَّرت معها وبدأت بثلاث اختلافات هامة: أن لغة الآلهة كانت صامتةً تمامًا لا تحتوي إلا على نطق هزيل، أما لغة الأبطال فهي مزيج متساوٍ من اللغة المنطوقة والصامتة، وأخيرًا تأتي لغة البشر وهي بأكملها لغةٌ منطوقة؛ لذلك كانت اللغة الإلهية في البدايات مضطربةً إلى أبعد حد، وهذا سبب قوي في غموض الخرافات. ففي الوقت الذي تشكَّلت فيه فكرة جوبيتر كشخصيةٍ دينيةٍ (وهذه أول فكرةٍ بشريةٍ نشأت في العالم الأممي) بدأت اللغة المنطوقة تتطوَّر عن طريق تسمية الأشياء أو الأفعال بمحاكاة أصواتها onomatopoeia؛ لذا كانت أسماء جوبيتر في اللغات القديمة تحاكي صوت الرعد ووميض الضوء وصوت احتراق النار، وتكوَّنت الكلمات البشرية بعد ذلك من صيغة التعجب والدهشة، ونشأت أصوات منطوقة بدافع من الانفعالات القوية. فعندما نزلت أول صاعقةٍ من السماء وأيقظت الدهشة في البشر كان ميلاد أول صوتٍ بشريٍّ معبرًا عنه بلفظ pa ثم ضُعِّفت إلى pape، ومن هذا التعجب جاء اشتقاق لقب جوبيتر «أب البشر والآلهة» حيث كان الآلهة يدعون آباء والآلهات أمهات، وربما جاء من هذه الصيحة الأصل الاشتقاقي للفعل patrare بمعنى يعمل أو يصنع وهي صفة الله الصانع كما وردت في الكتاب المقدس.٧
هكذا نجد أن نظرية فيكو في نشأة اللغات والحروف تعتمد اعتمادًا كليًّا على اشتقاق الكلمات من صرخات الإنسان الأول نتيجة تعجبه من الظواهر الطبيعية، وهو يتابع نظريته في نشأة اللغات فيقر أنها بدأَتْ بكلماتٍ من مقطع واحد، فتشكَّلَت الضمائر من مقطعٍ واحد وكذلك حروف الجرِّ والوصل، ثم تشكَّلت الأسماء أيضًا من مقطعٍ واحد، ويدرج فيكو أمثلةً من اللغة اللاتينية في قائمةٍ كبيرةٍ من الأسماء اللاتينية التي بدأت في الحياة الرعوية واستمرَّت في الحياة الريفية ثم حياة المدينة الأولى، وقد أفرد لهذه الأمثلة فصلًا كاملًا من الطبعة الأولى للعلم الجديد يُعد نموذجًا للباحثين في أصل اللغات المختلفة. وأخيرًا تشكَّلَت الأفعال التي سبقتها نشأة الأسماء كما يحدث لدى الأطفال، فهم دائمًا يعبرون عن الأسماء ويتركون الأفعال إلى أن يصبحوا قادرين على الفهم، وكذلك كانت طفولة البشرية؛ لأن معرفة الأفعال تتطلب معرفة زمنية بالماضي والمستقبل وهما مقياس للحاضر الذي لا يقسم، حتى الفلاسفة أنفسهم وجدوا صعوبةً في فَهْم الحاضر؛ لذلك جاء فهم الأفعال وتشكيلها في مرحلةٍ متأخرة، وكانت في صيغة أوامر تتكوَّن من مقطعٍ واحدٍ يصدرها الآباء لأسرهم وأطفالهم مثل قف، اذهب، قل، اعمل … وهكذا.٨ هذه النظرية في نشأة اللغات تؤكد مبادئ الطبيعة البشرية العامة وتتطابق أيضًا مع مسلَّمة فيكو الأساسية التي تنص على وجوب أن تبدأ اللغات بكلماتٍ من مقاطع واحدة. وقد نشأت اللغات من مقاطع واحدة نتيجة لفقر اللغة في بداية البشرية، ثم انتقلت إلى بناء جمل مركبة مع تطور اللغات بتطور العقل البشري. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن الأبحاث الحديثة لعلماء اللغة أثبتت خطأ هذا الرأي، فهناك لغات تتكون من مقاطع واحدة — مثل اللغة الصينية على سبيل المثال — ومع ذلك فهي لغات غنية بالمفردات، هكذا نشأ الأسلوب الشعري — في رأي فيكو — من فقر اللغة والحاجة إلى التعبير فكان الاستطراد، والعكس (أي التغيير في الوضع الشعري للكلمة وقد نشأ من صعوبة استكمال العبارة بالأفعال التي تكوَّنَت في المرحلة الأخيرة) والإيقاع، والأغنية والشعر. ثم ظهر الأسلوب النثري بعد ذلك عن طريق الخطباء مثل جورجياس لدى الإغريق وشيشرون لدى الرومان. وبهذا يكون الأسلوب الشعري قد نشأ قبل الأسلوب النثري مثلما نشأت التصورات الخيالية (الأساطير) قبل التصورات العقلية (الفلسفة).
ويؤكد فيكو أن اللغات بدأت بالغناء اعتمادًا على خاصية طبيعية لدى البشر، وهي أن الإنسان ينطق الأصوات المتحركة أولًا لسهولتها ثم ينطق الأصوات الساكنة. ويشهد على ذلك الإدغام الموجود في غناء الشعوب الأولى؛ فالإنسان الأول عبَّر عن عواطفه وانفعالاته بصوتٍ مرتفع، وعندما يرتفع صوت الإنسان عاليًا يتحوَّل بطبيعة الحال إلى الإدغام والغناء. وغناء الشعوب نشأ عن صعوبة النطق في البداية؛ لأن أعضاء النطق لم تكن قد تطوَّرت تطورًا كافيًا. ومما يؤكد أن اللغات بدأت بالغناء أن كُتَّاب النثر الإغريق والرومان قبل جوجياس وشيشرون استخدموا إيقاعات تكاد تكون إيقاعات شعرية خالصة وكأن نثرهم قد أُعد للغناء. هكذا بدأت الأمم الأممية بالشعر، وليس أدل على ذلك من أن بحور الشعر ازدادت سرعة واقترابًا من النثر بقدر ما أصبحت قدرة الأولين على النطق أسرع، أي ازداد الإيقاع الشعري سرعة مع النمو العقلي ونمو أعضاء النطق فانتقلت البحور شيئًا فشيئًا من البحر «السبوندي» إلى البحر «الدكيتلي» إلى البحر «اليامبي» حتى اقترب هذا البحر الأخير من النثر. وقد نشأت أبيات الشعر الأولى عند الشعوب مع لغة الأبطال وعصرهم. والتاريخ يؤيد هذه الفكرة إذ يقرِّر أن نبوءات العرافين والعرافات كانَتْ أقدم اللغات جميعًا. ومن المعلوم أن الكهنة والعرافين قد وُجدوا في كل الشعوب، ومن المأثور أيضًا أنهم كانوا ينطقون بشعرٍ بطوليٍّ وأن النبوءات كانت تأتي في شعر بطولي ذي أوزان سداسية. ويشير فيكو إلى الأدب العبري والعربي؛ فالعبرانيون بدءوا بالشعر البطولي بدليل أن سِفْر أيوب وهو أقدم من أسفار موسى قد كُتب في البداية على صورة شعر بطولي. أما العرب فقد حافظوا على تراثهم الشعري عن طريق الرواية الشفهية وذلك قبل أن يعرفوا الكتابة والتدوين. ونقش المصريون القدماء أخبار موتاهم شعرًا في أعمدة، كما أن الآشوريين والسُّريان قد بدءوا كلامهم شعرًا، ولا شك أن مؤسسي الحياة الإغريقية كانوا هم الشعراء اللاهوتيين الذين كانوا أبطالًا. ونفس الشيء يُقال عن آباء اللغة اللاتينية Salii وقد كانوا شعراء مقدسين، وفي هذا يقول شيشرون إن الأطفال تعلَّموا قانون الألواح الاثني عشر بطريق الغناء.٩

ويستخلص فيكو من هذا أن جميع الشعوب البربرية قديمة أو حديثة حفظت تاريخها الأول في صورةٍ شعرية، ومعنى هذا أن الشعوب الأولى كانوا شعراء. وهناك خاصية مشتركة في كل اللغات الأولى وهي أنها جميعًا — كما ذكرنا — قد بدأت بالأسماء ثم تشكلت الأفعال فيما بعد. وهذا يُثبت خطأ اللغويين الذين قالوا إن الحديث النثري سابق على الحديث الشعري. واستمرَّ الخطاب الشعري لفترة طويلة في الدورة التاريخية. وهذا يوضح أمورًا هامة تتعلق بالعصور القديمة مثل عادات هذه الشعوب وتقاليدها والحكم والأمثال والقوانين والتنظيمات الاجتماعية. فطبقًا لمسلَّمة فيكو التي تقول بميل العقل البشري إلى كل ما فيه وحدة ونظام نجد لدى عامة البشر نزعة طبيعية لخلق شخصيات شعرية بالتصور الخيالي، مثلما نسب الإغريق لصولون الحكمة الشعبية وعدُّوه من الحكماء السبعة لأنه حث العامة على المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية مع النبلاء. كذلك فعل الرومان مع روميلوس فنسبوا له كل القوانين المتعلقة بالطبقات الاجتماعية، والمصريون القدماء مع هرميس مثلث الحكمة، كما حدث نفس الشيء مع زرادشت في الشرق وكونفوشيوس في الصين.

ومع نشأة اللغات نشأ التشريع أيضًا نشأة دينية مع الأوامر والنواهي الدينية، فكانت التشريعات الأولى في شكل نبوءات إلهية، ثم كان اختراع الرموز والأسماء والحروف ضرورة تتطلَّبها تحديد الملكية الشخصية لآباء الأسر التي تفرعت منها العديد من الأسر. ومما يشهد على هذا أن المعنى الأصلي لكلمة ius (وهي تعني القانون في اللغة اللاتينية) كانت تعني قبل كل شيء لحوم الضحايا التي تُقدَّم لكبير الآلهة، ثم أصبحت تعني سلطة التملُّك حيث إن كل شيء ملك لجوبيتر. لقد كانت السلطة في أصلها تعني الملكية — كما سبق أن عرضنا ذلك في الميتافيزيقا الشعرية — وقد عبر شيشرون عن هذا في خطبة قال فيها: إنها تعني الملكية المطلقة الحرة من كل دين.١٠ وكان حق الملكية هو حق الأقوى المتصرف تصرفًا كليًّا في ملكه؛ لأن الحق كان مرادفًا للقوة في العصور الأولى من تاريخ العالم. وكان حق الملكية في البداية وقفًا على آباء الأسر.
وأخيرًا نشأ منطق المتعلمين الذي يبدأ من المحسوس الجزئي ومن الحالات الخاصة لكي يصل إلى التعميمات والكليات مع تطور العقل البشري. ويضرب فيكو لذلك مثلًا على طفولة العقل البشري التي تشبه طفولة الإنسان؛ فالطفل قادرٌ على التقليد والمحاكاة لأن خياله وحسه يتميزان بالحيوية ويرتبطان بالمحسوسات؛ لهذا كانت الفنون أسبق من الفلسفة، كما كانت الفلسفات أسبق من العلوم. ويقدم فيكو بعض الأمثلة من تطور العقل البشري اليوناني فيقول إن أيسوب Aesop١١ الذي سبق الحكماء السبعة كان يعلم الناس بالحكمة والمثل لأنه فيما يقول فيكو كان يحيا في العصر الشعري ويفكِّر من خلال الحالات الجزئية المحسوسة التي تُقنع عامة الناس أكثر مما يُقنعهم التفكير العقلي. ثم جاء سقراط بعد أيسوب فأدخل الجدل واستخدم الاستقراء في جمع الأحوال الجزئية للتوصل منها إلى المبادئ العامة. وهكذا تفوَّقت أثينا في عهد سقراط وأفلاطون في جميع الفنون وازدهر فيها الشعر والخطابة والتاريخ كما ازدهرت الموسيقى والرسم والنحت والعمارة. وكل هذا دليلٌ على أنها كانت لا تزال في حالة التفكير الاستقرائي بالأمثلة والحالات الجزئية. ثم جاء أرسطو بمنهجه ومنطقه الصوري الاستنباطي وخصوصًا القياس الذي يستدل من الكلي على الجزئي، أي الذي يستنبط الحالة الجزئية من القضية الكلية بدلًا من الجمع بين الجزئيات للحصول على الكليات، ولكن هذا المنهج فيما يزعم فيكو لم يفد الجنس البشري أية فائدة؛ ولهذا كان فرنسيس بيكون على حقٍّ عندما دعا في كتابه «الأورجانون الجديد» إلى المنطق الاستقرائي وأكَّد أهميته.١٢

(١-٣) الأخلاق الشعرية

نشأت الأخلاق الشعرية لدى الأمم الأممية من فكرة الخوف من الإله، وهذه الفكرة ليس مصدرها العقل بل الأحاسيس والانفعالات؛ فالعمالقة الذين خافوا رعد السماء بدءوا يغيرون من عاداتهم الوحشية كالجماع في العراء واكتسبوا عاداتٍ أخرى، فأخذوا يختبئون في الكهوف ويشعرون بالخجل — الذي وصفه سقراط بأنه مظهر الفضيلة١٣ — ومن ثم نشأ نظام الزواج من امرأةٍ واحدة، وانبثقت الفضائل الأخلاقية من الدين الذي نشأ بدوره من فكرةٍ أساسية لدى الأمم الأممية وهي الخوف من كبير الآلهة. لقد نشأ نظام الزواج — كما ذكرنا من قبل — من فكرة الألوهية. ففي هذه العصور الأولى نجد أن الدين علَّم الناس الذكاء ليفهموا نبوءات جوبيتر، وعلَّمهم أن يكونوا عادلين تجاه الإله وتجاه بعضهم البعض، وأن يكونوا متعففين بحيث يكتفي الرجل بامرأةٍ واحدةٍ طوال عمره، وعلَّمهم أن يكونوا أقوياء كما علَّمهم كرم النفس. ولم تكن اللذة هي قانون العصور الأولى كما يدَّعي بعض الكُتَّاب؛ لأن عصر الشعراء اللاهوتيين هذا لم يجد متعة إلا فيما هو نافع ومفيد.١٤ ولكن فيكو يرى أن فضائل ذلك العصر الأول كانت مزيجًا من التديُّن والقسوة والوحشية. وهذه الأخلاق نفسها التي تمتزج فيها الخرافة بالقسوة هي التي انحدر منها تقليد التضحية بالبشر وتقديمهم قرابين للآلهة. ويؤكِّد فيكو أن هذا العصر الأول للشعوب الأممية كان أبعد ما يكون عن البراءة؛ فقد كان عصر التعصُّب للخرافات، ولكنه يؤكد في النهاية أن الألوهية هي التي حدَّت من حالة التوحُّش الأولى. وإذا كان فيكو يزعم أن تقليد التضحية بالبشر وتقديمهم قرابين للآلهة كان تقليدًا لدى جميع الأمم الأممية، فإن هذا الرأي ليس صحيحًا؛ لأن هناك العديد من الحضارات لم تكن لديها هذه العادة ومنها الحضارة المصرية القديمة.
أما عن الأخلاق في العصر البطولي فقد عرضها فيكو في الفصل الثامن من السياسة الشعرية. وهو في هذا العرض يواصل تأكيده أن هذه الأخلاق البطولية كانت مختلفة تمام الاختلاف عمَّا تخيَّله الفلاسفة المتأخرون عنها متأثرين بعلمهم وحكمتهم عندما تصوروا مثلًا نوعًا من العدالة السقراطية لم يكن له وجود، كما تصوروا مجدًا نسبوه لكل من أحسنوا للجنس البشري، وتخيلوا أنهم خالدون وكأنما كانت مهمة كل الملوك والأبطال القدماء هي إسعاد الفقراء الذين يمثِّلون الغالبية العظمى من السكان في كل مدينةٍ أو أمة! ويوضِّح فيكو على ضوء أمثلةٍ يستقيها من هوميروس ومن الأساطير القديمة؛ أن الأبطال القدماء كانوا أفظاظًا قساة القلوب، وأن تربيتهم لأبنائهم بلغت الغاية من الغلظة والبشاعة. ويكفي أن شخصية أخيل — أعظم أبطال الإغريق — كما يخبرنا عنه هوميروس تكشف عن ثلاث خصائص تعارض الأفكار الثلاثة التي تصورها الفلاسفة المتأخرون عن أخلاق الأبطال. ونبدأ بالعدالة فنرى كيف أن هيكتور — البطل الطروادي — اقترح على أخيل أن يقوم المنتصر في الحرب بدفن المهزوم، ولكن أخيل ينسى المصير البشري المحتوم ويشمخ بأنفه على بطل مثله ويُجيبه هذه الإجابة الوحشية: «متى تحالف الناس مع الأسود وأين كان الذئاب متفاهمين مع الحملان، إذا قتلتك فسوف أربط جسدك العاري في عربتي وأجره ثلاثة أيام حول أسوار طروادة ثم أقدم جسدك لكلاب صيدي لتأكله.»١٥ وهذا ما فعله أخيل بالفعل عندما قتل هيكتور حتى افتداه أبوه العجوز ودفنه بنفسه. أما عن المجد الذي وصفهم به الفلاسفة والعلماء المتأخرون فإن أخيل نفسه يعتبر أن الآلهة والبشر قد عاملوه معاملةً سيئة، ويطلب من زيوس أن يرد له اعتباره وشرفه، بل إنه يسحب رجاله وسفنه من جيش الإغريق وبذلك يعرِّض مواطنيه لمذبحةٍ كبيرة، وكل هذا لأن أجاممنون خطف منه حبيبته. هكذا انتقم من مواطنيه بل أحس بالشماتة في المذبحة التي وقعت لجيش الإغريق ولم يعبأ بمجد الوطن. أما عن رغبة القدماء في الخلود فلم تكن كذلك صحيحة؛ فالأوديسة تروي لنا أن أوديسيوس سأل أخيل إن كان سعيدًا في العالم السفلي فأجابه قائلًا: «إنه يفضل أن يكون عبدًا حقيرًا في أرض الأحياء على أن يكون ملكًا متوجًا في عالم الموتى.»١٦ ويتهكَّم فيكو على تلك الأخلاق البطولية التي كانَتْ هي أخلاق البطل الذي تغنَّى به هوميروس وجعله مثلًا أعلى للفضيلة البطولية. وأقصى ما يُقال فيها أنها أخلاق الفرسان المتجولين والمغرورين في العصور البربرية الجديدة.
ثم ينتقل فيكو إلى العصر البطولي الروماني فنجد نفس الشيء ينطبق على فضائل الأبطال ابتداءً من نهاية الملكية إلى نهاية الحرب القرطاجية الثانية وهو العصر الذي قال عنه المؤرخ ليفيوس (٥٩ق.م. إلى ١٧م) إنه لم يُوجَد عصرٌ مثله أنتج مثل ما أنتج من الفضائل. ولا داعي لأن نذكر الأمثلة العديدة فكلها تدل على أن أبطال الرومان كانوا يرتكبون أفظع الجرائم من حرقٍ وصلبٍ وإعدامٍ … إلخ باسم الحرية والشرف العسكري ومجد روما. ويتساءل فيكو ماذا فعلوا في سبيل إسعاد العامَّة؟ لقد أثقلوا كاهلهم بالديون وأغرقوهم في الحروب وحكموا عليهم بالحياة في سجون النبلاء وحرموهم كل القوانين التي ترفعهم فوق مرتبة العبيد. وقد تكرر نفس الشيء في إسبرطة بلد أبطال الإغريق التي حُكم على ملكها العظيم أجيس Agis بالشنق لمجرد إشاعة رُويَت عنه. ولا شك أن التاريخ الروماني مع تاريخ إسبرطة يُقدِّمان أمثلةً أخرى مذهلةً عن أخلاق الأبطال «وتواضعهم» وعدالتهم «ورحمتهم».١٧ أما عن أخلاق الأبطال في تربية أولادهم فلا نرى بنا حاجةً لذكر الأمثلة التي تدل على ما وصلت إليه من القسوة والغلظة بحيث كان الآباء يضربون أبناءهم حتى الموت لمجرد ضعفٍ طارئ أو إخلالٍ بسيط في النظام العسكري. كل هذا ارتبط بنظام الحكم الذي كان بطبيعته أرستقراطيًّا يتألَّف من الحكام الأقوياء كما كان الوطن حكرًا على آباء الأسر وهم الأبطال النبلاء.
ثم ينتقل فيكو بعد ذلك إلى عرض الأخلاق البشرية التي يمر عليها للأسف مرورًا سريعًا. فبعد قيام النظم المدنية أصبح النظام البطولي بكل عاداته وقوانينه ومؤسساته مستحيلًا، وظهرَت نظم الحكم الشعبية والملكية التي أكَّد فيكو أكثر من مرةٍ أنها (خصوصًا الملكية) أكثر إنسانية.١٨ ففي ظل الملكيات يكون الأبطال هم أولئك الذين يضحون بأنفسهم في سبيل مجد الملوك وعظمتهم، كما يسمَّى البطل بطلًا لأنه يهب حياته في سبيل العدالة وخير البشرية. ومع ذلك يحترس فيكو فلا يبالغ في فضائل الأخلاق الإنسانية وإنما يؤكد أن مثل هذا البطل الإنساني ينشأ من طبيعة الحياة المدنية التي تقوم (كما أكد في مسلَّمة رقم ٨٠) على مبدأ المنفعة قبل كل شيء وخصوصًا في ظل النظام الإقطاعي. وهكذا ينتهي فيكو إلى أن الأخلاق البشرية قائمةٌ على مبدأ المنفعة المتبادلة، وربما يكون قد تأثَّر في هذا بنظرة هوبز المتشائمة.

(١-٤) الاقتصاد الشعري

إن المجتمعات البشرية الأولى تأسَّست بناءً على نظامٍ اقتصاديٍّ معين، ويُبيِّن فيكو بوضوح كيف تكونت الأسر الأولى في العصور المبكرة على أساس اقتصادي؛ فقد أدرك الأبطال بالأحاسيس البشرية حقيقتَيْن هما: التربية الروحية والتربية الجسدية. أما عن التربية الروحية فقد بدأت بطريقةٍ معينةٍ تشكل الروح الإنسانية التي كانت مغمورةً في أجسام العمالقة الضخمة، فكان الآباء البطوليون هم حكماء البشر في الحكمة الشعبية، وكانوا بدورهم كهنةً لهم حق تقديم القرابين للآلهة لتلقي النبوءات، وهم حاملو القوانين الإلهية لأسرهم فكانوا ملوك المرحلة البطولية. وهنا يقرب فيكو بين عالم الطبيعة وعالم البشر، أي أن حيوانات العالم الأول تُصبح بشرًا في عالم الأمم؛ فهؤلاء العمالقة كانوا يحتاجون إلى قوةٍ إلهيةٍ لتحويلهم من حالة التوحُّش إلى الحالة البشرية. والحقيقة الأخرى التي قام عليها نظام الأسرة هي كما ذكرنا التربية الجسدية؛ فقد بدأ الآباء تشكيل الجسد البشري من أجسام أبنائهم العمالقة غير المتجانسة. هؤلاء العمالقة الذين ضلوا في الأرض وطاردوا النساء واخترقوا الغابات هربًا من الوحوش الضارية، بدءوا يتجمَّعون من خلال بحثهم عن الطعام والماء وبدءوا يستقرون مع نسائهم في البداية في كهوفٍ ثم في أكواخٍ قريبة من منابع المياه. ومع استقرار الأبطال في أراضٍ محددة بدأَت الزراعة وبدأ الاقتصاد الأسري من الوراثة، أي أن يورث الآباءُ أبناءهم كل ما يملكون من مساكن وأراضٍ حول منابع المياه ويورثوهم مزارعين لفلاحة الحقول.١٩ وكان الأقوياء من البشر يؤسِّسون مدنهم فوق قمم الجبال حيث الجو الصحي والمواقع الطبيعية القوية. ثم أسسوا مدنًا قريبة من منابع المياه الدائمة التي منها نشأَتْ أول جماعات ذات تنظيم مشترك. ومن تجمع العائلات والأسر حول منابع المياه بدأ التزاوج بين هذه الأسر لأن الزواج الأول تم بين رجلٍ وامرأةٍ كانا يشتركان في نفس المياه والنار، ويستشهد فيكو على ذلك ببعض العادات والتقاليد المصاحبة لطقوس الزواج في معظم الشعوب التي كانت تُستخدم فيها النار والمياه. وكان الزواج هو النوع الأول من الصداقة في العالم؛ فكلمة الصداقة في اليونانية Philia مشتقة من أصل كلمة حب Phileo.٢٠ هذه التنظيمات أوجدتها العناية الإلهية من خلال العادات البشرية لا من خلال القوانين لتدفع البشرية المبكرة الدفعة الأولى نحو اكتمال إنسانيتها، فكان ترويض العمالقة على الحياة البشرية بدافعٍ من العقيدة والرغبة الطبيعية في بقاء الجنس البشري.
وتكوَّن المجتمع الأسري الذي كان أول شكلٍ من أشكال المجتمع البشري، ولكن المجتمع بالمعنى التام — الذي يقوم على مبدأ المنفعة — لم يبدأ إلا بظهور طبقة العبيد التي تكوَّنت من العمالقة العصاة الذين استمروا في اختلاطهم البهيمي بالأشياء والنساء واضطرتهم قسوة الظروف الطبيعية إلى التماس النجاة في أماكن مسكونةٍ فلجئوا إلى أراضي مجتمع الأسر؛ طلبًا للحماية، وأصبحوا بمثابة عمال أو عبيد لدى الأبطال. عاش هؤلاء العمالقة حياة العبودية وأطلق عليهم اسم الأتباع Clientes إذ كان أولاد الأبطال وحدهم الأحرار. بهذا تشكَّل المجتمع من طبقتَيْن: الأبطال الذين يمثلون طبقة النبلاء، والأتباع وهم العبيد الذين يحرثون الأرض ويزرعونها. وبهذا التنظيم الزراعي ظهر أول مجتمع إقطاعي في العصور الأولى. فطبقة النبلاء قامت على النظام الزراعي، لا عند الشعوب البربرية القديمة فحسب؛ بل كذلك في العصور البربرية الثانية، ثم تأسَّسَت المستعمرات البطولية والمدن التي كانت في الأصل أماكن مقدسة لجأ إليها البشر بحثًا عن الأمان مثلما أسس كادموس مدينة طيبة أقدم مدينة يونانية، وكما أسس روميلوس مدينة روما … إلخ.
أما عن المعاملات الاقتصادية فكانت المقايضة هي قانون الاقتصاد عن الأمم الأممية التي كانت تشغلها ضرورات الحياة ولم تكن تعرف التعاقد فلم يلجئوا إلى المال في معاملاتهم الاقتصادية بل إلى نظام المقايضة. وكان القول بمثابة تعهدٍ أو التزامٍ بنقل الملكية كما أكد ذلك قانون الألواح الاثني عشر. ونستخلص من طبيعة هذه التنظيمات البشرية الحقائق التالية: «أن نظام المقايضة لم يكن مقصورًا على البيع والشراء فقط بل امتد إلى مقايضة الأراضي ليتم تبادل المحاصيل المختلفة.» «ولم يكن نظام تأجير المنازل معروفًا بل كان ملاك الأراضي يؤجرون أراضيهم للبناء.» «وكان تأجير الأرض قائمًا على حق الاستزراع وهو ما يسمى باللاتينية Clientela (أي حق الاستزراع) ومن ثم فإن كلمة Clientes (أي أصحاب الحق في الاستزراع) جاء من كلمة Clientes (أي الحارثين الزراعيين).» «لم يُعرف نظام المشاركة في هذه العصور وكذلك لم يُعرف نظام التوكيل أو التفويض، أي أن القاعدة التي كان يقوم عليها القانون المدني القديم هي «لا يصح للإنسان أن يحصل على شيءٍ بواسطة شخصٍ غير خاضع لسيطرته».»٢١ وهكذا كانت صورة الاقتصاد في العصور الأولى التي لم تكن لديها قوانين مدنية بل بدأ القانون بداية أسطورية. ونلاحظ في الختام أن فيكو لم يطبق قانونه على المرحلة الثالثة من مراحل التطوُّر وهي المرحلة البشرية؛ فقد تناول النظام الاقتصادي في المرحلة الأولى ثم أفاض في الحديث عن الاقتصاد البطولي الذي يمثل المرحلة الثانية، ولكنه مر مرورًا سريعًا على المرحلة الثالثة التي افتقرت إلى التطبيق والأمثلة، ولم يعتمد على أمثلةٍ واقعيةٍ غير الأمثلة التي استقاها من هوميروس وغيره. والواقع أن أهمية النظام الاقتصادي عند فيكو ترجع إلى أنه يعد أساسًا للسلطة السياسية، وهذا ما سنعرضه بالتفصيل في السطور التالية:

(١-٥) السياسة الشعرية

حشد فيكو مجموعةً هائلة من الأمثلة التي استمدَّها من الأساطير اليونانية والرومانية ليدلِّل على نشأة النظام السياسي في العصور المبكرة، كما تعرَّض بالتفصيل لجوانب دقيقةٍ من هذه الأساطير … وقد حاولنا أن نستخلص العناصر الأساسية التي تتصل بتطبيق قانون تطور الأمم على الحياة السياسية في الشعوب الأولى، كما حاولنا تهذيب هذا الفصل باستبعاد التفاصيل الجانبية التي أفرط فيكو في سردها لاستخلاص المعالم الأساسية للحياة السياسية وكيف قامَتْ على أساسٍ اقتصادي.

رأينا في الاقتصاد الشعري كيف تكوَّنت الأسر واتحدت وكوَّنَت المدن التي تألَّفَت من طبقتَيْن: طبقة النبلاء وهم الأبطال وطبقة العبيد أو الأتباع الذين لم يكن لهم حقٌّ إلا في ضرورات الحياة. وكان نظام الحكم في تلك العصور لآباء الأسر بمقتضى السلطة الأبوية حيث كان لهؤلاء الآباء حق السيطرة على حياة أبنائهم، ثم تحرَّر الأبناء من هذه السلطة الأبوية بعد موت آبائهم. وفي الجانب الآخر واصل العبيد مرحلة العبودية إلى أن مرَّت حقبةٌ طويلة من الزمن وبدأ العبيد في التمرُّد على النبلاء للمطالبة بالمساواة معهم في الحقوق. وهذا التطوُّر التاريخي يُثبت مسلَّمة فيكو الأساسية التي تنصُّ على أن الإنسان بطبيعته يتوق إلى الحرية، فكانت ثورة العبيد ضد الأبطال. من هنا نشأت الحكومات، فتحت ضغط الضرورة وجد النبلاء أنفسهم في صفوفٍ مسلحة وتحالفاتٍ مشتركةٍ ضد المتمردين من العبيد فتكوَّنت بذلك النظم الأرستقراطية. ويستدل فيكو على تطور نظم الحكم من الأساطير اليونانية والرومانية القديمة. فقد كان الحكم في المرحلة الأسرية حكمًا ملكيًّا مثلما كان جوبيتر ملك الآلهة والبشر، ثم كان ميلاد مينرفا Minerva (أثينا عند الإغريق) من رأس أبيها إيذانًا بتغيير نظام الحكم الملكي في دولة الأسرة إلى نظام الحكم الأرستقراطي في دولة المدينة. وقد كان هذا النظام هو المفضل لدى الإغريق والرومان؛ لذلك أطلق الشعراء اللاهوتيون على كلٍّ من أثينا ومينرفا اسم إلهة الحكمة.٢٢ وكانت مينرفا تعني النظم الأرستقراطية المسلحة. وقد أكد هوميروس ذلك في أشعاره عندما صوَّر لنا كيف قذفت مينرفا مارس (إله الحرب عند الرومان) بحجرٍ أثناء صراعهما (وقد كان مارس شخصيةً ترمز للعامة التي تخدم الأبطال في الحروب) لقد كان صراع مينرفا ومارس تعبيرًا عن صراع النبلاء والعامة. كذلك يشير أرسطو في نصٍّ ذكره فيكو أكثر من مرة إلى أن النبلاء أقسموا على العداء الأبدي للعامة.
لعل أهم ما قدَّمه فيكو في السياسة الشعرية هو تحليله الدقيق والعميق للصراع الطبقي الذي يشكل هيكل المجتمعات البشرية عندما شعر النبلاء بالحاجة إلى الآخرين لخدمتهم، واضطروا لاسترضاء العبيد العصاة فأرسلوا لهم السفراء مع أول قانون زراعي في العالم. وبمقتضى هذا القانون منحوا هؤلاء التابعين إقطاعاتٍ من الأرض، ولكن بشرط أن ترد هذه الأرض مرة أخرى إلى النبلاء إذ لم يكن لهؤلاء العبيد حق المواطنة، ثم كان القانون الزراعي الثاني الذي منحه النبلاء للعامة من خلال قانون الألواح الاثني عشر، فحصل العبيد على ملكية مؤقتة للأراضي لأنهم ظلوا محرومين من الملكية المدنية، ولم يكن لهم حق توريث أراضيهم ولا الحق في عمل وصية، فكان من الضروري أن تعود الأرض مرة أخرى للنبلاء. ثم بدأ العامة بعد ذلك يطالبون بحق المواطنة التي حصلوا عليها وإن ظلوا كذلك محرومين من الدخول في علاقات زوجية مع طبقة النبلاء. هكذا نشأت المجتمعات الأولى نشأةً أرستقراطيةً إقطاعيةً لأن كل المجتمعات البشرية لا بد أن تقوم على مبادئ إقطاعية دائمة، وهذه المبادئ قامت على أساس ثلاثة أنواع من الملكية تتطابق مع ثلاث فئات من البشر؛ النوع الأول يسمى Bonitary ownership وهو نوعٌ من الملكية يقوم على أساس الهبة أي أراضٍ ممنوحة للعامة، ولا تتجاوز ملكيتهم ملكية المحاصيل؛ أما النوع الثاني فيسمَّى Quiritary ownership وهي ملكية النبلاء الأبطال لإقطاعاتٍ مسلحة لأن الممالك البطولية كانت كهنوتية، كما أن الأبطال مثلهم مثل الكهنة كان لهم حقُّ استقطاع أراضٍ معفاة تمامًا من الديون أو الضرائب العامة والخاصة، فعندما وحد الأبطال أنفسهم في صفوفٍ مسلحةٍ وتكوَّنت نظم الحكم البطولية أصبحت الأراضي خاضعةً لسيادتهم على أساس أنهم وحدهم هم الأحرار، فالحرية كانت مقصورةً على ملاك الأراضي فقط؛ وأخيرًا نصل إلى النوع الثالث الذي يسمَّى Civil ownership أي الملكية المدنية، وهي ملكيةٌ كاملة. فعندما تكوَّنت المدن البطولية بسط الأبطال سلطانهم على الأراضي التي زعموا أنها وصلت إليهم عن طريق الآلهة، وأضافت السلطة الحاكمة إلى ألقابها عباراتٍ تدل على أنهم تملَّكوا أراضيهم بفضل الآلهة وعنايتهم. من هنا يرى فيكو أنه لو سقط الإيمان بالآلهة أو العناية الإلهية لَسقطَتْ كل نظم الأبطال؛ إذ إن كل أشكال التديُّن من الوثنية إلى اليهودية، فالمسيحية وأخيرًا الإسلام تؤمن بالعناية الإلهية٢٣ هكذا استمدَّ الأبطال قوتهم من ملكية الأراضي التي تحيط بالمدن، وقام النظام الإقطاعي على حماية القوي للضعيف؛ لذا يُقْسم النبلاء بالآلهة ويُقْسم العامة بالأبطال. وفي ظل هذا النظام الإقطاعي كان من حق الملوك الأبطال (وهم السلطة الإلهية الحاكمة التي أسست المدن) أن يتصرَّفوا في الرعايا سواء في أشخاصهم أو ممتلكاتهم، وكان من حقهم أيضًا أن يفرضوا عليهم ما شاءوا من الضرائب.
ويقدم فيكو من الحضارة الرومانية والحضارة المصرية القديمة بعضَ الأمثلة التي تدلُّ على وجود هذه المبادئ الإقطاعية في كل المجتمعات القديمة؛ فقد عرف الرومان أن التجمُّعات البشرية أو الحكومات نشأَتْ من هذه المبادئ الخالدة التي حددت الملكية، وإذا لم يكونوا قد أدركوا ذلك بالعقل فقد أدركوه بالحدس؛ إذ كانوا يضعون أيديهم على الأراضي بمقتضى هذه الصيغة: «أعلن أن هذه الأراضي ملكي بحق أنني مواطنٌ صاحب حقوق كاملة.» (أي Quirites أو حق المواطنة) بهذه الصيغة كانوا يُقيمون الدعوى المدنية للدفاع عن حق ملكية الأرض كاملة بما عليها من مزارع وبشر … إلخ؛ لذا خلقوا شخصية الإله ميركوري Mercury (هيرمس عند الإغريق) وهو حامل القوانين ورسول الآلهة وتصوَّروه رسولًا مجنحًا. وكانت أجنحته تدل على النظم البطولية وعصاه تدل على السيطرة على الأراضي والحقول، وهو الذي ينظم الرعية تحت سيطرة الأبطال. أما عند المصريين القدماء فقد كان الإله «توت» ومعه الثعابين رمز الأرض المزروعة وفي يده صولجان يرمز إلى أن الحكم للكهنة، وعلى رأسه قَلَنْسُوة ترمز لسيطرة الكهنة على الأرض.
هكذا كانت طبيعة التنظيمات الاجتماعية البشرية الأولى التي تأسَّست فيها المدن على الحكم الأرستقراطي الإقطاعي حيث الصراع الدائم بين النبلاء والعامة، فلم يكن للعامة حق المواطنة باعتبارهم أجانب أو أغرابًا، وليس من حق الغريب أن يمنح لقب المواطنة. وبهذا تعرَّضوا لنوعٍ من الحرمان ولم يكن لهم الحق في المشاركة في التنظيمات الدينية ولا حق الاحتفال بطقوس الزواج، وعاشوا أشبه بالضيوف والأغراب في المدن البطولية، فلا عجب أن كان العامة حريصين على تغيير شكل الحكومات لتغيير الوضع الطبقي. أما النبلاء في الجانب الآخر فكانوا يتصورون أنهم مقرَّبون من الآلهة ولهم حق الاحتفال بطقوس الزواج ودفن الموتى واحتكار القوانين والأراضي والنظم العسكرية؛ ولهذا كانوا حريصين على المحافظة على هذا الوضع.٢٤ وقد صوَّرَت الشعوب هذا الصراع في أساطيرها التي حفظها التاريخ؛ فكلمة nomos اليونانية تعني قانونًا زراعيًّا لأن القانون الأول كان قانونًا زراعيًّا، وكان الأبطال — كما أكد هوميروس — هم «رعاة الشعوب» كما خلقت الشعوب شخصيات بطولية تؤكد مبادئ هذه السياسة الشعرية مثل Mercury الذي كان رمز اتحاد الآباء البطوليين، وشخصية مينرفا التي كانت ترمز للحكم الأرستقراطي الإقطاعي في دولة المدينة وأن السيادة العليا لآباء الأسر، وشخصية هرقل وصراعه مع أنتيوس Antaeus الذي يرمز لانتصار الأبطال على العامة المتمرِّدين.٢٥ كذلك خلقت شخصية نبتون (إله البحر عند الرومان) من صفة أساسية ملازمة للعصر البطولي وهي القرصنة البحرية (كما أكدها هوميروس في الأوديسة أثناء عودة أوديسيوس إلى إيثاكا) وهي عادة تخلَّصت منها المدن التي تدرَّجت في سلم الحضارة. هكذا رسمت الأساطير صورة الحياة السياسية في المدن البطولية وانتهَتْ حكمة الشعراء اللاهوتيين — وهم حكماء المرحلة البطولية الإغريقية — (مثل أورفيوس Orpheus وأمفيون Amphion ولينوس Linus وغيرهم) إلى التغنِّي بقوة الآلهة ونبوءاتها لكي يظل العامة خاضعين للنظم البطولية وليضمنوا ولاءهم للنبلاء، ولكن العامة لم تكف عن التمرُّد لأنهم هم وحدهم القادرون على تغيير شكل الحكومات من أرستقراطيةٍ إقطاعيةٍ إلى ديمقراطيةٍ شعبية، وبذلك يكون التطوُّر قد بلغ آخر مرحلة من مراحل الثورة الاجتماعية ودخل في عصر البشرية والحرية الشعبية التي تطوَّرت في ظلها نظم الحكم وأُنشئ نظام الضرائب التي تُدفع للخزانة العامة لمواجهة تكاليف الحروب. وأصبح من حق العامة أيضًا إصدار التشريعات والقوانين التي كانت وقفًا على النبلاء فقط، وانقسمت تنظيمات المجتمع إلى مجالس مختلفة يرعى كلٌّ منها الطبقة التي يمثِّلها وهي مجالس الشيوخ والملوك العامة.

هكذا نجد أن النظام الاقتصادي هو أساس النظام السياسي عند فيكو، ونلمح عنده رؤية نفاذة عن أهمية النظام الاقتصادي في نشأة السلطة السياسية. وهذا ما قامت عليه الماركسية في جعلها النظام الاقتصادي هو البنية التحتية التي تقوم عليها البنية الفوقية من فلسفة وفن ودين وسياسة وقانون … إلخ، فهل يمكن القول بأن فيكو (الذي عاش بين منتصف القرن السابع عشر والثامن عشر) سابق على الماركسية؟ هذا ما سوف نتناوله في الباب الأخير.

(١-٦) الفيزيقا الشعرية

هي الفرع الآخر من الحكمة؛ فقد كانت الميتافيزيقا هي الفرع الأول الذي نشأت عنه علوم المنطق والأخلاق والاقتصاد والسياسة. وتشمل الفيزيقا علمي الكونيات والفلك. وينشأ عن هذا الأخير علما التأريخ والجغرافيا. نشأت الفيزيقا من حالة الاختلاط والعماء Chaos على النحو الذي نشأ عليه عالم الأمم بأسره؛ فقد اعتبر العلماء أن هذا الاختلاط هو أصل الأشياء الطبيعية التي لم تتشكَّل بعد. ولما أرعدت السماء بعد الطوفان وتولَّدت الألوهية تحولت الانفعالات الحيوانية للإنسان الأول إلى أفكارٍ بشريةٍ علَّمته التحكُّم في انفعالاته وحركات جسده.
من هنا نشأت الفيزيقا نشأةً دينية. وجاء الشعراء اللاهوتيون ليقولوا بالعناصر الأربعة المقدسة وهي الهواء الذي انطلقت فيه سهام جوبيتر Jove والماء الذي كان ينابيع دائمة التفَّتْ حولها التنظيمات البطولية وكانت تمثله الإلهة ديانا Diana ثم النار ويمثِّلها إله النار Vulcan الذي أنار بها الغابات، وأخيرًا الأرض المزروعة وآلهتها سبيل Cybele. وكان لهذه العناصر طقوسٌ إلهية وأضفى الشعراء اللاهوتيون عليها الحياة والإحساس٢٦ وجاء علماء الطبيعة في العصور البشرية فدرسوا هذه العناصر الأربعة المكوِّنة للعالم المادي.

ولكن لعل أهم ما في الطبيعة هو تأمُّل الطبيعة البشرية. وقد رأينا فيما سبق كيف أن مؤسسي الأمم الأممية استطاعوا تحويل العقول الوحشية إلى عقولٍ بشرية. ثم دُرست وظائف الأعضاء البشرية، وكيف أن وظائفَ الروح تنحصر في الرأس والصدر والقلب ووظيفة كلٍّ منها؛ فالرأس وظيفته المعرفة والإدراك، وتتضمَّن الخيال والذاكرة … إلخ، وعلى الرغم من أن فيكو حشد حديثه عن الفيزيقا الشعرية بتفاصيل كثيرة عن وظائف الأعضاء البشرية، فإننا نستشفُّ منه بصورةٍ غير مباشرة أن دراسة الجسد البشري بأجزائه المختلفة قد مرَّ أيضًا بمراحل متعاقبة ابتداءً من عصر الآلهة إلى العصر البطولي حتى العصر البشري.

(١-٧) الكونيات الشعرية

كانت الفيزيقا كما رأينا إلهية في نشأتها الأولى وكذلك الحال في وصف الكون، وهنا يؤكد فيكو كما أكد في الفيزيقا الشعرية أن نظرة البشر إلى الكون أو الطبيعة كانت نظرةً إلهيةً بحيث تصدق العبارة المشهورة التي ردَّدها بعض الفلاسفة السابقين على سقراط وهي أن «كل شيء مملوء بالآلهة» (وقد نُسب إلى طاليس أنه قالها عن الماء …) وجاء وصف الشعراء اللاهوتيين للكون على اعتبار أن له طبيعةً إلهيةً شأنه شأن كل شيءٍ تخيلوه، فكانت السماء هي الموضوع الأول لتأمُّلهم لأن الأشياء السماوية تعني الأشياء السامية أو الموضوعات الدينية المقدسة.

تخيل الشعراء أن السماء غير بعيدةٍ عن قمم الجبال. ويؤكد هوميروس هذا في ملحمتيه حيث إن أبطالهما كانوا يتخيلون أن الآلهة تسكن قمَّة جبل الألب. ومن هذه السماء حكم الآلهة الأرض، ومن السماء جاءت العدالة على الأرض عن طريق الأبطال الذين أقاموا العدل بين البشر بالقانون الزراعي الأول، ومن السماء هبطت الأجنحة٢٧ التي تعني التنظيمات البطولية، ومن السماء أيضًا سرق بروميثوس النار من الشمس. ثم تخيل الشعراء اللاهوتيون آلهة العالم السفلي وكان أولهم الماء ويدعى أسطقس Styx٢٨ الذي يقسم به الآلهة. كما كان وصفهم للكون سواء ما كان منه علويًّا أو سفليًّا فهو مملوء بالآلهة. بذلك انقسم هذا العالم الشعري أو الكونيات الشعرية إلى ثلاث ممالك؛ الأولى مملكة جوبيتر في السماء؛ والثانية مملكة زحل Saturn على الأرض؛ والثالثة مملكة العالم السفلي التي يحكمها Pluto وهو إله الثروات البطولية (وهي من ذهب أو من الحبوب لأن ثروات الشعوب القديمة كانت تقوم على المحاصيل). وهكذا تكوَّن عالم الشعراء اللاهوتيين — كما سبق أن ذكرنا — من أربعة عناصر اعتبرها علماء الطبيعة فيما بعد عناصر طبيعية وهي الهواء (عنصر Jove) والنار (عنصر Vulcan) والأرض (عنصر Cybele) والماء (عنصر Diana). والغريب أنه لم يسم عنصر الماء باسم نبتون Neptune٢٩ ولعل السبب في هذا أن الشعراء لم يعرفوه إلا فيما بعد، وأن الأمم الأممية لم تبلغ شواطئ البحار إلا في وقتٍ متأخر. لقد كان كل بحر يمتد وراء الأفق يسمونه محيطًا، وكل أرض يحيط بها تسمى جزيرة. وهذا هو الأصل فيما قال به الجغرافيون في مرحلةٍ متأخرةٍ من أن الأرض بأكملها تشبه جزيرة كبيرة يحيط بها البحر أو المحيط.
وأخيرًا توصَّل الشعراء إلى كلمة العالم٣٠ التي أطلقوها على كل منحنًى أو منحدر، ثم فهموا من ذلك أن الأرض والسماء كرويتان وأن هناك خطًّا يصل من كل نقطةٍ في محيط هذه الدائرة إلى كل نقطةٍ أخرى. إن المحيط هو الذي يبلِّل اليابسة على كل الشواطئ لأن مجموع الأشياء (وهو ما نُسميه العالم) يحفل بأشياء حسيةٍ رائعةٍ متنوعة.

ومن عقوبات الآلهة في العالم السفلي استفاد الفلاسفة — كما يرى فيكو — من هذه الخرافات في تأملاتهم الميتافيزيقية والأخلاقية؛ فقد لجأ أفلاطون إلى هذه الخرافات ليفهم العقوبات الثلاث — التي يستطيع الآلهة وحدهم إنزالها بالبشر — وهي النسيان والعار وتأنيب الضمير، وليؤكد أن طريق التطهُّر هو السبيل الوحيد للوصول إلى طريق الوحدة، أي اتحاد الإنسان بالله عن طريق التأمُّل في المثل الأبدية.

(١-٨) الفلك الشعري

عندما بدأت العقول البشرية تتطور واستمر البشر في تأمل السماء وانتظار النبوءات تصوروا أن السموات ازدادت ارتفاعًا كما ازداد معها الأبطال والآلهة سموًّا. ويؤكد فيكو آراءه في الفلك الشعري ببعض الملاحظات اللغوية التي يلجأ إليها على عادته في معظم شروحه. وأول هذه الملاحظات هو أن الكلدانيين هم الذين أرسوا الأسس الأولى لعلم الفلك. والثانية أن الفينيقيين نقلوا من الكلدانيين إلى المصريين استخدام الربعية.٣١ وأخيرًا أن الفينيقيين — بعد أن تعلموا من الكلدانيين — قد نقلوا أسرار النجوم إلى الإغريق. وقد كان تصوُّر هذه الشعوب لعلم الفلك الشعري تصورًا دينيًّا قائمًا على حقيقتَيْن أساسيتَيْن؛ أولاهما حقيقة اجتماعية كانت سائدةً لدى كل الشعوب الأولى وهي الحذر الشديد من قبول آلهة غريبة؛ والحقيقة الأخرى طبيعية تسبَّب فيها الخداع البصري؛ إذ تبدو لنا الكواكب السيارة أكبر من النجوم الثابتة؛ ولهذا نسبت الأمم الأولى الآلهة إلى الكواكب السيارة بينما نسبت الأبطال إلى مجموعة النجوم الثابتة. وقد بدأت مبادئ الفلك عند كل الشعوب الأممية بداية واحدة انطلاقًا من هاتَيْن الحقيقتَيْن. وإذا كان علم الفلك قد بدأ عند الكلدانيين ونقله الفينيقيون إلى المصريين ثم إلى الإغريق، فإن هذه الشعوب كانت تسلم من قبل بهاتَيْن الحقيقتَيْن؛ ولذلك لم يكن من الصعب عليهم أن يتقبَّلوا ما نُقل إليهم من حقائق علم الفلك. وكأن هذه الشعوب قد كتبت في السماء تاريخ آلهتها وأبطالها، وكأنها أرادت تسجيل أعمالهم مفعمة بالحكمة والأسرار من ناحية، وبالشجاعة والبطولة من ناحية أخرى. ومجمل القول أن التأثيرات التي نسبت للكواكب والنجوم على الحياة الأرضية كان الأصل فيها هو خصائص الآلهة والأبطال والأعمال التي أنجزوها على الأرض.

إن النظرة الشعريَّة إلى السماء لم تكن تفسِّر حركات الكواكب والنجوم وتأثيراتها من خلال العِلَل والأسباب الطبيعية بل من خلال صفات الآلهة والأبطال وأعمالهم، ولا بد أن الناس قد تعلَّموا فيما بعدُ كيف ينظرون بالتدريج إلى السماء نظرة علمية محايدة، وكيف يفسِّرون بالعلل الطبيعية ما كان أجدادهم يفسِّرونه بأسباب إلهية، ولعل هذا هو مضمون الجزء الذي لم يكتبه فيكو عن الفلك في المرحلة البشرية، ولو أن فيكو طبَّق قانونه في هذا الجزء وكتب عن الفلك في المرحلة البشرية لَكان من المرجَّح أن يشيد بالتفسير الطبيعي والعلمي الذي جاء في المرحلة البشرية.

وإن كنَّا نميل إلى الظن بأنه لو كان قد كتب هذا الجزء لما أغفل ما تحدَّث عنه من تداخل المراحل بعضها مع بعض؛ إذ إن المعروف أن علم الفلك في عصر النهضة وحتى إسحاق نيوتن لم يخل من وجود رواسب من التفسيرات الفلسفية والصوفية القديمة.

(١-٩) التأريخ الشعري

انعكست نظرة الشعراء اللاهوتيين للفلك على التأريخ الشعري لتحديد البدايات الزمنية. ويؤكد فيكو أن اسم إله الزراعة ساتورن Saturnus (وهو خرونوس Chronos أو الزمان عند الإغريق) مشتق من Satus أي الحرث أو الغرس، وهذا يدل على أن الشعوب القديمة كانت شعوبًا زراعية تحسب السنوات بمواسم حصاد الحبوب؛ فعبارة «لقد حصدنا ثلاث مرات.» تعني لقد مرت ثلاث سنوات.٣٢ وقد نُسب إلى هرقل أنه مؤسس المهرجانات الأولمبية التي تعتبر عند الإغريق وحدة قياس المراحل الزمنية، وهرقل أيضًا هو الذي أشعل النار — كما تحكي الأساطير — في الغابات لكي يمهد الأرض للحرث والحصاد اللذين كانت تحسب بهما الأعوام.
ويؤكد فيكو أيضًا أن الثيوجونيا أو أنساب الآلهة تساعدنا على تحديد المراحل المتتالية في عصر الآلهة، وهي مراحل تطابق بعض الضرورات أو المنافع الأساسية للجنس البشري وكانت أصولها جميعًا أصولًا دينية. فعصر الآلهة لا بد أن يكون في رأي فيكو قد استمر على الأقل ٩٠٠ سنة ابتداءً من ظهور الآلهة المتنوعين عند الأمم الأممية، أي ابتداءً من الوقت الذي بدأت فيه السموات ترعد بعد الطوفان. وقد ظهر في هذه الفترة اثنا عشر إلهًا بداية من جوبيتر Jove وقسَّموا هذا العصر إلى اثني عشر عصرًا أصغر وأكَّدوا بذلك مراحل التأريخ الشعري. كذلك حدَّدوا بداية التاريخ العالمي الذي بدأ في الشرق وإن لم يبدأ بمملكة نينوى. ولما كانت الملكية هي آخر أشكال الحكم المدني فلا بد أن تكون ممالك الشرق مثل آشور ومصر قد مرَّت بالمراحل المتتالية من النظم الإلهية والبطولية حتى وصلت إلى النظم الشعبية الحرة لكي تبلغ في النهاية النظام الملكي.٣٣

ويرى فيكو أن الأمر لم يخلُ من وقوع المؤرخين الإغريق في أخطاء كثيرة عند تحديد العصور، فوضعوا عصورًا قبل أوانها أو بعده، وتصوروا عصورًا مملوءةً بالأحداث والوقائع وأخرى خالية منها مع أن الحقيقة كانت على العكس من ذلك؛ فقد حشدوا عصر الأبطال — الذي استمر في رأي فيكو مائتَيْ سنة — حشدوه بأحداث ووقائع تنتمي لعصر الآلهة. ثم إنهم وحَّدوا بين عصورٍ كان ينبغي أن يُفصل بينها وذلك خشية أن يبدوَ الأمر كما لو كان الإغريق قد انتقلوا خلال حياة أورفيوس من مرحلة الوحوش المفترسة إلى مرحلة الحرب الطروادية. وأخيرًا ينتقد فيكو مؤرِّخِي الإغريق فيقول إنهم قسَّموا عصورًا كان ينبغي أن تُوحَّد، فوضعوا المستعمرات الإغريقية في إيطاليا وصقلية بعد مرحلة الأبطال بثلاثمائة سنة مع أن هذه المستعمرات لم تنشأ إلا نتيجة لرحلات أولئك الأبطال أنفسهم.

(١-١٠) الجغرافيا البشرية

طبقًا للمسلَّمة الأساسية التي تنصُّ على أن العقل البشري يحكم على الأمور المجهولة والبعيدة على أساس الأمور المألوفة له والقريبة منه، بدأت الجغرافيا الشعرية من الأفكار المحدودة داخل حدود الإغريق. ولقد أثبت الجغرافيون القدامى حقيقةً هامَّةً هي أن الأمم القديمة كانَتْ عندما تهاجر تُطلق أسماء بلادها الأصلية على الأراضي الجديدة مثل أسماء الأنهار والجبال والجزر … إلخ؛ لذلك نجد أن الإغريق أطلقوا اسم آسيا أو الهند على الشرق، وعلى الغرب اسم أوروبا أو هيسبريا، وعلى الشمال ثراقيا أو سكيثيا، وعلى الجنوب ليبيا أو موريتانيا. والأسماء التي أُطلقت على هذا العالم الصغير أُطلقت فيما بعد على مناطق العالم لما لاحظه اليونان من تشابهٍ بينها. وعندما انتشر الإغريق في العالم، من خلال رحلاتهم المختلفة، نشروا معهم حكايات حرب طروادة وأسماء الإغريق والطرواديين، وما يسري على الجغرافيا الشعرية الإغريقية يسري أيضًا على الجغرافيا الشعرية عند الرومان؛ فالفتوحات الرومانية هي التي مدَّت اسم إيطاليا على إيطاليا المعروفة اليوم بأبعادها الحالية.

وتأكيدًا لمبادئ هذه الجغرافيا الشعرية يدلل فيكو عليها بأن كثيرًا من الأفكار والشخصيات الإغريقية انتقل إلى منطقة اللاتيوم، وذلك طبقًا لمسلَّمته الأساسية أن هناك مستعمرةً إغريقيةً على سواحل اللاتيوم، ويُثبت تاسيتوس ذلك بأن الحروف اللاتينية هي نفسها الحروف الإغريقية المبكرة قبل تطورها. وهكذا انتقلت أسماء أبطال الإغريق مثل هرقل وإيفاندر وأينياس … إلخ إلى اللاتين الذين تبنوها واستبدلوا بها أسماء أبطالهم الأصليين، وهنا يذكر فيكو ملحوظة هامة عن عادات الشعوب، وهي أن الشعوب في عصور بربريتها تعتزُّ بعاداتها وأبطالها، ولكنها في حالة تمدُّنها تنسب نفسها إلى أصولٍ أجنبيةٍ مثلما استبدل الرومان هرقل البطل الإغريقي باسم مؤسسهم الأصلي فيديوس Fidius.

تعقيب

حاول فيكو في الحكمة الشعرية إثبات النشأة الشعرية للشعوب الأولى، فأكد أن التاريخ بدأ بدايةً شعرية — كما بينا في مطلع هذا الفصل — فكان الشعراء أول من تغنَّى بأحداث التاريخ، ولأن الحكمة الشعرية هي الأصل في كل العلوم والفنون فقد اهتمَّ فيكو بنشأة هذه العلوم، ولكن تطبيقه لقانون التطوُّر لم يكن دقيقًا في كل المواضع، كما في الفصول التي كتبها عن الفيزيقا والكونيات والفلك والتأريخ والجغرافيا؛ إذ حشدها بتفاصيل كثيرة من الأساطير اليونانية والرومانية التي أضاعت المعالم الرئيسية لفكرته، وانصبَّ اهتمام فيكو في هذه الفصول على كيفية نشأة هذه العلوم نشأةً دينية وهو ما يطابق المرحلة الأولى من مراحل تطور التاريخ، ولم يهتم بتطبيق القانون على المرحلتَيْن البطولية والبشرية بحيث يمكن القول بأن العلم الجديد علم لم يكتمل بعد، وأن فيكو أسَّسه ووضع مبادئه وأرسى منهجه وترك للأجيال القادمة مهمة تطبيقه كل على حضارته.

وفي الجانب الآخر اهتم فيكو بتطبيق قانون التطوُّر في الفصول الخاصة بالميتافيزيقا والمنطق والأخلاق والاقتصاد والسياسة، وقدَّم فصلًا جيدًا عن المنطق الشعري، ووضع نظريةً هامةً وطريفةً في تطوُّر اللغات والحروف أكَّدها بالتحليلات اللغوية للشعوب الأولى، وكما قدَّم تحليلًا لبنية الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع البشري، فقد قدَّم أيضًا تحليلًا للصراع الطبقي الذي نشأت عنه المجتمعات البشرية الأولى، وفي هذا سبق للماركسية كما سنرى في الباب الأخير من هذا البحث.

وقد انتهى فيكو إلى أن الحكمة الشعرية كانت أساسًا لكل العلوم والفنون، وأنها تطوَّرت جنبًا إلى جنبٍ مع تطوُّر المجتمعات وتطوُّر العقل البشري، فبدأت بدايةً دينيةً ثم بطولية وانتهَتْ إلى حكمةٍ بشريَّةٍ ألا وهي حكمة الفلاسفة؛ فالحكمة الشعبية قد بدأت — مع الشعراء اللاهوتيين الأول — بالأساطير والحكايات الخرافية. ومعنى هذا أنها لم تكن حكمة فلسفية كما انتهى إلى ذلك بعض الباحثين الذين مجدوها وارتفعوا بها فقالوا بالحكمة الفذة للقدماء؛ إذ إن الأمم الأولى (كما أكد فيكو وكما بينا في هذا الفصل) صورت في قصصها الخيالية وأساطيرها بدايات العلوم في صورة خشنة وبلغة الحواس المباشرة إلى أن جاء العلماء بدراساتهم المتخصصة وتناولوا تلك الأساطير والحكايات تناولًا عقليًّا، ومن هذا كله ننتهي إلى أن الشعراء اللاهوتيين كانوا يمثِّلون حواس الحكمة البشرية كما كان الفلاسفة يمثِّلون عقلها.٣٤

هكذا كانت حكمة هوميروس التي اهتم بها فيكو اهتمامًا خاصًّا وأفرد لها كتابًا من كتب «العلم الجديد» حاول فيه اكتشاف حقيقة شخصية هوميروس التي اختلفت حولها آراء الباحثين، وسواء كانت هذه الشخصية حقيقةً تاريخيةً أو أسطوريةً فإنها عبَّرت عن الشخصية اليونانية أو هي مثال للعقلية اليونانية؛ ولذلك وصفه أفلاطون وأرسطو بأنه مؤسِّس المدنية الإغريقية محاولين إثبات أن حكمة هوميروس هي من قبيل الحكمة الفلسفية المستورة. وحاول فيكو أن يُثبت خطأ هذا الرأي ويُبرهن على رأيه بشواهد من ملحمتَيْ هوميروس (الإلياذة والأوديسة) ليُثبت أنه ليس فيلسوفًا وأن حكمته ليست من نوع الحكمة الفلسفية، ولكنها حكمة شعرية؛ لأنها في الأصل حكمة شعبية مستمدة من البيئة اليونانية، وما كان هوميروس إلا مترجمًا لعادات وصفات هذه البيئة، كما أن شعره شعر بطولي لأنه عاش في عصرٍ بطولي له صفات معينة؛ لذلك جاءت الإلياذة تحمل كل صفات المجتمع البطولي ممثلًا في شخصية أخيل، وليست حكمة هوميروس بالحكمة الفلسفية كما يزعم أفلاطون وأرسطو؛ لأنه كان رجلًا بسيطًا من عامة الشعب وأشعاره لم يظهر فيها أي أثرٍ للعقل، ويتضح هذا في الإلياذة حيث تتصرَّف شخصيات هوميروس مدفوعة بعواطفها ولا تفكر تفكيرًا عقلانيًّا، وهو بذلك يعبِّر عن صفات المجتمع اليوناني وأفراده في ذلك الحين.

وكما يقول لونجينوس Longinus٣٥ — أحد الباحثين في شخصية هوميروس — إن هومر ألف الإلياذة في شبابه عندما كان الإغريق مدفوعين بعواطفهم القوية ورغباتهم؛ لذا جاءت الإلياذة معبرة عن هذه الصفات في شخصية أخيل الذي كان متقلب المزاج، مثلما حدث له عندما استقبل بريام الذي جاء ليفتدي جثة ابنه هيكتور فاستقبله أخيل في خيمته على العشاء، ولكن حين تفوَّه الأب الحزين بجملةٍ صغيرةٍ لم تعجب أخيل سرعان ما انقلب مزاجه ونسي تمامًا القوانين المقدسة لحسن الضيافة ولم يُشفق على رجلٍ مسنٍّ حزينٍ على ابنه فاندفع يهدِّده بقطع رأسه. ولم يغفر أخيل الأذى الذي لحقه من أجاممنون فراح يطلب الدمار لكل الإغريق على يد هيكتور، ورفض الاشتراك في حرب طروادة ولم يُثنه عن قراره سوى مقتل صديقه، هنا فقط استجاب لعواطفه الجياشة فقرَّر دخول الحرب للانتقام. أما الأوديسة فقد ألَّفها هوميروس — كما يقول لونجينوس — في شيخوخته عندما تطوَّرت العقلية اليونانية، فجاءت شخصية أوديسيوس معبِّرةً عن هذه الصفات الجديدة؛ إذ كان أخيل هو بطل الشجاعة والعنف والاندفاع وهي صفات البطولة وصفات الشباب أيضًا، وكان أوديسيوس بطل الحكمة البطولية وهي صفة الشيخوخة، ويُبرهن فيكو على أن أشعار هوميروس تناولَتْ عادات الشعوب الإغريقية ومنها بعض العادات الوحشية التي سادَتْ هذه الشعوب البربرية مثل استعمال الأبطال للسهام السامَّة في الحروب (مثلما ذهب أوديسيوس إلى Ephyra بحثًا عن أعشابٍ سامة). من هذه العادات أيضًا تركُ جثث قتلى المعارك للنسور والوحوش. ويسخط بعض الباحثين على تشبيهات هوميروس التي تتسم بالفظاظة والوحشية، ولكن فيكو يرى أن هذا كان ضروريًّا لهوميروس لكي يفهم العامة المتوحشة الطباع. ومع ذلك فبلوغه مثل هذا النجاح لم يكن عن طريق رموز العقل المهذب والمتمدِّن أو بأي نوعٍ من الفلسفة. بل كان أسلوب الوحشية الذي استعمله في وصفه للمعارك الدامية والتطرُّف في سفك الدماء مما كان سببًا في سموِّ الإلياذة على وجه الخصوص، وهذه الضراوة والوحشية والعنف واضطراب العواطف من صفات الطبيعة البطولية كما رأينا في الحكمة الشعرية، وهي صفات بشر لم تنضج قدراتهم العقلية بعد؛ ولهذا يُنكر فيكو على هوميروس أي نوعٍ من الحكمة الفلسفية.

(٢) عودة مسار الأمم

انتقلت الأمم في العصور المبكرة من العصور الدينية إلى العصور البطولية ثم إلى العصور البشرية، وبذلك يكون فيكو قد طبق قانون التطوُّر على الحقب التاريخية القديمة، والآن إلى أي حدٍّ نجح في تطبيق هذا القانون على التنظيمات البشرية للأمم عند نهضتها من جديدٍ وهو ما يُسمِّيه بالمسار الثاني للشعوب الذي أفرد له آخر فصول العلم الجديد ليؤكِّد أن هناك تقابلًا بين العصور البربرية الأولى والعصور البربرية الثانية؟ تعود الدورات التاريخية مرةً أخرى بصورةٍ أكثر تقدُّمًا لتسير الشعوب في نفس المسار، ولكنها لا تبدأ من نفس النقطة الأولى بل من نقطةٍ أكثرَ تقدمًا؛ فالتاريخ البشرى لا يُعيد نفسه وإنما يسير دائمًا نحو التقدم. وقد انتهى تطور الأمم في الدورة التاريخية الأولى إلى العصر البشري الذي كان يحمل في ثناياه بذور فنائه؛ لأن التطوُّر في هذا العصر انغمس في الترف واللذات والانحلال وضعف الإيمان بالأديان وفساد الحكومات، وفي مثل هذه الظروف تتعرَّض الأمم إما لغزوٍ خارجيٍّ أو سيادة الفوضى والهمجية وتقع فريسة بربرية جديدة يرى فيكو أنها كانت أكثر ظلامًا من الأولى.

لقد وجهت العناية الإلهية — التي تعمل على خير الجنس البشري — التنظيمات البشرية للأمم، ثم كشف الله — كما يقول فيكو — عن حقيقة الديانة المسيحية وسمح بميلاد نظامٍ جديدٍ كي تستقر الديانة الحقة طبقًا للنظام الطبيعي للتنظيمات البشرية نفسها. وبهذا التدبير الخالد عادَت العصور الدينية التي كان فيها الملوك الكاثوليك حُماةً للديانة المسيحية واحتفظوا بلقب الجلالة الملكية المقدسة. أسَّس الملوك المسيحيون الأوائل نظمًا دينية عسكرية ضد الآريين والعرب المُسلِمين ومعارضي الديانة المسيحية. وعادت الحروب الدينية فكان الصليب يعلو تيجان الملوك الذين اتخذوا منه شعارًا في حروبهم فأطلقوا عليها اسم الحروب الصليبية. ومثلما كان من شروط الاستسلام في العصور البربرية الأولى أن يفقد المهزومون كل تنظيماتهم الدينية والدنيوية، حدث أيضًا أن تنازل المهزومون عن تنظيماتهم الاجتماعية للمنتصرين في العصور البربرية الثانية.

في هذه العصور عادَتْ كل خصائص العصور الدينية الأولى، فعادت اللغة الرمزية مرة أخرى، وبدأت الشعوب البربرية ابتداءً من القرن الخامس الميلادي تغمر أوروبا وآسيا وأفريقيا (مثلما حدث مع سقوط الإمبراطورية الرومانية) وحرصت الشعوب المنتصرة على ألَّا تفهمها الشعوب المهزومة فدوَّنت وثائقها باللغة اللاتينية التي لا يفهمها إلا قلةٌ قليلةٌ من النبلاء هم في نفس الوقت يمثِّلون رجال الكنيسة، فلم توجد وثائق باللغة العامية مثلما حدث في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا؛ لذلك عادت اللغة الرمزية. في هذه العصور المظلمة اتصلت الشعوب ببعضها البعض بلغة صامتة لقلة الحروف العامية وندرة استعمالها، فكانت الرموز التي تؤكد الملكية وتحددها، ووجدت رموز لكل أسرة تعني حقوق السيادة على منازلهم ومقابرهم وحقولهم وقطيعهم.٣٦ وكانت هناك عودةٌ لأعمال القرصنة التي تمثِّل شعار النبالة، كما عادت الأحكام الدينية للعالم الأول ومنها المبارزات وأشكال الثأر والانتقام، كانت حروب العصور البربرية الثانية — كما كانت في البربرية الأولى — حروبًا من أجل الدين عادَتْ معها المقدسات الأولى للعالم القديم التي من خلالها تأسَّست المدن، فعندما انتشر السلب والعنف والقتل — وهي أخلاق ذلك العصر — لم تقُم للقوانين البشرية قائمة، فكانت القوانين الإلهية هي الملاذ الوحيد طبقًا لمسلَّمة فيكو: «كلما توحش البشر نتيجة الحروب بينهم بحيث لا تقوم لقوانينهم قائمة فإن الوسيلة الوحيدة لترويضهم هي الدين.» ومع سيادة أخلاق العنف والقوة والوحشية تسود حالةٌ من الذعر والخوف فيلجأ البشر إلى آباء الكنيسة ليضعوا أنفسهم وأسرهم وميراثهم تحت حمايتهم. ومن هذا الخضوع وهذه الحماية تكونت العناصر الأساسية لمبادئ الإقطاع التي ظهرت في العصر البطولي الذي تلا العصر الديني.
يقابل فيكو بين العصر الهوميري٣٧ الإغريقي والعصور الوسطى الأوروبية في الدورة التاريخية الثانية أو المسار الثاني للشعوب كما يُسميه. وقد انقسم المجتمع في ذلك العصر إلى طبقتَيْن: النبلاء (وهم الذين كان يُطلق عليهم لقب الأبطال في العصور القديمة) والأتباع، وكان هذا التقسيم نتيجة التمييز بين طبيعتَيْن متعارضتَيْن؛ طبيعة بطولية وطبيعة بشرية. ويستشهد فيكو بالاشتقاقات اللغوية لبعض الكلمات التي استُخدمت في هذا العصر؛ فكلمة الأتباع أي Homines تعني البشر، ويرجع أصل هذه الكلمة إلى لفظَيْن استُخدما في ظل النظام الإقطاعي وهما homagium & hominium ولهما نفس المعنى؛ فلفظ hominium يعادل hominis dominum أي ملكية البارون لأتباعه، ولفظ homagium يُعادل dominis agium أي حق البارون في اصطحاب أتباعه حيثما كان، وهذا اللفظ الأخير تُرجم إلى اللغة اللاتينية بكلمة obsequium وتعني الإخلاص والولاء الذي يقسمه الأتباع للبارون، وكانت نفس الكلمة عند الرومان القدماء تعني الخدمة العسكرية التي يُؤدِّيها عامة الرومان في الحروب لصالح النبلاء،٣٨ هكذا كان الحال في العصر البطولي الأول حيث أسس روميلوس روما على نظام الأتباع عندما امتدَّتْ حمايته إلى الفلاحين الأجراء الذين لجئوا إليه ومنحهم إقطاعات ريفية، فكان القانون الزراعي الأول الذي منح الأتباع جزءًا من الأرض ليتكسَّبوا منها، ثم القانون الزراعي الثاني الذي نص عليه قانون الألواح الاثني عشر إلى أن تحولت الإقطاعات الريفية إلى إقطاعات مدنية.٣٩ وقد كان من الطبيعي أن يعود المجتمع البشري مرة أخرى إلى النظام الإقطاعي لما وُجِد فيه من منافع ومكاسب تتطلَّبها الحياة المدنية، فعاد إقطاع العالم الأول متخذًا بداية جديدة، ويستشهد فيكو مرةً أخرى — مستعينًا بعلم اللغة والاشتقاقات اللغوية لأصول بعض الكلمات — على عودة النظام الإقطاعي في الدورة البطولية الثانية مثل كلمة Opera وتعني العمل اليومي للفلاح بدون أي حقٍّ في المواطنة، وكلمة herd اللاتينية وتعني قطيع العمال أو قطيع الخدم حيث كان يُنظر للأتباع على أنهم قطيعٌ من البشر، وكذلك كلمة servitum وتعنى خدمة؛ فقد كان الأتباع ملزمين بخدمة مجد النبلاء٤٠ (وقد أطلق على أمراء الإقطاع اسم نبلاء مثلما أطلق عليهم شعراء اليونان قديمًا اسم الأبطال) بذلك عاد نظام العبيد٤١ فكلمة Vassal اكتسبت المعنى القديم لكلمة Clienteles وأقسم العبيد على خدمة النبلاء في الحروب فكانوا يعتبرون أصدقاءهم وأعداءهم أصدقاء سيد الأرض وأعداءه، وصاحب هذا عودة النبلاء إلى نظام سجن العبيد، فمن يتخلَّف عن دفع الضرائب للنبيل يحق له سجنه أو عقابه.
ومع العصر البطولي بكل ما له من سماتٍ عاد نظام الملكية بنوعَيْها؛ الملكية المباشرة dominium directum والملكية النافعة dominium utile وهما يطابقان نوعي الملكية عند الرومان. فالنوع الأول وهو الملكية المباشرة يطابق نظام اﻟ quiritary ownership عند الرومان وهو ملكية الأبطال لإقطاعات مسلحة؛ لأن المالك البطولية كانت كهنوتيةً وللأبطال حق استقطاع أراضٍ معفاة من الضرائب والديون، والنوع الثاني وهو الملكية النافعة يطابق نظام bonitary ownership وهو نوع من الملكية يقوم على أساس الهبة أي أراضٍ ممنوحة للعامة، ولا تتجاوز ملكيتهم ملكية المحاصيل كما سبق ذكر أنواع الملكية، ويستعين فيكو بفقه اللغة ليتعرَّف على العلاقة التي تربط السيد بالتابع — في الدورة البطولية الثانية — من خلال الاشتقاقات اللغوية لكلمات ثلاث؛ وهي كلمة directus التي تؤكِّد أن حق التمليك كان يُعهد للعامة من المالك المباشر وهو السيد صاحب الأرض؛ وكلمة laudimia وهي الضريبة أو المال الذي يدفعه التابع لسيده بعد أن أعطاه الأخير تصريحًا Laudatio بزراعة الأرض. وكان ذلك نوعًا من العرف يتم بالتراضي، ولكن في حالاتٍ أخرى كان لا بد من الفصل فيها بالقرار القضائي، وهو ما يؤكده استعمال كلمة Lodo التي كانت تعني في البداية القرار القضائي ثم أصبحت تعني قرار الفصل في نزاعٍ معين.٤٢
كان هناك عودةٌ أيضًا إلى القانون الروماني فعاد ما يُسمى في التشريع الروماني القديم باﻟ Cavissae أي التحفُّظ والدقَّة الشديدة في صياغة الكلمات — وهو ما سبق الحديث عنه في الأنواع الثلاثة للتشريع — ثم اختُصرت هذه الكلمة إلى caussae وأُطلق عليها في العصر البطولي الجديد Cautelae من نفس الأصل اللاتيني، وحذا أساتذة القانون في العصور الوسطى الأوروبية حذو الرومان في التزام الدقة في الصياغة القانونية للعقود والدعاوى والوصايا، وبلغ التشابه إلى حد التشابه في الأخطاء التي وقع فيها كلٌّ من المشرعين الرومان القدماء وأساتذة القانون في العصور الوسطى الأوروبية؛ فقد غابت أصول القانون الروماني عن أولئك المشرعين القدماء بعد أن اختفى التمييز بين أنواع الملكية المختلفة في ظل الحريات الشعبية والملكية حتى إن المشرعين في العصور المتأخرة لم ينتبهوا إليها؛ فالعلماء المفسرون للقانون الروماني في عصر النزعة الإنسانية يُصرُّون على إنكار اعتراف القانون الروماني القديم بنوعَي المليكة المباشرة والنافعة، وقد ضللهم اختلاف الأسماء كما أخفقوا في فَهْم التشابه بين الأنظمة نفسها. كذلك غابت قوانين الإقطاع المبكرة عن أذهان أساتذة القانون في العصر البربري الثاني.٤٣ وفي هذا العصر الأخير عادَتْ ملكية الأراضي بحق المواطنة بمقتضى قانون Quirites على نحو ما كان عليه الحال في القانون الإقطاعي للعصر البربري الأول حيث كان هذا النوع من الملكية يعني ملكية النبلاء لإقطاعات مسلحة. كذلك كانت الأراضي الإقطاعية في البربرية الجديدة تُدعى «حقوق أصحاب الحراب» — فالنبلاء وحدهم هم السادة الملاك auctores — لتمييزهم عن أراضٍ أخرى تُسمى «أراضي العبيد»، وهي الأراضي التي استولى عليها العامة من السادة الأبطال في عصر الحريات الشعبية. ومثلما كان مجلس الشيوخ في العصر البربري الأول يتألَّف من الأبطال، كانت البرلمانات الأولى في أوروبا تتألَّف من البارونات والنبلاء والأمراء، الملوك على رأس البرلمان والنبلاء وكلاء مفوَّضون عن الملك في المجالس والمحاكمات القضائية كما يشهد بذلك تاريخ فرنسا.
ويعود فيكو مرة أخرى إلى نفي الرأي القائل ببراءة العصور الأولى فيقول إن علماء القانون المتأخرين استسلموا لهذا الرأي الزائف، كما استسلم بعض فلاسفة السياسة لرأي أرسطو القائل بأن الأمم القديمة لم تكن لديها قوانين لمعاقبة جرائم الأشخاص. وقد وقع تاسيتوس قديمًا في هذا الخطأ في الحوليات عندما ذكر أن البشر في الأمم القديمة السابقة على نشأة المدن كانوا يعيشون عيشة آدم في حالٍ من البراءة المطلقة. وينفي فيكو هذا الرأي ويُثبت خطأ السابقين لأن فعل القتل معروفٌ منذ العصور المبكرة ولكنه لم يكن يعدُّ جريمةً إلا في حالة قتل الآباء، أما قتل العبيد فلا يعدُّ جريمة؛ فالمجتمع في هذه العصور الأولى ينقسم إلى: مواطنين (وهم الآباء أو الأبطال) وعبيد، وكان قتل المواطن جريمةً تُسمى Parricidium أي قتل الأب ويعد فعلًا عدائيًّا موجهًا للوطن كله، بينما قتل العبيد لا يعد جريمة؛ فالعبد إما أن يُقتل من قِبل سيده وهذا ليس جريمة لأن العبد ملك لسيده وله عليه حق الموت، وإما أن يُقتل العبد من قِبل شخصٍ آخر ومثل هذه الحالة أيضًا لا تعد جريمة بل يعوَّض سيده عنه لأنه مالكه. ويؤكد فيكو أن هذا ما زال يحدث في بعض البلدان في العصور البربرية الثانية مثل بولندا، ولاتوانيا، والسويد والدانمارك، ولكن في عصر الحريات الشعبية أصبح قتل الإنسان جريمةً سواء أكان هذا الإنسان نبيلًا أو عبدًا.

ويستمر فيكو في بيان تشابه سمات العصور البطولية الأولى والثانية، فكما كانت المبادئ الأبدية للنظام الإقطاعي وراء نشأة نظم الحكم في الحكومات الأولى، كما نشأ القانون الروماني من النظام الإقطاعي الذي ساد في إقليم لاتيوم، كذلك نشأت أيضًا نظم الحكم الملكية في أوروبا الحديثة من المبادئ الأبدية للنظام الإقطاعي، فكانت القضايا الخاصة بالأراضي الإقطاعية تُناقش في البرلمانات؛ ومن ثم نشأت العادات الإقطاعية — التي تعدُّ من أقدم العادات في أوروبا — والتي تؤكِّد أن القانون الطبيعي للأمم نشأ عن تلك العادات البشرية التي سادَتْ في ظل النظام الإقطاعي. ولقد شاهد فيكو بنفسه أثرًا من آثار البربرية الثانية ممثلًا في المجلس المقدس لمدينة نابولي؛ إذ كان رئيس هذا المجلس يلقب باسم الملك المقدس، كما كان أعضاؤه جنودًا لأن النبلاء في البربرية الثانية كانوا وحدهم الجنود المحاربين، أما العامة فكانوا يخدمون في الحروب على نحو ما كان يحدث في البربرية الأولى سواء مما ذكره هوميروس أو ما نعرفه من التاريخ الروماني القديم.

ومع نشأة المدارس والجامعات في إيطاليا وانتشار تعليم القانون الروماني وخاصة تلك القوانين التي احتوتها مدونة جوستنيان وقامت على القانون الطبيعي للبشر، تهيَّأَت العقول لقبول قانون المساواة الطبيعية الذي يجعل الشعب والنبلاء على السواء متساوين في الحقوق المدنية كما هم متساوون في الطبيعية البشرية، وكما حدث في البربرية الأولى عندما تسرَّبت القوانين إلى العامة فانهارت سلطة النبلاء تدريجيًّا، حدث نفس الشيء في ممالك أوروبا في العصور البربرية الثانية مع انتشار التعليم ودراسة القوانين في الجامعات، فانتقل الحكم في هذه الممالك من الحكم الأرستقراطي إلى الحكومات الشعبية الحرة لكي تنتهي أخيرًا إلى النظم الملكية الكاملة وهما مرحلتا العصر البشري، وهذان الشكلان الأخيران من أشكال الدولة يسمحان بالانتقال من أحدهما إلى الآخر، ولكن العودة من أحدهما إلى النظام الأرستقراطي هو أمر مستحيل لا تسمح به الطبيعة البشرية المدنية. فعندما تصل الشعوب إلى نظم الحكم الشعبية الحرة ومنها إلى الملكية لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن ترتد مرة أخرى إلى النظام الأرستقراطي، وهذا ما أثبتته الشواهد التاريخية كما حدث مثلًا عندما ذبح ديون Dion٤٤ بطريقة بربرية حين حاول أن يعيد الأرستقراطية مرة أخرى، كذلك ما حدث للفيثاغوريين من إعدامٍ وحرقٍ بسبب محاولاتهم إعادة النظام الأرستقراطي. إن العامة عندما يبلغ بهم الوعي إلى إدراك المساواة المدنية مع النبلاء يرفضون تمامًا أن يكونوا دونهم في الحقوق، ويرى فيكو أن بعض النظم الأرستقراطية القليلة التي كانت لا تزال موجودةً في عصره تضطر لبذل قصارى جهدها لإرضاء العامة للمحافظة على هذا الوضع الطبقي.
ولا بد أن نلاحظ هنا أن الزمن الذي عاش فيه فيكو كان عصر بشرية جديدة انتشرَتْ بين كل الأمم، وأن عددًا قليلًا من الملوك العظام كان يحكم عالم الشعوب، وإذا كانت قد بقيَتْ هناك بقيةٌ من الشعوب البربرية فمرجع ذلك إلى أن النظم الملكية لهذه الشعوب قد استمرَّت بفضل الحكمة الشعبية الكامنة في ديانتها وبسبب طبائع شعوبها المضطربة غير المتوازنة، ومن أمثلة النظم التي عاصرها فيكو نجد النظام القيصري في روسيا الذي ظل يعيش في المرحلة الدينية، كذلك خان التتار الذي يحكم شعبًا مخنثًا — كما يصفه فيكو — أو أنثوي الطبيعة، وأيضًا نجاشي الحبشة وملوك فارس ومراكش الأقوياء الذين يحكمون في رأي فيكو شعوبًا قبلية ضعيفة ومشتتة ما زالت تعيش المرحلة الدينية. أما في المناطق المعتدلة حيث تسود الطبائع المتوازنة فالأمر مختلف، ففي الشرق الأقصى تعيش اليابان المرحلة البطولية حيث يمارس إمبراطور اليابان حكمًا عسكريًّا قاسيًا شبيهًا بحكم الرومان في زمن الحرب القرطاجية؛ لذلك فما زالت اليابان تحتفظ بقدرٍ كبيرٍ من طبيعة الحكم البطولي، ويرجع فيكو سبب احتفاظ بعض الشعوب بالمرحلة البطولية إلى أن حكامهم لم يقتنعوا بأن لرعاياهم نفس طبيعتهم البشرية ونفس الحقوق المدنية. ولا بد أن نشير هنا إلى أن المجتمعات البشرية كما يراها فيكو — لا تتقدَّم دفعةً واحدةً ولا تسير الأمم جميعها نحو التقدُّم في آنٍ واحد، بل تمر كل أمةٍ بمراحل التطوُّر التاريخي منفصلة عن الأمم الأخرى، فهل نستطيع أن نقول إن تحليل فيكو أو نظرته للمجتمعات البشرية المتنوعة يختلف عن نظرة فلاسفة عصر التنوير لفكرة تقدم الأمم؟ هذا ما سوف نناقشه في الباب الأخير من البحث، ولكن نكتفي الآن بالقول إن فيكو قد أثبت أن بعض الأمم ما زالت تعيش في المرحلة الدينية وبعضها الآخر يعيش في المرحلة البطولية في الوقت الذي تعيش فيه أوروبا في المرحلة الإنسانية بفضل الديانة المسيحية، وتتمتع بالنظم والحكومات الملكية التي تزدهر فيها العادات والتقاليد الإنسانية؛ فالفكرة النقية الكاملة عن الله — التي جاءت بها المسيحية — حثت على الإحسان والتسامح مع كل البشر، كما أن شعوبًا مثل السويد والدانمارك وبولندا وإنجلترا تتمتَّع بالدستور والحكم الملكي الذي يرى فيه فيكو أفضل نظم الحكم. وفي هذا الجزء من العالم — أي أوروبا — توجد أيضًا نظم الحكم الشعبية التي لا نظير لها في العالم، وقد بعثت في ظل هذه النظم — وبحكم الضرورة والمنفعة — الاتحادات والأحلاف التي قامت نظائرها قديمًا بين المدن الإغريقية لمواجهة خطر الفرس ثم الخطر الروماني. بُعثت هذه الاتحادات والأحلاف بين الولايات والمدن الحرة المختلفة في سويسرا وألمانيا وهولندا، وهي آخر شكلٍ من أشكال الحكومات المدنية، ولكن هل تعدُّ نظم الحكم الشعبية والنظم الملكية وحدهما آخر أشكال الحكومات؟ يعتبر فيكو أن النظم الأرستقراطية أيضًا تمثل العصر البشري ومن الممكن أن تكون هي آخر شكلٍ من أشكال نظم الحكم. ويؤكد أنه إذا كان في أوروبا خمسة نظم أرستقراطية للحكم فقط، كالتي توجد في البندقية Venice وجنوه Genoa ولوكا Lucca في إيطاليا وراجوسا Ragusa في دالماتيا Dalmatia (شبه جزيرة البلقان) ونورمبرج Nuremberg في ألمانيا، إلا أن روح الإنسانية تتجلَّى في كل ما يحقِّق سعادة الجسم والعقل بفضل الديانة المسيحية أو الحقائق السامية التي تستوعب أنضج فلسفات الشعوب.٤٥
وهناك بعض الشعوب التي كان من الممكن أن تسير في مسار التطوُّر الطبيعي لو لم تعقها بعض العقبات التي حالت بينها وبين التطوُّر. فإذا عبرنا المحيط للعالم الجديد رأينا أنه كان من الممكن للهنود الأمريكيين أن يسيروا في المسار الطبيعي للشعوب لو لم يكتشفهم الأوروبيون. وقديمًا فشلت كلٌّ من المدن الثلاث قرطاجة Carthage،٤٦ كابوا Capua٤٧ ونومانتا Numantia٤٨ — وهي المدن التي تصدَّت للتوسع الروماني — فشلت في تحقيق هذا المسار للنظم البشرية؛ فالقرطاجيون قد عاقهم عن ذلك عنفهم الفطري، وأهالي كابوا منعهم اعتدال المناخ والخصوبة المعروفة عن منطقة كابوا، أما أهالي نومانتيا فسحقهم القهر الروماني على يد اسكبيو، ولم يقدم فيكو تبريرًا مقنعًا أو علميًّا لإخفاق هذه المدن في تحقيق المسار الطبيعي للشعوب، بل لم يوضح الأسباب التي ذكرها توضيحًا كافيًا لجعل هذه الأسباب معقولة ومفهومة، ولكنه اهتم ببيان أن الرومان لم تعقهم مثل هذه العقبات فتابعوا مسار التطوُّر تهديهم العناية الإلهية من خلال الحكمة الشعبية، ومروا بالأشكال الثلاثة للحكومات المدنية وانتقلوا إلى كل شكلٍ منها بصورةٍ طبيعية. فكانت المرحلة الدينية في عصر تأليه آباء الأسر، والمرحلة البطولية في عصر الأبطال عندما نشب الصراع بينهم وبين العامة فنشأت الحكومات الأرستقراطية التي احتفظ بها الرومان حتى صدور قوانين بابليان وباتليان، ومُنح العامة نفس حقوق الأبطال المدنية فكانت الحكومات الشعبية الحرة التي بقيَتْ حتى عصر أغسطس فعادت الحكومة الملكية التي تمسَّك بها الرومان حتى انهار هذا النظام بفعل الأسباب الداخلية والخارجية التي حطمته، وسقطت روما بعد الغزو البربري للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي فنشأ عصر بربري جديد وعادت الدورات التاريخية تسير مسارها من جديد، فتمثلت المرحلة الدينية في العصر المسيحي كما أوضحنا في بداية هذا الفصل، ثم العصر البطولي في العصور الوسطى الأوروبية الذي تميز بعودة النظام الإقطاعي والحكومات الأرستقراطية وأخلاق الفروسية والبسالة والولاء والطاعة إلى أن كانت المرحلة البشرية.

واستشهاد فيكو بالتاريخ اليوناني والروماني — كما يؤكد بنفسه — ليس الهدف منه سرد التاريخ الخاص لهذه الشعوب وعاداتها وتقاليدها وقوانينها، ولكن الهدف هو إلقاء الضوء على التاريخ المثالي الذي يعبر عن القوانين الأبدية التي تحكم أعمال جميع الأمم والتي ستظل تحكم كل تواريخ الشعوب في نشأتها وتطورها ونضجها ثم انحلالها وتدهورها وسقوطها. فهناك جوهر واحد وراء تنوُّع وتطوُّر أشكال الحكومات هو القانون المثالي الذي يحكم أعمال البشر وتاريخ الأمم إلى أبد الآبدين. هذا القانون المثالي الأبدي يحكم مسار الشعوب منذ بداية نشأتها ونمو نظم الحكم فيها وتطورها حتى تبلغ ذروة نضجها. وعندما تنغمس في الترف يكون انحلالها وتدهورها وفسادها فتنهار النظم الحرة وتعم الفوضى. وهي مرحلة تتردى فيها الشعوب وتسقط في هاوية الأنانية. عندئذٍ تتدخل العناية الإلهية التي تعمل دائمًا على خير الجنس البشري — بإحدى وسائلها الثلاث لإنقاذ مسار الشعوب:

أولًا: ترتب العناية الإلهية ظهور رجلٍ قويٍّ من أفراد الشعب ينصِّب نفسه ملكًا ويجمع في يده كل التنظيمات والقوانين بقوة السلاح ويضع حدًّا للفوضى ويؤسس الملكية. وينحصر دور الملك في تحقيق العدالة والمساواة الطبيعية بين الناس وضمان حرية الدين، مثلما فعل أغسطس مؤسس الملكية في روما. ثانيًا: إذا تعذَّر ظهور رجلٍ قوي في الداخل تبحث العناية الإلهية عن العلاج في الخارج بغزوٍ من شعبٍ أفضل وأقوى يستولي على هذه الشعوب بقوة السلاح؛ لأنه عندما تصل الشعوب إلى مرحلة الترف تقع فريسة رذائل كثيرة كالجشع والبخل والحسد والغرور والتخنُّث، وتقرر العناية الإلهية أنهم أصبحوا عبيدًا لشهواتهم فيصبحون خاضعين لأممٍ أفضل وأقوى منهم فتحَتْهم بقوة السلاح وجعلَتْهم ولايات خاضعة لهم. وهنا يؤكد فيكو حقيقتين: (أ) أن من لم يستطع أن يحكم نفسه بنفسه فعليه أن يسلِّم زمام أموره لمن هو أقدر منه على الحكم. (ب) أن العالم لا يحكمه إلا الأصلح والأكفأ بحكم طبيعته. ثالثًا: إذا تعفنت نظم الحكم المدنية وتغلغل الفساد في هذه الشعوب فلم تستطع أن تتفق على ملك يحكمها من الداخل ولم يتفق لها أن يغزوها شعبٌ أفضل من الخارج تلجأ العناية الإلهية — في هذه الحالة القصوى — إلى دوائها الأخير وهو الفناء؛ فأمثال هذه الشعوب قد انحدر بها الترف إلى هاوية الميوعة والطراوة أو بالأحرى إلى الغرور الذي يبلغ أقصى درجاته، فتثور الشعوب وتندفع بغضبٍ وعنفٍ لأقل الأسباب، ويعيش الناس كالوحوش المفترسة متوحدين في أعماقهم رغم تزاحمهم، وتتردَّى الشعوب في هاوية الفردية بحيث لا يعود أحدٌ يفكِّر إلا في مصلحته الخاصَّة ولا يكاد اثنان يتفقان على شيءٍ لأن كلًّا منهما لا يتبع إلا شهواته؛ لهذه الأسباب جميعًا تقضي العناية الإلهية بأن تسقط هذه الشعوب فريسة الحروب الأهلية وأن يحيلوا مدنهم إلى غابات ثم يجعلوا من الغابات كهوفًا وجحورًا يلجئون إليها. ويقع المجتمع البشري فريسة بربرية جديدة أفظع وأقسى من بربرية الحواس؛ لأنها بربرية ذوي عقول ماكرة وخبيثة. حقًّا كان البشر في البربرية الأولى متوحشين ولكن توحشهم كان أكثر شهامة وكرمًا، أما في ظل البربرية الجديدة فإن الناس تحيا في ظل وحشيةٍ حقيرةٍ منحطةٍ يكيد فيها الفرد لأقرب أصدقائه تحت ستار الكلمات والقبلات الناعمة. عندئذٍ تطبق العناية الإلهية دواءها الأخير بأن تفني الوحوش الشريرة بعضها البعض، وتبقى قلةٌ من البشر يعيشون في وفرةٍ من الضروريات اللازمة للحياة، وتصبح هذه القلة اجتماعية وترتد إلى البساطة الأولى وتتكفل العناية الإلهية بأن تُعيد إليهم قيم الورع والتقوى والصدق والإخلاص وهي الأسس الطبيعية للعدالة، كما تُنعم عليهم بمختلف أنواع النعم والجمال الذي يتَّصف به النظام الإلهي.٤٩

تعقيب

بنهاية الباب الثاني نكون قد استعرضنا فلسفة التاريخ عند فيكو بكل ما تشمله من أصولٍ ومبادئ ومنهج. وقد رأينا كيف استخلص قانون تطور الأمم من خلال دراسته للحضارة اليونانية والرومانية القديمة، وهو قانون الأحوال الثلاثة لتطوُّر الأمم بشكلٍ دوري حلزوني؛ فالتاريخ لا يُعيد نفسه بل يأتي دائمًا بجديد. ولعل الفكرة المحورية التي قامَتْ عليها فلسفة التاريخ عند فيكو هي أن الإنسان صانع تاريخه، ونستطيع أن نقول إنه بهذه الفكرة وضع بذور فلسفة العمل؛ فالإنسان لا يعرف إلا ما يصنع، وهي نفس الفكرة التي تقوم عليها نظريته في المعرفة، وهي أن المعرفة تساوي العمل. وهي كذلك الفكرة التي عارض بها ديكارت كما أسلفنا القول؛ فالمجتمع البشري بكل ما فيه من نظمٍ من صنع البشر أنفسهم، وبهذا يختلف فيكو عن أصحاب النظريات العقلية في نشأة النظم وطبيعتها، ويؤكد أنها من وضع بشرٍ كانوا أشبه بالوحوش الآدمية ثم وصلوا إلى بشريتهم عن طريق تأسيس هذه النظم. من هنا يجب الاهتمام بالأصول الواقعية لهذه النظم التي كانت السبب في أن تصبح المخلوقات البشرية بشرًا حقيقيين، بينما يهتم أصحاب النظريات العقلية بتأكيد دور العقل ويبدءون من الإنسان الناضج المفكِّر بعقله.

وعندما يرجع فيكو بالتاريخ إلى بداياته مع بشر صنعوا نظمهم الاجتماعية بأنفسهم، نستطيع أن نقول إن هناك مقابلةً بين فيكو وأرسطو في تصورهما النشوئي عن الطبيعة والإنسان. فهذا الأخير حيوان يصبح إنسانًا عندما يعيش في المدينة. وهذا يقابل عند فيكو عالم الطبيعة وعالم البشر لأن حيوانات العالم الأول تصبح بشرًا في عالم الأمم وبفضله، أي أن فيكو لا يختلف عن أرسطو الذي يوحِّد بين طبيعة الشيء وغايته عندما يتطوَّر وينضج؛ فطبيعة نشأة الأمم عند فيكو تُقابل تصور أرسطو الغائي عن نشأة دولة المدينة التي تنشأ من الحاجات الحيوية الأولية. وعلى هذا فالإنسان مدني بطبعه، ولكن موضع الخلاف بينهما هو أن فيكو يقول بالعناية الإلهية التي وجَّهت البشر عن طريق عاداتهم البسيطة وانفعالاتهم الطبيعية لحفظ الجنش البشري، إلا أن البشر صنعوا عالم الأمم وبنوه دون أن يعرفوا خطة العناية الإلهية الكامنة وراءه؛ لذا استثنى فيكو التراث العبري والمسيحي من دائرة علمه الجديد لتدخُّل العناية الإلهية فيه تدخلًا مباشرًا عبرت فيه عن نفسها في أعمالٍ تاريخيةٍ خاصة وفريدة. ويميز فيكو بين هذه العناية الأخيرة وبين العناية الإلهية الكامنة في التاريخ والتي وجَّهت البشر بطريقٍ غير مباشر للخروج من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية الإنسانية، فهنا لا تتعارَض العنايةُ الإلهيةُ مع فاعلية البشر في صنع التنظيمات البشرية، بل تركت الأمم تصنع تاريخها بنفسها من خلال عاداتها وتنظيماتها الاجتماعية، وبذلك لم يقدم فيكو تاريخًا لاهوتيًّا كنسيًّا بل قدم تاريخًا واقعيًّا مستندًا على الآثار والمأثورات الشعبية والمخلفات والفنون التي تركتها الشعوب الأولى.

بيد أن هناك سؤالًا يطرح نفسه: هل نجح فيكو في تطبيق قانون التطوُّر على الأمم عند نهضتها مرة أخرى من جديد؟ لقد قدَّم فيكو دراسةً مستفيضةً لأصول المجتمع البشري من منظور الحضارة اليونانية والرومانية، وقام بتحليلٍ دقيقٍ للمجتمعات البشرية الأولى مستندًا إلى البحث في أصول التنظيمات الاجتماعية البشرية والأساطير القديمة للشعوب وما ينطوي عليه البحث في أصول اللغات من كشفٍ عن عادات هذه الشعوب وتقاليدها، ولكنه لم يبحث الدورة التاريخية الثانية بمثل هذه الدقة فتناولها تناولًا سريعًا، بل جانَبه الصوابُ أحيانًا في حكمه على نفسية الشعوب. ويبدو أنه اعتمد على تقارير الرحالة والمبشِّرين فلم تخلُ أحكامه على بعض الشعوب من تعميمات باطلة مثل قوله هذا شعب بطبيعته كسول … وهذا شعب مخنث … ومع ذلك فهو يعدُّ رائدًا لعلم نفس الشعوب الذي تطوَّر فيما بعد وأصبح علمًا مستقلًّا على يدَيْ فلهلم فونت W. Wundt لذلك لا نستطيع أن نقول إن فيكو وُفِّق تمامًا في تطبيق قانون التطوُّر على المسار الثاني للأمم، وربما يكون مرجع ذلك إلى أن هذه الفترة التاريخية معروفةٌ ومدونة؛ لذا اهتمَّ اهتمامًا خاصًّا بالمسار الأول للأمم لإلقاء الضوء على هذه الحقبة التاريخية التي يكتنفها الغموض بسبب نقص الوثائق وبالتالي فهي تاريخٌ غير مدون. ويكفي فيكو أنه وضع الأسس النظرية والمبادئ النظرية التي يهتدي بها الباحثون في علم التاريخ. وعلى الأجيال التالية مهمة التطبيق؛ فقد تصور فيكو العلم الجديد في شكل نموذج مثالي كامل في فكرته، ولكنه لم يطبِّقْه كما قلنا بصورةٍ كاملة، بل أكَّد أنه علم قابل للتطوُّر ومتروك للأجيال والعصور التالية أن تطوِّره وتلائم بين كشوفها وملاحظاتها التي ستستجدُّ في عالم الأمم وبين قوانين هذا النموذج؛ ولهذا فالعلم الجديد كامل من حيث مبادئه وعلى الباحثين في المستقبل أن يستكملوه كما اعترف فيكو نفسه بذلك.

يؤكد فيكو في أكثر من موضعٍ من العلم الجديد أن نظم الحكم الملكية هي أكمل أشكال الحكم، وأنه إذا سارت الأمم في مسار التطوُّر الطبيعي وبلغت المرحلة البشرية وقامت نظم الحكم الشعبية فلا بدَّ أن تفسد هذه النظم الحرة كما أوضحنا، وبهذا ينتهي المسار الطبيعي للتطوُّر في رأيه إلى النظم الملكية! وهنا يجب أن نشير إلى أن فيكو عاش في ظل حكومةٍ ملكية في نابولي؛ وبالتالي فهناك أحد احتمالين؛ إما أن النظام الملكي في نابولي كان عادلًا وحكيمًا في عصر فيكو فجعله يؤمن به إيمانًا لا يحيد عنه؛ أو أن هذا النظام الملكي كان قاسيًا ومستبدًّا فجاء رأي فيكو هذا خشية بطش ملوك نابولي الظالمين.

هكذا نكون قد قدمنا التصور الكامل للتاريخ عند فيكو مع تطبيقاته في مختلف التنظيمات البشرية من تنظيمات سياسية واقتصادية ولغة وقانون وشعر … إلخ، ويتعيَّن علينا الآن أن نلقي نظرة نقد وتحليل وتقييم لهذه المادة الكثيفة من خلال نظرية المعرفة التاريخية، وأن نفحص الأسس النظرية للنسق العلمي للتاريخ عنده ونتناول بشيءٍ من التفصيل نظريته في المعرفة التاريخية ونظريته عن التاريخ المثالي الأبدي التي تعد في نظر الكثير من الباحثين هي النسق العلمي أو البناء النظري القبلي الذي يقوم عليه التاريخ البشري. وبعد أن ننتهي من هذا النقد والتحليل أو التقييم نختتم البحث بإلقاء نظرةٍ على تأثير فيكو على فلسفة التاريخ وفلاسفتها سواء في عصره أو في العصور التالية، مكتفين بأبرز معالم هذا التأثير وأهم الفلاسفة الذين يحتمل أن يكون قد تأثَّروا به وخصوصًا أولئك الذين قالوا بخضوع التاريخ لقوانين تحدِّد مساره.

١  Ibid; p. 69–75.
٢  Ibid: p. 79–84.
٣  سترابو مؤرخ وجغرافي يوناني عاش من حوالي سنة ٦٣ / ٦٤ق.م. إلى حوالي سنة ٢٠ بعد الميلاد، زار مصر حوالي سنة ٢٣ / ٢٤ق.م. في صحبة الوالي الروماني البوس جاللوس ووصل إلى أسوان وجزيرة فيلة، ووصلنا ١٧ كتابًا من موسوعته الجغرافية عن أوروبا وآسيا وأفريقيا وتضم معلومات تاريخية وحضارية وأسطورية قيِّمة بجانب المعلومات الجغرافية الوصفية، وتعد الكتاب الجغرافي الذي وصلنا كاملًا عن العصور القديمة.
٤  Vico; New Science; p. 85.
٥  الإلياذة: نشيد ١ سطر ٢٥٠ وما بعده.
٦  الإلياذة: نشيد ٦ سطر ١٦٨ وما بعده.
٧  Vico; New Science; p. 106-107.
٨  Ibid; p. 109-110.
٩  Ibid; p. 112–115.
١٠  (عن فيكو) وما بعدها. Agrarian Law 3. 2. 7.
١١  Aseop كاتب يوناني من القرن السادس ق.م. اشتهر بحكاياته الخرافية التي وضعها على لسان الحيوان وجمع فيها بين الحكمة الشعبية والمعنى والعبرة.
١٢  Vico; New Science; p. 123–125.
١٣  أفلاطون، محاورة أوطيفرون. 12 CD (عن فيكو).
١٤  Vico; New Science; p. 133.
١٥  الإلياذة: نشيد ٢٢، سطر ٢٦١ وما بعده.
١٦  الأوديسة: النشيد الثامن، سطر ٤٨٨.
١٧  Vico; New Science; p. 201–207.
١٨  Ibid; P. 206.
١٩  Ibid; p. 135–138.
٢٠  Ibid; p. 151.
٢١  Ibid; p. 163-164.
٢٢  Ibid; p. 172-173.
٢٣  Ibid; p. 177-178.
٢٤  Ibid; p. 182–184.
٢٥  Ibid; p. 187.
٢٦  Ibid; p. 213-214.
٢٧  كانت الأجنحة رمزًا لتنظيمات العصر البطولي على نحو ما صوَّرَت الأساطير هرميس أو ميركوري رسول القوانين الإلهية إلى البشر بجناحَيْن، انظر السياسة الشعرية.
٢٨  Styx نهر الجحيم عند الإغريق.
٢٩  Neptune إله البحر عند الرومان.
٣٠  سمَّى الشعراء هذا العالم Mundus باللاتينية وCosmos باليونانية قاصدين به الزينة التي تتزين بها الطبيعة.
٣١  الربعية quadrant أداة تُستخدم في الفلك والملاحة لقياس الارتفاع.
٣٢  Vico; New Science; p. 230.
٣٣  Ibid; p. 233.
٣٤  Ibid; p. 241.
٣٥  خطيبٌ يوناني وفيلسوفٌ من فلاسفة الأفلاطونية المحدثة من القرن الثالث الميلادي، وُلد في أثينا وصار مربيًا في بلاط الملكة زنوبيا في تدمر وحكم عليه القيصرُ أوريليانوس بالموت سنة ٢٧٣م، يُنسب إليه خطأً تأليف واحدٍ من أهم الكتب القديمة في النقد الفني والجمال وهو كتاب «عن الجليل» الذي وضعه مؤلفٌ مجهولٌ من القرن الأول الميلادي.
٣٦  Vico; New Science; p. 352-353.
٣٧  لا يقصد فيكو بالعصر الهوميري الفترة الزمنية التي عاشت الشاعر الإغريقي هوميروس — والتي اختلفت حولها الآراء — بل يقصد الفترة الزمنية التي عاشها الشاعر في وجدان الشعب الإغريقي يتغنَّى بأشعاره، وهي الفترة التي تُقدَّر من زمان الحرب الطروادية حتى عصر نوما.
٣٨  Vico; New Science; p. 355.
٣٩  انظر السياسة الشعرية من هذا الفصل.
٤٠  Vico; New Science; p. 356-357.
٤١  أطلق فيكو على العبيد كلمة nexi بمعنى المربوطين بالأرض وهذه الكلمة تقابل Vassal أي الأتباع الذين كان يطلق عليهم اسم المقيدين Legati.
٤٢  Vico; New Science; p. 362-363.
٤٣  Ibid; p. 318–363.
٤٤  Dion هو طاغية سيراقوزة وصهر الملك ديونيزيوس الأول والمعروف أنه تلميذ أفلاطون وتحمس لفلسفته السياسية وحاول تحقيق جمهوريته الفاضلة في سيراقوزة. قُتل بعد محاولته غزو المدينة عام ٣٥٤ق.م. وقد ذكره أفلاطون وأثنى عليه في رسالته السابعة وتحسر على موته (انظر تفصيل ذلك في كتاب المنقذ، قراءة لقلب أفلاطون — مع النص الكامل للرسالة السابعة، للدكتور عبد الغفار مكاوي، القاهرة، دار الهلال، كتاب الهلال، ١٩٨٧م).
٤٥  Vico; New Science; p. 372.
٤٦  قرطاجة: مستعمرة أسسها الفينيقيون من أهل صور حوالي القرن التاسع قبل الميلاد بالقرب من تونس الحالية، دخلت في حربٍ مع روما من أجل السيطرة على جزيرة صقلية لموقعها الاستراتيجي وامتدَّ الصراع مئة عام على ثلاث مراحل: الحرب البونية الأولى (٢٦٤–٢٤١ق.م.) كانت حرب إنهاك للطرفَيْن لم تُسفر نصرًا. الحرب البونية الثانية (٢١٨–٢٠١ق.م.) انتهَتْ بزوال سيادة قرطاجة — وكانت قرطاجة بقيادة هانيبال Hannibal القائد القرطاجي — الحرب البونية الثالثة (١٤٩–١٤٦ق.م.) انتهت فيها قرطاجة تمامًا.
٤٧  Capua مدينة في منطقة كامبانيا الإيطالية، أسَّسها الأتروسيكون في القرن السابع ق.م. واتحدت مع روما ٣٤٠ق.م. ضد السامنيين وسقطت في الحرب البونية الثانية ثم عاد الرومان وفتحوها عام ٢١١ق.م. خرجت منها ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس وضربها الفنداليون وهم إحدى القبائل الجرمانية عام ٤٥٦م.
٤٨  Numantia مدينة إسبانية في منطقة قشطالة كانت منذ عام ١٥٤ق.م. مركزًا لثورة التحرير من القهر الروماني، وقد أخمد اسكبيو Scipio القائد الروماني الثورة الشعبية فيها وضرب المدينة عام ١٣٣ق.م.
٤٩  Vico; New Science; p. 380-381.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤