الفصل الأول

توقَّفَ جرانت واضعًا قدمَه على أدنى درجات السُّلم، وراح يستمع إلى الصياح القادم من الطابق العلوي. وإلى جانب الصيحات كان هناك هدير غامِض ومُتواصِل؛ صوت قوي من أصوات الطبيعة، وكأنه صوتُ حريق في غابة أو صوت نهرٍ يفيض. وبينما كانت ساقاه المُتردِّدتان تحملانه إلى الأعلى، وصل جرانت إلى الاستنتاج المحتوم، وهو أن الحفل كان ناجحًا.

لم يكن جرانت ذاهبًا من أجل الحفل. فالحفلات الأدبية التي يجري فيها تناول مشروب الشيري — حتى المميزة منها — لم تكن مُفضَّلة لديه. كان جرانت ذاهبًا لاصطحاب مارتا هالارد لتناول العشاء في الخارج. الواقع أن رجال الشرطة في المُعتاد لا يصطحبُون للعشاء المُمثلات البارزات اللائي يتنقَّلنَ بين مسرحَي هايماركت وأولد فيك؛ ولا حتى حين يكُونون محقِّقين برتبة مفتشين في سكوتلانديارد. وقد كان هناك ثلاثة أسباب وراء اكتسابه هذا الوضع المُتميِّز، وكان جرانت على علم بها جميعًا. أولًا كان جرانت رفيقًا حسن الطلَّة، وثانيًّا، كان يتمتَّع بالقدرة المالية التي تؤهله لتناول العشاء في مطعم لوران، أما السبب الثالث، فكان أن مارتا هالارد لم تكن تحصل على رفيق لها بسهولة. فرغم كل ما تتمتَّع به من أناقة ومكانة، كان الرجال يخشون مارتا بعض الشيء. لذا حين ظهر جرانت في حياتها — وكان حينها مجرَّد مُحقِّق برتبة رقيب — بسبب سرقة بعض المجوهرات منها، حرصت على ألا يخرج أبدًا منها مرة أخرى. وكان جرانت أيضًا سعيدًا بوجوده في حياتها. فإن كان جرانت يُمثِّل مصدر عون لمارتا بوصفه فارسًا شهمًا يرافقها حين تكون في حاجة إليه، فقد كانت هي مصدر عون أكبر له باعتبارها نافِذة له على العالم. وكلما زادت نوافِذ رجل الشرطة على العالم، كان من المرجَّح أكثر أن يكون أفضل في عمله، وكانت مارتا بالنسبة إلى جرانت بمَنزلة «نافذة المجذوم» على عالم المسرح.

جاء هدير الحفل الناجح يفيض عبر الأبواب المفتوحة وصولًا إلى أعلى السلم، فتَوقَّف جرانت لينظر إلى الحشد المُزدحِم الذي يصيحُ في القاعة الطويلة المبنيَّة على الطراز الجورجي وليتساءل في ذهنه كيف سيجد مارتا ويتمكَّن من إخراجها من الغرفة.

داخل القاعة، عند الباب تمامًا، وقف شاب يبدو مُضطربًا، من الواضح أنه كان مرتبكًا بفعل الجدار البشري الصُّلب الذي يتألَّف من أناس يتحدثون ويشربون. كان لا يزال يمسك بقبعته في يده؛ ولذا بدا أنه وصل لتوِّه.

فقال جرانت لافتًا انتباهه: «أتُواجِه مُشكلة؟»

أجاب الشاب: «نسيتُ البوق الخاص بي.»

قالها الشاب بلهجة بطيئة ممطوطة، غير عابئ برفع صوته حتى يعلوَ على صوت الحشد. كان مجرد اختلاف نبرة كلامه هو ما جعل حديثه مسموعًا أكثر مما سيكون إذا ما رفع صوته. فرمَقَه جرانت مرة أخرى ببصره، مستحسنًا. وهنا لاحظ جرانت أن الشاب في غاية الوسامة بالفعل. كان أشقر الشعر بشدَّة بحيث لا يُمكن أن يكون إنجليزي الأصل بالكامل. ربما كان نرويجيًّا؟

أو ربما كان أمريكيًّا. كان هناك شيء في الطريقة التي نطَق بها كلمة «نسيت» يشي بأنه قادم من بلدٍ على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي.

كان الجو من خلف النوافذ في عصر هذا اليوم من أيام بداية الربيع معتمًا بالفعل وكانت الأنوار مُضاءة. وعبر ضباب دخان السجائر تمكن جرانت من رؤية مارتا عند الطرف الأقصى من الغرفة تستمع إلى توليس، الكاتب المسرحي، وهو يخبرها عن حقوقه الخاصة بالتأليف. لم يكن يتعيَّن على جرانت أن يسمع ما كان توليس يقولُه من أجل أن يعرف أنه كان يتحدَّث عن حقوقه المادية؛ فهذا هو كل ما كان يتحدث عنه توليس دائمًا. فقد كان بإمكان توليس أن يخبرك على الفور ما ربحته شركة نمبر تو من روايته «عشاء لثلاثة أشخاص» يوم إثنين الفصح في بلاكبول في عام ١٩٣٨. كانت مارتا قد تخلَّت حتى عن ادِّعائها بأنها تستمِع، وتدلَّت شَفتاها عند أركان فمها. وفكَّر جرانت في نفسه أنه لو لم تحصُل مارتا على وسام السيدة القائدة قريبًا، فستُصاب بخيبة الأمل لحاجتها إلى عملية شدِّ وجه. فقرَّر أن يبقى مكانه حتى يتمكَّن من لفتِ انتباهها. فقد كانا كلاهما على قدرٍ من الطول بما يكفي ليريا من فوق رءوس أي حشد عادي.

وبعادة التفتيش المتأصِّلة في رجل الشرطة سمح جرانت لعينَيه بأن تمرَّا عبر الحشد بينهما، لكنه لم يجد شيئًا مُثيرًا للاهتمام. كان الحضور المعتاد. كانت شركة روس آند كرومارتي التي تحظى بازدهار كبير تحتفل بإصدار كتاب لافينيا فيتش الحادي والعشرين، وبما أنَّ ازدهار الشركة يعود إلى حدٍّ كبير إلى لافينيا، كان الشراب وفيرًا وكان الضيوف مُميَّزين. كان تميزهم في أناقة ثيابهم والشُّهرة التي يحظون بها. أما الشخص المميز من حيث الإنجاز فلم يكن ليحتفي بإصدار رواية «عاشق مورين»، ولم يكن ليحتسي شراب الشيري المقدَّم من السيدَين روس وكرومارتي. وحتى مارتا — تلك السيدة التي من المحتَّم أن تحصل على وسام السيدة القائدة — كانت هناك لأنها جارة للافينيا في القرية. وكانت مارتا — بارك الرب أناقتَها في حُلَّتها بالأبيض والأسود ونظرتها التي تنمُّ عن السخط — هي الأقرب للتميُّز الحقيقي في المكان.

بالطبع باستثناء ذلك الشاب الذي لم يكن يعرفه والذي أضاف إلى الحفل ما هو أكثر من وسامته. تساءل جرانت في ذهنه عما يعمله ذلك الشاب لكسب قوت يومِه. أهو مُمثِّل؟ لكن الممثل ما كان ليقف مُتحيِّرًا مُرتبكًا بالقرب من جمهورٍ ما. كما كان هناك شيء في تعليقِه الضمني للملاحظة التي أبداها عن البوق، في الانفصال الذي كان يرقُب المشهد به، والذي فصله عما يُحيط به. تساءل جرانت: هل من المُمكِن أن تكون وجنتاه هاتان غائرتين هكذا جراء العمل في مكتب سمسار في البورصة؟ أم ربما جمَّلت الإضاءة الخافتة التي تبثُّها مصابيح السيدَين روس وكرومارتي الغالية الثمن من ذلك الأنف المستقيم الجميل وذلك الشعر الأشقر المسترسِل وكان ذلك الشاب أقلَّ وسامة في ضوء النهار الطبيعي؟

قال الشاب، وهو لا يزال لم يرفع صوته مُضاهاةً للضوضاء التي حوله: «ربما يُمكنك أن تُخبرَني أيتهن الآنسة لافينيا فيتش؟»

كانت لافينيا هي تلك المرأة القصيرة ذات البشرة بلونِ الرمل، الواقفة بالقرب من النافذة الوسطى. وقد ابتاعت لنفسِها قبَّعة أنيقة من أجل المناسبة، لكنها لم تفعل شيئًا لتزيد من أناقتها؛ إذ كانت القبَّعة تقبع فوق شَعرها الأصهب الذي يُشبه عش الطير وكأنها سقطت في مكانها من نافذة علوية بينما تسير في الشارع. كان وجهها يكتسي بتعبيرها المعتاد الذي ينمُّ عن الارتباك والسرور، وخلا من أي مساحيق للتجميل.

فأشار جرانت للشاب نحوَها.

وقال: «هل أنت غريب هنا؟» محاولًا أن يستعير عبارة من الغربيين المهذَّبين. فقد كانت النبرة الرسمية المهذَّبة لعبارة «الآنسة لافينيا فيتش» لا تعني إلا أنه قادم من الولايات المتَّحدة الأمريكية.

«في الواقع أنا أبحث عن ابن أخت الآنسة فيتش. لقد بحثتُ عن عنوانه في سجل الهاتف ولم أجده هناك، لكنني كنت آمُل أن يكون هنا. هل تعرفه يا سيد …؟»

«جرانت.»

«يا سيد جرانت؟»

«أعرفه شكلًا، لكنه ليس هنا. أنت تقصد والتر ويتمور، أليس كذلك؟»

«بلى. ويتمور. أنا لا أعرفه على الإطلاق، لكنني أودُّ كثيرًا أن ألتقيَ به لأن بيننا — أقصد كان بيننا — صديق مشترك رائع. كنت متأكدًا من أنني سأجده هنا. أأنت واثق تمامًا أنه ليس هنا؟ فهذا حفل كبير في نهاية المطاف.»

«إنه ليس في هذه القاعة؛ أنا واثق من هذا، لأن ويتمور في مثل طولي. لكن يظل من المحتمل أن يكون في مكانٍ ما بالأرجاء. اسمع، من الأفضل أن تذهب للقاء الآنسة فيتش. أعتقد أن بإمكاننا تجاوز هذا الحشد الكبير لو تحلينا بالإصرار على ذلك.»

فقال الشاب مُشيرًا إلى بنية كلٍّ منهما الجسدية: «انحنِ أنت وأنا سأُراوغ.» ثم قال وهما يتوقَّفان ليلتقطا أنفاسهما في مُنتصَف الطريق؛ إذ كانا محشورَين بشدة معًا بين مرافق وأكتاف مُرافِقيهم المحيطين بهم: «هذا لطف بالغ منك يا سيد جرانت»؛ وأخذ الشاب يضحك على جرانت وهو عاجز عن الحركة. وفجأة شعر جرانت بالإحراج. كان محرجًا لدرجة أنه التفتَ في الحال وأكمل صراعه عبر هذه الغابة من البشر نحو المساحة الخالية عند النافذة الوسطى حيث كانت تقف لافينيا فيتش.

وقال: «آنسة فيتش، هذا الشاب يُريد لقاءك. إنه يحاول التواصل مع ابن أختك.»

فقالت لافينيا: «مع والتر؟» وقد فقد وجهُها الصغير المدبَّب تعبيره المُرتبِك الذي ينمُّ في عمومه عن الدماثة وعلاه انتباه حقيقي.

«اسمي سيرل، يا آنسة فيتش. جئتُ من الولايات المتحدة في إجازة وأردتُ أن ألتقي والتر لأن كوني ويجن كان صديقًا لي أيضًا.»

«كوني؟ أنت صديق كوني؟ أوه، سيُسرُّ والتر كثيرًا يا عزيزي، سيُسرُّ كثيرًا. أوه، يا لها من مفاجأة لطيفة في خضمِّ هذا اﻟ … أقصد أنها غير متوقعة تمامًا. سيُسرُّ والتر كثيرًا. هل قلتَ إن اسمك سيرل؟»

«أجل. ليزلي سيرل. لم أتمكَّن من العثور على عنوان والتر في سجل الهاتف …»

«كلا، إن لديه منزلًا مؤقتًا في المدينة. هو يقطن قرية سالكوت سانت ماري مثل بقيتِنا. حيث توجد مزرعته كما تعلم. المزرعة التي يتكلَّم عنها في بثِّه. أو على الأقل إنها مزرعتي لكنه يُديرها ويتحدَّث عنها و… سيبثُّ بعد ظهر اليوم، وهذا هو سبب عدم حضوره الحفل. لكن ينبغي لك أن تأتيَ وتمكُث لدينا. تعالَ في إجازة نهاية الأسبوع هذه. عُدْ معنا بعد ظهر اليوم.»

«لكنكِ لا تعرفين إن كان والتر …»

«أنت ليس لديك أي ارتباطات في إجازة نهاية الأسبوع، أليس كذلك؟»

«كلا. كلا، ليس لديَّ ارتباطات. لكن …»

«حسنٌ إذن. سيعود والتر مباشرة من الاستوديو، لكن يُمكنك أن تأتيَ معي أنت وليز في سيارتنا وسنُفاجئه. ليز! عزيزتي ليز، أين أنتِ؟ أين تُقيم يا سيد سيرل؟»

«في ويستمورلاند.»

«حسنًا، أنت على مقربة للغاية. ليز! أين ليز؟»

«أنا هنا، يا خالة لافينيا.»

«ليز، عزيزتي، هذا هو ليزلي سيرل، وسيعود معنا من أجل قضاء إجازة نهاية الأسبوع. إنه يُريد لقاء والتر لأنهما كانا صديقين لكوني. اليوم هو يوم الجمعة، وسنذهب جميعًا إلى سالكوت في إجازة نهاية الأسبوع لنتعافى من هذا؛ ستكون الأجواء لطيفة وهادئة وباعثة على السلام، وليس هناك ما هو أكثر ملاءمة من ذلك. لذا، خُذيه يا عزيزتي ليز إلى ويستمورلاند وساعدِيه على حزم أمتعتِه وعُودا إليَّ ثانية، هلا فعلت؟ في غُضونِ ذلك سيكون هذا … هذا الحفل قد انتهى بالطبع ويُمكنكِ أن تُقلِّيني وسنعود إلى سالكوت معًا ونُفاجئ والتر.»

رأى جرانت علامات الاهتمام على وجه الشاب وهو ينظر إلى ليز جاروبي، وأخذ يفكر قليلًا. كانت ليز فتاة عادية المظهر، ضئيلة الجسد، ذات وجه شاحِب. وفي الحقيقة، هي تتمتَّع بعينين مميزتَين؛ فهما زرقاوان بلون زهرة الحبق ومُدهِشتان؛ كما تملك نوعية الوجوه التي قد يرغب الرجال في العيش إلى جوارها؛ إن ليز فتاة لطيفة. لكنها لم تكن من نوعية الفتيات التي قد تلفِت انتباه الشباب في الحال. ربما سمع سيرل بشائعات خطبتها، وكان يُعاملُها باعتبارها خطيبة والتر ويتمور.

فقد جرانت اهتمامه بشئون منزل فيتش حين رأى أن مارتا اكتشفَت وجوده. فأشار إلى أنه سيلتقي بها عند الباب، وغاص مرةً أخرى في أعماق الحشد الخانق. وبما أن مارتا كانت هي الأشرس بينهما، قطعت ضعف المسافة في نصف الوقت ووقفت تنتظره عند مدخل الباب.

سألت مارتا: «مَن ذلك الشاب الوسيم؟» وكانت تنظر خلفها بينما يتحركان باتجاه السلم.

«جاء يبحث عن والتر ويتمور. يقول إنه صديق كوني ويجن.»

كررت مارتا: «يقول؟» وكانت في نبرتها سخرية، ليس من الشاب بل من جرانت.

فقال جرانت معتذرًا: «العقلية الشُّرَطية.»

«ومَن هو كوني ويجن على أي حال؟»

«كان كوني أحد أشهر المصوِّرين الصحفيين في الولايات المتحدة. وقد قُتِل أثناء تصوير إحدى موجات العنف في البلقان قبل عام أو اثنين.»

«أنت تعرف كل شيء، أليس كذلك؟»

كان جرانت على وشك أن يقول: «الجميع يعرف ذلك عدا المُمثلات»، لكنه كان معجبًا بمارتا. فقال بدلًا من ذلك: «عرفتُ أنه سيذهب إلى سالكوت لقضاء إجازة نهاية الأسبوع.»

«ذلك الشاب الوسيم؟ عجبًا! آمُلُ أن لافينيا تعرف ما تفعل.»

«ما الخطب في استضافته؟»

«لا أعرف، لكن يبدو لي أنها تضع حُظوظهم على المحك.»

«حظوظهم؟»

«لقد آلت الأمور إلى ما يُريدونه، أليس كذلك؟ لقد أُنقِذ والتر من مارجريت ميريام واستقرَّ على أن يتزوَّج ليز؛ وستعيش الأسرة كلها في المنزل القديم، وهو أمر مريح إلى حد تعجز عن وصفه الكلمات. ويبدو لي أن الوقت ليس مناسبًا لتقديم شاب بهذه الوسامة المربكة إلى الأسرة.»

غمغم جرانت: «مُربِكة»، وتساءل في نفسه مرة أخرى عما أقلقه بشأن سيرل. ما كان يمكن لوسامته وحدها أن تتحمَّل مسئولية ذلك. فرجال الشرطة لا ينبهِرون بالوسامة.

فقالت مارتا: «أراهِن أن إيما بمجرَّد أن تلقيَ عليه نظرة واحدة ستُخرجه من المنزل بعد الإفطار مباشرة صباح يوم الإثنين. عزيزتها ليز ستتزوَّج والتر، ولن يمنع شيء حدوث هذا، طالما كان لإيما دخل بالموضوع.»

«لا تبدو لي ليز جاروبي سريعة التأثُّر إلى هذا الحد. لا أرى سببًا يدعو إلى أن تشعر السيدة جاروبي بالقلق.»

«أحقًّا لا ترى سببًا؟ لقد أُعجبتُ بذلك الشاب في غضون ثلاثين ثانية وفي نطاق عشرين ياردة، وعمليًّا أنا أُعَد منيعة فيما له صِلة بهذه الأمور. أضف إلى ذلك أنني لم أُصدِّق قط أن ليز وقعت في حب ذلك الشخص المُمل. إنما أرادت فقط أن تُضمِّد جراح قلبه.»

«أكانت جراحُه عميقةً؟»

«في رأيي أنه اهتز عاطفيًّا بقوة. وهذا طبيعي.»

«هل تعاملتِ مع مارجريت ميريام من قبل؟»

«أوه، أجل. أكثر من مرة. كنا معًا لفترة طويلة إلى حدٍّ ما في مسرحية «مسيرٌ في الظلام». هناك سيارة أجرة آتية.»

«تاكسي! ما رأيكِ فيها؟»

«مارجريت؟ أوه، كانت مجنونة بالطبع.»

«إلى أيِّ حد؟»

«إلى أقصى حد.»

«كيف ذلك؟»

«أتقصد كيف تجلى ذلك؟ أوه، لامُبالاة تامَّة تجاه كل شيء سوى ما تُريده في اللحظة الراهنة.»

«هذا ليس بجنون؛ إنما العقل الإجرامي في أبسط أشكاله.»

«في الواقع، أنت تعرِف أفضل يا عزيزي. ربما أخفقت كمُجرمة. الأمر الأكيد تمامًا أنها كانت شديدة الحماقة وما كنت لأتمنى حتى لوالتر ويتمور مصيرًا مثل أن يتزوج بها.»

«لماذا تكرهين الفتى الذهبي لدى عامة الشعب الإنجليزي إلى هذا الحد؟»

«أنا لا أكرهه يا عزيزي، إنما أكره طريقة «طموحه». كان الأمر سيئًا للغاية حين كان يسعى خلف طموحه فوق الزعتر على مُنحدَرِ تلٍّ على بحر إيجة بينما كان الرصاص يؤزُّ إلى جوار أذنَيه؛ لم يفشل قطُّ في أن يدعنا نسمع الرصاص: لطالما شككتُ أنه كان يفعل ذلك عن طريق الضرب بالسوط …»

«مارتا، أنتِ تُسبِّبين لي صدمة.»

«لا يا عزيزي؛ إطلاقًا. أنت تعرف ذلك بقدرِ ما أعرفه أنا. حين كان الرصاص يوجَّه صوبنا «جميعًا»، حرص والتر على أن يكون في مكان آمن في مكتب لطيف سيئ التهوية تحت الأرض بخمسين قدمًا. ثم حين كان من المُميز مرة أخرى أن يصبح المرء معرضًا للخطر، خرج والتر من مكتبه الآمن الصغير ووضع نفسه على أحد التلال التي ينمُو عليها الزعتر ومعه ميكروفون وسوط ليصنع به أصوات الرصاص.»

«أرى أنني سأصبح في حاجة إلى إخراجك بكفالة، في يومٍ ما.»

«عن تهمة القتل؟»

«لا، بل عن تُهمة التشهير.»

«أيحتاج المرء كفالة لذلك؟ كنتُ أعتقد أنها أحد تلك الأشياء اللطيفة النَّبيلة التي يجري استدعاؤك بسببها للمثول أمام المحكمة وحسب؟»

فكر جرانت كم كانت مارتا شديدة الجهل بالقانون.

قالت مارتا بنبرتها المتفهمة الهادلة التي كانت تميزها على المسرح: «ولكن قد تظل التهمة هي تهمة القتل. يمكنني أن أتحمل أمر الزعتر والرصاص، لكن نظرًا لأنه حصل الآن على عقد إيجار مدته تسعة وتسعون عامًا لحُبيبات الثلج الذائبة في الربيع، وطيور نقار الخشب، وما إلى ذلك، فإنه يرقى إلى مُستوى الخطر العام.»

«لماذا تستمعين إليه؟»

«حسنًا، ثمة سحر بغيض بشأنه. فتقول في نفسك: حسنًا، هذه هي أقصى حدود الفظاعة، بحيث لا يُمكن أن يصبح هناك شيء أسوأ. ثم تستمِع في الأسبوع التالي لترى إن كان بالإمكان أن يُصبح الأمر أسوأ وأفظع. إنه شرك. إنه مريع جدًّا لدرجة أنك لا تستطيع حتى أن تغلق الراديو. فأنت تقف مشدوهًا في انتظار الشيء السيئ التالي، وذلك الذي يليه. وتكون لا تزال في مكانك حين يختم عرضه.»

«لا يُمكِن يا مارتا أن يكون شعورك هذا مجرَّد غيرة مهنية، أليس كذلك؟»

سألته مارتا: «أتشير إلى أن هذا المخلوق بأنه «مهني»؟» وقد خفضت صوتها إلى النبرة المثالية، حتى إنه كان يرتعش نتيجة تذكُّرها لسنوات مسيرتها المسرحية، وغرف السكن المُتواضِعة في الأقاليم وقطارات يوم الأحد، وتجارب الأداء المُملة على المسارح الباردة المُظلِمة.

«لا، أُشير إليه بأنه مُمثِّل. ممثل بطبيعته وعلى غير وعي منه، وقد تمكَّن من أن يصنع لنفسه اسمًا في غضون سنوات قليلة من دون أن يكون له أي عمل بارز في سبيل ذلك. يُمكنني أن أغفر لكِ أن هذا لا يروقكِ. ما الذي وجدت مارجريت أنه رائعٌ للغاية بشأنه؟»

«يمكنني أن أجيبك على ذلك. إخلاصه. لقد كانت مارجريت تتلذَّذ بتعذيب الآخرين. وكان والتر يدعها تفعل به الأفاعيل ثم يعود طالبًا المزيد.»

«وكانت هناك مرة لم يعُد بعدها.»

«أجل.»

«ما سبب آخر شجار وقع بينهما، هل تعرفين؟»

«لا أظن أنه كان هناك سبب. أظنُّ أنه أخبرها وحسب أنه اكتفى. أو على الأقل هذا ما قاله في التحقيق. هل قرأت النعايا بالمناسبة؟»

«أظنُّ أنني قرأتها وقتها. لا أتذكرها بصورة فردية.»

«لو كانت قد عاشت لعشر سنين أخرى لحصلت على مساحة صغيرة وسط «الإعلانات» في الصفحة الخلفية. لقد تلقَّت بالفعل نعايا أفضل من المُمثلة الشهيرة دوسيه. «خبت شُعلة عبقرية ولا عزاء للعالم». «كانت تمتلك خفة ورقة شجر تطير في الهواء، وسمو شجرة لبلاب في وجه الريح.» هذا هو نوع النعي الذي حصلت عليه. لقد تفاجأت حين علمت أنه لم يكن هناك حواف سوداء في الصحف من كثرة النعايا. فعليًّا كان الحِداد على مستوى البلاد بأسرها.»

«الوضع مختلف تمامًا بالنسبة إلى ليز جاروبي.»

«ليز، تلك العزيزة اللطيفة. لو كانت مارجريت ميريام سيئة جدًّا حتى بالنِّسبة إلى والتر ويتمور، فليز رائعة جدًّا حتى إنه لا يستحقها. إنها أروع من أن يستحقَّها. سأُسرُّ لو أبعدها ذلك الشاب الوسيم عن ناظرَيه.»

«بطريقة ما لا يُمكنني أن أرى «الشاب الوسيم» في دور الزوج، في حين أن والتر سيغدُو زوجًا مُمتازًا.»

«عزيزي، سيقدم والتر بثًّا عن الأمر. سيذيع كل شيء عن أطفالهما، وعن الأرفف التي وضعها في حجرة المؤن، وعن كيف تتكون انتفاخات الحمل لدى هذه المرأة الضئيلة الحجم، وعن أنماط الجليد على نافذة حجرة الأطفال. ستكون في أمان أكثر مع … قلتَ ما اسمه؟»

«سيرل. ليزلي سيرل.» وفي شرود راح يُشاهِد لافتة مطعم لوران المصنوعة من النيون الأصفر الفاتح وهي تقترب.

ثم قال بتأمُّل: «بطريقةٍ ما لا أظنُّ أن الأمان ليس الصفة التي تنطبق على سيرل»؛ ومنذ تلك اللحظة نسي جرانت أمر ليزلي سيرل تمامًا حتى اليوم الذي أُرسِل فيه إلى سالكوت سانت ماري ليبحث عن جثته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤