مادة قصصية

أنا لا أتابع كتابات هوجو، ولكن أحيانًا أرى اسمه، في المكتبة، على أغلفة بعض المجلات الأدبية التي لا أقرؤها؛ فأنا لم أقرأ مجلة أدبية منذ أكثر من اثني عشر عامًا والحمد لله. أو ربما أقرأ اسمه في الصحف أو أراه على ملصقات إعلانية — في هذه الحالة أيضًا أكون في المكتبة أو بمتجر الكتب — وفي أحيان أخرى أرى اسمه بلوحة الإعلانات بالجامعة للإعلان عن استضافته بندوة أدبية، وذلك عندما يأتي هوجو لمناقشة موضوعات مثل وضع الرواية في العصر الحالي، أو القصة القصيرة المعاصرة، أو التحدث عن النزعة القومية الجديدة في أدبنا. حينها أتساءل هل يذهب الناس إلى الندوات الأدبية تلك حقًّا؟ هل يقوم الناس الذين في مقدورهم الذهاب للسباحة أو لاحتساء مشروب أو حتى المشي بالتوجه إلى الحرم الجامعي حتى يبحثوا عن القاعة ويجلسوا في صفوف متتالية من الكراسي للاستماع لهؤلاء الرجال المغرورين الذين يثيرون الزوبعات؟ رجال مترفون، مستبدون بآرائهم، وغير منظمين، نعم هكذا أراهم، رجال تدللهم الحياة الأكاديمية، وتدللهم الحياة الأدبية، وتدللهم النساء. يذهب إليهم الناس ليسمعوهم يتحدثون عن أن هذا الكاتب أو ذاك لا يستحق أن تقرأ له أي عمل بعد الآن، وأن هذا الكاتب أو ذاك يجب عليك أن تقرأ أعماله، يذهب إليهم الناس ليستمعوا إليهم وهم يقللون من شأن هذا ويمجدون في شأن ذاك، ويستمعون إليهم وهم يجادلون ويضحكون ويصدمون الناس. أقول الناس ولكني هنا أتحدث عن النساء، نساء مثلي في منتصف العمر، مرتجفات وفي حالة تأهب دائمة، يأملن في أن تكون الأسئلة التي يطرحنها أسئلة ذكية وألا يتمَّ النظر إليهن على أنهن سخيفات؛ وفتيات ذوات شعر ناعم غارقات في العشق والوله حتى آذانهن، يتمنين أن تلتقي أعينهن مع أعين رجل من الرجال الموجودين على المنصة. تقع الفتيات، إضافة إلى السيدات، في غرام هؤلاء الرجال، معتقدات أنهم يمتلكون قوة كامنة فيهم.

وإن بحثت عن زوجات هؤلاء الرجال الموجودين على المنصة فلن تراهن في الحضور، ستجدهن يشترين الخضراوات أو ينظفن الفوضى في منازلهن أو حتى يحتسين شرابًا. دائمًا ما تجد حياتهن متمحورة حول الطعام والبيت والفوضى والسيارات والمال. ستجد أنهن المسئولات عن كل شيء؛ فهنَّ من يتذكَّرن وضع إطارات السيارة المانعة للتزحلق، وهنَّ من يذهبن للبنك، وهنَّ من يجمعن زجاجات الجعة الفارغة؛ ولِمَ يجب عليهن القيام بذلك؟ لأن أزواجهن رجال مبدعون وموهوبون، رجال عجزة ينبغي العناية بهم، وذلك في سبيل الكلمات التي تخرج من عقولهم. أما السيدات اللاتي في الحضور فستجدهن زوجات لمهندسين أو أطباء أو رجال أعمال. أنا أعرفهن شخصيًّا، فهن صديقاتي، بعضهن اتجه لعالم الأدب على نحو غير جدي، تلك هي الحقيقة، ولكن أخريات أتين على استحياء ولديهن أمل كبير ولكنه سريع الزوال. هؤلاء النساء يمتصصن ازدراء الرجال الموجودين على المنصة كما لو كنَّ يستحققنه، وهن يؤمنَّ خفية بأنهن يستحققن ذلك بسبب منازلهن وأحذيتهن باهظة الثمن، وأزواجهن الذين يقرءون للكاتب آرثر هايلي.

أنا شخصيًّا متزوجة من مهندس يدعى جابرييل، ولكنه يفضل أن نناديه جايب. يفضل الاسم جايب في هذا البلد؛ حيث إن مسقط رأسه رومانيا، وقد عاش هناك حتى سن السادسة عشرة حتى انتهت الحرب الدائرة بها، ولكنه نسي كيفية التحدث باللغة الرومانية. كيف يمكنك أن تنسى؟ كيف يمكنك أن تنسى لغتك الأم التي قضيت طفولتك كلها تتحدث بها؟ لطالما اعتقدت أنه يدَّعي النسيان؛ لأن الأشياء التي رآها ومر بها خلال الفترة التي كان يتحدث فيها بهذه اللغة، أشياء مهولة ومريعة بحيث إنه يرغب عن تذكُّرها مرة أخرى. وقد أخبرني ذات مرة أن اعتقادي هذا غير صحيح؛ حيث أكد لي أن خبرته مع الحرب لم تكن بهذا السوء؛ فكان يصف الضجة التي كانت تحدث في المدرسة عندما يتم إطلاق صافرات الإنذار عند الغارات الجوية مؤذنة بإلغاء الدراسة، ولكني لم أكن أصدقه كليًّا. كنت أطالبه بأن يصبح سفيرًا قادمًا من أوقات عصيبة وبلاد بعيدة، ثم بدأت أشك في كونه رومانيًّا بالفعل، وأنه مدَّعٍ نصاب.

ولكن هذا الشك كان قبل أن أتزوجه، حينما كان يأتي لزيارتي ورؤيتي في شقتي الموجودة بشارع كلارك رود، الشقة التي كنت أعيش بها مع ابنتي الصغيرة كِليا، ابنتي من هوجو، ولكن هوجو اضطر لتركها والتخلي عنها تمامًا. رزق هوجو بأبناء عديدين؛ حيث إنه سافر ثم تزوج مرة أخرى وقد أنجبت زوجته ثلاثة أطفال، وفيما بعد طلق هذه الزوجة ثم تزوج مرة أخرى، أما زوجته التالية التي كانت طالبة لديه فقد أنجبت ثلاثة أطفال آخرين، أول طفل منهم قد أنجبته وهوجو ما زال مع زوجته الثانية. في ظروف كهذه يصعب على الرجل أن يتشبث بكل شيء. أما جابرييل فكان معتادًا على البقاء طوال الليل أحيانًا على الأريكة التي يمكن استخدامها كسرير، فكنت أستخدمها في تلك الشقة الصغيرة الفقيرة التي كنت أمتلكها؛ وأتذكَّر حينها أنني حينما كنت أشاهده وهو نائم كان يدور بخلدي أنه مع علمي بهذا الشخص، إلا أنه قد يكون ألماني الجنسية، أو ربما روسيًّا، أو حتى مجرد مواطن كندي عادي يتصنَّع لكنة ويختلق ماضيًا حتى يبدو شخصًا مثيرًا للانتباه. كان جابرييل لغزًا بالنسبة لي، وحتى بعدما أصبح عشيقي بفترة طويلة وبعدما أصبح زوجي، كان ولا يزال لغزًا غامضًا بالنسبة لي؛ حتى بالرغم من كل الأشياء التي أعرفها عنه، من عاداته اليومية وسماته الجسدية؛ سواء قسمات وجهه مثل انحناءات وجهه الناعمة وشكل عينيه الضحلتين المرسومتين على وجهه تحت جفون وردية ناعمة، أو تلك التجاعيد المنقوشة على هذه الملامح الناعمة، هذا السطح الناعم الذي لا يمكن فهمه أو اختراقه؛ ومع ذلك تلك الملامح لم يكن لها أي تأثير؛ فجسده كبير وذو هيبة ويعطي إيحاءً بالهدوء والراحة. دائمًا ما كنت أراه يبدو كمتزلج بارع وإن كان كسولًا. يبدو أنني لا أستطيع وصف جابرييل دون أن أشعر بشعور مألوف من الخضوع والاستسلام. أنا لا أستطيع وصف جابرييل ولكني أستطيع أن أصف هوجو، إن سألني أحدهم عنه، أستطِع وصفه حتى أدق التفاصيل؛ حينما كان عمره ثمانية عشر عامًا — منذ عشرين عامًا مضت — كان شعره قصيرًا للغاية كشعر الجنود، كما كان نحيفًا. وجميع عظامه وحتى جمجمته تبدو كما لو كانت مجمعة ومخيطة معًا بالصدفة البحتة؛ فكان هناك شيء غير متسق وغير متوقع، وفي بعض الأحيان خطير، في الطريقة التي تتحرك بها قسمات وجهه أو حتى أسلوب حركة أطرافه. وحينما أحضرت هوجو أول مرة إلى الجامعة أخبرني زميل لي أنه يبدو كمجموعة من الأطراف تم تجميعها وربطها معًا بواسطة حزمة من الأعصاب، وما قاله كان صحيحًا؛ حيث دائمًا ما كنت أستطيع تخيل تلك الخيوط المتقدة التي تعمل على ربطه معًا بعد هذا الموقف.

ومن جهة أخرى حين قابلت جابرييل في المرة الأولى التي رأيته بها أخبرني أنه يستمتع بالحياة. لم يَقُل إنه يعتقد أنه يستمتع بالحياة بل قال إنه يستمتع بها بالفعل. حينها شعرتُ بالأسف عليه؛ وذلك لأني لا أصدِّق الأشخاص الذين يقولون هذا الأمر أبدًا. وعلى كل حال دائمًا ما ترتبط هذه الجملة في ذهني بالرجال الفظاظ محبي التباهي ضيِّقي الصدر المتململين الذين يضمرون ذلك. ولكن على ما يبدو أنها حقيقة جابرييل وأنه صادق بالفعل، فهو ليس بالنوع الفضولي، بل تجده قادرًا على أخذ متعته، كما أنه قادر على الابتسام والمداعبة وأن يقول في حنوٍّ: «لماذا تقلقين بخصوص هذا الأمر؟ إنها ليست مشكلتك.» هذا إضافة إلى أنه قد نسي لغته الأم، وفي بادئ معرفتي به كانت طريقته في مطارحة الغرام تبدو غريبة عليَّ؛ حيث إنها كانت تفتقر إلى العاطفة المتأججة؛ فهو يمارس الحب بفتور — إن جاز التعبير — دون أن تخالجه ذكرى أي ذنب أو رغبة في الفُحش. فهو لا يراقب نفسه، ولن يقوم أبدًا بكتابة قصيدة شعرية عن ممارسة الحب، أبدًا، وستجد أنه قد نسي الأمر برمته بعد نصف ساعة بالفعل. هذا النوع من الرجال شائع الوجود، ربما. المشكلة أنني لم أكن أتعرَّف على أيٍّ من هؤلاء من قبل. وأحيانًا ما تطرأ على ذهني تساؤلات عديدة بخصوصه مثل: هل كنت سأحبه إن تم محو لكنته الغريبة وماضيه المنسي، المنسي تقريبًا؟ هل كنت سأحبه لو كان على سبيل المثال طالبًا يدرس الهندسة في جامعتي في نفس السنة التي كنت أدرس أنا بها؟ أنا لا أعرف الإجابة عن تلك الأسئلة، ولا أستطيع أن أخمنها. فالشيء الذي يجذب أي شخص لرجل أو لامرأة قد يكون شيئًا واهيًا مثل اللكنة الرومانية أو الاستدارة الناعمة لجفن عينه، أو حتى لغزًا ما واهي التبرير يحيط به.

أما هوجو فليس لديه أي لغز كهذا على الإطلاق، هذا ليس لأنني لم ألحظ هذا الأمر أو لعدم معرفتي به، ربما لأنني لم أكن لأصدق أن تحيط به مثل هذه الألغاز. ولكني حينها كنت أُومن بشيء آخر تمامًا؛ هذا الشيء لم يكن إيماني بأني أعرفه أو أني أعرف كل شيء عنه، بل حينها كنت مؤمنة بأن ما أعرفه عن هوجو محفورٌ في وجداني ويسري في دمي ومن حين لآخر كان يتسبب في إصابتي بطفح جلدي قاتل، ولكن لا شيء من هذا يحدث أبدًا مع جابرييل؛ فهو لا يتسبب في إزعاجي أكثر مما يتسبب في إزعاج نفسه.

جابرييل هو من وجد رواية هوجو وأعطاني إياها. حينها كنا موجودَيْن في المكتبة، وقد جاء إليَّ وهو يحمل في يديه كتابًا ورقي الغلاف كبير الحجم وباهظ الثمن، كانت مجموعة مختارة من القصص القصيرة، ومكتوبًا على الغلاف اسم هوجو. تساءلت كيف وجد جابرييل هذا الكتاب؟ وما الذي كان يفعله في قسم الروايات في المكتبة على أي حال؟ فهو لا يقرأ الروايات على الإطلاق، مما جعلني أتساءل عن كونه يزور المكتبة أحيانًا ليبحث عن إصدارات هوجو؛ فقد كان جابرييل يهتم بإنتاج هوجو مثلما قد يهتم بأعمال ساحر أو مغنٍّ مشهور أو أحد الساسة ممن تربطهم به — من خلالي — صلة قوية، وذلك كدليل على واقعية هذه الصلة. أعتقد أن السبب وراء ذلك هو أن مهنته مهنة مجهولة، حيث العمل الذي يقوم به معروف لأقرانه فقط، وأنه مفتون بهؤلاء الذين يعملون بجرأة على مرأًى من الجميع بدون حماية أي قواعد خاصة — لا بد أن الأمر يبدو له بهذا الشكل باعتباره مهندسًا — في محاولة من هؤلاء الأفراد أن يثقوا بأنفسهم ويطوروا ما في جعبتهم من مهارات، على أمل أن يكون هذا كافيًا ليجذبوا الانتباه.

بعد أن أحضر جابرييل الكتاب إليَّ، قال لي: «اشتريه من أجل كِليا.»

فقلت: «أليس هذا الثمن باهظًا على كتاب ورقي الغلاف؟»

فابتسم.

بعدها، توجهت بحديثي إلى كِليا: «انظري، تلك هي صورة والدك، والدك الحقيقي، وهو من كتب هذه القصة، ربما قد ترغبين في قراءتها.» كانت كِليا تقف بالمطبخ تجهز لنفسها خبزًا محمصًا لتأكل. تبلغ كِليا من العمر الآن سبعة عشر عامًا، وفي بعض الأيام قد تأكل الخبز المحمص والعسل وزبدة الفول السوداني وبسكويت الشوكولاتة والجبن المطبوخ وشطائر الدجاج والبطاطس المحمرة، وفي حال قيام أي شخص بالتعليق على الطعام الذي تأكله أو الذي لا تأكله، قد تجري إلى الطابق العلوي وتصفق باب غرفتها بقوة.

«يبدو سمينًا، لطالما أخبرتِني أنه نحيف.» هكذا علَّقت كِليا على الصورة ثم وضعت الكتاب على الطاولة. يبدو أن جميع اهتماماتها فيما يتعلق بأبيها تدور في فلك الاهتمامات الوراثية ونوعية الجينات التي ورثتها عنه؛ فكانت دائمًا ما تطرح أسئلة مثل: هل نوع بشرته من النوع الجميل أم الرديء؟ هل معدل ذكائه عالٍ أم منخفض؟ هل تمتلك النساء في عائلته صدورًا كبيرة؟

رددتُ عليها قائلة: «لقد كان نحيفًا عندما كنت أعرفه.» ثم أردفتُ قائلة: «من أين يتأتى لي العلم بأحواله بعد كل هذه الفترة؟»

ولكن في حقيقة الأمر يبدو هوجو الآن كما تخيلت الحال التي سيبدو عليها بعد مرور كل هذا الوقت. عندما كنت أرى اسمه في الصحف والمجلات أو على الملصقات كنت أتخيل شخصًا على هذه الهيئة؛ لقد توقعت الكيفية التي سيؤثر بها كلٌّ من أسلوب حياته والزمن على هيئته؛ فلم أُفاجَأ بأنه أصبح سمينًا وإن لم يطل الصلع رأسه، بل ترك شعره لينمو بشكل عشوائي، وقد ربَّى لحية كاملة متجعدة، بينما تتهدل الأكياس السوداء تحت عينيه إلى وجنتيه حتى عندما يضحك. هو الآن يضحك للكاميرا، وقد أصبحت أسنانه أسوأ مما كانت عليه؛ فقد كان يكره أطباء الأسنان بشدة، وكان يردد أن السبب هو أن والده توفي جراء أزمة قلبية على كرسي طبيب الأسنان في العيادة، ولكن هذا الأمر كذبة بالطبع، مثل كثير جدًّا من الأشياء الأخرى، أو على الأقل ضرب من ضروب المبالغة. فيما سبق كان معتادًا على أن يبتسم ابتسامة خفيفة أثناء تصويره؛ كي يخفي نابه الأعلى على الجانب الأيمن، ذلك الناب المكسور منذ أن قام أحدهم في المدرسة الثانوية بدفعه حتى سقط في نافورة للشراب. لكنه الآن أصبح لا يبالي بهذا على الإطلاق، إنه يضحك بحرية ويُظهر تلك الجذور المتعفنة. الآن يبدو مكروبًا وسعيدًا في الوقت نفسه. يبدو ككاتب ساخر وناقد لاذع. ويظهر هوجو بالصورة وهو يرتدي قميصًا صوفيًّا مقلمًا يظهر من تحته قميصه الداخلي، لم يَعتَدْ هوجو على لبس قميص داخلي من قبل. وجدت نفسي أوجِّه له عدة أسئلة مثل: هل تقوم بالاستحمام يا هوجو؟ هل رائحة فمك الآن كريهة بحالة أسنانك تلك؟ هل تنادي طالباتك من الفتيات بألقاب قذرة بغضب مفتعل كما اعتدت؟ هل تتلقَّى مكالمات هاتفية من آباء يشعرون بالإهانة من طريقتك؟ هل يقوم عميد الكلية أو أي شخص بشرح موقفك وأنك لم تقصد أي إهانة حقيقية، وأن المؤلفين والكتَّاب ليسوا كبقية البشر؟ ربما لا، ربما لا يمانع أحدٌ هذه الأيام. يتمتع الكتَّاب الغاضبون هذه الأيام بالعديد من النِّعم؛ فهم يتنقَّلون ما بين نعمة وأخرى هذه الأيام، حائرين بين كل تلك النعم، كما هي الحال مع الأطفال المدللين.

لا أمتلك دليلًا على هذا الكلام، لقد قمت بتخيل شخصية كاملة من محض صورة واحدة مشوشة، ولكني سعيدة وراضية عن استنتاج تلك الصور النمطية؛ فأنا لا أمتلك لا المخيلة ولا النية الطيبة تجاهه لأقوم بأي استنتاج مختلف؛ كما أنني على أي حال قد لاحظت مثلما لاحظ الجميع أنه بمجرد أن يصل الشخص لمرحلة منتصف العمر كيف تتلاشى الأقنعة التي يلبسها الأشخاص أو الهويات التي يتقلدونها، إذا أردت تسميتها هكذا، وكيف تضعف مع الوقت. في الأدب القصصي، نطاق عمل هوجو، لن تكون هذه الأقنعة أو الهويات كافية ولن تقوم بالغرض، ولكن على أرض الواقع تبدو هذه الأقنعة هي كل ما نرغب فيه بالفعل، ويبدو أنها الشيء الوحيد الذي يستطيع أي شخص القيام به. على سبيل المثال، انظر لصورة هوجو، انظر لقميصه التحتي، اقرأ التعليق المكتوب عن هوجو تحت الصورة:

هوجو جونسو: وُلد في الريف واكتسب جانبًا من تعليمه هناك في مدن التعدين وقطع الأشجار بشمال أونتاريو بكندا. شغل عدة أعمال منها حطاب وحامل لزجاجات الجعة وموظف ببقالة وعامل أسلاك تليفونات، إضافة إلى ملاحظ للعمال على ماكينة تقطيع الخشب؛ وذلك بالطبع بجانب انخراطه في مختلف الأوساط الأكاديمية بشكل متقطع. والآن يقيم معظم الوقت بالمناطق الجبلية شمال مدينة فانكوفر مع زوجته وأولاده الستة.

يبدو أن زوجته الطالبة تورطت في رعاية كل هؤلاء الأطفال وتربيتهم. تُرى ماذا حدث لماري فرانسيس؟ هل ماتت؟ هل نالت حريتها؟ هل أصابها الجنون بسبب هوجو؟ ولكن استمع للأكاذيب، استمع لأنصاف الحقائق، استمع للحماقات المكتوبة: «والآن يقيم بالمناطق الجبلية شمال مدينة فانكوفر»، كما لو كان يعيش في كوخ بالبرية، وأكاد أجزم أنه يعيش في بيت عادي لطيف ومريح شمال أو جنوب مدينة فانكوفر التي تمتد الآن إلى المناطق الجبلية. وماذا عن قولهم: «انخراطه في مختلف الأوساط الأكاديمية بشكل متقطع»؟ ما المقصد الحقيقي من هذا الكلام؟ هل يقصدون أنه قام بالتدريس في الجامعات سنوات فترة نضوجه أو معظمها، وأن التدريس بالجامعات هو الوظيفة الوحيدة ذات المرتب المجزي التي حظي بها، فلماذا لا يكتبون هذا الأمر فحسب؟ يقومون بتصوير الأمر لتظن أنه شخص يخرج من الأدغال بين الحين والآخر كي يلقي علينا بقطوف من حكمته اللامتناهية، ليرينا كيف يكون «الكاتب»، الذكر الحقيقي و«الفنان» المبدع كما يجب أن يكون؛ من واقع صياغة هذه الجمل لن تتخيل أبدًا أنه يعمل «بالمجال الأكاديمي». ليس لديَّ علم بما إن كان عمل حطابًا أو حاملًا لزجاجات الجعة أو موظفًا ببقالة بالفعل أم لا، ولكني أعلم يقينًا أنه لم يكن عامل أسلاك تليفونات، إنما كان يعمل بدهان أعمدة التليفونات، ولكنه ترك هذه الوظيفة في منتصف أسبوعه الثاني من العمل متذرعًا بأن حرارة الشمس وتسلُّق الأعمدة يصيبانه بالغثيان. كان ذلك بعدما تخرَّجنا مباشرة في شهر يونيو، وكان الجو شديد السخونة. ربما كان على حق؛ لقد كانت كلٌّ من الشمس والحرارة يصيبانه بالغثيان حقًّا، فخلال تلك الفترة عاد مرتين إلى المنزل وتقيأ. لقد قمت بترك عدة وظائف من قبل؛ لأني لم أحتملها؛ ففي نفس فصل الصيف ذاك تركت وظيفتي في طي الضمادات في مستشفى فيكتوريا؛ حيث كدت أجنُّ من الملل في تلك الوظيفة. ولكن لو كنت كاتبة وأقوم بكتابة مسيرتي المهنية وكل الوظائف المتنوعة والمختلفة التي عملت بها من قبل، فلا أعتقد أنني سأقوم بكتابة «وظيفتي في طي الضمادات»؛ لا أعتقد أن الأمانة ستحتم عليَّ هذا.

بعد تركه هذه الوظيفة، وجد هوجو وظيفة أخرى يقوم فيها بتصحيح اختبارات الصف الثاني عشر. لماذا لم يَقُم بكتابة هذه الوظيفة؟ مصحِّح اختبارات. لقد كان يحب تصحيح ورق الاختبارات أكثر من تسلُّق أعمدة التليفونات، وربما يحبها أكثر من الحطابة أو حمل زجاجات الجعة أو أي من تلك الوظائف الأخرى التي عمل بها، إن كان عمل بها بالفعل. لماذا لم يكتب هذه الوظيفة؟ لماذا لم يكتب أنه كان «مصحِّح ورق اختبارات»؟

على حد علمي، لم يكن هوجو قطُّ ملاحظًا للعمال على ماكينة تقطيع الخشب. لقد عمل مرة في مصنع عمه في فصل الصيف الذي يسبق وقت تعرُّفي عليه، وكل ما كان يقوم به هو أن يحمل قطع الخشب وأن يسمع السباب من ملاحظ العمال الحقيقي الذي لم يكن يحب هوجو لأن عمه هو رب العمل. وفي المساء عندما لم يكن متعبًا للغاية من عمله كان يمشي مسافة نصف ميل إلى جدول صغير ليعزف بآلة الفلوت الخاصة به. كان البعوض الأسود يزعجه، ولكنه كان يقوم بالعزف عليها على أي حال. كان يمكنه عزف مقطوعة «الصباح» لبيير جنت وبعض الألحان الإليزابيثية التي لا أذكر اسمها، ما عدا مقطوعة واحدة ما زلت أتذكَّرها هي مقطوعة «وولسيز وايلد»، التي تعلمتُ كيفية عزفها على البيانو كي نتمكن من عزفها معًا. تُرى ما القصد من اسم هذه المقطوعة؟ هل هي للكاردينال وولسي، وما المقصود بكلمة «وايلد»؟ هل هي رقصة؟ هيا دوِّن تلك الهواية يا هوجو، «عازف على آلة الفلوت». كان هذا سيعد أمرًا جيدًا ومقبولًا ويتبع أحدث الصيحات؛ فحسبما أفهم ما يدور من حولنا سنجد أن عزف آلة الفلوت وتلك الأشياء الغرائبية غير مغضوب عليها في العصر الحالي، بل على النقيض من ذلك، ستجد هذه الأنشطة متعارفًا عليها ومقبولة أكثر من الحطابة وحمل زجاجات الجعة. يا إلهي، انظر لنفسك يا هوجو، ألم يكفِك أن صورتك مزيفة، بل صورة عفى عليها الزمن أيضًا؟ كان من الأفضل لك أن تقول إنك ذهبت للتأمل مدة عام في جبال «أتر براديش» بالهند. كان من الأفضل لك أن تقول إنك كنت تقوم بتدريس الدراما الإبداعية للأطفال المصابين بالتوحد، كان من الأفضل لك أن تحلق شعرك، وأن تحلق ذقنك وأن ترتدي قلنسوة الرهبان، كان من الأفضل لك أن تصمت يا هوجو.

عندما كنت حاملًا بكِليا كنا نعيش في منزل في شارع أرجايلز في مدينة فانكوفر. كان المنزل مطليًّا بالجص الرمادي المُقبض من الداخل؛ مما جعلنا نقرر في شتاء ممطر أن نقوم بطلاء المنزل بأكمله من الداخل، جميع الغرف، بألوان زاهية غير متناسقة؛ حيث طلينا ثلاثة جدران بغرفة النوم بلون أزرق فاتح ضارب إلى الرمادي، والجدار الرابع بالأحمر الأرجواني، حينها كنا نقول إنها تجربة لنرى إذا ما كانت الألوان يمكن أن تدفع أي شخص للإصابة بالجنون يومًا ما. أما الحمام فقد تم طلاؤه بلون أصفر برتقالي غامق، وعندما انتهينا من طلائه علق هوجو على الحمام قائلًا: «يبدو كما لو أننا بداخل قطعة جبن؛ هذا صحيح، أليس كذلك؟» ورددت عليه قائلة: «هذه جملة جيدة يا صانع الجمل.» حينها كان سعيدًا ولكن ليس بنفس مقدار السعادة التي كان سيشعر بها جراء كتابة تلك الجملة بدلًا من قولها. فيما بعد، في كل مرة يقوم بها بعرض الحمام على أي شخص يقول: «انظر، هل ترى هذا اللون؟ إنه يبدو كما لو أننا بداخل قطعة جبن.» أو يقول: «كما لو أننا نقضي حاجتنا بداخل قطعة جبن.» وليس الأمر أنني لم أَقُم بنفس الشيء، حفظ بعض الجمل وترديدها مرارًا وتكرارًا، فربما قلت تلك العبارة عن قضاء الحاجة بداخل قطعة جبن، حيث كانت لدينا العديد من الجمل المشتركة؛ فعلى سبيل المثال كان كلانا يطلق على مالكة البيت لقب الدبور الأخضر؛ إذ إنها في المرة الوحيدة التي رأيناها بها كانت ترتدي رداءً بلون السم الأخضر الذي نراه في القصص الخرافية، وكان يزين الرداء قطع من فراء الفئران وصحبة من ورود البنفسج؛ كان الرداء يعطي إيحاءً بالشر. كانت ربة البيت تتعدى السبعين من عمرها وكانت تدير بنسيونًا للرجال بوسط المدينة. أما ابنتها دوتي فكنا نطلق عليها لقب الغانية المقيمة. لا أدري لماذا اخترنا لها لقب «غانية»؛ فهذه المفردة غير مستخدمة عادة. أعتقد أننا استخدمناها بسبب كونها مفردة يبدو على طريقة نطقها الرقيُّ، طريقة نطق راقية وتدل على الانحراف في نفس الوقت، الأمر الذي يتناقض وبسخرية مع دوتي نفسها؛ فأنا وهوجو نعشق السخرية.

كانت دوتي تعيش في قبو المنزل بشقة مكونة من غرفتين، وكان عليها دفع خمسة وأربعين دولارًا لأمها كإيجار شهري لتلك الشقة، وقد أخبرتني في مرة أنها تحاول تدبير المال عن طريق عملها جليسة أطفال.

حينها فسرت لي اختيارها قائلة: «أنا لا أستطيع الخروج إلى العمل، فأعصابي لا تحتمل هذا الضغط. لقد أمضيت أكثر من ستة شهور مع زوجي السابق وهو يحتضر بسبب داء في الكليتين في منزل أمي، وما زلت مدينة لها بأكثر من ثلاثمائة دولار مقابل هذه الإقامة. كانت تجبرني على أن أصنع له شراب البيض بلبن خالي الدسم. لا يوجد يوم بحياتي لم أكن مفلسة فيه. كانوا دائمًا يقولون إن الصحة تغلب المال، وما دمتُ متمتعة بصحتي فكل شيء بخير، ولكن ماذا يحدث إذا لم يكن لديك لا صحة ولا مال؟ فمنذ الثالثة من عمري وأنا مصابة بالالتهاب القصبي الرئوي، ثم أصابتني الحمى الروماتيزمية وأنا في الثانية عشرة، وفي السادسة عشرة تزوجت زوجي الأول الذي لقي حتفه في حادث قطع أشجار، هذا إضافة إلى أني أُجهضت ثلاث مرات، فأصبحت رحمي متهتكة؛ مما يجعلني أستخدم ثلاث علب من الفوط الصحية شهريًّا. فيما بعد تزوَّجت من مُزارع يمتلك مزرعة ألبان في الوادي، ثم حدث أن أصابت الحمى قطيعه؛ مما جعلنا معدمين، هذا هو زوجي الذي توفي جراء داء بكليتيه. لا عجب، لا عجب على الإطلاق أن أعصابي منهارة.»

لقد اختصرتُ الكثير من الحوار. تم هذا الحوار على طاولة دوتي حينما دعيت لاحتساء الشاي ثم الجعة فيما بعد، وكان هذا الحوار أطول من هذا بكثير وفي الواقع في منتهى الحزن والتعاسة، وبالرغم من ذلك كان يوجد حس بالفخر والانشداه في حديث دوتي. هذه هي الحياة الواقعيَّة بعيدًا عن الكتب أو المقالات أو الصفوف الدراسية أو المناقشات. لقد كانت شخصية دوتي على النقيض من شخصية والدتها؛ فقد كانت صريحة ورقيقة ولينة ومغلوبة على أمرها، هذا النوع من السيدات الحائرات اللواتي لا يحملن ما يميزهن عن غيرهن، واللواتي تجدهن على محطات الحافلات في المدينة منتظرات للحافلة بأيديهن أكياس التسوق. في الواقع، لقد وجدتُ دوتي في نفس هذا الوضع تمامًا، حيث رأيتها على محطة الحافلات في وسط المدينة، ولم أتعرَّف عليها في بادئ الأمر حيث كانت ترتدي معطف شتاء أزرق باهت اللون. كانت غرفة دوتي مليئة بالأثاث الثقيل، أثاث جمعته من زواجها: بيانو عمودي، وأريكة كبيرة وكراسي متخمة، وخزانة مكسوة بخشب الجوز للآنية الخزفية، إضافة إلى طاولة لغرفة الطعام، تلك التي جلسنا إليها؛ وكان يوجد بمنتصف هذه الطاولة مصباح ضخم ذو قاعدة خزفية مزخرفة، مزود بكمة حريرية مطوية ذات لون أحمر داكن، وكانت تلك الكمة موضوعة بزاوية غريبة كما لو كانت تنورة مطوقة.

وصفتُ هذا المصباح لهوجو قائلة: «إنه مصباح بيت البغاء.» فيما بعد أردت أن يهنئني ويحييني على دقة هذا الوصف. وقد أخبرته أنه عليه أن يُولِي دوتي مزيدًا من الاهتمام في حال إذا أراد أن يكون كاتبًا. كما أخبرته عما حدث لزوجها ولرحمها وعن مجموعتها من الملاعق التي تباع في محلات الهدايا التذكارية، وكان ردُّه حينها أنني لديَّ مطلق الحرية في متابعتهم بنفسي. كان حينها يقوم بكتابة مسرحية شعرية.

بمجرد نزولي للقبو كي أضع الحطب في المدفأة وجدت دوتي تقف على الباب مرتدية روبًا من الشانيل وردي اللون، وهي تودع رجلًا يرتدي زيًّا كالذي يرتديه العاملون في محطات البنزين أو رجال تسليم البضائع. حدث هذا الأمر في منتصف وقت العصر. لم تكن طريقتها في توديع هذا الرجل تدل على أي نوع من أنواع الفحش أو العاطفة، ولم أكُن لأستنتج أي شيء يتعلق بهذا المنحى، ربما كنت سأحسب هذا الرجل مجرد قريب أو نسيب لولا أنها بدأت وهي سكرى قليلًا في سرد قصة طويلة حول كيف ابتلَّت ملابسها بسبب المطر، وكان أن اضطرت أن تترك ملابسها في منزل والدتها ولبس فستان من فساتين والدتها التي كانت ضيقة عليها للغاية مما أدى لارتدائها هذا الروب؛ ولذلك هي تقف مرتدية إياه الآن. ثم بدأت في سرد كيف أن لاري رآها وهي مرتدية تلك الملابس أثناء توصيله لبعض الملابس التي طلب منها أن تُخيطها لزوجته، وكيف أنني أراها الآن بنفس الملابس، وأنها لا تدري كيف تبدو صورتها الآن أمامنا. الأمر كله كان غريبًا، حيث إنني قد رأيتها عدة مرات من قبل وهي مرتدية الروب. وأثناء ضحكها وشرحها للموقف قام الرجل بتجنُّب الحديث وخرج من الباب دون أن ينظر إليَّ أو يبتسم أو يقول أي كلمة من أي نوع أو حتى لدعم قصة دوتي حول ما حدث.

حينها أخبرت هوجو: «يبدو أن لدى دوتي عشيقًا.»

فرد عليَّ قائلًا: «أنت لا تخرجين من المنزل كثيرًا، والآن تحاولين جعل حياتك أكثر إثارة.»

طوال الأسبوع التالي لهذه الحادثة قمت بمراقبة المنزل لمعرفة ما إذا كان هذا الرجل قد عاود الظهور مجددًا. لم يظهر مرة أخرى، ولكن ظهر ثلاثة رجال آخرين؛ واحد منهم جاء مرتين، كانوا يسيرون بسرعة ورءوسهم منكسة ولم يضطروا للانتظار أمام باب القبو أيضًا. حينها لم يستطِع هوجو إنكار ما يحدث، وعلق على هذا الأمر قائلًا إن الواقع يقتبس من الخيال، وبعد كل تلك الغانيات السمينات ذوات الدوالي اللائي قابلهن في الكتب، كان من المحتم أن يحدث ذلك. حينها بدأنا في إطلاق لقب الغانية المقيمة على دوتي، وبدأنا نتباهى بها أمام أصدقائنا، فكانوا يأتون لزيارتنا كي يقفوا خلف الستائر في محاولة اختلاس نظرة خاطفة لها وهي تدخل منزلها أو تخرج منه.

كانوا يقولون: «ليست هي تلك! أهي تلك فعلًا؟ أليست مخيبة للآمال؟ ألا تمتلك أي ملابس خاصة بالمهنة؟»

فكنا نرد عليهم أنا وهوجو قائلين: «لا تكونوا ساذجين، هل تعتقدون أنهن جميعًا يرتدين الترتر وأوشحة الريش؟»

ثم لزم الجميع الصمت ليستمعوا لعزفها على البيانو، وبدأت هي في الغناء أو الهمهمة إلى جانب عزفها، لم يكن صوتها ذا وتيرة ثابتة بل ذا نبرة عالية، وكان صوتها ذلك الصوت المفعم بالتحدي والسخرية الذاتية الذي يستخدمه الناس حينما يكونون بمفردهم أو يعتقدون أنهم بمفردهم. قامت دوتي بغناء مقطوعة «وردة تكساس الصفراء» ومقطوعة «لا يمكن أن تكوني حقيقية يا حبيبتي».

«على الغانيات أن يتعلمن إنشاد الترانيم.»

«سوف نحاول تعليمها بعض الترانيم.»

وأثناء حديثنا علَّقت فتاة تدعى ماري فرانسيس شريكر، قائلة: «جميعكم مختلسون للنظر، أنتم جميعكم تتصفون بالخسة.» كانت ماري فرانسيس فتاة ذات بنية عظمية كبيرة، وجهها ذو ملامح هادئة، ولديها ضفائر سوداء تنسدل على ظهرها، وكانت متزوجة من أعجوبة علم الرياضيات إليسورث شريكر الذي كان قد أصيب بانهيار عصبي. كانت ماري فرانسيس تعمل أخصائية تغذية، ودائمًا ما كان هوجو يقول إنه لا يستطيع النظر إليها دون أن يتبادر إلى ذهنه كلمة «سمكة العفريت»، ولكنه اعتقد أن وجودها إلى جانبه سيغذيه، مثل عصيدة الشوفان، وفيما بعد أصبحت زوجته الثانية. لطالما اعتقدت أنها الزوجة المثالية له، ولطالما اعتقد أنها ستبقى بجواره إلى الأبد تغذيه، ولكن جاءت الطالبة وأزاحتها من موضعها.

كان عزف دوتي على البيانو هو وسيلة الترفيه التي نقدمها لأصدقائنا، ولكنه كان أمرًا كارثيًّا في الأيام التي يوجد فيها هوجو بالمنزل يحاول أن يعمل. كان من المفترض أن يعمل على بحثه، ولكنه في واقع الأمر كان يعمل على مسرحيته، وكان يعمل في غرفة نومنا على طاولة معدة للعب الورق موضوعة بجوار النافذة المواجهة للسياج. وحينما تعزف دوتي على البيانو كان يخرج للمطبخ ويقرِّب وجهه من وجهي ويتحدث بصوت ونبرة منخفضة توضح مدى غضبه ومحاولته للسيطرة عليه، قائلًا: «انزلي إليها وأخبريها أن تتوقف عن ذلك فورًا.»

«فلتنزل أنت إليها.»

فيصرخ: «اللعنة، هي صديقتك أنت، أنت من تحثينها، أنت من تشجعينها.»

«ولكني لم أَقُل لها أن تعزف على البيانو!»

«لقد رتبتُ جدولي كي أتفرغ عصر هذا اليوم للعمل، لكن لم أتمكن من العمل قط. لقد رتبت جدولي. أنا في مرحلة حرجة. فهذه المسرحية إما أن «تحيا» وإما أن «تموت». إذا ذهبت أنا إليها أخشى أن أقوم بخنقها.»

«إذن لا تنظر «إليَّ». لا تخنقني «أنا». أرجوك سامحني على تنفسي وكل ما أقوم به.»

ولكني عادةً ما كنت أنزل إلى القبو، هذا أمر مفروغ منه، ثم أطرق الباب وأطلب من دوتي إذا كان من الممكن ألا تعزف البيانو في الوقت الحالي حيث إن زوجي بالمنزل ويحاول أن يعمل. لم يحدث قط أن قلت «يكتب»؛ فقد دربني هوجو ألا أقول هذا أبدًا، وكانت تلك الكلمة كالسلك العاري في علاقتنا. وفي كل مرة كانت دوتي تعتذر؛ حيث إنها كانت تخاف من هوجو وتحترم عمله وذكاءه، وكانت تتوقف عن العزف على البيانو، ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أنها قد تنسى وتبدأ في العزف مرة أخرى بعد ساعة أو نصف الساعة. كانت إمكانية حدوث هذا الأمر دائمًا ما تشعرني بالتوتر والبؤس؛ حيث إنني كنت حاملًا وقتها وأرغب في تناول الطعام طوال الوقت، وكنت أجلس إلى طاولة الطعام أتناول الطعام بنهم وتعاسة، وكنت حينها أتناول وجبات دافئة مثل طبق الأرز الإسباني. عندئذ كان هوجو يشعر بأن العالم يقف أمام كتاباته، كان يشعر أنه ليس سكان العالم من البشر فقط هم من يعادونه بل أيضًا ضوضاؤه وملهياته والفوضى اليومية جميعها متفقة ضده، يمنعونه عن قصد من عمله بشكل شيطاني خبيث. وكانت وظيفتي هي أن أحول بينه وبين العالم الواقف ضده، ولكن للأسف فشلت في أداء تلك الوظيفة، ربما كان السبب وراء هذا الفشل هو اختياري أن أكون فاشلة فيها أكثر من كوني غير كفء لأدائها. فأنا لم أكن أُومن بهوجو، ولم أكن أستوعب مدى أهمية أن أُومن به. لقد كنت مقتنعة بأنه شخص ذكي وموهوب، أيًّا كان المقصود بالذكاء والموهبة هنا، ولكني لم أكن مؤمنة بأنه سوف يصبح كاتبًا، فهو لم يكن يمتلك الملكات التي يجب أن يتحلى بها الكاتب، حسبما أراه؛ إذ كان عصبيًّا للغاية، وسريع الغضب مع كل الناس، ومغرورًا أكثر من اللازم. وكنت أرى أنه يجب على الكاتب أن يكون هادئ الطباع، وأن يكون شخصًا حزينًا، وأن يتمتع بالكثير من المعرفة. كنت مؤمنة أن هناك فرقًا شاسعًا بينهما، حيث كنت أرى أن هناك صفة واضحة ومهمة يجب أن يتحلَّى بها الكتَّاب ويفتقر إليها هوجو. لطالما اعتقدت أنه سيحين اليوم الذي سيدرك فيه هذه الأمر، ولكن في الوقت نفسه كان هوجو يعيش في عالم خاص به، عالم له امتيازات وعواقب غريبة، ولا أدرى عنها شيئًا، كما لو كان شخصًا مجنونًا. فكان يجلس لتناول العشاء شاحب اللون ويبدو عليه الاشمئزاز، وكان ينكبُّ على الآلة الكاتبة في جنون بغرفة النوم عندما كنت أدخل لإحضار شيء منها، وأحيانًا أخرى كان يقفز في غرفة المعيشة ويسألني أن أحزر مَن يكون (وحيد قرن يعتقد أنه غزال، أو الرئيس ماو تسي تونج يرقص رقصة الحرب في حلم يحلم به وزير الخارجية جون فوستر دالاس)، وفجأة يبدأ في تقبيل عنقي وحنجرتي مُصدِرًا أصوات شخص جائع يقوم بالتهام الطعام، ولكني لم أكن أدرى ما هي أسباب أو مصدر نوبات غضبه أو سعادته، ولم يكن يخبرني، ولم أكُن عاملًا مؤثرًا في تلك النوبات. أحيانًا كنت أقول له مغيظة إياه:

«فلنفترض أنه بعد ولادة الطفل نشب حريق بالمنزل وكان كلٌّ من الطفل والمسرحية بداخل المنزل، فأيهما ستحاول إنقاذه؟»

فيرد قائلًا: «كليهما.»

فأقول: «ولكن فلنفترض أنه يمكنك أن تنقذ واحدًا فقط منهما، فأيهما ستختار؟ دع عنك الطفل، فلنفترض أنني بخطر، كلا، فلنفترض أنني أغرق «هنا» وأنت أيضًا «هنا» ولا يمكنك أن تنقذنا نحن الاثنين …»

فيرد قائلًا: «أنت تصعبين هذه المسألة عليَّ كثيرًا.»

«أدري ذلك، أنا أدري أنني أصعبها عليك، ألا تكرهني؟»

«بالطبع أكرهك.» بعد ذلك قد نذهب إلى الفراش مثارَيْن ونصطنع الشجار ونلعب ونصيح. لقد كانت حياتنا كلها — الجزء الناجح من حياتنا معًا — عبارة عن مجموعة من الألعاب. فأحيانًا كنا نختلق الأحاديث بالحافلة لنثير اندهاش الناس. وذات مرة ذهبنا إلى حانة وقام بتوبيخي على تركي للأطفال وحدهم في المنزل لكي أخرج مع رجال آخرين بينما هو يعمل في الأدغال كي يقوم بتأمين معيشتنا، ثم يتضرَّع إليَّ كي أتذكَّر دوري كزوجة وكأم، فأنفث أنا دخان السجائر في وجهه والناس من حولنا يبدو عليهم الجدية والرضا. وعندما نخرج من الحانة نضحك حتى لا نستطيع الوقوف، ونضطر إلى أن يمسك أحدنا بالآخر متكئين على الحائط. وكنا نلعب بالفراش أدوار السيدة تشاترلي ومستر ميلرز (أبطال رواية عشيق السيدة تشاترلي)، وكنا نقتبس حوارات من الكتاب.

فيقول لي هوجو بصوت أجش: «أين ذهب هذا النذل جون توماس؟ أنا لا أستطيع أن أجد جون توماس!»

فأرد عليه بشكل راقٍ وأرستقراطي: «أنا في قمة الأسف، يبدو أنني قد ابتلعته.»

•••

كانت هناك مضخة مياه بالقبو، وكانت تُصدر طرقات عالية منتظمة. لم يكن البيت بعيدًا عن نهر فراسر، وكانت أرضه منخفضة قليلًا عما حولها؛ لذا كان على هذه المضخة العمل معظم الوقت، في الأجواء الممطرة، لتحول دون غرق القبو تحت الماء. شهر يناير في فانكوفر دائمًا ملبَّد بالغيوم وغزير الأمطار، كذلك شهر فبراير الذي يليه. كنت أشعر أنا وهوجو بالاكتئاب؛ مما يجعلني أنام كثيرًا، على العكس من هوجو الذي لم يكن يستطيع النوم، كان يدَّعي أن صوت المضخة هو ما يجعله مستيقظًا طوال الليل، ويمنعه من العمل طوال النهار. كانت ضوضاء المضخة تحلُّ محل صوت عزف دوتي على البيانو، وهو ما أثار حنقه وأغاظه على نحو أكبر؛ ليس فقط بسبب صوتها المزعج، ولكن أيضًا بسبب تكلفتها؛ حيث إن معظم دخلنا كان يذهب لفاتورة الكهرباء، مع أن دوتي هي المقيمة في القبو، وتُعتبر هي المستفيدة الوحيدة منها؛ حيث تمنع عنها دخول الماء. قال هوجو إنه يجب عليَّ التحدث مع دوتي بهذا الشأن، لكني أجبته بأن دوتي لا يمكنها الوفاء بنفقاتها؛ فقال إنه يمكنها أن تستقبل المزيد من الرجال، فقلت له أن يخرس. فمع تقدمي في أشهر الحمل، وإذ صرت أثقل وزنًا وحركتي أبطأ، تعودت على دوتي أكثر وأكثر، وأصبحت أحبها وأحفظ كلامها عن ظهر قلب، وأردِّده، كنت أشعر وأنا معها بأنني في بيتي أكثر من شعوري بذلك مع هوجو أو أصدقائنا.

قال هوجو: لا بأس، عليَّ أن أهاتف ربة المنزل. فأخبرته أن عليه فعل ذلك، فأجاب بأنه لديه الكثير ليفعله. في الحقيقة كنا نحن الاثنين نعزف عن مواجهة ربة المنزل لعلمنا مسبقًا بأنها ستربكنا وتهزمنا بهزل حديثها المزعج المراوغ.

استيقظت ذات مرة في نصف الليل في منتصف أسبوع مطير متسائلة ما الذي أيقظني؟ اكتشفت أنه الهدوء.

«هوجو، استيقِظْ، لقد تعطَّلت المضخة، لا أستطيع سماع صوتها.»

فأجاباني: «أنا مستيقظ.»

«المطر ما زال منهمرًا والمضخة لا تعمل، يبدو أنها تعطَّلت.»

«كلا، إنها ليست معطلة، لقد أطفأتُها.»

فاعتدلتُ في جلستي وأضأت المصباح، لأجد هوجو مستلقيًا على ظهره، وعيناه تقدحان شرارًا ويحاول النظر إليَّ بحدة في نفس الوقت، فقلت له:

«أنت لم تطفئها.»

«حسنًا لم أطفئها.»

«أنت فعلت ذلك؟»

«أنا لا أستطيع تحمُّل تلك التكاليف الملعونة أكثر من ذلك، لا أحتمل حتى مجرد التفكير بها، ولا أتحمل الضوضاء أيضًا، أنا لم يغمض لي جفنٌ منذ أسبوع.»

«سيغرق القبو.»

«سوف أشغلها في الصباح، كل ما أحتاجه بضع ساعات من الهدوء والسكينة.»

«سوف يكون هذا بعد فوات الأوان، المطر ينهمر بغزارة.»

«كلا، إنها لا تمطر بشدة.»

«اذهب لترى من الشباك.»

«إنها تمطر، لكن ليس بغزارة.»

أطفأت المصباح ورقدت بجانبه، وقلت بصوت هادئ وحازم: «هوجو، استمع لي، اذهب وشغِّل المضخة، دوتي ستغرق.»

«في الصباح.»

«يجب أن تذهب وتشغِّلها الآن.»

«حسنًا، لن أذهب.»

«إن لم تذهب، فسأذهب أنا.»

«كلا، لن تذهبي.»

«بل سأذهب.»

لكني لم أتحرك من مكاني، فقال بحدة:

«لا تهوِّلي الأمر دون داعٍ.»

«هوجو.»

«لا تصيحي.»

«ستتلف المياه حاجاتها.»

«هذا أفضل شيء ممكن حدوثه لها. على كل حال، لن تتلف.» استلقى بجواري، دون حراك، ولكن في ترقُّب، على ما أعتقد، كان ينتظر مني أن أنزل، وأحاول أن أكتشف كيف أشغِّل المضخة، وبعدها، ماذا سيفعل؟ هو لن يضربني؛ فأنا في شهور حملي الأخيرة، وهو لم يضربني قط، إلا إذا بدأت أنا بذلك. من الممكن أن يذهب ويطفئها مرة أخرى، وأذهب أنا لأشغلها ثانية، وهكذا، إلى متى سيستمر هذا؟ ربما يعوق طريقي، لكني إذا قاومته كثيرًا فسيخاف أن يؤذيني، من الممكن أن يسبَّني ويغادر البيت، لكننا لا نمتلك سيارة، إنها تمطر بغزارة، ولن يستطيع الانتظار بالخارج طويلًا. من الممكن أن يستشيط غضبًا ويعبس، أو أن آخذ أنا البطانية وأنام على الأريكة بغرفة الجلوس بقية الليل. أعتقد أن أي امرأة ذات شخصية حازمة ستفعل ذلك، أعتقد أن أي امرأة تريد لهذا الزواج أن ينتهي ستفعل ذلك، لكنني لن أفعله، بدلًا من ذلك، حدَّثت نفسي أنني لا أعرف كيف أشغِّل المضخة، وأنني خائفة من هوجو، حدَّثت نفسي باحتمالية أن هوجو محقٌّ؛ لا شيء سيحدث، لكني أردت أن يحدث شيء ما؛ أردت أن يتراجع هوجو عن رأيه.

عندما استيقظتُ كان هوجو قد رحل، وكانت المضخة تطرق كالعادة، كانت دوتي تقرع الباب المؤدي لدرجات القبو بعنف.

«لن تصدقي عينيك إذا رأيت ما هنا، إني غارقة في الماء لركبتي. ما إن وضعت رجلي من السرير على الأرض حتى غرقت هكذا. ماذا حدث؟! أسمعت صوت المضخة يتوقف؟»

قلت لها: «كلا.»

«لا أعرف ما الذي حدث، أعتقد أنها تعطلت، لقد تناولت زجاجتَي بيرة قبل النوم ورحت في سبات عميق كأني سافرت. كنت سأشعر إن حدث مكروه، أنا دائمًا أنام نومًا خفيفًا، لكني كنت نائمة هذه الليلية كالميتة، وبمجرد أن أنزلت قدمي عن السرير … يا إلهي! لحسن حظي أنني لم أُضئ المصباح في نفس الوقت، كنت سأصعق بالكهرباء. كل شيء يطفو على الماء.»

لم يكن هناك شيء يطفو، فالماء لن يصل لركبة شخص بالغ؛ كان بارتفاع حوالي خمس بوصات في بعض المواضع، وبارتفاع بوصة أو اثنتين في مواضع أخرى، فالأرض غير مستوية بشكل كبير. وصل الماء أسفل الأريكة والكراسي وترك أثره عليها، وتسرَّب إلى الأدراج السفلية والخزانة، وحجب قاعدة البيانو. وتخلخل الماء بلاطات الأرض، وتشبَّعت السجاجيد تمامًا بالماء، وكانت أطراف الشراشف تقطر ماء، وأصاب سخانها الأرضي التلف.

ارتديت ملابسي، ولبست حذاء هوجو طويل الرقبة، وأخذت الممسحة ونزلت إلى أسفل. بدأت في نزح الماء باتجاه البالوعة خارج الباب، أما دوتي فصنعت لنفسها كوبًا من القهوة بمطبخي، وجلستْ بعض الوقت على الدرجة العليا تشاهدني، تتفوَّه بنفس العبارات؛ لقد شربتْ زجاجتَي بيرة وغطَّت في نوم عميق، على غير العادة، ولم تسمع المضخة تتوقف عن العمل، ولا تعرف لماذا تعطَّلت، وإذا تعطَّلت فكيف ستشرح لوالدتها أنها تعطَّلت، وهي بالتأكيد ستحمِّلها المسئولية وتحمِّلها التكاليف. ارتأيت أنا أن هذا من حسن حظنا (حسن «حظنا»؟) فتوقع دوتي القليل من سوء الحظ، واستساغتها له، جعلها أبعد عما كان سيقوم به أي شخص آخر من تحرِّي ما حدث من خطأ. وبعدما انخفض منسوب الماء قليلًا، ذهبت دوتي إلى غرفة نومها وارتدت ملابسها ولبست حذاءها — اضطرت لتنشيفه أولًا — وأحضرت ممسحتها، وأتت لمساعدتي. وقالت:

هذه الأشياء لا تحدث لي، أليس كذلك؟ أنا لم ألجأ لقراءة طالعي قط. كان لي صديقات يلجأن إلى قراءة طالعهن دائمًا، وكنت أقول لا عليكن بي، فأنا أعرف ما سيحدث لي، وهو ليس بالشيء الجيد.

صعدتُ إلى أعلى، واتصلت بالجامعة بحثًا عن هوجو، أخبرتهم أنه أمر طارئ، ووجدوه في المكتبة، فقلت له:

«لقد غرقت.»

«ماذا؟»

«لقد غرقت؛ شقة دوتي تحت الماء.»

«لقد شغَّلت المضخة.»

«يا لطيب ما فعلت! لقد شغَّلتها هذا الصباح.»

«انهمر المطر بغزارة هذا الصباح، ولم تستطِع المضخة استيعابه. كان ذلك بعد أن شغَّلت المضخة.»

«لم تستطِع المضخة استيعابه الليلة الماضية؛ لأن المضخة لم تكن تعمل الليلة الماضية، ولا تَقُل لي مرة أخرى إن المطر انهمر بغزارة.»

«حسنًا، لكنه بالفعل انهمر، أنتِ كنتِ نائمة.»

«إنك لا تدرك ما الذي تسببتَ به، أليس كذلك؟ إنك حتى لم تحمِّل نفسك عناء البقاء لتشاهد ما حدث. كان يجب أن أرى ما حدث، كان يجب أن أتعامل مع الأمر، كان يجب أن أستمع لتلك المسكينة.»

«سدِّي أذنيك.»

«اخرس أيها الأحمق عديم الأخلاق.»

«آسف، كنت أمزح، آسف.»

«آسف! أتقول تلك الكلمة اللعينة الآن! أنت من تسببت في هذه الفوضى، وقد حذرتك من هذا، تأتي الآن لتقول مجرد كلمة لعينة.»

«يجب أن أذهب إلى ندوة، آسف. لا أستطيع التحدث الآن، لا طائل من التحدث إليكِ الآن، لا أعرف ما الذي تحاولين دفعي لقوله.»

«أنا فقط أحاول أن أجعلك «تدرك» ما حدث.»

«لا بأس، أنا أدرك ذلك، ولكني لا أزال أعتقد أنه حدث هذا الصباح.»

«أنت لا تدرك، ولن تدرك شيئًا.»

«أنت تهوِّلين الأمر.»

«أنا أهوِّل!»

وانتهى نصيبنا معًا إلى هذا الحد. أما والدة دوتي فلم تكن مثلها يمكن أن تتغاضى عن تفسيرات لما حدث، ففي النهاية ما تلف من بلاطات الأرض وورق الحائط هو لها. لكن والدة دوتي كانت مريضة، فهذا الجو البارد الرطب هدَّ قواها، وانتقلت إلى المستشفى لإصابتها بالتهاب رئوي هذا الصباح، في حين ذهبت دوتي إلى منزل والدتها لرعاية المقيمين به. كانت رائحة القبو عفنة ومقزِّزة. انتقلنا نحن أيضًا من المكان بعد مدة قصيرة؛ كان هذا قبل ولادتي كِليا، ونزلنا بيتًا شمال فانكوفر، يمتلكه بعض أصدقائنا الذين سافروا إلى إنجلترا. تراجع الشجار ما بيننا في غمار الانتقال، لكنه في الواقع لم يُحلَّ قط؛ لم يتنازل أحدنا عن المواقف التي اتخذها أثناء المحادثة الهاتفية؛ حينما قلت له أنت لا تدرك، ولن تدرك، وقال لي ما الذي تدفعينني لقوله؟ وتساءل بعقلانية: لِمَ كل هذه الجلبة بشأن هذا الموضوع؟ وقد يتساءل أي شخص هذا التساؤل. بعد فترة طويلة، رحلت بعيدًا عنه، وتساءلت أيضًا؛ كان من الممكن أن أشغِّل المضخة كما قلت، وأتحمل مسئولية كلينا، وأتصرف كامرأة واقعية وصبورة — أي امرأة متزوجة بحق كانت ستفعل ذلك — كما أنني متأكدة من أن ماري فرانسيس كانت ستفعل ذلك، بل فعلته عدة مرات طوال مدة زواجها التي استمرت عشر سنوات؛ أو كان من الممكن أن أخبر دوتي حقيقة ما حدث، مع أنها ليست فكرة جيدة. كان يمكن أن أقول لشخص ما، إذا كان ذلك مهمًّا، مسبِّبة لهوجو المتاعب، وأتركه يتجرَّع مرارة التعب، لكني لم أفعل، لم أستطِع حمايته حماية كاملة أو رفع الغطاء عنه وتركه عاريًا، ظللت فقط أجلده بسوط اللوم، أو سوط اليأس أحيانًا، وأنا أشعر أنني سأغرس أظافري برأسه وأفتحه، وأصبُّ به وجهة نظري وتصوري عما يجب عليه فهمه. يا للغطرسة! يا للجبن! يا لسوء النية! شيء لا يمكن تجنبه. «مشكلتكما هي الاختلاف.» هذا ما قاله لنا مستشار الزواج بعد ذلك، ضحكنا حتى البكاء في القاعة الموحشة بمبنى البلدية بشمال فانكوفر، حيث تجرى مباشرة استشارات الزواج، قلنا إنه من المريح أن نعرف مشكلتنا؛ إنه الاختلاف.

•••

لم أقرأ قصة هوجو هذه الليلة؛ تركتها مع كِليا، التي لم تقرأها أيضًا كما اكتشفتُ فيما بعد. قرأتُها عصر اليوم التالي؛ فقد عدت إلى المنزل حوالي الساعة الثانية من مدرسة البنات الخاصة؛ حيث أعمل هناك مدرِّسة تاريخ بدوام جزئي. أعددت كوبًا من الشاي كعادتي، وجلست بالمطبخ لأستمتع بالساعة المتبقية قبل عودة الأولاد من المدرسة؛ أبناء جابرييل. رأيت الكتاب لا يزال فوق الثلاجة، فأخذته وبدأت في قراءة قصة هوجو.

كانت القصة بالطبع عن دوتي، لقد تغيرت بالطبع في بعض المواضع غير المهمة، كما كان الحدث الأساسي بها مختلقًا، أو نستطيع القول إنه منقَّح قليلًا عن الحقيقة. لكن المصباح مذكور هنا، وثوب الشانيل الوردي، وأيضًا أمر آخر كنت قد نسيته بخصوص دوتي: عندما تتحدث إليها تستمع إليك وفمها مفتوح قليلًا، وتومئ برأسها، ومع آخر كلمة من الجملة التي تقولها تصدر صوتًا كأنها تتابع الكلام، إنها عادة مؤثرة ومزعجة. كانت تتعجَّل بالموافقة، كانت تتمنَّى فهم الموضوع. تذكَّر هوجو ذلك جيدًا، ولكن متى تحدَّث هوجو إليها؟

هذا لا يهم، المهم هو أن هذه القصة التي كتبها هوجو جيدة جدًّا بالفعل، هذا مبلغ ما يمكنني أن أصفها به. لكم أجدها صادقة وبديعة، هذا ما وجدت القصة عليه وأنا أقرؤها. يجب أن أعترف أنني تأثرت تأثرًا جمًّا بقصة هوجو، وكنت ولا أزال سعيدة بها، ولم أتأثَّر بحيله. وإذا تأثرت بها فإنها حيل جيدة ولطيفة وصادقة. فأجد دوتي كأنها انتقلت هنا بكيانها من الحياة، بارزة في تلك الهالة البديعة الواضحة التي قضى هوجو طوال حياته يتعلم كيف يرسمها. إنه سحر لا سبيل إلى مقاومته، من الممكن أن تقول إنه نوع خاص من الحب السخي دون عواطف، نوع رقيق من الإحسان سعيد الحظ من يحظى به. كانت دوتي إنسانة محظوظة، والناس الذين يفهمون ويقدرون هذا الفعل يعلمون ذلك (بالطبع لن يفهم كل شخص أو يقدر هذا الفعل)؛ كانت محظوظة لتعيش بالقبو هذه الشهور القليلة ليئول بها المطاف إلى هذا، مع أنها لا تعي ما حدث، ولا تهتم به، غالبًا، حتى إن عرفته. لقد دخلت عالم الأدب، وهذا لا يحدث لكل الناس.

لا تستَأْ، فالاعتراضات التهكُّمية من عاداتي؛ وأخجل من هذه العادة قليلًا، فأنا أحترم ما حدث، وأحترم النية، وأحترم المجهود، وأحترم النتيجة. تقبَّل شكري.

اعتقدتُ أنني سوف أكتب خطابًا إلى هوجو. وطوال الوقت الذي أعددت فيه العشاء، وتناولته، وتحدثت فيه مع جابرييل والأولاد، كنت أفكر أني سأقول له: كم من الغريب أننا تشاركنا، وما زلنا نتشارك، نفس المخزون من الذكريات، وأن التوافه والخلافات، ما اعتبرتُهُ سقط متاع؛ كانت له شيئًا يانعًا، وصالحًا، وقابلًا للاستثمار. وأيضًا أود أن أعتذر له — ليس بالمطلق — عن أنني لم أصدِّق أنه سيصبح كاتبًا؛ في الواقع هو اعتراف، وليس اعتذارًا، هذا ما أنا مدينة له به، بعض عبارات الامتنان.

في نفس الوقت، على العشاء، كنت أنظر إلى زوجي جابرييل، وتوصلت إلى أنه وهوجو ليسا على قدر كبير من الاختلاف أحدهما عن الآخر؛ فكلاهما قرر ما الذي يجب أن يفعله فيما يصادفه من أمور على مدار الحياة، وما الموقف الذي يجب أن يتخذه تجاهها، وكيف يتجاهلان الأشياء أو ينتفعان بها؛ كلٌّ منهما لديه سيطرة على حياته بطرائقه المحدودة والمجازفة، فهما «ليسا تحت رحمة» هذه الأمور، أو يعتقدان ذلك. لا أستطيع لوم أحدهما في اتخاذ التدابير التي يرتئيها.

بعدما ذهب الأولاد للنوم، وذهب كلٌّ من جابرييل وكِليا لمشاهدة التليفزيون، وجدت ورقة وقلمًا أمامي، فانقضَّت يدي عليهما لكتابة الخطاب. بدأت في كتابة جمل قصيرة متقطعة، لم أخطط لها:

هوجو، هذا ليس كافيًا، تعتقد أنه كافٍ، لكنه ليس كذلك، أنت مخطئ يا هوجو.

إنها ليست برسالة ذات معنًى لإرسالها بخطاب.

أنا ألومهم، أحسدهم وأزدريهم.

أتى جابرييل للمطبخ قبل أن يخلد للنوم، رآني جالسة بالأقلام وكومة الورق التي حاولت كتابة الخطاب عليها أمامي. اعتقدتُ أنه كان آتيًا للتحدث معي، لطلب قهوة أو لطلب شيء ما يشربه، لكنه كان مقدرًا لحزني، مثلما يفعل دائمًا؛ لذا فقد احترم تظاهري بأني مشغولة ولست حزينة، ومثقلة بمحاولات كتابتي للخطاب؛ فتركني وشأني وذهب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤